الدين: الإيمان والعقيدة
«الدين أفيون الشعوب.» لم تكن ملاحظة كارل ماركس هذه مُتعالية فقط، وإنما كانت خاطئة كذلك؛ فالمخدِّرات تَجعلك تنسى العالم من حولك، أما الدين فيُمثِّل سعي الإنسان الأول لفهم هذا العالم وإدخال مُعتقدات روحية في حياته. ربما يكون الإغريق تخلَّوا عن فهم العالم عبر الدين وفضَّلوا الفلسفة، لكن في كل مكان آخر استمرَّت المعتقدات الدينية في تقديم الإجابات وحدها. ولم يبدأ العلم في تقديم تفسيرات أكثر إرضاءً إلا في القرن السابع عشر. وإذا كان ملايين الناس في عصرنا الحالي في جميع أنحاء العالم يُواصلون ممارسة الشعائر الدينية عبر الصلاة، فإن هذا يكون من أجل السكينة، وليس من أجل السُّلوان.
(١) المعتقدات القديمة
(١-١) العالم القديم
•••
•••
اتخذت المعتقدات الصينية مسارًا مختلفًا؛ فالرُّوح تتكون من جزأين؛ «البو»، التي تبدأ عند الحمل، و«الهن»، التي تبدأ عند الولادة. وهما يُساعدان معًا الإنسان في حياته الأرضية، لكن عند الموت تترك «الهن» الجسد، أما «البو» فتبقى حتى تحلُّل الجثة، وبعدها تنضمُّ إلى مملكة الموتى. وهذه المملكة هي نسخة للحياة على الأرض تستمرُّ تحت سطح الأرض؛ وأكبر دليل على هذه الأيدولوجية جيش تيراكوتا، المكوَّن من ٧ آلاف جندي تقريبًا، المَدفون في مدينة شيان مع الإمبراطور الأول تشين الذي أطلَق على نفسه هذا اللقب. كان أحد خلفائه في عهد أسرة هان حاكمًا أقل اهتمامًا بالحرب؛ فلم يُدفن مع تماثيل لمحاربين فقط، بل لسيدات وحيوانات أيضًا. لكن حتى الإمبراطور تشين كان مُسالمًا نسبيًّا؛ ففي العصور السابقة كان يُدفن أشخاص حقيقيُّون — أعضاء في البلاط مثلًا — أحياءً مع الحاكم لمرافقته في الحياة الآخرة.
لا توجد قابلية للانتقال الاجتماعي بعد الوفاة؛ فيظلُّ «بو» الرجل الثري ثريًّا، ويظلُّ ذلك الخاص بالفقير معدمًا. لا تظهر الآلهة كثيرًا في الممارسات التعبدية الصينية، رغم ظهور المشعْوِذين والكُهان. في الواقع لا تُعتبر كلمة دين مناسِبة لوصف المعتقدات الصينية على الإطلاق؛ فهي تشبه المبادئ الهندوسية إلى حدٍّ ما، من حيث إعطاء أهمية بالغة لأسلوب خوض الحياة. ويجب أن يَحدث هذا تماشيًا مع المعايير الموضَّحة بالمبدأ العظيم، «هونج فانج».
بدأت المعتقَدات الصينية تتغير بعد عصر كونفوشيوس في القرن الخامس قبل الميلاد. استمرَّت نتيجة الأحداث في الاعتماد على حُسن حظ الإمبراطور أو سوء حظه. ولهذا السبب أصبَح يتحكَّم في ممارسة علم الفلك؛ إذ كانت حركات النجوم تمثِّل أساس تنبؤاته. إلا أن صرامة القواعد التي كان من المفترض خوض الحياة على أساسها كانت تتَهاوى. لم يمثِّل هذا تحولًا مفاجئًا في مواطن التركيز من جانب جموع السكان. على العكس، فقد اتبعت وحدات مختلفة في المجتمع مسارات مستقلة. أكد أنصار الكونفوشيوسية أن الإنسان خيِّر بطبيعته؛ في حين رآه أنصار مذهب الشرعوية شرِّيرًا في الأساس. طُرِحت العديد من وجهات النظر الأخرى حتى سُميت هذه الحُجج المتنوِّعة «مدارس التفكير المِائة». إلا أن الجدل أكثر صحة من الإذعان الصامت؛ فهو يَدعم مُناخًا ملائمًا لظهور أفكار جديدة، وليس من قبيل الصدفة أن تكون هذه الفترة من التاريخ الصيني — حكم أسرة تشو الشرقية الذي انتهى في عام ٢٢١ قبل الميلاد — فترة اختراع وابتِكار أيضًا، رغم الحروب العنيفة التي شُنَّت؛ فتضاعف عدد الألواح وظهر الحديد المصبوب. تبعت هذا أيديولوجيات أخرى، كان للبوذية والداوية (أو الطاوية) من بينها التأثير الأكبر. في الواقع يُواصِل الناس ممارسة هذه الديانات، مع الكونفوشيوسية، في جميع أنحاء الصين ومعظم شرق آسيا في عصرنا الحالي.
•••
في عصر الجمهورية في القرن الخامس قبل الميلاد وضَع سقراط وتلميذه أفلاطون قواعد ما يُعرف فعليًّا بالفلسفة الأخلاقية. رأى سقراط أن الحياة الفاضلة تعتمد على المعرفة، التي أساسها معرفة الإنسان بنفسه، وخاصةً الاعتراف بما لا علم له به. أما أفلاطون فقد دمج هذه الأفكار في الميتافيزيقا والأخلاقيات، وفي السياسة أيضًا. فيجب أن يتحدَّد الحاكم على أساس التعليم، وليس المولد أو الثروة. عندما ناقشتُ هذا الموضوع في الفصل السادس، قارنتُ التوريث بالاختيار كوسائل لتحديد الحاكم التالي. ومع ذلك، نادرًا ما يقع اختيار الناس على الأكثر تعلُّمًا؛ فقد أثبتت النفعية — التي يكرهها المثقفون — على مدار السنين أن لها أهمية أكبر في الحاكم من سعة اطلاعه. أبعَدَ أبرزُ تلاميذ أفلاطون هذا الجدل عن القيم الأخلاقية وأعاده إلى العالم الطبيعي؛ فطوال القرن الرابع استخدم أرسطو قواعد الجدال — افتراض يتبعه استنتاج — في محاولته لتفسير الظواهر الفيزيائية دون اللجوء إلى التدخل الإلهي. واتفق مع فيلسوف القرن السابق لعَصره، إيمبيدوكليس، في أن العالم مكوَّن من أربعة عناصر: التراب والنار والهواء والماء. وأضاف أرسطو أن كلًّا منها يكون إما رطبًا أو جافًّا، حارًّا أو باردًا. إن حقيقة أن هذا يُحاكي إلى حدٍّ ما العناصر الأساسية الصينية الخمسة من ماء ونار وخشب ومعدِن وتراب لا ينبغي تفسيرها على أنها تُشير إلى وجود صلة من نوع ما بين الثقافة الإغريقية والصينية؛ فهي أمور واضحة لأي شخص يفكر في هذه الأمور، تمامًا مثل حقيقة أن بعض الحيوانات تَطير وأخرى تسبح، وبعضها يمشي وأخرى تزحَف. إن الفكرة في الفلسفة الأرسطية أنها قدمت، لأول مرة، تفسيرات منطقية للعالم الذي يَعيش الإنسان فيه؛ من حركة النجوم — في الواقع حركة كل الأجسام — وطيران الطيور، وتطوُّر جسم الإنسان. ظل منطقُه مسيطرًا على المفكرين الأوروبيين والعرب طوال ألفَي سنة، ولم يتضح أن معظم افتراضاته الأساسية كانت خاطئةً حتى ظهور العلم التجريبي على يد رجال مثل جاليليو ونيوتن، وخلفائهم في مجال علم الأحياء في القرنين التاسع عشر والعشرين.
•••
(١-٢) الأمريكتان
مثل الآلهة الأخرى، كانت الآلهة تشاك تُسترضى بأنواع مختلفة من القرابين؛ كل شيء بدايةً من المصنوعات من اليشم، ومرورًا بالزهور والمنتجات النباتية، وحتى الحيوانات والطيور والحشرات والأسماك. إلا أنَّ أثمَن قُربان كان دون شكٍّ القربان البشري. كان الدم يُسحَب عادةً من الضحية أولًا، ومن الحيوانات أيضًا، وأحيانًا يكون هذا كافيًا. وإن لم يكن هذا كافيًا كان الضحية يُثبَّت باسطًا ذراعَيه وساقَيه على صخرة القربان، ربما من أجل الإشارة إلى الاتجاهات الأربعة السماوية، على يد كهنة اسمهم «التشاك»، قبل غرس سكين في جسده وانتزاع قلبه. بوجه عام يكون الضحية طفلًا أو حاكمًا أسيرًا أو أحد النبلاء يكون في صحة جيدة على خلاف المتوقَّع (فمن الصعب أن تَسعد الآلهة بالتضحية برجل مُسنٍّ على وشك الموت). ثمة إله آخر كان لا بد من استرضائه، وهو كيتزالكواتل، الذي يَظهر في شكل أفعى لها ريش في طقوس العبادة الدينية لثقافات التولتيك والألمك والمايا والآزتيك. بخلاف الثعابين، كان الحيوان المفترِس الرئيسي الآخر للبشر وحيواناتهم الأليفة في وسط أمريكا النمر المرقَّط، ونجد الكثير من المعابد المخصَّصة لاسترضائه. وقد صُبغت عبادة أحفاد المايا الذين يَعيشون حاليًّا في أمريكا الوسطى، والذين أصبحوا كاثوليكًا رومانًا بالاسم، بالمعتقدات القديمة في آلهة المايا، تمامًا مثلما يَمتزج الدين المسيحي في أوروبا بالاحتفالات الوثنية التي داوَم عليها أهالي الشمال، وفي الإمبراطورية الرومانية في العصور القديمة.
(٢) المعتقدات المعاصرة
ماذا عن الشيء الثالث؟ ما زالت قضية الخلود تؤرِّقنا جميعًا؛ فلم يستطع الإنسان المعاصر التخلُّص من الخوف الذي سيطَر على أسلافه، فيجد من الصعب تقبُّل الحقيقة العلمية بأنه عند وفاته كل جزَيْء في جسمه، حمَل كل لحظة في نشاطه وكل فكرة في ذهنه، سيبدأ ببساطة بالتحلُّل، وأن عواقب الموت لا تزيد عن نتائج تعفُّن اللحم؛ لذلك يستمر كل دين في الحديث عن مشكلة الحياة بعد الموت. وسواء أكان هذا في صورة تناسُخ الأرواح أم الخلود، فإن الاعتقاد في استمرار وجود روح المرء يوفِّر الطمأنينة. لماذا أستفيض في هذا الموضوع؟ هل لأني خائف من شيء وأبحث عن إجابة له؟
(٢-١) الهندوسية
إن أقدم الأديان التي تُمارَس في عصرنا الحالي هي الهندوسية؛ فترجع إلى ٥ آلاف سنة، إلى عصر نشأة الحضارة الهندية في وادي نهر السِّند، ولذلك وصفتُ بالفعل تعاليمها الأساسية. لم تكن أبدًا ديانة رسمية، ولم تنجَح حتى الآن المحاولات الحالية من الوطنيين المتعصبين وحزب بهاراتيا جاناتا الهندي لجعلها كذلك. لكن بالطبع لم تكن الهند دولة موحَّدة حتى أسَّس تشاندراجبت موريا إمبراطوريته في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. ربما كان من الممكن اعتماد الهندوسية بوصفها الديانة الرسمية في هذه الفترة لولا حقيقة إصابة أكبر وثالث زعمائها، أشوكا، الذي رسَّخ القوة الهائلة للإمبراطورية في القرن الثالث قبل الميلاد؛ بخيبة أمل بسبب الحرب والدين الرسمي وتحوَّل إلى البوذية بدلًا من ذلك. ومع ذلك، أدَّت غزوات المسلمين في القرن الثالث عشر إلى الزوال الفعلي للبوذية في الهند. ومنذ هذا الوقت حتى العصر الحاضر، أصبح أغلب الشعب يَدين بالهندوسية وبعضهم بالإسلام، وقلَّة منهم بالبوذية.
تُعتبر الهندوسية أكثر تسامحًا بكثير من أيٍّ من الثلاثي: اليهودية والمسيحية والإسلام؛ فهي لا تضع مُعتقَدات صارمة في طبيعة الإله. في الواقع، هي لا تحدِّد إلهًا واحدًا على الإطلاق، بل تجمع بين تعدُّد الآلهة والتوحيد؛ فيُعبَد فيشنو (كلي الانتشار) وزوجته لاكشمي (إله الثروة والجمال) مع براهما (الخالق) وشيفا (المدمِّر). وكما ذكرنا مسبقًا، يهتم هذا الدين أكثر بالإنسان وتناسُخ روحه وطبيعة الكون. ومع خلوِّه في الأصل من المعتقَدات، لم يكن الذبح العنيف للمسلمين الذي تفاقم مع تقسيم الهند في عام ١٩٤٨ جزءًا من الديانة الهندوسية. فقد ذكرتُ مسبقًا المكانة المحورية «للدارما» في الهندوسية، وفي الواقع يوجد نوعان للدارما، وهما في صراع من نوعٍ ما مع بعضهما — «السانتانا دارما» أو المبدأ الأخلاقي المطلَق، ودارما الطبقات الاجتماعية والقانون الكنسي. يُشكِّل التوتر الموجود بين النوعين جزءًا لا يتجزَّأ من ملحمة «مهابهاراتا»؛ وهي «ملحمة كبرى» في الهند، وتحتوي على السرد الكامل للهندوسية الكلاسيكية. وفي القرن الماضي عارَض المهاتما غاندي بشدة انعدام المساواة الموجود في النظام الطبَقي ونوعَي الدارما (بالإضافة بالطبع لمعارضته للحكم البريطاني، وسوء معاملة المسلمين). كان مضمون حملته الدينية هذه مفهومًا جيدًا، وقد تعرَّض للاغتيال في يناير عام ١٩٤٨.
واليوم، يتبع أكثر من ٨٠٠ مليون شخص — أغلبهم يعيش فى الهند — صورة من صور الهندوسية.
(٢-٢) اليهودية والمسيحية والإسلام
بالنسبة لليهود الأرثوذكس بدأ دينهم في عام ٣٧٦٠ قبل الميلاد، في يوم الخلق، وهي السنة التي يبدأ منها التقويم اليهودي. يَعرف معظم القراء قصة الخلق وبقية أجزاء العهد القديم؛ لذا لا حاجة بنا إلى تكرارها هنا، فيما عدا مِن أجل الإشارة إلى أنها تقدم — مثل تعاليم الهندوسية — إجابات عن الأسئلة الثلاثة المذكورة في بداية هذا الجزء؛ تقديم قواعد أخلاقية محددة بدقة، متمثلة في الوصايا العشر؛ ووجود محور للعبادة، متمثِّلًا في الله (يهوه)، والاعتراف بوجود حياة آخرة، مُتمثِّلة في الجنة والنار (جهنم)، رغم أن الثانية ليست مُطمئنة للآثمين في هذا العالم. تُشكِّل الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم التوراة (تعاليم اليهود) التي أوحاها الله إلى موسى عند جبل سيناء. وتشرَح التوراة أصول البشر واليهود — «الشعب المختار» — على وجه الخصوص. خلق الله الكون في ٦ أيام (واستراح في اليوم السابع)؛ وبما أن مجموعتنا الشمسية عمرها نحو ٦ مليارات سنة، على المرء فقط أن يَستبدل كل مليار سنة بيوم، وهكذا لا تكون قصة الخلق تخمينًا يختلف كثيرًا في غرابته عن التطور؛ فعلى الأقل ترتيب الأحداث صحيح إلى حدٍّ ما.
توجد أشياء كثيرة مُشتركة بين المعتقدات اليهودية ومُعتقدات السومريين؛ فيُقال إن إبراهيم — النبي الذي يؤمن به المسيحيون والمسلمون واليهود أيضًا — وُلد في مدينة أور. تظهر أول شخصية يُمكن التعرف عليها في العهد القديم، وهي شخصية موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، الذي كان على الأرجح رسول اليهود الذي قاد بني إسرائيل للخروج من العبودية في مصر. ولا يَظهر أول تسجيل لممارسة فعلية للديانة اليهودية قبل عام ٦٠٠ قبل الميلاد.
ويصل عدد الذين يَعتبرون أنفسهم يهودًا في العصر الحالي إلى نحو ١٧ مليونًا، يعيش ٤٠٪ منهم في الولايات المتحدة و٢٠٪ في إسرائيل.
•••
توسَّعت الاهتمامات البابوية من الدينية إلى الدنيوية، ومن شئون الكنيسة إلى التدخل في السياسة. وفي نهاية القرن الحادي عشر كان البابا أوربان الثاني يشجِّع على الحرب؛ فبدأت الحملات الصليبية باسم المسيحية. كان الهدف منها هو تخليص فلسطين — الأرض المقدَّسة — من سيطرة المسلمين عليها. ولم يتحقَّق هذا قطُّ على نحو دائم. ففي عام ١٠٩٩ استولى الصليبيون بالفعل على القدس، ونصَّبوا جودفري دي بويون — تعني كلمة «بويون» أيضًا حساءً بالفرنسية — ملِكًا، وقد ذبَح جميع السكان. لكن في عام ١١٨٧ خرج الصليبيون من المدينة، بعدما هزمهم صلاح الدين سلطان مصر وسوريا، وظلَّت فلسطين تحت الحكم الإسلامي حتى عام ١٩١٧، عندما حرَّرتْها القوات البريطانية من العثمانيين. كما رأينا في فصل سابق، عادت إلى اليهود في النهاية، وأصبحت القدس مدينة مقسَّمة — كما هو وضعها حتى يومنا هذا — تُعطي حقًّا متساويًا لممارسة طقوس العبادة اليهودية والمسيحية والإسلامية. أدَّت الحروب الصليبية إلى توليد العداء، معظمُه خارجي، بين المحاربين الصليبيين والمواطنين الأبرياء؛ فقد عانى المسلمون والمسيحيون واليهود بقدْرٍ متساوٍ. لم يؤثِّر أيٌّ من هذا إلى حد كبير في البابوية؛ فقد أبعدت نفسها عن الأحداث التي أطلقتْها، وواصلت سيطرتها على العالم المسيحي، الذي امتدَّ في هذا الوقت إلى معظم أنحاء أوروبا. وفي القرن الرابع عشر بدأ السخط من كنيسة روما يتنامى؛ فقد دفع معتقداتها وتزمُّتُها الناسَ في الأراضي الشمالية إلى البحث عن شكل بديل للمسيحية؛ فبدأت البروتستانتية في الظهور.
انتقد جون ويكليف، المحاضِر في جامعة أكسفورد في القرن الرابع عشر، الكنيسة في عدة جوانب؛ ثرائها ونفوذها (وهذه هي الأسباب نفسها بالضبط التي لام المسيح الفريسيِّين عليها)، وعصمة البابا، ورفضه بعناد التفكير في ترجمة الإنجيل إلى اللغة الدارجة. بدأ ويكليف هذه المهمة، التي استكملها ويليام تيندال مع العهد الجديد الذي قدَّمه في عام ١٥٢٦ (وقد حُرق فيما بعد على وتد في مدينة أنتويرب عقابًا على ما فعله). ظهَر المصلحون في أماكن أخرى؛ ففي فيتنبرج عارض مارتن لوثر على وجه الخصوص بيع صكوك الغفران، التي كانت تُمحى بها الخطايا التي ارتكبها المسيحيون التائبون — بما في ذلك الأعمال الوحشية للصليبيين — من خلال الأعمال الصالحة التي لم يكن يُستثنى منها على وجه التحديد دفْع المال لكنيسة روما، وأعلن على الملأ أسبابه الخمسة والتسعين لرفضه هذا في عام ١٥١٧. بعد أربع سنوات من هذا أُدين مارتن لوثر بسبب عصيانه وطُرد من الكنيسة؛ فانتقم بترجمة الإنجيل إلى الألمانية. سبب استفاضتي في الحديث عن هذه الأحداث هو أنْ أُظهر كثرة مَن كانوا يروْن أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لم تكن تقدِّم العون الروحي الذي كانوا يَبحثون عنه؛ رغم استمرار عقيدتها.
حتى لا أُتهم بالتحيُّز في وصْفي للشئون داخل كنيسة روما، أُضيف سريعًا أن العقيدة هي نفسها لدى بعض البروتستانت؛ ففي كثير من الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية، يُدرس خلق العالم منذ ٦ آلاف سنة، في غضون ٦ أيام، وخلق الإنسان، كما ورد في سِفر التكوين، للأطفال في المدارس (في فصل العلوم؛ فالتعليم الديني ممنوع في المناهج الدراسية في الولايات المتحدة). وتُدرَّس الأفكار المستحدثة عن العالم وكون عمره وعمر الكائنات فيه يُقدَّر بخمسة مليارات سنة — بما في ذلك الإنسان الذي تطوَّر تدريجيًّا عبر اختيار الأصلح — على مضض بوصفها احتمالًا بديلًا فحسب. هذه خطوة حديثة إلى الأمام؛ فطوال سنوات كثيرة عقب محاكمة سكوبس في عام ١٩٢٥، التي نجحت فيها مقاضاة معلِّم في مدرسة في ولاية تنيسي بسبب تدريسه لنظرية داروين، كانت المدارس في كثير من الولايات الجنوبية ممنوعة من تدريس نظرية التطوُّر على الإطلاق. وكل بضع خطوات في أحد الاتجاهات مصحوبة ببعض الخطوات في اتجاه آخر؛ ففي عام ١٩٩٩ صوَّت مجلس التعليم بولاية كانساس على إلغاء تدريس نظرية داروين عن التطور من كل المدارس التابعة له.
ظهرت نظرية الخلق مؤخرًا في إنجلترا، عندما قرَّرت مدرسة في بلدة جيتسهيد تدريسها بجانب التطور. كان مُبرِّرهم في ذلك إعطاء الطلاب الإحساس بنظريات مُتعارضة حول نشأة الإنسان. إلا أن نظرية داروين عن التطور تدعمُها الأدلة العلمية بشدة تمامًا مثل فكرة أن الأرض كروية وليست مسطحة، وأنها تدور في مدار حول الشمس، وليس العكس. ويبدو لي أن مقارنة «أصل الأنواع» بكتاب سِفر التكوين أمر هزلي تمامًا مثل مقارنة بحث كريستوفر كولومبوس ببحث هانسل وجريتل؛ فأحدهما واقع والآخر أسطورة. إذا كان المدرسون في جيتسهيد أرادوا توضيح نظريات مُعارضة لنظريات التطور، فلماذا لم يُشجِّعوا طلابهم على الفصل بين التطور والتأقلُم؛ بين داروين ولامارك؟ على أيِّ حال، إذا تقبَّل المرء وجود أديان أخرى بخلاف ثلاثية اليهودية والمسيحية والإسلام تقوم على معتقدات راسخة لدى متَّبعيها بالقوة نفسها، فإن فكرة خلق العالم بأكمله على يد إله واحد محدَّد — إله اليهود — تُصبح غير منطقية. لكن متى لم يكن الإيمان الديني يُغني عن المنطق؟ أليست هذه نقطة قوته؟
إذن يفوق حاليًّا أتباع المسيحية أتباع أي ديانة أخرى؛ فيوجد أكثر من مليار روماني كاثوليكي وما يَقرُب من ٣٥٠ مليون بروتستانتي (٨٠ مليونًا منهم إنجيليون) موزعين في جميع أنحاء العالم.
•••
يَشترك الدين الإسلامي في كثير من معتقداته مع اليهودية والمسيحية؛ أحدها أن الإله فيها (الله) هو نفسه، وأن أبراهام (إبراهيم) هو أبو العرب تمامًا كما هو أبو اليهود. وكلمة «إسلام» تعني في الأساس «الاستسلام» (إلى الله)، و«المسلم» هو الشخص المستسلم. أسس هذا الدين النبي محمد في نحو عام ٦١٠ ميلاديًّا في مكة في شبه الجزيرة العربية، وهي المدينة التي وُلد فيها. بدَأ محمد حياته في التِّجارة، وتزوَّج من أرملة غنية. وعندما كان في سن الأربعين في أثناء نومه في سلام في غار حراء بالقرب من مكة، زاره المَلَك جبريل؛ ومن خلاله تلقى بعثته النبوية والتعاليم الأساسية للقرآن، الذي أصبح فيما بعدُ الكتاب المقدس للإسلام. وطوال السنوات الاثنتي عشرة التالية تقريبًا مارس النبي محمد الشعائر الدينية في مكة، وبدأ الناس من حوله يَعتنقون الدين الجديد الذي يوحي إليه به الله، عبْر المَلَك جبريل. إلا أن أهل مكة الوثنيِّين كانوا يعارضون بشدة تعاليم محمد، وفي عام ٦٢٢ أصبح هو وأتباعه في خطر شديد، فقرَّروا الارتحال إلى المدينة حيث وجَدوا الأمان. وقد خلَّدت ذكرى هذه الرحلة — الهجرة — حقيقة أن التقويم الإسلامي يبدأ من هذا الوقت (١ هجريًّا/٦٢٢ ميلاديًّا/٤٣٨٢ من التقويم اليهودي).
طوال حياته كان محمد أكثر من مجرَّد زعيم ديني؛ فكان يقود الجيش، ويجمع الضرائب، ويؤدِّي كافة أدوار الحاكم الدنيوي. ويُعتبر هذا فرقًا مهمًّا بين الإسلام والمسيحية؛ فبينما قال المسيح: «أعطُوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، لم يكن للتمييز بين دار العبادة والدولة مكان في الإسلام؛ فكلاهما كان واحدًا. ويُفسِّر هذا سبب اعتبار الديانة الإسلامية الديانة الرسمية في أكثر من ٥٠ دولة إسلامية. ونظرًا لغياب وجود قادة دينيين رسميين — مجرد معلِّمين — لا يوجد نزاع بين القائد السياسي لأيِّ دولة إسلامية وزعمائها الدينيِّين. تُمثِّل إيران في العصر الحالي حالة استثنائية في إعطائها للأئمة مكانة تُشبه كثيرًا مكانة الأسقف المسيحي أو الكاردينال؛ فطالما أن آراءهم تتوافَق مع رأي رئيس الدولة، لا توجد مشكلة. لكن ثمة اختلاف آخر، أقل وضوحًا، بين تعاليم الإسلام وتعاليم المسيحية واليهودية، أو أيِّ ديانة أخرى أيضًا؛ فالقرآن يحثُّ أتباعه على «فعل الخير والنهي عن الشر»؛ ليس تجنُّب فعل الشر فحسب، وإنما النهي عنه؛ ولهذا السبب يَعتبر كثير من المسلمين في العصر الحالي من واجبهم الديني ممارسة أفعال مثل إدانة الكاتب سلمان رشدي بسبب روايته المثيرة للجدل «آيات شيطانية».
أقام أتباع محمد من العرب وخلفائهم — السلاجقة والعثمانيين الذين أسَّسوا الإمبراطورية العثمانية — مجتمعًا مستنيرًا ظلَّ لألف سنة، وامتدَّ عبر ثلاث قارات. ظلت هذه الثقافة حيَّة وأثْرت التراث اليوناني الروماني عندما كانت بقية أوروبا في حالة من الاضطراب والانحدار. لماذا؟ لأن الدين الإسلامي ليس دينًا قاصرًا؛ فاليهود والمسيحيون، مثل المسلمين، أحفاد إبراهيم. كما يُعترَف بموسى والمسيح على أنهم أنبياء الله ورسله تمامًا مثل محمد (فكان خطؤهم الوحيد تحريف رسالتهم الأصلية). ومع توسُّع المجتمع الإسلامي، أعطى لليهود والمسيحيين اختيار اعتناق دينهم؛ وإن اختاروا عدم فعل هذا، فكانوا لا يتعرَّضون للاضطهاد — هذا تمامًا على عكس الممارسة المسيحية منذ القرن الثالث عشر فصاعدًا — فكان الفيلسوف والعالم والطبيب موسى بن ميمون، الذي كان يهوديًّا قرَّر التحول إلى الدين الجديد، شخصيةً موقَّرة في القرن الثاني عشر في قرطبة والقاهرة. لا يَظهر التعصُّب في تعاليم القرآن (تمامًا مثلما لا يَظهر في تعاليم الإنجيل). فمن خلال احترام الأديان الأخرى ازدهَر الفن والطب والرياضيات وعلم الفلك في الإسلام، بينما ظلَّت راقدة في العالم المسيحي.
(٢-٣) البوذية والكونفوشيوسية والطاوية
تُعتبر المعتقَدات الثلاثة التي سنَشرحُها الآن، والتي نشأت جميعها في آسيا، فلسفات أكثر من كونها أديانًا؛ فهي مُعتقَدات يُمارس المرء حياته وفقًا لها. لا يَشتمل أيٌّ منها على عقائد كالتي تميِّز المسيحية والإسلام؛ ومن ثم يخلو كلٌّ منها من الآثار الضارة التي تنتج عن التفسير الخاطئ المتعمَّد لتعاليم يسوع المسيح والنبي محمد.
كان سيدهارتا جواتام — الذي عُرف فيما بعدُ باسم بوذا (تعني «تنوير» بالسنسكريتية) — أميرًا هنديًّا عاش فيما يُعرف حاليًّا بدولة نيبال في الفترة بين ٥٦٣–٤٨٠ قبل الميلاد تقريبًا. تخلَّى عن مملكته ومُتَعها — وكذلك عن زوجته وطفله — وبدأ في ممارسة أسلوب الزهد في الحياة؛ يُمكنك تشبيهه بتولستوي العصر القديم؛ فقد علَّم الناس التركيز أكثر على أنفسهم من التركيز على أي إله؛ فكان مفهوم الدارما الهندوسي محوريًّا في رسالته. لم يُسجِّل هو أو أحد من أتباعه أيًّا من مواعظه؛ فلم تكن الكتابة في هذا الوقت جزءًا من الحياة الهندوسية؛ وعليه، يُعتبر بوذا شخصية محيِّرة تمامًا مثل المسيح، إن لم يكن أكثر. في الواقع، من الغريب أن تعاليمَه نجت من الأساس؛ فقد ظلَّت تُنقل شفهيًّا فقط لأكثر من أربعة قرون، وانتشرت ببطء من المناطق الجبلية في الشمال إلى ضفاف نهر الجانج، عبر أراضٍ مُتباينة كانت بعيدة كل البعد عن وحدة الإمبراطورية الرومانية، التي انتشَرت فيها تعاليم المسيح سريعًا؛ ومع ذلك ظلت باقية. كُتبت أقدم السجلات باللغة البالية — وهي لهجة هندية شمالية — وتُشكل حاليًّا ما يُعرف باسم كتاب «شريعة بالي». يحتوي هذا الكتاب على مواعظ بوذا (السوتا بيتاكا)، والقواعد الواجب اتباعها في حياة الرهبانية (فينايا بيتاكا)، وعدد من التقييمات الفلسفية والمذهبية (أبيهداما بيتاكا). وكما لم تحلَّ المسيحية مَحلَّ اليهودية في فلسطين وإنما حلَّت محل الوثنية في أماكن أخرى، لم تَحُلَّ البوذية محلَّ الهندوسية في الهند (رغم أنها ظلَّت تُمارَس فيها لأكثر من ألف سنة)، ولكنها انتشَرت بدلًا من ذلك شمالًا في التيبت وآسيا الوسطى والصين وكوريا واليابان، وجنوبًا في سيريلانكا وجنوب شرق آسيا. وفي اليابان كانت تُمارَس في صورة النسخة المعدلة المعروفة باسم «بوذية الزن» (التي تطوَّرت هي نفسها من الطاوية في الصين في القرن السابع)، مع الديانة الرئيسية — الشنتو — التي ليس لها مؤسِّس معروف لكنها تُمارَس منذ أكثر من ألف سنة. وعندما تُسافر في جميع أنحاء قارة آسيا في عصرنا الحالي، سترى تماثيل ضخمة لبوذا، يتوافَد عليها الناس ليُعبِّروا عن احترامهم لها. إلا أن جواتاما لم يكن إلهًا، ولا حتى ابنًا لأحد الآلهة؛ وكان سيَمقُت هذا التمجيد الشخصي، كما تظهَر تعاليمه بوضوح.
يتمثَّل الجانب المتعلِّق بهذا الكتاب في حقيقة أن البوذيين، مثل الهندوسيين، لا يَرسمون الخط الفاصل الحاد بين البشر والحيوانات الذي يتميَّز به التراث اليهودي المسيحي؛ فكل الكائنات بالنسبة لهم لديها عقل يَسمح لها بامتلاك مشاعر مثل الإنسان؛ ومن ثم لا يمثل تناسخ الأرواح بين البشر والحيوانات مشكلة. فلو كان تشارلز داروين نشر كتابه «أصل الأنواع» في آسيا، لم يكن ليَحدُث العداء الذي واجهه في أوروبا.
كان كونج فو تسو أو «كونج الأستاذ»، الشهير باسم كونفوشيوس، موظَّفًا حكوميًّا صينيًّا عاش من ٥٥١ إلى ٤٧٩ قبل الميلاد. ورغم أنه عاصر بوذا تمامًا، فلا توجد أدلة مطلقًا على أنهما التقيا؛ فقد كان التواصُل بين الهند والصين، اللتين تفصلهما سلسلة جبال الهيمالايا، منعدمًا فعليًّا في هذا الوقت. نظرًا لنشأته في فترة من حروب ونزاع بين مملكتَي تشو الغربية والشرقية، أصبح كونفوشيوس مُقتنعًا بأن العودة إلى القيَم السابقة السلمية أمرٌ مطلوب. وأحد القواسم المشتركة مع الآراء التي عبَّر عنها في الوقت نفسه تقريبًا أفلاطون في أثينا، أن كونفوشيوس رأى أن السلطة يجب أن تكون في أيدي الحكماء والصالحين؛ فتدين كثيرًا حقيقة أن الالتحاق بالمناصب الحكومية العليا كان على أساس الجدارة للعقيدة الكونفوشيوسية. في أوروبا سرعان ما اندثَرت أفكار أفلاطون المثالية؛ أما في الصين فقد سادت الفلسفة الكونفوشيوسية المجتمع لأكثر من ألفَي سنة.
يُعتبر وضوح رسالة كونفوشيوس وما تتَّسم به من حكمة مُقنعَين للغاية، حتى إن أقواله المأثورة أصبح يُردِّدها السياسيون في جميع أنحاء العالم في عصرنا الحالي. إلا أنَّ الأيديولوجية الكونفوشيوسية ارتبطَت بالمجتمع الصارم في فترة الحكم الإمبراطوري، ولم يتضاءل تأثيرها في الصين إلا بعد عام ١٩١١. وفي الواقع، يُلقى عليها اللوم جزئيًّا في تدهور الإمبراطورية في الوقت الذي جلب فيه الابتكار والتقدم الأوروبيَّان الازدهار للدول الأوروبية والسيطرة على باقي أنحاء العالم. وفي عهد ماو تسي تونج، صار حال الكونفوشيوسية — مثل كل المعتقدات الأخرى عدا اعتقاد ماو في نفسه — أسوأ بكثير؛ فحلَّت أقوال الزعيم ماو محل أقوال كونفوشيوس. ومع ذلك كان القاسم المشترك بين أقوال ماو المأثورة وتصريحات الطغاة الآخرين الذين يقرُّون سياسات حمقاء ومؤذية، أنها لم تدم. فعادت أقوال الأستاذ كونج البليغة تُسمَع مرةً أخرى في ووهان وبكين، وفي شانغهاي وجوانزو. وعادت القيم الكونفوشيوسية التقليدية من برِّ الوالدَين واحترام المعلمين لتدعم التعليم الصيني، في وقت كان الافتقار للانضباط والحماس يُقوِّض نظيره في الغرب. ومع ذلك، يُقال إن ثمة ٦ ملايين مُعتنق فقط للكونفوشيوسية.
رغم الاختلاف في موطن التركيز بين الكونفوشيوسية والطاوية، لم تحلَّ أيٌّ منهما محلَّ الأخرى؛ فكلا الفلسفتَين مكملتان إحداهما للأخرى وتُعتنَقان جنبًا إلى جنب، تمامًا كما تُمارس الشنتوية والبوذية معًا في اليابان. تعرَّضت تعاليم الطاوية وأديرتها — مثل أديرة البوذية في التيبت — للقمع على يد ماو؛ وواصل خلفاؤه قمعها. ومع ذلك، نجت مجموعات صغيرة، وازدهرت الطاوية في أماكن مثل تايوان وأماكن أخرى في آسيا.