ربما يجدر بنا تقديم ملخص وجيز عن ماهية العلم. على الأرجح لن يكون معظم قراء هذا
الكتاب من العلماء. فأنا أفترض، وفي الواقع أرجو، أن يحدث هذا. أولًا: لأن عدد غير
المهتمين بالعلم يفوق بكثير أولئك الذين درسوا بعض جوانب هذا الفرع المعرفي في الكلية
أو الجامعة (يشاركني الناشر في التطلُّع إلى نطاق واسع من القراء). وثانيًا: لأنني أريد
أن أقدِّم لعامة الناس، بما في ذلك رجال السياسة والبيروقراطيين، فرصةً لقراءة استعراض
محايد — غير متحيِّز قدر استطاعتي — للتقنيات المعاصرة للتعامل مع الكائنات المعدَّلة
جينيًّا في الجزء الثالث. وثالثًا: لأن أصدقائي المتخصِّصين في العلوم سيُسارعون إلى
ادعاء وافتراض أني تجرأتُ وأقدمت على انتقادهم. ألا تُعتبر الرغبة التنافسية، قريبة
الطموح، صفة بشرية بحتة؟ ورابعًا: لأني شخصيًّا مولَع بآراء تيرانس كيلي،
١ الذي جرؤ على افتراض أن التكنولوجيا أحيانًا تُنتج علمًا، وليس العكس،
وأحيانًا كلما قلَّ ما تنفقه الحكومة على العلوم الأساسية، كان هذا أفضل؛ وبالطبع لا
حاجة بنا إلى قول إنه لقيَ معاملة سيئة من زملائه من المتخصِّصين في مجال
العلوم.
إذا كان العلم يَعني أي شيء — وهو في الواقع يعني المعرفة — فبالتأكيد كان أول مَن
أشعلوا نارًا علماء. لكني عرَّفتُ المعرفة التي تُكتسب عبر التجربة والخطأ على أنها
تكنولوجيا؛ أما المعرفة التي تُكتسب عبر التفكير المنطقي فهي علمٌ.
٢ ولا تكفي الملاحظة والتجريب؛ فلا يُعتبر رسم خريطة لمواقع النجوم في السماء
علمًا تمامًا، مثلما لا يعتبر رسم خريطة لساحل إحدى الدول أو رسم خريطة لجينوم الإنسان
علمًا. فالمعرفة العلمية تتمثَّل في معرفة «لماذا» تبدو النجوم كأنها تتحرك (فهي
فعليًّا أجرام ثابتة بالنسبة للأرض)، أو «لماذا»
يوجد شكل معين للخط الساحلي (يتكوَّن عبر عوامل التعرية ومستويات البحر المتغيرة)، أو
إلى «ماذا» يشير تسلسل الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين في الدي إن إيه
(إلى بروتينات مختلفة والتحكُّم في وظائفها). نستطيع جميعًا توقع — دون معرفة السبب
الأساسي — أن الشمس إذا غربت في نقطة معينة في الأفق في نحو الثامنة من مساء اليوم،
فإنها ستفعل ذلك غدًا في مكان مختلف قليلًا، في موعد مختلف قليلًا (إلا إذا كنا عند خط
الاستواء؛ حيث لا تحدث تغيُّرات كثيرة). إلا أن حسابات المستكشفين الأوائل للسماء كانت
دقيقة للغاية لدرجة تَستحق الذكر.
في مصر، توصَّل بناة أهرامات الجيزة منذ ٤٥٠٠ سنة إلى تفاصيل فلَكية غاية في الدقة
(كلها بالطبع دون استخدام تليسكوبات). فيُشير جانبان من كل من الأهرامات الثلاثة إلى
جهة الشمال بدقة إلى حد كبير. إذا افترضنا أن هذا كان هدف بناة الأهرامات، فكيف أمكنهم
تحقيق مثل هذا التراصُف؟ لم يكن القدماء المصريون يَعرفون البوصلة المِغناطيسية، ولم
يكن النجم القطبي (الذي يظهر حاليًّا جهة الشمال طوال الوقت في نصف الكرة الشمالي) يظهر
في هذا الوقت في سمائهم ليلًا. ربما استخدموا الشمس (لتحديد جهة الجنوب)، لكن ثمة طريقة
نجمية أخرى اقتُرحت مؤخرًا. ربما استطاع المهندسون المعماريون محاذاة الأهرامات من خلال
مدِّ خطٍّ بين نجمتين ساطعتَين — واحدة تقع ضمن مجموعة الدُّب الأصغر والأخرى ضمن
مجموعة الدُّب الأكبر — حتى الأرض؛ وحتمًا كان هذا الخط سيُشير إلى الشمال. أقول إن هذه
المحاذاة كانت «دقيقة إلى حد كبير»؛ لأن اتجاه جانبَيِ الأهرامات يَنحرف عن جهة الشمال
بنحو بضع دقائق قوسية،
٣ ويختلف الخطأ قليلًا في كل هرم. ومع ذلك، تعتقد المتخصِّصة في علم
المصريات، كيت سبينس، أنها كانت دقيقة في وقت بناء الأهرامات، التي بُني كل منها لحاكم
مختلف؛ فقد حسبَتْ مقدار التغير الطفيف الذي يحدث للخط الذي يربط النَّجمتين معًا على
مدار السنوات، وعلى أساس افتراض أن كلًّا منها كان دقيقًا في وقت بنائه، استطاعت تحديد
هذا التاريخ. ونتيجة لذلك توصَّلت إلى تسلسل زمني لفترات الحكم التي بُنيت فيها هذه
الأهرامات يتراوح مدى دقَّته في نطاق ٥ سنوات قد تقلُّ أو تزيد (مقارنةً بالتقديرات
السابقة التي كان مدى دقتها في نطاق ١٠٠ سنة قد تقلُّ أو تزيد).
٤
في اليونان كان بطليموس يتوقَّع كسوف الشمس وخسوف القمر، ويصف على نحو صحيح حركة
الكواكب في مداراتها، هذا في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي (كان يَعتقد أنها
مدارات دائرية؛ وكان يوهانز كيبلر في مطلع القرن السابع عشر مَن أدرك أنها بيضاوية وصاغ
قانونه الثاني لحركة الكواكب ليضع هذا في اعتباره).
(١) أساليب العلم
يُعتبر الاستكشاف — على الأقدام أو بقارب، باليد أو بالعين — جزءًا كبيرًا من سعي
الإنسان. يَكمن الاستكشاف أيضًا وراء تقدُّم العلم؛ وفي هذه الحالة يكون السعي من
أجل المعرفة. كما أن محاولة فهم طريقة عمل العالم ساقت الإنسان إلى المعتقدات
الدينية. لكن كما رأينا للتوِّ لا يقدم الدين إلا تفسيرات رمزية؛ فالعلم وحده
القادر على تقديم تفسير منطقي. ومع ذلك، تجدر بنا الإشارة إلى تعليق نيلز بور بأن
الفيزياء لا تهتمُّ بماهية الطبيعة، بل بما نستطيع أن نقوله عنها،
٦ وهو رأي لا يختلف كثيرًا عن رأي إسحاق نيوتن قبل هذا بثلاثة قرون. ربما
يكون الفضول صفة أساسية، لكن وحده لا يصنع عالِمًا. فحتى تتصدى لمشكلة استعصت على
كل مَن جاءوا قبلك، وحتى تصفَ جزءًا من العالم بطريقة جديدة بوضوح ومنطق، لا تحتاج
إلى مجرد الكثير من التفكير والتجريب، بل أيضًا إلى قدر من البصيرة ولحظة إبداع.
ولهذا يكون البحث عن الإلهام أمرًا مشتركًا بين العلماء والفنانين.
٧ وتَعتمد المفاهيم الجديدة في مجال العلم، كما في الرياضيات أو الفلسفة،
على أفكار لم تخطر لأحد من قبل. فبديهيات مثل أن الأرض ليست مركز الكون، وأن جميع
الأجسام يجذب بعضها بعضًا، وأن القلب يضخُّ الدم إلى جميع أجزاء الجسم في دائرة
مغلَقة، وأن كثيرًا من الأمراض تُسببها الجراثيم المُعدِية، وأن الحياة على الأرض
تطورت عبر عملية تغيُّر تدريجية، وأن الزمن هو البُعد الرابع للمكان؛ كلها أفكار
مبتكَرة تمامًا مثل مسرحيات شكسبير ولوحات فيرمير، وموسيقى موتسارت، وكتابات
فولتير. والاختلاف الوحيد أنه إن لم يكن شكسبير أو فيرمير أو موتسارت أو فولتير قد
عاشوا، لم تكن لتظهَر «هاملت» و«الفتاة ذات الْقُرط اللؤلئي» وسيمفونية «جوبيتر»
ورواية «كانديد»؛ لكن إذا لم يولد كوبرنيكوس،
٨ أو نيوتن أو هارفي أو كوك أو داروين أو أينشتاين، فإن شخصًا آخر كان
سيتوصَّل في النهاية إلى اكتشافاتهم.
٩ ونحن نعلم أنه في الوقت الذي كان نيوتن يضع فيه أساس علم التفاضُل
والتكامل — أو بعده بفترة قصيرة — في إنجلترا، كان لايبنتس يصوغ المعادلات
التفاضلية في ألمانيا (لم يكن أحدهما يَعرف ما يعمل عليه الآخر). وبينما كان فلوري
وتشين يَعزلان البنسلين ويُحدِّدان تركيبه في أكسفورد، كان العلماء في هولندا
يفعلون الأمر نفسه؛ لكن لم تظهَر ثمار عملهم قطُّ؛ لأنه في عام ١٩٤٠ تعرَّضت هولندا
للهجوم واجتاحت القواتُ الألمانية الدولة.
١٠
إن العلم، على عكس الفن، ليس عُرضة للتأثيرات الإقليمية، ولا يتأثر كثيرًا بمرور
الوقت. فلا يوجد علم «غربي» أو «شرقي»، ولا يوجد علم قديم أو حديث، مثلما يوجد فن
صيني أو مصري، بدائي أو كلاسيكي، تصويري أو تجريدي. فالتفسيرات التي يتوصَّل إليها
العالِم لها صلاحية عالمية. أنا أتجنب عن عمد استخدام كلمة «حقيقة»؛ فالحقيقة
والكذب مفهومان ابتكرهما علماء الرياضيات والفلاسفة، أما العلماء فيستخدمونهما على
مسئوليتهم. تتخطى التفسيرات العلمية حدود الزمن والمكان. ففكرة أن مدارات الكواكب
توجد بفعل تأثيرات الجاذبية، وأن البرق والرعد يَحدُثان نتيجة تفريغ كهربائي، لا
تختلف صحتها في العصر الحالي عما كانت عليه في عهد نيوتن أو بنجامين فرانكلين (الذي
اخترع مانع الصواعق). كما أن هذه التفسيرات تكون صحيحة في كراكوف وكامبريدج تمامًا
مثلما تكون في مدينة كوبه وكلكتا. كيف يُمكننا التأكد؟ لأن جميع النظريات العلمية
يمكن اختبارها من حيث المبدأ؛ بعضها على الفور، والبعض الآخر عند توافر التقنية
المطلوبة، وأخرى عندما يجعل حدثٌ عرَضي الاختبار ممكنًا. ومثال على الحالة الأولى
فرضية جاليليو بأن السرعة التي تسقط بها الأشياء على الأرض لا علاقة لها بوزنها؛ إذ
أجرى جاليليو التجربة على الفور. ومثالٌ على الحالة الثانية فكرة داروين عن التطور؛
إذ مرت مِائة سنة قبل أن يستطيع التحليل الجزيئي إثبات فرضيته. أما الحالة الثالثة
فيظهر مثال عليها في نظرية أينشتاين عن النسبية العامة؛ حيث قدَّم كسوفٌ للشمس حدَث
في وقت مناسب الدليلَ الذي كان يَنتظره.
تستمد النظريات العلمية مصداقيتها من اختبار التنبؤات وتكرار التجارِب التي تقوم
عليها التفسيرات مرارًا وتكرارًا. بل والأكثر إقناعًا هو غياب البيانات السلبية.
فحتى نثق في إحدى الفرضيات، يجب أن نتمكَّن من إظهار أن كافة محاولات دحضها
تفشل.
١١ لقد أشرتُ ضمنيًّا إلى أن صحة التفسيرات العلمية لا تتغيَّر بمرور
الوقت؛ والآن عليَّ الاعتراف الآن بأن هذا ليس به إلا قدر من الصحة. فمع تحسُّن
تقنيات قياس الظواهر الطبيعية، تبدو نتائج الأمس مُبهَمة قليلًا اليوم. فمفهوم
الجاذبية يفسر حركة الكواكب حول الشمس جيدًا، لكنه لا يفسرها بالكامل. أما عند
الوضع في الاعتبار حقيقة أن المكان «منحنٍ»، يمكن الحصول على إجابة أكثر دقة. يكون
تأثير هذا طفيفًا جدًّا على الأرض (لكنه يكون هائلًا بالطبع على الكون)، ولم يَستطع
نيوتن قياسه، رغم أنه شك في أن الأمر كذلك. إن تفسيره لحركة الأجسام صحيح بالأساس؛
لكن التفاصيل الدقيقة فقط هي التي تحتاج إلى تعديل. وسنتعرض لمزيد من الأمثلة عن
الحاجة إلى تنقيح فرضية معيَّنة مع ظهور بيانات جديدة، عند حديثنا عن علم الأحياء
الحديث. ومثال على فرضية خاطئة تمامًا افتراض أرسطو أن المادة مكوَّنة من أربعة
عناصر، هي التراب والنار والهواء والماء. وثمة مثال آخر ظهر في وقت متأخِّر من
القرن السابع عشر يتمثَّل في افتراض أنه عند تسخين المعادن تفقد غازًا يُسمى
«الفلوجستون». أظهر علم الكيمياء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن كلا
الافتراضين خاطئان؛ فالعناصر التي تتكون منها المادة هي الهيدروجين والكربون
والكِبريت والسليكون وغيرها؛ وعندما تُسخَّن المعادن فإنها «تكتسب» غازًا، وهو
الأكسجين تحديدًا (حتى تصبح أكسيدات).
يعتبر ظهور اللغة، وتطوير التكنولوجيا،
١٢ ونشأة الدين، وصياغة القوانين، كلها عمليات تدريجية، فعليها يَرتكز نمو
المجتمعات عبر سعي مجموعات من الأفراد على مدار فترات زمنية طويلة. أما العلم فهو
مختلف، مثل أكثر تكنولوجيا حديثة؛ فهو يتطور بسرعة فائقة، ويُمكن نسب كل خطوة إلى
الأمام لفرد معين.
١٣ ولهذا السبب سنركِّز في القسم التالي على علماء محددين، عمل كلٌّ منهم
على نحو ملحوظ على تطوير معرفتنا بالعالم.
(٢) العلماء
كان أقدم المفكرين الذين حصلوا على مكانة العلماء هم اليونانيين القدماء. كان
طاليس الملطي في مدينة إيونية (في تركيا حاليًّا)، الذي عاش من عام ٦٢٤ تقريبًا حتى
عام ٥٤٥ تقريبًا قبل الميلاد، أولهم. وبخلاف معرفته بالرياضيات (إذ أخذ علم الهندسة
من مصر وأدخله إلى اليونان)، ومعرفته الفلكية (إذ توقَّع حدوث كسوف الشمس في ٢٨
مايو عام ٥٨٥ قبل الميلاد)،
١٤ اقترح طاليس أيضًا نظرية عن المادة. كان أساس نظريته الماء؛ فهو أساسي
لنمو النباتات، وكل شيء يُصدر الماء عند تسخينه (لأن كافة المواد البيولوجية، كما
أصبحنا نعرف الآن، مكوَّنة إلى حدٍّ كبير من الماء)؛ بالإضافة إلى هذا، فإن الماء
مادة توجد في الأشكال الثلاثة للمادة؛ الصلبة والسائلة والغازية. وبعد مرور قرن من
الزمن، اقترح أنكسيمانس
١٥ أن الهواء، وليس الماء، هو المادة الأساسية. وفي القرن الخامس قبل
الميلاد، اقترح إيمبيدوكليس من صقلية أن المادة مكونة من أربعة عناصر أساسية:
التراب والهواء والنار والماء. وبعد قرن من هذا تبنَّى أرسطو هذه الفرضية؛ كما كان
أيضًا أول مَن وضع نظرية محكمة لدراسة الميكانيكا. ورغم أن أيًّا من هذه الافتراضات
بشأن الطبيعة الأساسية للمادة لم تثبُت صحته،
١٦ على الأقل ارتكز كلٌّ منها على حُجة منطقية، وليس خرافة. ثم ظهَر علماء
الرياضيات الكبار؛ فيثاغورس (الذي أدرك هو أيضًا أن الأرض كروية وليست مسطحة)،
وأبقراط الخيوسي،
١٧ وإيودوكسوس من كنيدوس، وإقليدس. إلا أن الرجل الذي تفوَّق على هؤلاء
جميعًا، وأول عالِم ظلت نظرياته خالدة عبر التاريخ، كان أرشميدس.
(٢-١) أرشميدس
عاش أرشميدس في العصر الهيليني الذي ازدهرت فيه مدينتا سَرَقوسة والإسكندرية،
في الفترة ٢٨٧–٢١٢ قبل الميلاد تقريبًا. تلقَّى تدريبه بصفته عالم
رياضيات
١٨ واستخدم الرياضيات في وضع أسس علم الفيزياء. ونَدين بالفضل
لأرشميدس في العلاقة البسيطة بين المسافة التي تؤدِّي فيها الطاقة المبذولة على
رافعة إلى تحرُّكها؛ ومن ثم رَفْع جسم على الطرَف الآخر منها (مثل قوله: «أعطني
نقطة ارتكاز وأنا أحرِّك لك العالم»). يمثِّل هذا المبدأ الرئيسي أساس قدر كبير
من علم الميكانيكا، بدايةً من التوازن البسيط وأرجوحة التوازن في حديقة
الأطفال، حتى الرافعات الأكثر تطورًا المستخدَمة في الهندسة. كان أرشميدس رجلًا
عمليًّا بالإضافة إلى كونه مفكرًا. ومثل ليوناردو دافنشي اخترع أدوات حربية —
لمنْع الغزاة الرومان من الدخول إلى سَرَقوسة — ويُنسَب إليه أيضًا الفضل في
اختراع اللولب المستخدَم في رفع الماء من مستوى مُنخفِض إلى مستوًى
أعلى.
نادرًا ما تنتج اكتشافات علمية من الاضطلاع بمهمة. قد يحدث هذا للابتكارات
التكنولوجية، والرحلات الاستكشافية بالتأكيد، والإبداعات الفنية طوال الوقت.
ومن ثم فمِن المدهش أن أحد أكثر الإنجازات الأساسية في مجال الفيزياء حدثَت
نتيجة للاضطلاع بمهمة. حصل هيرون ملك سَرَقوسة حديثًا على تاج ذهبيِّ، وكان
الملك يشكُّ في أنه تعرض إلى الخداع، وأن الصانع خلَط الفضة بالذهب. فطُلب من
أرشميدس معرفة إذا كان هذا صحيحًا. كان هذا العالِم يُدرك أن الذهب أثقل وزنًا
من الفِضَّة، وأن وزن المادة يرتبط بحجمها.
١٩ إذا كان الشيء الذي طُلب من أرشميدس حسابه مربَّعًا أو كرويًّا،
وهو ما يستطيع بسهولة حساب حجمه، لم يكن ليواجه أيَّ صعوبة. لكن كيف يُمكن قياس
حجم شيء مثل التاج؟ يفكِّر معظمنا في مشاكله عندما نكون ساكنين؛ ونحن راقدون
على السرير، أو جالسون في المرحاض، أو ننظر خارج إحدى النوافذ، أو ننقع أنفسنا
في حمام دافئ.
٢٠ كان أرشميدس يستحمُّ، وفي أثناء نهوضه للخروج من حوض الاستحمام، أو
ربما وهو يجلس فيه، انتبه إلى أهمية حقيقة أن مستوى الماء تغيَّر. ويجب أن يكون
مستوى هذا التغير مساويًا لحجم الجسم. فاكتشف بذلك كيف يمكنه قياس حجم الأشياء
التي ليس لها شكل هندسي؛ ببساطة عن طريق قياس مقدار الماء الذي تحلُّ محله. وفي
ظل معرفة وزن تاج الملك ومعرفة حجمه أيضًا، لم يتطلَّب الأمر إلا قسمة أحدهما
على الآخر من أجل الحصول على كثافته. وكان شك الملك في محله؛ فلم يكن تاجه
مصنوعًا من الذهب الخالص.
(٢-٢) جاليليو
كان جاليليو جاليلي (١٥٦٤–١٦٤٢) (صورة ٦)، مُخترِعًا مثل ليوناردو دافنشي؛
وقد صمَّم تليسكوبات أفضل من أي شخص من قبل. لكن على عكس ليوناردو، لم يكن
يقتصر عمله على الملاحظة والتدوين فحسب. فصمَّم تجارِب من أجل تدعيم نظرية
معيَّنة أو دحْضها. وبصفته مجرِّبًا يَستخلص استنتاجات دقيقة من نتائجه، كان
يُشبه في ذلك أرشميدس ونيوتن. وتجدر بنا الإشارة إلى أن تجارِب داروين كانت
الطبيعة هي التي تجريها له؛ فلم يكن يفعل إلا مجرد (مجرد!) استنتاج المعنى الذي
يَكمن وراءها. وكذلك كانت نظريات أينشتاين؛ ففي حالته كان كل ما يحتاج إليه من
أجل إثبات صحة نظريته بضعة قياسات أجراها آخرون.
حتى عصر جاليليو لم يشكَّ أحد في رأي أرسطو الذي يقول إنه كلما زاد وزن الجسم
زادت سرعة سقوطه على الأرض. قرر جاليليو إجراء تجربة. كانت بسيطة للغاية، ونحن
جميعًا نعرف النتيجة؛ فقد أخذ حجرين، أحدهما أثقل وزنًا بعشر مرات من الآخر،
وتسلَّق برج بيزا المائل. ومن على قمة البرج رمى كلا الحجرَين؛ فوصلا إلى الأرض
في الوقت نفسه. وإن كان أرسطو محقًّا فإن الحجر الأخفَّ وزنًا كان من المفترض
به أن يأخذ وقتًا أطول بعشر مرات حتى يسقط على الأرض. لا تُحطِّم دومًا تجارِب
بمثل هذه البساطة آراءنا الراسخة مُسبقًا عن العالم. ولم يترك جاليليو الأمر
عند هذا الحد؛ فقد وضع حُجة منطقية بالكامل لإظهار أن اقتراح أرسطو لا يُمكن أن
يكون صحيحًا؛ حيث أدَّى إلى تضارُب واضح.
٢١
سمحت تليسكوبات جاليليو له برصد البُقع الشمسية واكتشاف أقمار الْمُشتري.
فكان إدراكه بأن أقمار المشتري تدور حوله وليس حول الأرض، مع حصوله على بيانات
أكثر دقة حول مدار الزهرة، هو ما أقنَعه أن اقتراح عالم الفلك البولندي نيكولاس
كوبرنيكوس كان صحيحًا؛ فالأرض (والكواكب الأخرى) تتحرَّك بالفعل حول الشمس،
وليس العكس. كان هذا الإصرار على أن الأرض ليست مركز الكون المعروف، هرطقة
مؤكَّدة في نظر كنيسة روما. أدرك جاليليو هذا، لكنه قرَّر اتباع جوردانو برونو
(القس الذي وُسم فيما بعدُ بالهرطقة) في التأكيد على أن الإنجيل يجب اتِّباعه
في تعاليمه الأخلاقية، وليس كمصدر للمعرفة الفلَكية؛ فلماذا منح الله الإنسان
عقلًا إذا لم يكن يُريد منه استخدامه؟ لذلك لم يُحجم جاليليو عن نشر آرائه. أي
عالِم يمكنه أن يُحجم عن تسجيل دلالة نتائجه الحالية؟ أحيانًا لا يوجد خيار
أمامهم. فاضْطُر العلماء السوفييت إلى منْع أنفسهم؛ خوفًا من الاضطهاد والنفي
والموت، من الإشارة إلى أن آراء ليسينكو حول توريث الصفات المُكتسَبة بالتكيُّف
مَحْض هُراء؛ فقد كان تروفيم ليسينكو صديق الرفيق ستالين وربيبه. فكان مكتب
محاكم التفتيش مُتساهلًا في هذه الحالة أكثر من مكتب المدعي العام في موسكو؛
فكل ما فعله هو طرده من الكنيسة. لم تكن محاكمته في عام ١٦٣٣ مواجهة بين الدين
والعلم بقدر كونها عداوةً شخصية تجاهه، فكانت الأسباب الفعلية لمحاكمته تجاهُله
لمرسوم صدر مسبقًا يحظر على وجه الخصوص مناقشة آراء كوبرنيكوس بأيِّ طريقة؛
بصرف النظر عن تأييدها أو معارضتها. لم يُعانِ كوبرنيكوس نفسه من مثل هذا
الاستهجان؛ فلحُسنِ حظه كان المُناخ الديني في بولندا في القرن السادس عشر
متحرِّرًا نسبيًّا. هل أجرؤ على الإشارة إلى أن هذا تزامن مع ظهور
البروتستانتية في شمال أوروبا؟
(٢-٣) نيوتن
يُمثِّل الانتقال من جاليليو إلى نيوتن عملية تطور سَلِسة؛ فقد ولد إسحاق
نيوتن في العام الذي تُوفي فيه جاليليو. ومثل أرشميدس من قبله، كان نيوتن في
المقام الأول عالم رياضيات علَّم نفسه بنفسه؛ وفي سن ٢٧ عُين لمنصب الكرسي
اللوكاسي للرياضيات في جامعة كامبريدج، الجامعة التي التحق بها كطالب منذ ٩
سنوات. تمحوَر التعليم الذي حصل عليه فيها حول الفلسفة؛ المنطق والأخلاق
الأرسطية (التي كان يعرف معظمها قبل قدومه؛ ومن ثم فاقت معرفته بعلم المنطق
معرفة مُعلِّمه). ومع ذلك، لم يُنجز نيوتن معظم أعماله العظيمة داخل جدران
الجامعة، بل في منزله في وولسثورب مانور بالقرب من جرانثام في لينكولنشير.
وعندما حان وقت حصوله على ليسانس الآداب، بعد ٤ سنوات من التحاقه بجامعة
كامبريدج، أُغلقت الجامعة؛ فقد وصل الطاعون مرةً أخرى إلى إنجلترا. قضى نيوتن
الشاب الجزء الأخير من عام ١٦٦٥ وعام ١٦٦٦ بأكمله في المنزل، في دراسة مُنعزلة.
واتضح أن هذه الفترة كانت أكثر فترات حياته إثمارًا.
أولًا: واصل بحثه عن حلٍّ للنظرية ذات الحدين (أ +
ب)
ن. أدى هذا إلى توصله إلى مفهوم المتسلسِلَة
اللامتناهية في الرياضيات، ومنها إلى توصُّله إلى صياغة مبادئ علم التفاضُل
والتكامل (الذي أطلق عليه اسم «الفروق المستمرة»)؛
٢٢ حيث شرح بمصطلحات علم الجبر العلاقة بين نقطة في الفضاء وحركتها
بالزمن. كان يُمكن لهذا الإنجاز وحده أن يجعله واحدًا من أكثر علماء الرياضيات
إبداعًا على الإطلاق. إلا أن فضوله لم يتوقف عند هذا الحد؛ فقد كان مثل
ليوناردو دافنشي مهتمًّا بخصائص الضوء. وقد شعر بوجود خطأ ما في المفاهيم
المعتمَدة عن الألوان التي ابتكَرها رجال مثل رينيه ديكارت وروبرت هوك في
إنجلترا. كان الأخير قد نشَر للتو كتابه «الفحص المِجهري»، الذي أكَّد فيه على
أن الألوان نشأت من امتزاج «الظلام» بالموجة الأساسية للضوء الأبيض؛ فقليل من
الظلام يُنتج اللون الأحمر، وتباعًا تنتج زيادة الظلمة ألوان قوس قزح الأخرى،
حتى الوصول إلى اللون الأزرق. كانت تساور نيوتن الشكوك بشأن هذا، واختار إجراء
تجربة. اشترى منشورًا زجاجيًّا، ربما من سوق القرية، وبدأ في تلميع جوانبه.
ورتب غرفته بحيث ينعكس شعاع الضوء الذي يسقط على أحد جوانبه عبر الجانب الآخر
على الحائط؛ فظهرت ألوان قوس قزح، من الأحمر حتى الأزرق. بعدها أخذ منشورًا آخر
انعكست عبره الألوان الفردية مرةً أخرى. وكانت النتيجة ظهور الضوء الأبيض.
بعبارة أخرى، يتكوَّن الضوء الأبيض من مزيج من الألوان، وليس العكس.
بعد خمسين عامًا أوجز نيوتن هذه الإنجازات ببلاغة قائلًا: «في مطلع عام ١٦٦٥
[لم يكن تعدى الثالثة والعشرين من العمر] اكتشفتُ طريقةً لتقريب المتسلسلة
والقاعدة الخاصة باختزال … أيِّ معادلة ذات حدين إلى مثل هذه المتسلسلة. في شهر
مايو من العام نفسه اكتشفتُ طريقة حساب خط المماس … وفي شهر نوفمبر توصلت إلى
طريقة الفروق المستمرة المباشرة، وفي يناير من العام التالي وضعتُ نظرية
الألوان (صورة ٧)، وفي مايو التالي شرعتُ في الطريقة العكسية
٢٣ للفروق المستمرة.»
٢٤ ومثل تشارلز داروين، الذي جاء بعده بقرنين، كان نيوتن محبًّا
للعُزلة، ولم يَنشر فرضياته في وقت تبلورها في ذهنه. ومثلما كان استنتاج ألفريد
والاس بشأن الانتقاء الطبيعي هو ما دفع داروين للانتهاء من كتابه «أصل
الأنواع»، ربما أسهم نشر لايبنتس لحساب التفاضُل — بالإضافة إلى تشجيع إدموند
هالي — في قرار نيوتن بتدوين نتائج اكتشافاته في كتاب «الأصول» (صورة ٧)، الذي
لم يُنشَر حتى عام ١٦٨٦. وفي هذا الوقت كان نيوتن قد تمكَّن من الإجابة عن
«سؤال» آخر من الأسئلة التي وضعها لنفسه (نظرًا لكونه يتحدث اللاتينية بطلاقة
منذ صباه، كتَب كل أبحاثه العلمية باللغة اللاتينية). كان حول قضية أساسية؛
لماذا تتحرَّك الكواكب حول الشمس في مدارات بيضاوية؟ في الواقع، لماذا تتحرَّك
على الإطلاق؟ يَرِد في القصة أنه بينما كان جالسًا في حديقته في وولسثروب لاحظ
تفاحة تسقط من على إحدى الأشجار؛ مما جعَل مفهوم الجاذبية يتبادر إلى ذهنه. ومع
ذلك، على عكس الإلهام المفاجئ الذي جاء إلى أرشميدس وهو في حوض الاستحمام، على
الأرجح كان نيوتن يفكر في مسألة الحركة منذ فترة طويلة. وفي هذا الشأن، كما في
علم البصريات، كان متأثِّرًا كثيرًا بأفكار ديكارت.
تمثِّل قوانين نيوتن للحركة، التي تَقضي بأن «كل جسم يستمر على حالته من
السكون أو الحركة المنتظمة … ما لم تدفعه إلى تغيير حالته قوًى تُمارَس عليه»،
وأن «التغير في الحركة يتناسب مع القوة الدافعة المؤثرة …» وأن «لكل فعل رد فعل
مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه»؛
٢٥ أساس أفكاره عن الجاذبية. كما تمثِّل أيضًا أساسًا لعلم الفيزياء
الحديث، الذي لم يتغيَّر حتى يومنا هذا. نشأ الربط بين التفاحة التي سقطت
والجاذبية وحركة الأجسام السماوية من الروايات حول نيوتن من بعض معاصريه. أحد
هؤلاء كان جون كونديت، زوج كاثرين ابنة أخت نيوتن. كتب كونديت قائلًا إن «…
بينما كان يتأمل في حديقةٍ تبادَر إلى ذهنه أن قوة الجاذبية (التي أسقطت تفاحة
من على الشجرة إلى الأرض) لم تكن مُقتصرة على مسافة معينة من الأرض، بل لا بد
أن هذه القوة تمتدُّ إلى أبعد بكثير من الاعتقاد السائد. فقال في نفسه لماذا لا
يمكنها أن تصل إلى القمر …»
٢٦ بعبارة أخرى: إن السبب في عدم تسبب الجاذبية في سقوط القمر على
الأرض (أو سقوط الأرض على الشمس أيضًا) هو أن الأجسام الأصغر حجمًا تمارس قدرًا
طفيفًا من الجاذبية على الأجسام الأكبر حجمًا.
في عام ١٦٨٤ كان السؤال الذي دار في أذهان أشهر زملاء الجمعية الملكية
— إدموند هالي وروبرت هوك وكريستوفر رِن على وجه الخصوص — كالتالي: إذا كانت
الأجسام تَجذب بعضها بقوة تتناسب عكسيًّا مع المسافة بينها، هل يُمكن التنبؤ
بمدارات الكواكب حول الشمس؟ سافر هالي إلى كامبريدج حتى يَستشير نيوتن. ووصف
عالم الرياضيات أبراهام دي موافر، عالم آخر من المعاصرين لنيوتن، هذا قائلًا:
«دكتور هالي … سأله عما يَعتقد سيكون عليه شكل المنحنى الذي ستصنعه الكواكب،
على افتراض أن قوة جذبها تجاه الشمس تَتناسب طرديًّا مع مربع المسافة الفاصلة
عنها. أجاب نيوتن على الفور أنه سيكون بيضاويًّا، فأُصيب الدكتور بالفرحة
والذهول وسأله كيف عرف هذا، فرد الآخر قائلًا، لقد حسبتها …»
٢٧ وهكذا أصبح لملاحظات كوبرنيكوس وجاليليو، وتيكو براهي ويوهانز
كيبلر، أخيرًا أساس رياضي متين.
تعبِّر إنجازات إسحاق نيوتن — بخلاف أي شيء قبلها أو بعدها — أصدق تعبير عن
المكوِّنات الأساسية للبحث العلمي؛ المتمثِّلة في الاستكشاف والتفسير. فطوال ٨٥
سنة تجوَّل عقله الهائم في الرياضيات وعلم الميكانيكا والبصريات والفلك (كما
خاض أيضًا في الخيمياء). وكما يُعبِّر هذا النقش المكتوب على قبره، فيقول:
«ليَسعد البشر بظهور مثل هذه الشخصية العظيمة التي تُعدُّ فخرًا للجنس
البشري.»
٢٨
(٢-٤) أينشتاين
كان ألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥) (صورة ٨) طالبًا عاديًّا إلى حدٍّ ما، ترك
المدرسة في سن الخامسة عشرة. فشل في محاولته الأولى للالتحاق بالجامعة، ولم
يستطع الحصول على وظيفة أكاديمية بسبب كسله الواضح. حصل بدلًا من ذلك على وظيفة
كاتب مبتدئ في مكتب براءات الاختراع في برن. ومع توافر وقت الفراغ
لديه،
٢٩ وجد نفسه يُفكِّر في القوانين الأساسية في الفيزياء. وفي عام ١٩٠٥
— لم يكن تجاوز السادسة والعشرين من عمره — نشر نظريته عن النسبية الخاصة، التي
ثبَت أنها تُماثل نظرية إسحاق نيوتن عن الجاذبية الكونية تأثيرًا. يتمثَّل ما
حققه أينشتاين بالأساس في إظهاره رياضيًّا أن الزمن مفهوم نسبي، وهي نقطة أشار
إليها جاليليو بالفعل قبل ٣٠٠ عام من هذا. كان جزء من النظرية أن الطاقة
E
والكتلة
m
تربطهما معادلة
E = mc2، حيث تعبر
c عن سرعة الضوء.
٣٠ لكن ثمة شيء عن الضوء لم يكن صحيحًا. فقد اقترح نيوتن نفسه أن
الضوء يَنحرف عند مروره بجسم كتلته كبيرة، مثل كوكب أو نجم، بسبب قوة جذب الجسم
الأكبر حجمًا على جسيمات الضوء الأصغر بكثير. ومع ذلك، منذ عصر نيوتن أظهر
علماء الفيزياء أن الضوء ليست له كتلة ومن ثم لا يُمكن أن ينحرف بسبب قوة
الجاذبية، فيرى الذي عاصروا أينشتاين أن الضوء يتحرَّك في خطوط مستقيمة. على
العكس من ذلك شعر أينشتاين أن نيوتن كان محقًّا — حتى إن كان هذا للسبب الخطأ —
وأن الضوء يَنحرف بالفعل عند مروره بجسم أكبر حجمًا. وعند التفكير في الأمر،
ألا تسمح معادلة
E = mc2 للمرء بالتفكير في التفاعلات النيوتونية بين الأجسام من حيث
الطاقة — التي يَمتلكها الضوء بالتأكيد — بدلًا من الكتلة؟ هذا هو جوهر نظرية
أينشتاين عن النسبية العامة، التي قدمها إلى الأكاديمية البروسية للعلوم في عام
١٩١٥؛ واستغرق إثباتها وقتًا أطول.
مرَّت عدة سنوات على هذا، على الأرجح نظرًا لانقطاع الاتصال بين ألمانيا
والدول الأخرى بسبب الحرب العالمية الأولى. بعد هذا تعرَّف عالم إنجليزي، هو
آرثر إدنجتون، على جوهر نظرية النسبية العامة. فقد أدرك، مثل أينشتاين، وجود
اختبار بسيط لإثباتها بطريقة أو بأخرى. كان الهدف من هذا الاختبار تحديد ما إذا
كان الضوء الصادر من نجم بعيد يَنحرف بالفعل عند مروره بالقرب من الشمس أم لا؛
بعبارة أخرى، مقارنة المكان «س» لنجم بعيد عندما تكون الشمس بينه وبين المراقب
على سطح الأرض، بمكان هذا النجم «ص» من الموقع نفسه عندما تكون الشمس وراء
الأرض (شكل
١١-١). إذا كان الضوء يَنحرف، حينها فإن الموقع
«س» سيكون منحرفًا قليلًا عن الموقع «ص»؛ وإن لم يكن يَنحرف، فإن المكان «س»
و«ص» سيظلان كما هما. لكن توجد مشكلة؛ فسطوع الشمس في الحالة «س» يمنع المرء من
رؤية أي نجوم على الإطلاق. ومن ناحية أخرى، إذا أراد المرء قياس المكان «س» عند
حدوث كسوف كلي للشمس (عندما يكون القمر بين الشمس والأرض، ويُخيِّم الظلام
مؤقتًا على الأرض)، فمن المفترض أن يكون من الممكن رؤية نجم بعيد بما يكفي
لقياس الموقع «س». قرر إدنجتون إجراء التجربة في الفرصة التالية. وفي ٢٩ مايو
عام ١٩١٩ مكَّن كسوف كلي للشمس المراقبين في موقعَين من إجراء الملاحظات
اللازمة. كان أحد الموقعين في جزيرة برنسيب عند ساحل غرب أفريقيا، والآخر في
بلدة سوبرال في شمالي البرازيل. واجه المراقبون في أفريقيا صعوبة في رؤية أي
نجوم بسبب السُّحب، لكن مع ذلك توصلوا إلى نتيجة ١٫٦١ ± ٠٫٤ ثانية
قوسية
٣١ (يعبر رمز ± عن الخطأ المعياري)، بوصفه الفارق بين الموقع «س»
و«ص». أما المجموعة الثانية في البرازيل، فقد كان الطقس لديها أفضل وتوصَّلوا
إلى رقم ١٫٩٨ ± ٠٫١٦؛ كان الرقم الذي توقعه أينشتاين ١٫٧٤؛ وبذلك ثبتت صحة
نظرية النسبية العامة. بطبيعة الحال في كل مرة كان يحدث فيها كسوف كلي للشمس
فيما بعد، كان العلماء يحاولون صقل نتائج ملاحظات عام ١٩١٩ لرؤية ما إذا كان
يُمكنهم الاقتراب من رقم ١٫٧٤، مع تقليل الخطأ المعياري. وفي عام ١٩٢٢ ظهرت
فرصة لفعل هذا من أستراليا. وقد كان أينشتاين في وسط إلقاء محاضرته المفضلة عن
النسبية في برلين (التي حضرتْها والدتي)، عندما قال عفويًّا لجمهوره: «والآن
عليَّ الاستئذان منكم للحظة لأذهب إلى الهاتف لانتظار مكالمة تصلني من
أستراليا.» بعد بضع دقائق عاد بابتسامة تَرتسم على وجهه وقال: «تأكَّدتْ تنبؤات
النظرية مرةً أخرى للتو.»
سيلاحظ القارئ عدم إدراجي لأربعة من علماء الأحياء البارِزين في هذا الجزء
الذي أتحدث فيه عن العلماء؛ هم ويليام هارفي وتشارلز داروين وجيمس واطسون
وفرانسيس كريك. السبب في هذا بسيط؛ فقد تحدَّثتُ عن اكتشافات هارفي في كتاب
سابق لي،
٣٢ كما تحدثتُ عن نظرية داروين وتجارِب واطسون وكريك المستنيرة في
الفصل الثاني.
(٣) أسس الطب
يرجع الفضول بشأن أجسامنا والبيئة المحيطة بنا إلى وقت ظهور الإنسان نفسه، ولهذا
يُعتبر علم الطب والفلك من بين أقدم الفروع المعرفية المُدَرَّسة. يُطلق على ممارسة
الطب — المداواة — فنٌّ بحق (بمعنى المهارة)؛ كما أنها تكنولوجيا ترجع إلى أكثر من
٤ آلاف سنة. متى ظهرت لأول مرة تفسيرات منطقية بشأن طريقة عمل أجسامنا؟ ومتى أصبح
الطب علمًا؟ حسنًا، في الواقع لا يُعتبر الطب عِلمًا؛ فإن المعرفة التي يَرتكِز
عليها، من تشريح وفسيولوجيا وكيمياء حيوية وأحياء مِجهرية وعلم الأجنة والنفْس
والمناعة والأورام، هي التي تمثِّل عِلمًا. ولم تُعَدَّ هذه الفروع المعرفية علمًا
هي الأخرى إلا حين استطاعت تقديم تفسيرات منطقية لطريقة عمل الأشياء. فلا يمثل
التعرف على العظام والعضلات المختلفة والأوعية الدموية والأعصاب وتحديد أسمائها
عِلمًا، تمامًا مثلما لا يُعتبر تدوين الأنواع المختلفة للنباتات والأشجار
والحيوانات والنجوم كذلك. فيتمثل العِلم في معرفة سبب قوة العظام، وانقباض العضلات،
وماهية المواد التي تنتقل عبر الأوعية الدموية، وطريقة نقل الأعصاب للنبضات. فإن
وصف أن الكبد يتكون من أربعة فصوص وأن ثمة زوج من الكُلى والغدد الكظرية والرئتين،
لا يشرح وظيفتها. يُمكن القول إن علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) لم يبدأ إلا في
النصف الثاني من القرن السابع عشر، عندما أظهر روبرت بويل (أبو الكيمياء وابن إيرل
كروك) أن الحيوانات المحرومة من الأكسجين تموت، وأظهر ويليام هارفي كيف يتمكَّن
القلب من ضخ الدم في جميع أنحاء الجسم دون خسارة. ولم يبدأ علم الكيمياء الحيوية
— وصف الحياة من الناحية الكيميائية — حتى وقت متقدِّم من القرن العشرين، بعد
التوصل إلى تركيب جزيئات، مثل الكربوهيدرات والدهون والبروتينات والأحماض النووية،
ومعرفة وظيفتها.
اكتشف فان ليفينهوك وجود الجراثيم في القرن السابع عشر، وأطلق عليها ببُعد نظر
اسم «الحيوانات الصغيرة». ولم تتَّضح أهمية الجراثيم في الطب إلا بعد ٢٠٠ سنة على
يد علماء مثل روبرت كوخ في ألمانيا ولويس باستور في فرنسا. فقد أظهرا أن أمراضًا
مثل الجمرة والكوليرا وداء الكلب والسُّل كلها تنتج من الإصابة بنوع ما من العوامل
المسبِّبة للأمراض؛ في حالة أمراض الجمرة والكوليرا والسُّل اتضح أن هذا العامل
يكون العُصيات (بكتيريا). تمثَّل الاكتشاف الأكثر أهمية، إن لم يكن ذا أهمية أكبر،
في اكتشاف باستور أن التطعيم بجرعة صغيرة معالجة بالحرارة من عامل مُمرِض يوفِّر
الحماية من إصابة لاحقة. ومن الواضح أن نجاح عملية التجدير،
٣٣ التي طبَّقها الصينيون ثم الأتراك طوال عدة قرون سابقة لمقاومة
الجُدَري، ووضع لها إدوارد جينر أساسًا علميًّا في أواخر القرن الثامن
عشر،
٣٤ نتج عن استجابة عامة داخل الجسم. أحدث استخدام التطعيم في الوقاية من
الأمراض المُعدية ثورة في ممارسة الطب، وأدى إلى انشغال العلماء بالبحث عن لقاحات
جديدة حتى يومنا هذا.
٣٥
طوال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر بحث موظَّف اسكتلندي يعمل في وحدة
الخدمات الطبية الهندية،
٣٦ في المرض الذي يَقتل المزيد من الأطفال في عصرنا الحالي (عبر حدوث خلل
دماغي) أكثر من أي مرض آخر؛ الملاريا.
٣٧ اتضح أن الملاريا يَنتقل عبر لدغة حشرة، تمامًا مثلما ينتقل داء الكلب
إلى الإنسان عبر عضة كلب (ويَنتقل مرض الكوليرا عبر ابتلاع بكتيريا عصوية سامة،
ويَنتقل مرضا الجمرة والسُّل عبر استنشاقهما). لكن كيف بالضبط تسبِّب لدغة بعوضة
الإصابة بالمرض؟ هل يكون هذا من خلال إدخال بعض الجزيئات السامة إلى مجرى الدم، مثل
تلك التي تدخل إليه من لسعة نحلة أو لدغة ثعبان؟ رأى الجراح القائد رونالد روس،
الذي عمل في مدينة سيكوندر آباد، أن هذا غير صحيح. فقد شعر بأن نوعًا ما من
الكائنات كان له دور في هذا. وبعدما أقنعه مُعلِّمه، الدكتور باتريك
مانسون،
٣٨ بتزويد نفسه بمِجهر، بدأ روس في فحص عينات دم مأخوذة من مرضى
بالملاريا. ومن أجل زيادة فرص نجاحه، عمل في مِنطقة موبوءة بالملاريا بشدة، وكان
يتناوَل كَمِّيات كبيرة من مادة الكينين يوميًّا. ومثل آخرين من قبله، عثر على
أجسام غريبة في خلايا الدم الحمراء لدى المصابين بالمرض. والآن كان عليه إظهار أن
هذه الطفيليات انتقَلت إلى البعوض الذي يتغذى على البشر المصابين بالمرض. فاصطاد
مئات الحشرات وأطلقها الواحدة تلو الأخرى على مرضى مُوافقين على هذا يرقدون تحت
شبكة. ثم أزال مَعدة أيِّ بعوضة تغذَّت بوضوح على دم البشر، وبحث فيها عن طفيليات
بمساعدة مجهره. واجه فشلًا تلو الآخر؛ فلم يكن يعلم أن عددًا قليلًا من البعوض يعمل
كناقل عدوى للأمراض البشرية. فمُعظم الحشرات التي استخدمها كانت بعوضًا إما من نوع
كوليكس أو البعوض الزاعج، ولم يستخدم بعوضة الأنوفيلة المميتة؛ لكنه ثابر.
في ٢٠ أغسطس عام ١٨٩٧ أثمر بحث روس؛ فقد عثر على جسم كروي (بيضة متكيسة) في جدار
معدة بعوضة أنوفيلية لدغت أحد المرضى من قبل (الذي كان يحصل على عملة نقدية نظير كل
بعوضة تلدغه ويُقبَض عليها بنجاح؛ وفي هذا اليوم حصل حسين خان على ١٠ عملات نقدية).
لكن كيف يُمكن إظهار أن الطفيليات الموجودة في هذه البيضة المتكيسة ستُكمل دورة
حياتها وستَنتقل عبر اللدغة التالية؟ لم يكن إجراء تجارِب على البشر غير المصابين
أمرًا واردًا. ومع ذلك، كان روس يعلم أن الملاريا تستهدف الطيور أيضًا. لذا بعد
مرور عام، وكان في هذا الوقت يعمل في أحد المختبرات في كلكتا، بدأ فحص بعوض كوليكس
المعروف بلدغه للطيور. ولم يعثر على بيض متكيس فحسب داخل معدة ناقلات الفيروسات
هذه، بل رأى أيضًا أنه عند انفجار أحدها تُطلق أعدادًا هائلة من الطفيليات الخيطية؛
يمكن تتبعها حتى وصولها إلى الغدد اللعابية للحشرة. فبدت حقيقة أن بعوضة الكوليكس
لا تُصيب البشر غير مهمة. في هذه الحالة كان روس يتصرَّف كعالِم حقيقي؛ فمعظم
التجارِب التي يقوم عليها الطب الحديث كانت تُجرى على كائنات غير الإنسان. فقد شرح
ويليام هارفي الدورة الدموية عمليًّا على الثعابين، كما شرح علماء الكيمياء الحيوية
في القرن العشرين المسارات الأيضية والمركز المِحوَري لثلاثي فوسفات الأدينوسين
باستخدام كبد فأر وعضلة حمامة، كما شُرحت طريقة انتقال النبضات العصبية باستخدام
أعضاء حبَّار. أقرت الأكاديمية السويدية سريعًا إسهام روس وحصل على جائزة نوبل في
عام ١٩٠٢ (ثاني عام على منح هذه الجائزة).
٣٩
رغم أن تكوين البكتيريا (السُّل والجمرة) والفيروسات (الجدري وداء الكلب)
والبروتوزوا (الملاريا) ودروة حياتها داخل جسم الإنسان لم يوضَّحا إلا بعد هذا
بفترة طويلة، فإن إسهامات جينر وكوخ وباستور وروس كانت مثالًا واضحًا على البصيرة
العلمية. وعندما أوضح العالم الأمريكي بيتون روس في عام ١٩١٠ أن ثمة فيروسًا يستطيع
نقل مرض السرطان إلى الدجاج، وُلدت فعليًّا دراسة علم الأحياء الدقيقة كعلم لا
يتجزأ عن الطب.
٤٠
لم يُصبح علم النفس والطب النفسي عِلمًا حتى القرن العشرين. فلم تُنسَب حالات
مِزاجية وسلوكية معيَّنة إلا في العَقد الأخير تقريبًا منه لعمل جزيئات محددة.
تُطلَق هذه الجزيئات، التي تُعرف باسم الناقلات العصبية، من أحد أطراف الخلية
العصبية، وتتفاعَل مع بداية خلية أخرى. وبالتدريج بدأت تفسيرات منطقية لسلوكياتنا
تظهر. ازدهرت تكنولوجيا ابتكار جزيئات تعزز عمل ناقلات عصبية معينة أو تضعفه لدرجة
أن ثمارها — عقَّارَيْ فاليوم وبروزاك، على سبيل المثال — أصبحت من أكثر العقاقير
التي توصف حاليًّا؛ فأصبح علم عقاقير الأعصاب فرعًا مربحًا للغاية في صناعة الأدوية
والتكنولوجيا الحيوية؛ إذ تُقدَّر أرباحه بمليارات الدولارات.
أما علم الأورام — دراسة السرطان — فلم يُصبح عِلمًا حتى أواخر القرن العشرين.
فكان الاكتشاف المبكِّر لفيروس ساركوما الذي يصيب الدجاج
٤١ على يد بيتون روس بشيرًا بنصف قرن من المزاعم والمزاعم المضادة. مثلًا،
لا تعتبر الفيروسات مسئولة عن إصابة الإنسان بالسرطان؛ ففيروسات الساركوما نادرة
إلى حدٍّ ما؛ وأكثر أنواع السرطان شيوعًا هو سرطان الأنسجة الطلائية — سرطان
الأنسجة المبطِّنة للأعضاء مثل الثدي والرئة والأمعاء والقولون والرحم والبروستاتا
— ولا توجد علاقة بين هذه الأمراض والفيروسات. كما أن بعض أنواع السرطان تكون
مُتوارَثة في العائلات، لذلك يبدو الأصل الجيني الاحتمال الأرجح. كلا، بل ثمة
فيروسات تسبِّب السرطان، مثلًا انظر إلى لمفومة بيركت،
٤٢ وهو مرض متعلِّق بزيادة الوحيدات العدائية الذي يسببه فيروس إبشتاين
بار. لا، يعتبر هذا استثناءً هو الآخر. واستمر الأمر هكذا. لم يؤيد إلا عدد قليل من
العلماء الجادِّين إحدى هذه الفرضيات بحماس؛ إذ لا توجد ببساطة أدلة مقنعة في أيٍّ
من الجانبين. ثم في فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين بدأت الأمور تتحرَّك.
ففي هذا الوقت اتضح أن أنواع السرطان، مثل أمراض أخرى شائعة، مثل مرض القلب والسكري
— أمراض أخرى ترتبط بالفيروسات أحيانًا — تنتج عن مزيج من الأسباب الوراثية
والبيئية. يشمل العنصر الوراثي جينات مثل
BRCA1
و
BRCA2، التي يَرتبط امتلاكها كثيرًا بزيادة
قابلية الإصابة بسرطان الثدي. وتتمثل العوامل البيئية في النظام الغذائي، والعوامل
المُعدية مثل الفيروسات،
٤٣ والتلوث. يكون العامل الأخير هذا مسئولًا عن الإصابة بسرطان الرئة بسبب
دخان التبغ، وسرطان الدم بسبب الغبار الذرِّي المشع.
حدث تقدُّم كبير عندما أمكن، أخيرًا، ربط الدراسات التي تُجرى حول تكاثُر الخلايا
السرطانية في المُختبَر ربطًا مباشرًا بتحليل أنواع السرطان التي تصيب الإنسان في
التجارِب السريرية. وحتى الآن، تحدَّدت على الأقل ثلاث خطوات، تنتج من خلل في وظيفة
بروتينات معينة، تؤدي إلى الإصابة بالسرطان (جرى الاعتقاد لفترة طويلة أن السرطان
مرض مُتعدِّد العوامل). تكون بعض البروتينات موروثة، مثل تلك التي تنتج من جيني
BRCA1 و
BRCA2،
بينما تنشأ بروتينات أخرى من طفرة جينية يُسبِّبها أحد العوامل البيئية المذكورة
آنفًا. فتتسبب البروتينات المعيبة في المرحلة الثانية في تغلب الخلايا على الضوابط
التي تحدُّ عادةً من تكاثرها.
٤٤ أما المرحلة الثالثة فتتطلَّب بروتينات تضطلع بإمداد الدم للكتلة
النامية من نسيج الورم؛ فدون العناصر الغذائية لا تستطيع الأورام السرطانية زيادة
حجمها. يُمكن رصد الأشكال المتغيرة من الجينات الأساسية في كل مرحلة لدى مرضى
السرطان باستخدام ابتكار يُعرف باسم تقنية رقائق الحَمض النووي. كما أن معرفة
الجينات المسئولة عن حدوث نوع معين من السرطان تُعطي العلماء فرصة لإصلاح
الوضع.
٤٥ أصبح علم الأورام — تمامًا مثل علم الأحياء الدقيقة وعلم المناعة أحد
تطبيقاته، بالإضافة إلى علم الأدوية العصبية — عِلمًا من خلال شرح التغيرات
الجزيئية وراءها.
تَنقل الاكتشافات العلمية أحيانًا بعض الأمراض من أحد فروع الطب إلى فرع آخر.
فتحدُث معظم الاضطرابات، كما رأينا، نتيجة تفاعل خفي بين الجينات والبيئة. منذ بضع
سنوات، ظهر دور غير متوقَّع تمامًا للعدوى الميكروبية في الإصابة بقرح المعدة.
فطالما اعتُبر الضغط العامل الرئيسي الذي يؤدي للإصابة بالقرح؛ مثل قلق المرء على
وظيفته، أو على تحصيل المال، أو حزنه على وفاة عزيز عليه أو مرضه. يكون الفرق بين
الذين يُصابون بالقلق والذين يستطيعون التعامل مع المآسي بهدوء دون أن تؤثِّر فيهم،
وراثيًّا إلى حدٍّ ما؛ لكن ظهر جليًّا أن العدوى البكتيرية تمثل سببًا حاسمًا في
الإصابة بالقرح تمامًا مثل الضغط. كما تحدد الكائن المسئول عن هذا؛ وهي جرثومة
تُسمى «ملوية بوابية» تعيش بسعادة على وجه الخصوص في البيئة الحَمضية للمعدة. أَذكر
هذا الاكتشاف، الذي له أهمية واسعة لأن القرحة يمكن أن تتطور لتُصبح سرطانًا، من
أجل توضيح أن التطورات في البحث الطبي تكشف عادةً صلات غير متوقَّعة، ومن أجل
التأكيد مرةً أخرى على الفوائد التي نحصل عليها من دراسة العدوى الميكروبية.
يَنطبق الأمر نفسه على العلاجات؛ فقد يتَّضح أن أحد الأدوية المصنوع لمقاومة أحد
الأمراض فعال في مقاومة داء لا علاقة له به تمامًا. فقد صُنع دواء إيدوكسوريدين
كعقَّار محتمل مُقاوم للسرطان، واتضح أن له فعالية أكبر في مقاومة التهابات العين
التي تُسبِّبها الفيروسات الهربسية. كما أن دواء كويناكرين عقَّار مضاد للملاريا
يعتمد على مادة الكينين (وهي مادة طبيعية توجد في لحاء شجرة السنكونا)؛ كان يُستخدم
في تخفيف بعض أعراض مرض كروتزفيلد جاكوب،
٤٦ الذي ارتبط بتناول لحم مصاب بالتهاب الدماغ الإسفنجي البقري.
(٤) علم الأحياء الجزيئية
أعود الآن للحديث عن أمثلة لفرضية صحيحة تحتَّم تعديلها في ضوء النتائج التجريبية
الجديدة. وحتى نفهم ما يلي علينا العودة إلى الجزيئات.
في أثناء كشف العلاقة بين الدي إن إيه والبروتينات، أصبح من الواضح أن الشفرة
التي تُستخدم بها المعلومات الموجودة في الدي إن إيه من أجل تصنيع أحد
البروتينات
٤٧ لا تُقرأ مباشرةً من الدي إن إيه، بل عبر الآر إن إيه. يُشبه الآر إن
إيه الدي إن إيه في معظم صفاته،
٤٨ فيما عدا أنه أقصر بكثير؛ فهو في طول البروتين تقريبًا، الذي يكون
أيضًا في طول الجين.
٤٩ تُشبه الآلية التي يُنسَخ بها امتداد من الدي إن إيه ليتحول إلى آر إن
إيه، جوهريًّا، آلية تضاعف الدي إن إيه.
٥٠ ومن ثم عرَّف علماء الأحياء الجزيئية في ستينيات القرن العشرين الفرضية
الأساسية في علمهم بأن «الدي إن إيه يصنع دي إن إيه، كما يصنع الدي إن إيه أيضًا
الآر إن إيه الذي يصنع البروتينات.» في الواقع أطلقوا على هذه الفرضة اسم «عقيدة»
علم الأحياء الجزيئية، لكني سأتجنَّب استخدام هذه الكلمة لنفس سبب تجنبي استخدام
كلمة «حقيقة» مسبقًا. فتُشير كلمتا «عقيدة» و«حقيقة» ضمنيًّا إلى الاعتقاد الديني،
الأمر البعيد كل البُعد عن جوهر العلم.
لم تُظهر أيُّ تجربة أُجريت منذ هذا الوقت أن الدي إن إيه لا يَصنع دي إن إيه، أو
أن الدي إن إيه لا يَصنع آر إن إيه، أو أن الآر إن إيه لا يَصنع بروتينات. كما أن
هذه الفرضية صحيحة حاليًّا تمامًا مثلما كانت منذ ٤٠ سنة. إلا أن حقيقة أن جينات
كثير من الفيروسات — مثل الحصبة والنُّكاف وداء الكلب وشلل الأطفال — تتألَّف من
الآر إن إيه وليس الدي إن إيه، كانت تَعني أن العلماء المتخصِّصين في الفيروسات كان
عليهم إدراج نتيجة ملازمة للفرضية الأساسية. فبما أن فيروسات الآر إن إيه تستطيع
استنساخ نفسها — داخل عائل نباتي أو حيواني مناسب — من ثم لا بد من إضافة عبارة
«الآر إن إيه يصنع آر إن إيه». ومع ذلك، فإن الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه الطرح
الأصلي، والقائل بأن المعلومات بين العناصر الثلاثة الأساسية — الدي إن إيه والآر
إن إيه والبروتين — تنتقل في اتجاه واحد فقط من الدي إن إيه إلى الآر إن إيه، ومن
الآر إن إيه إلى البروتين، يبدو صحيحًا.
حدث أمر آخر بعد هذا؛ فبينما كان العلماء يَدرسون سلوك الفيروسات بتفصيل أكبر —
وهو بحث كان مدفوعًا باحتمال أن الفيروسات تُسبِّب السرطان — اتضح
أن الآر إن إيه يصنع بالفعل دي إن إيه، في حالة
فيروسات آر إن إيه معينة،
٥١ بالإضافة إلى صنع المزيد من الآر إن إيه والبروتينات (تُسبب مثل هذه
الفيروسات مرض السرطان من خلال صنْع دي إن إيه من الآر إن إيه). تظلُّ سلامة فرضية
أن المعلومات تنتقل من الدي إن إيه إلى الآر إن إيه ومنه إلى البروتين سارية، لكنها
تحتاج حاليًّا إلى تنقيح؛ «فالدي إن إيه يصنع دي إن إيه، ويصنع أيضًا آر إن إيه
الذي يَصنع البروتينات بدوره؛ كما أن الآر إن إيه
يَصنع آر إن إيه ويستطيع أيضًا أن يصنَع دي إن إيه.» وحتى الآن لم تُناقض أيُّ
تجربة فرضية أن انتقال المعلومات بين الآر إن إيه والبروتين يحدث في اتجاه واحد
فقط. تحدُث مثل هذه التعديلات — إعادة صياغة أكثر دقَّة للفرضيات — طوال الوقت في
علم الأحياء.
يرجع افتراض أن «الإنزيمات هي بروتينات» إلى أكثر من نصف قرن. فالإنزيم، كما
تذكر، هو محفِّز بيولوجي؛ جزَيْء يعمل على تسريع التفاعلات بين الجزيئات الأخرى.
فتُحفِّز الإنزيمات عمليات مثل هضم الطعام، وانقباض العضلات، وتصنيع الدي إن إيه
والآر إن إيه والبروتينات والدهون والكربوهيدرات في الجسم. فبدلًا من أن تَستغرق
سنوات تحدث هذه التفاعلات في غضون ثوانٍ؛ فمن دون الإنزيمات لا تستطيع الحياة على
وجه الأرض كما نَعرفها أن تستمر. فمنذ نحو ٣٫٥ مليارات سنة، عندما ظهرت الكائنات
الحية لأول مرة على سطح الأرض، على الأرجح كانت التفاعلات بين الجزيئات تَستغرق
سنوات لتحدُث. ثم ظهرت فئة من البروتينات لديها نشاط تحفيزي، وأصبحت الأشياء أسرع.
أما ما اتضح حاليًّا فهو أن بعض أنواع الآر إن إيه تتمتَّع بنشاط تحفيزي
أيضًا؛
٥٢ فهي تسرِّع التفاعلات التي تنفصل بها أجزاء من جزيئاتها. في الواقع، إن
كافة الإنزيمات التي شُرحت مسبقًا، والتي وصفت بعبارة «الإنزيمات هي بروتينات.» هي
بروتينات. إلا أن هذه العبارة يجب تعديلها الآن فبما أن «الإنزيمات هي بروتينات؛
فإن الآر إن إيه يمكنه أيضًا أن يكون محفِّزًا.»
حتى عَقد مضى تقريبًا كان افتراض أن كل عوامل نقل العدوى — سواء كانت بروتوزوا أو
فطريات أو بكتيريا أو فيروسات — تحتوي على دي إن إيه أو آر إن إيه، مُعترَف بصحته.
فنظرًا لكون البروتوزوا والفطريات والبكتيريا كائنات خلوية، فإنها تحتوي بالطبع على
كلٍّ من الدي إن إيه والآر إن إيه. وما حدث بعد هذا أن اتضح أن فئة من البروتينات،
تُدعى البريونات، مُعدية في حد ذاتها. والبريونات هي عوامل مسئولة عن انتقال التهاب
الدماغ الإسفنجي البقري (مرض جنون البقر) ومرض كروتزفيلد جاكوب.
٥٣ لذلك كانت هذه الفرضية تحتاج إلى تعديل. فمع ظهور معرفة جديدة، يجب
تعديل التفسيرات، وتُصبح أكثر شمولًا، أو أقل. ولهذا تحديدًا لا يُمكن للعلم —
الفرع المعرفي القائم على التجربة — افتراض «حقائق» مثلما يَحدث في الرياضيات أو
الفلسفة. فنظرًا لكونه فرعًا معرفيًّا تجريبيًّا، لا مفرَّ من سعي ممارسيه طوال
الوقت للعثور على عدسات أكثر وضوحًا لاختبار الطبيعة من خلالها. وكلما زاد وضوح
العدسة، زادت التفاصيل التي تظهَر. ومع ظهور تفاصيل جديدة، تحتاج الفرضيات إلى
تعديل. وهذا هو السبيل لتحقيق التقدم العلمي؛ البحث عن تفسيرات للعالم بتفاصيل
أكثر.
خاتمة
إذا كانت الممارسة العلمية مستمرة منذ مئات السنين، ما الذي بقيَ لاستكشافه أو
شرحه؟ يوصِل العلماء الانجذاب إلى أضخم الكيانات في الكون وأصغرها؛ فينجذب علماء
الفيزياء الفلكية إلى أبعد النجوم، وعلماء فيزياء الجسيمات إلى الجسيمات دون
الذرية. يكون الفرق بين الاثنين في الحجم هائلًا؛ فأقرب نجمة إلى شمسنا (بروكسيما
سنتوري) تبعد نحو ٤٫٢ سنوات ضوئية؛
٥٤ كما تبعُد أقرب مجرة (أندروميدا) عن مجرتنا (درب التبانة) نحو ١٫٥
مليون سنة ضوئية. ومن ناحية أخرى، تمثِّل مكونات الجسيمات الأولية — الميزونات
والكواركات — التي تتكون منها الذرات، جزءًا متناهي الصغر من حجم أصغر
الجزيئات.
٥٥ ومع ذلك، يوجد الهدف نفسه لدى علماء الفيزياء الفلكية والفيزياء
الجزيئية؛ فكلٌّ منهما يبحث عن تفسير لحدث لا يقل أهمية عن نشأة الكون نفسه.
لا تكون تكلفة إجراء مثل هذا البحث زهيدة؛ فقد بلغت تكلفة مسبار فضائي حديث يقيس
الإشعاع الميكروني بدلًا من الضوء، ١٥٠ مليون دولار. هذا مبلغ زهيد نسبيًّا.
فستُقدر تكلفة تليسكوب فضائي سيُسجِّل الأشعة تحت الحمراء، من المخطط إطلاقه في عام
٢٠١٠، بنحو ٢٫٨ مليار دولار.
٥٦ كما أن ثمة تليسكوبًا أوروبيًّا بصريًّا تقليديًّا بالغ الكبر يُصمَّم
حاليًّا — ربما يصل عرض مرآته إلى ٦٠ مترًا — ستكون تكلفة بنائه مليار دولار
أمريكي، كما أن تكاليف تشغيله السنوية ستفوق كامل الميزانية التي ترصدها أوروبا
لعلم الفلك.
٥٧ ستَستطلِع تليسكوبات مثل هذه مولد النجوم والكواكب، وستستكشف التخوم
البعيدة للكون. ونتيجة لها سنعرف المزيد عن الأحداث التي تلَت الانفجار العظيم
بفترة قصيرة (تعني «فترة قصيرة» نحو ٥٠٠ ألف سنة). وستَكشف لنا كذلك عما إذا كان
الكون يتمدَّد بالفعل أم لا، وإذا كان كذلك، فما معدل حدوث ذلك.
يتمثل الهدف من استكشاف التفاعلات التي تحدث بين الجسيمات دون الذرية في معرفة
ماذا حدث في غضون جزء من مليون المليون جزء
٥٨ من الثانية بعد الانفجار العظيم. كانت التكلفة المبدئية المُقدَّرة
لمصادم هائل فائق التوصيل صُمم من أجل تسريع الجسيمات المشحونة كهربائيًّا، مثل
الإلكترونات والبروتونات ونظائرها في المادة المضادة، ثم ملاحظة تبعات
تصادمها،
٥٩ تبلغ نحو ٤٫٤ مليارات دولار؛ وفي غضون بضع سنوات تضاعفت هذه التكلفة.
بدأ حفر حفرة دائرية يبلغ محيطها نحو ٥٤ ميلًا في جنوب دالاس في تكساس، ثم توقَّف
المشروع في عام ١٩٩٣ بسبب تكلفته المرتفعة (أُنفق بالفعل ٢ مليار دولار حتى هذا
الوقت). والآن عاد المشروع مرةً أخرى.
٦٠ وتُخطط مجموعة من الهيئات الأوروبية بناء آلة مشابهة هي مصادم
الهدرونات الكبير.
هل هذه التكاليف، التي يتحملها في النهاية دافعو الضرائب في العالم، مُجدية؟ فهل
معرفة أن الكون يُشبه في شكله كرة قدم أمريكية مفرغة من الهواء (هذا الوصف مناسب
للنسخة الأمريكية؛ أما بالنسبة لبقية الأماكن الأخرى نقول إنه يُشبه كرة رجبي)،
سيثري حياتنا؟
٦١ وهل إدراك أن مقابل كل جسيم له جاذبية يوجد جسيم مضاد، سيساعد في علاج
السرطان؟ أعتقد أن الإجابة عن أول سؤالين هي نعم؛ وعن السؤال الثالث: ربما؛ فيستحيل
توقُّع أي أجزاء من المعرفة العلمية سيؤدي في يوم ما إلى اكتشافات جديدة، وإلى
تكنولوجيا جديدة. على أيِّ حال، يؤمن كثيرون بفرضية أن «العلم ينتج التكنولوجيا،
والتكنولوجيا تصنَع الثراء، ويمكن استخدام جزء من هذا الثراء فيما بعد في دعم
المزيد من العلم.» لكن مثلما أشرتُ في الفصل التاسع وفي بداية هذا الفصل،
٦٢ هذه الحُجة مُفرطة في التبسيط، خاصةً عندما تبدأ المبالغ التي تُنفَق
على العلم في تخطِّي المنافع المحتملة.
بعدما نستكشف حدود الكون من ناحية، والتكوين الأساسي للمادة من ناحية أخرى، هل
بذلك لن نجد أي شيء آخر لنَكتشفه؟ ثمة مَن يرون أن المزيد من الاكتشافات مجرد
تفاصيل، وأن العالم من حولنا سيُمكن عما قريب شرحه باستخدام الفيزياء الأساسية
فحسب؛
٦٣ ويُعارض آخرون هذا الرأي.
٦٤ أنا أنحاز إلى وجهة النظر الثانية؛ فمنذ عَقد واحد اكتُشف جزَيْء ناقل
للعدوى غير متوقَّع تمامًا؛ البريون. كيف لنا أن نتأكد من عدم وجود عوامل أخرى
مسبِّبة للمرض تختبئ على هذه الأرض؟ يبلغ عمر مبادئ علم الأحياء الجزيئية أقل من ٥٠
سنة. ونحن لا نَعرف أساس التفكير والذاكرة والحب والكره، كذلك نجهل طبيعة الأحلام
وآلية الإبداع، ولم نتوصل حتى الآن إلى معرفة التفاصيل الجزيئية للفضول، فكيف تُكمل
النبضات التي تنتقل بين ١٠
٦٥ وصلات عصبية في دماغنا بعضها بعضًا؟ هل وصلنا بالفعل إلى حدٍّ من
العجرفة يجعلنا نرفض مثل هذه المعرفة باعتبارها تافهة؟