طُبِّقَت تكنولوجيا تحديد تسلسل الدي إن إيه — ونعني بها التحديد الدقيق لمكان كل
قاعدةِ أدينين وسيتوسين وجوانين وثيامين على طوله — مؤخَّرًا على كافة الكروموسومات
البشرية التي يبلغ عددها ٢٣. ونظرًا لوجود ٣ مليارات قاعدة، لم تكن المهمة بسيطة. أُعد
مشروع دولي من أجل إتمام هذه المهمة، تُموِّله حكومات ومؤسسات خيرية خاصة، يُدعى مشروع
الجينوم البشري. وتمثل هدفه في نسخة مطبوعة من التسلسل الدقيق لكلِّ جين — بالإضافة إلى
تسلسل امتدادات الدي إن إيه الأطول منها بعشر مرات التي تَفصلها بعضها عن بعض — داخل
جسم الإنسان. ربما تتساءل كيف يمكن للتحليل الكيميائي للدي إن إيه التمييز بين المناطق
الوراثية وغير الوراثية؟ الإجابة عن هذا أنه لا يستطيع.
١ كان من المزمع الانتهاء من المشروع في عام ٢٠٠٥، وفي الواقع انتهى المشروع
قبل هذا بخمس سنوات، لماذا؟ بسبب دخول عالم ورائد أعمال أمريكي مُبتكِر يُدعى كريج
فينتر في هذا المجال. اخترع فينتر طريقة أسرع بكثير لتجميع تتابعات الدي إن إيه
المتعدِّدة التي تُنتجها آلات تحديد التسلسل. وتجدر الإشارة إلى أن دي إن إيه أيِّ
كروموسوم هو عبارة عن جزَيْء كبير للغاية؛ بحيث لا يسهل على المرء البدء في تحديد
تسلسُله من أحد أطرافه والاستمرار إلى الطرف الآخر. فيجب أولًا تقسيم الجزَيْء إلى آلاف
الامتدادات الأقصر طولًا — يكون كثير منها متداخلة — يمكن عندها تحديد تسلسلها وترتيبها
تسلسليًّا. استطاع فينتر، الذي أنشأ شركة تِجارية من أجل توفير الموارد المالية
الضرورية، فعل هذا أسرع من علماء مشروع الجينوم البشري. تُعتبر المنافسة أمرًا صحيًّا،
ويؤدي بحث مجموعتين عن الهدف نفسه إلى احتمال الوصول إليه أسرع. وبمجرد الوصول إليه
يُمكن مقارنة المجموعتين من البيانات؛ ويعمل التطابق بينها على إثبات صحة النتائج. ثمة
عقبة واحدة فقط؛ فتَفترض فِرَق مشروع الجينوم البشري طوال الوقت أن اكتشافاتهم ستُنشر
في المراجع العلمية؛ ومن ثم تكون متاحة للجميع بالمجان. أما فينتر وشركته، التي أُطلِق
عليها اسم مناسب هو سيليرا (بمعنى «سريع»)، فيحتاج إلى استعادة تكالفيه. ولفعل هذا
سيتحتَّم عليه تسجيل براءة اختراع لنتائجه؛ لذلك حدث خلاف كبير بين الجانبين (ودخلت
شركات تِجارية أخرى في الشجار)، لكن في النهاية توصلوا إلى حل وسط إلى حدٍّ ما. النقطة
المهمة لنا هي أنه من حيث المبدأ أصبح تركيب كل بروتين في أجسامنا الآن معروفًا. يوجد
تحفُّظان؛ الأول: أن معرفة تسلسل أحد البروتينات لا تُخبرنا أي شيء عن وظيفته؛ ولذلك
فإن معرفة الوظيفة الفعلية لكل البروتينات الموجودة في أجسامنا (البروتيوميات) هي
المهمة التالية، وعلى الأرجح ستَستغرق الفترة نفسها التي استغرقها التعرف عليها في
المقام الأول. الثاني: أن البروتينات التي حُدِّدَ تسلسلها عبر جيناتها لا تخصُّني ولا
تخصك. فكما ذكرتُ مسبقًا، تكون بعض البروتينات — مثل الأنسولين — واحدة لدى كل البشر.
لكن معظم البروتينات — خاصةً التي تكمن وراء تفرُّد الإنسان — تختلف على نحو طفيف من
شخص لآخر؛ فقد حدد الفريقان تسلسل الجينات (الكثيرة في الواقع) الخاصة بإنسان ما، مما
أعطانا فكرة جيدة عن التكوين العام للبروتينات الموجودة في أجسامنا. لكن إذا أردنا
تحديدًا معرفة أيٍّ من البروتينات الموجودة لدينا فربما يكون معيبًا أو حتى مفقودًا
بالكامل؛ ومن ثم يُعرِّضنا إلى الإصابة ببعض الأمراض، فلا بد لنا من تحديد تسلسل
جيناتنا. وأدَّت إنجازات مشروع الجينوم البشري وفينتر، المتمثلة في تحديد مكان وجود
الجين المسئول عن صنْع كلِّ بروتين بعينه على طول الكروموسومات، إلى جعل هذه المهمة
بسيطة نسبيًّا. وقريبًا سيُصبح من السهل تحليل جيناتك تمامًا مثلما تقيس نسبة
الكوليسترول لديك.
(١) العلاج الجيني
يعني إدراك أن بعضًا من أكثر الأمراض الموهنة للصحة يَحدث نتيجةً لجين واحد فاسد؛
أن العلاج عن طريق إدخال نظير صحي لهذا الجين (أو القضاء على الجين الفاسد إذا كان
مُسيطرًا)
٢ أمر مُمكن من الناحية النظرية. تشمل مثل هذه الأمراض فرط ثلاثي
جليسيريد الدم (وجود كم كبير من الدهون في مجرى الدم)، وفرط كوليسترول الدم (وجود
كم كبير من الكوليسترول)، والتليف الكيسي (خلل في وظيفة الرئتين والبنكرياس)، وخلل
هيموجلوبين الدم (اضطرابات في الدم نتيجة لوجود خلل في الهيموجلوبين)، وغيرها
الكثير. إن هذه الأمراض جميعها نادرة إلى حدٍّ ما، وأكثرها شيوعًا هو فرط كوليسترول
الدم، الذي يُصيب شخصَين من بين كل ألف شخص يولد؛ والتليف الكيسي الذي يحدث بنسبة
٠٫٥ (أو أقل في مجتمعات معينة) من بين كل ألف شخص يولد. في الحالات التي توجد بها
طرق علاج بسيطة نسبيًّا، مثل تقليل كَمِّية الكوليسترول والدهون الأخرى، يكون هذا
السبيل الواضح لاتباعه. لكن التحكم في النظام الغذائي وحده عادة لا يكفي، حتى إن
هذا ليس اختيارًا متاحًا في حالة التليف الكيسي؛ إذ يواجه الذين يعانون من المرض
أسلوب حياة صعبًا، ويتعرضون في معظم الحالات إلى وفاة مبكرة. تحدَّد الجين المسئول
عن المرض واتضح أن البروتين الذي يصنعه هذا الجين معيب ومُتنحٍّ؛ بمعنى أنه لا ينشط
في حالة وجود النسخة الطبيعية «الصحية» من البروتين بجواره في الخلية.
٢
جرى عزل النظير الصحي للجين المسئول عن حدوث التليف الكيسي وهو جاهز لإدخاله في
أولئك الذين يُعانون من هذا المرض. ربما يحق للقارئ التساؤل: لماذا نَنشغل بالجين
ولا نحقن البروتين الصحي مباشرةً، كما حدث مع الأنسولين في حالة مرض السكري منذ نصف
قرن؟ السبب في هذا أن البروتينات تتحلل باستمرار داخل خلايا الجسم، بينما الدي إن
إيه يكون مستقرًّا نسبيًّا، والأهم من ذلك أن الدي إن إيه يُضاعف نفسه؛ ومن ثم
يستمر في صنع البروتين المناسب. وفي حالة مرض السكري، لا توجد حاجة لدخول الأنسولين
إلى الخلايا؛ فهو يعمل من خارجها، من داخل مجرى الدم حيث لا يتحلل بمثل هذه السرعة.
ومع ذلك، كما يعلم كل مريض سكر يعتمد على الأنسولين،
٣ يمثِّل الحقن بالأنسولين مرة أو أكثر في اليوم عبئًا كبيرًا. فسيَسعد
مرضى السكر المعتمِدون على الأنسولين، تمامًا مثل الذين يُعانون من التليف الكيسي،
إذا نجح إدخال جين واحد، أو حتى جين عرضي. لكن توجد صعوبات في تحقيق ذلك؛ ففي حالة
مرض السكري سيتحتَّم حَقْن جين الأنسولين — على عكس الأنسولين نفسه — في مجموعة
صغيرة ومحددة من الخلايا تُعرف باسم «الجزر» داخل البنكرياس، مسئولة عن صنع
الأنسولين وإفرازه؛ ومثل هذا الإجراء ليس متاحًا في الوقت الحالي. من ناحية أخرى،
تنجح زراعة هذه الخلايا الجزر من شخص متوفًّى حديثًا يتمتع بالصحة، مثل ضحايا حوادث
الطرق، تمامًا مثل زراعة أعضاء مثل القلب والكُلى. لا توجد حاجة إلى استبدال هذه
الجُزر داخل البنكرياس؛ فزراعتها في الكبد (الذي يَسهل أكثر الوصول إليه) تنجح
أيضًا؛ نظرًا لأن الوظيفة الوحيدة التي تؤديها هذه الجزر هي مراقبة الجلوكوز في
الدم وإفراز الأنسولين عندما يرتفع تركيز الجلوكوز. بالطبع لا بد من إعطاء المرضى
أدوية مثبِّطة للمناعة، كما هو الحال في أي زراعة أخرى.
تكون المشكلات المرتبطة باستهداف جينات معينة مشكلات عامة؛ فهي تصيب، على سبيل
المثال، أولئك الذين يعانون من التليف الكيسي، لكن نظرًا لعدم وجود بديل، تُجرى
حاليًّا اختبارات على الإدخال المباشر للدي إن إيه الذي يحتوي على الجين المفقود.
ويُعتبر الخلل في وظيفة الرئتين أكثر خطورة من قلة كفاءة عمل البنكرياس؛ فمعظم
الذين يعانون من التليف الكيسي يموتون بسبب إصابة في الرئتين بسبب المُخاط
المتراكم، وليس بسبب قصور في البنكرياس. ومن ثم صُنعت عدة مستحضرات كأدوية استنشاق
حتى يمكن توصيل الجين الضروري إلى الرئتين مباشرةً. وحتى الآن لم تكن نتائج هذه
التجارِب السريرية مشجِّعة، ويرجع هذا إلى حقيقة أن التكنولوجيا المستخدَمة في
إدخال الجين إلى عدد كبير من الخلايا في وقت واحد ليست سهلة؛ وكذلك لم يكن مُمكنًا
إدخال الجين في الكروموسوم المعنيِّ من أجل ضمان تكراره. وهكذا يتطلَّب العلاج
تكرار إدخال الجين. ومع ذلك تعتبر هذه مشكلات فنية يجب أن يتمكَّن المزيد من
الأبحاث والتطوير من حلها. وربما يتشجَّع المرضى عندما يعلمون أن ثمة سبيلًا قريبًا
للتقليل من ألمهم، وأن العلاج المحتمل لم يعد بعيدًا.
لقد شرحتُ العلاج الجيني لمرض التليف الكيسي ببعض التفاصيل؛ لأن الأسلوب المُتبع
يمكن تطبيقه من حيث المبدأ على الاضطرابات الأخرى التي يسبِّبها خلل في جين واحد.
على سبيل المثال، بدأتْ بالفعل التجارِب السريرية باستخدام العلاج الجيني لمرض
يُعرف باسم نقص إنزيم نازع أمين الأدينوسين، الذي يعاني فيه المرضى من عوز مناعي
شديد، منذ عَقد مضى. كما أن ضمور العضلات وفرط كوليسترول الدم من بين الأهداف
المستقبلية. ومع ذلك فإن معظم الأمراض الشائعة التي تصيبنا، لا تكون نتيجة غياب جين
واحد أو تحوُّره، بل تنتج عن حدوث خلل في وظيفة عدة جينات في وقت واحد، مصحوبًا
بتأثيرات بيئية قوية، مثل نوبات من العدوى أو نظام غذائي غير مناسب. ومع ذلك، حتى
إذا كان العامل الوراثي طفيفًا، فإن هذا لا يعني أن العلاج الجيني لا يُمكنه
المساعدة في التخفيف من المشكلة. من الواضح أن مثل هذه الأمراض تكون أصعب في
التعامل معها من الاضطرابات التي تحدُث بسبب خلل في جين واحد، لكنها ما زالت ضمن
أهداف المستكشفين العلميين في العصر الحالي. ويتمثَّل المرشحون المحتمَلون لذلك في
الأمراض القلبية الوعائية، والتهاب المفاصل، وحتى السرطان بوجه عام وسرطان الدم. في
اعتقادي لا توجد معارَضة أخلاقية كبيرة تجاه هذا النوع من العلاج باستبدال الجينات.
وبالتأكيد تُعتبر حقيقة أنه حتى الآن لم يعمل بالكفاءة المطلوبة لأنه ما زال في
مراحله الأولية، خارج سياق الحديث. فهل سيُحرَم الذين يعانون من هذه الأمراض من
الأمل عن طريق حظر هذه التكنولوجيا؟
يَكون المعارضون للعلاج الجيني على أرض أكثر صلابة في حال إدخال جينات لا علاقة
لها بأحد الأمراض الخطيرة. فيختلف إعطاء جين هرمون النمو لطفل يفتقر إليه ومصيره أن
يُصبح قزمًا حين يَكبر، عن إعطاء المرء لجرعة إضافية من الجين لأحد أبنائه لأنه
يُريده أن يصبح أطول من الأولاد الآخرين في المدرسة.
٤ وما زال التلاعب بالجينات بحيث يوجد احتمال أن تحصل ذريتك على أعيُن
زرقاء أو شعر أشقر، أو تُصبح تنافسية أو مطيعة، لم يظهر بعد، لكن من المؤكد أن
تظهَر مثل هذه القضايا على مدار العقود التالية. وأصبح الآن بالفعل ممكنًا من حيث
المبدأ حقن الجينات في الخلايا الجنسية حيث تَنتقل منها من جيل لآخر، بدلًا من
حقنها في أعضاء مثل الرئة أو الكبد أو البنكرياس أو الكُلى أو القلب أو المخ؛ حيث
تعمل على تخفيف معاناة الفرد دون التأثير في ذريته. وحاليًّا يجري الترويج لهذا
النوع من العلاجات بوصفه قادرًا على منع الإصابة بالأمراض المميتة (والقضاء عليها
على المدى الطويل). وسيتمثل الهدف الأول في مرض ضمور العضلات، الذي يُصيب الذكور في
الأغلب، عن طريق حقن الجين المرتبط به في الْخُصيتين. فلم يعد يفصلنا وقت طويل عن
وجود «أطفال حسب الطلب»؛ ففي الواقع تجعل تقنية التلقيح الصناعي (التي سنتحدث عنها
فيما يلي)، مصحوبة بالعلاج الجيني، تحقيق هذا أمرًا ممكنًا بطريقة سهلة إلى حدٍّ
ما. فهل يُمكن إقرار هذه الطريقة من أجل إنجاب ذرية كانت ستُصاب بخلاف هذا بمرض
مُميت؟ فهل سيكون أمرًا سيئًا أن يختفي جين به خلل من التعداد السكاني؟ في الواقع
إن هذه القضايا مطروحة للنقاش العام؛ ففي حالة الحيوانات يحدث إدخال جينات في الخط
الإنتاشي بالفعل لأغراض الاستيلاد وكذلك، كما سنوضِّح فيما بعد تحت عنوان زراعة
الأعضاء، من أجل تصنيع البروتينات البشرية في الحيوانات.
(٢) التلقيح الصناعي
ماذا عن أطفال الأنابيب واستنساخ البشر؟ تتمثَّل الفكرة الأساسية في هذه التقنيات
إدراك أن الحمل لا يتطلب بالضرورة الاتصال الجنسي. فيُمكن جمع المنيِّ من السائل
المنوي الذكوري وإدخاله صناعيًّا إلى مِهبَل أنثى قادرة على التبويض؛ وتكون الذرية
النهائية طبيعية من كافة النواحي. جرى استخدام التلقيح الصناعي في استيلاد الخيول
والخراف والماشية لقرون. يوجد شرط واحد فقط؛ لا بد أن يكون السائل المنوي مأخوذًا
حديثًا، أو يُجمَّد على الفور. والسبب في هذا هو التالي؛ فلا بد للحيوان المنوي أن
يقطع مسافة كبيرة أعلى القناة الرحمية حتى يُقابل بويضة خرجت حديثًا، ويعتمد على
الزائدة الشبيهة بالسوط لتزويده بالحركة المطلوبة. أما الحيوان المنوي الهَرِم الذي
يُنتج طاقة غير كافية
٥ لدفع محرِّكه السوطي فلن يستطيع التحرك عبر سائل القناة الرحمية تمامًا
مثل قائد الزورق المُتعب الذي لا يستطيع دفع زورقه أعلى مياه القناة الكبرى في
إيطاليا. إذا تعرض الحيوان المنوي — أو أيُّ خلية أخرى أيضًا — إلى التجميد
والتخزين بعناية في نيتروجين سائل،
٦ فإن تمثيله الغذائي يتوقَّف لكنه لا يتدمَّر. ويمكن تخزين الخلايا بهذه
الطريقة لسنوات. وعند إذابة الثلج عنها تستعيد قدرتها على توليد ثلاثي فوسفات
الأدينوسين من خلال أكسدة العناصر الغذائية، وفي حالة الحيوانات المنوية، تستعيد
أيضًا قدرتها على الحركة. ومن المثير للدهشة أن التلقيح الصناعي لدى البشر يُمارَس
منذ فترة طويلة. فقد ورَد أن جون هنتر، الجراح المُبتكِر الذي عمل في مستشفى سانت
جورج في لندن في القرن الثامن عشر، استخدم حقنة لتلقيح سيدة بالحيوانات المنوية
لزوجها، الذي كان يُعاني من تشوه خلقي يُعرف باسم الإحليل التحتي. في هذا المرض لا
يَنتهي مجرى البول عند طرف العضو التناسُلي الذكري، مما يجعل من المستحيل إطلاق
الحيوانات المنوية إلى داخل المِهبَل مباشرةً. وباستخدام تدخل جون هنتر وُلِد طفل
معافًى لهذين الزوجين الشاكرَين. تُوفي هنتر بعد هذا بفترة قصيرة في ١٦ أكتوبر
١٧٩٣، في يوم إعدام ماري أنطوانيت على الْمِقصلة في باريس، وكان من الممكن لها
وزوجها تعيس الحظ لويس السادس عشر الاستفادة من مساعدة جون هنتر قبل هذا بثلاث
وعشرين سنة.
٧
توجد أسباب أخرى للفشل في إنجاب الأطفال؛ فإذا كان الرجل ينتج عددًا قليلًا إلى
حدٍّ ما من الحيوانات المنوية في السائل المنوي، ربما لن يوجد ما يَكفي ليصل ولو
واحدًا منها إلى الرحم؛ فمن بين العديد من ملايين الحيوانات المنوية في السائل
المنوي الطبيعي، لا يَصل معظمها أبدًا إلى وجهته النهائية؛ إذ يحدث فقدان القدرة
على الحركة سريعًا. وفي بعض الحالات تفتقر الحيوانات المنوية لقدرة كافية على
الحركة في المقام الأول. ومن ناحية السيدات، يُعتبر انسداد قناة فالوب
٨ أحد الأسباب الشائعة إلى حدٍّ ما لعدم القدرة على الإنجاب. ومن أجل
التغلب على مثل هذه المشكلات اختُرع التلقيح الصناعي.
تُعتبر تقنية التلقيح الصناعي سهلة من حيث المبدأ؛ فيؤخذ عدد من البويضات من
السيدة جراحيًّا في وقت التبويض وتُخلَط بالحيوانات المنوية لشريكها في صحن مصنوع
من الزجاج أو البلاستيك (ومن هنا جاء الاسم «إخصاب في المختبر»)، في ظل ظروف شديدة
التعقيم. وبمجرد تخصيب الحيوانات المنوية للبويضات، يُسمح لعملية النمو بالبدء
وتحدث بضع انقسامات في الخلية. بعد هذا يُزرع بعض من الأجنة الناتجة مباشرةً في رحم
الأنثى المتبرعة. تَكمن الصعوبة في ضمان عدم تدمير البويضة المخصَّبة بأيِّ طريقة،
واستمرار الجنين المزروع حتى نهاية فترة الحمل. حاليًّا يصل عدد الأجنة التي تفعل
هذا بالكاد إلى ١٥٪، ولهذا السبب يحدث زرع لأكثر من جنين واحد. وإذا زُرعت أجنة
كثيرة واكتمل نموها كلها بنجاح، فعلى الأرجح تكون النتيجة نموَّ توائم ثنائية
وثلاثية ورباعية وأكثر، وهو أمر لا يكون مرغوبًا فيه دومًا؛ ومن ثم، بوجه عام، يحدث
زرع لجنينين فقط وأحيانًا ثلاثة. كذلك يجري فحص الأجنة لاكتشاف أيِّ تشوهات محتملة
قبل عملية الزرع والتخلُّص من الأجنة المشكوك في أمرها، على تحسين معدَّل النجاح
وتقليل عدد الأجنة التي يجب زرعها. وعلى الأرجح ستلجأ في المستقبل السيدات اللاتي
يَتكرر فشل محاولاتهن للحمل إلى التلقيح الصناعي، يليه الفحص الوراثي. تفاقمت
المشكلات الفنية عندما بدأ التلقيح الصناعي في بريطانيا منذ أكثر من ٢٠ سنة بسبب
الاحتجاج العنيف من الرأي العام على العبث بالطبيعة بهذه الطريقة. عارضت مهنة الطب
في البداية التلقيح الصناعي على أساس أنه لن يُحقِّق نجاحًا؛ وعندما ثبَت نجاح
التجارِب الأولية على الأرانب، انضموا للرأي العام في إدانته لأسباب أخلاقية. استمد
رجلان الشجاعة من قناعاتهما، بأنَّ تمكين زوجين عقيمين من الحصول على طفل ليس أمرًا
مذمومًا أخلاقيًّا، وثابَرا. وقد زرع روبرت إدوارد، المتخصص في علم وظائف الأعضاء
الذي قاد التجارِب التي أُجريت على الأرانب، وباتريك سيبتو، طبيب الولادة، في أواخر
عام ١٩٧٧، جنينًا تكوَّن بالتلقيح الصناعي في رحم سيدة غير قادرة على الإنجاب
طبيعيًّا. وفي ٢٥ يوليو ١٩٧٨، وُلدت أول طفلة أنابيب، لويز جاي براون، وكانت طبيعية
وتتمتَّع بالصحة، وما زالت حتى يومنا هذا. ومنذ ذلك الحين، أصبح التلقيح الصناعي
شائعًا إلى حدٍّ ما في دول مثل أستراليا وبلجيكا ومصر وفرنسا وماليزيا وهولندا
وباكستان وتايلاند وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا.
وبحلول عام ١٩٩٥ ولد ١٥٠ ألف طفل في جميع أنحاء العالم باستخدام تقنية التلقيح
الصناعي، ومن المقدر أن يصل هذا العدد إلى ٥٠٠ ألف في الولايات المتحدة الأمريكية
وحدها بحلول عام ٢٠٠٥. [بمحض الصدفة، وأنا أكتب هذه الكلمات الآن تتزاوج ذبابتان
على سطح مكتبي (فنحن الآن في منتصف صيفٍ أندلسي حار). وعلى عكس التلوِّي الذي يحدث
في نوعنا، تظل الذبابتان ثابتتَين معًا، ساكنتين تمامًا لساعة تقريبًا. ما لا
تُدركانه أن السرير الذي اختارتاه لإتمام زواجهما هو السطح الخارجي لزجاجة رش
الذباب الخاصة بي.]
تشمل الأرقام المذكورة سابقًا الوضع عندما لا يُزرَع الجنين في رحم الأم
المتبرِّعة بل في رحم أم بديلة، تحمل الجنين حتى اكتمال نموه. في هذه الحالة تحمل
الذرية جينات الأم والأب المتبرعَين، لكن سيتأثَّر تعبير بعضٍ من هذه الجينات على
البيئة داخل رحم الأم المستقبِلة. قد تَتمثَّل الأسباب الطبية لتأجير الأرحام في
افتقار الأم المتبرِّعة لرحم مناسب، أو حقيقة أنها تعاني من مرض خطير؛ في بعض
الأحيان يكون مرضًا مميتًا، مثل السرطان. كذلك تعني القدرة على تخزين الحيوانات
المنوية أو البويضات إمكانية تأجيل الحمل، بوجه عام عبر تأجير الأرحام، إلى ما بعد
الوصول إلى سن اليأس؛ حيث تستطيع السيدة في خلال هذه الفترة الاحتفاظ بوظيفة بدوام
كامل. من المحتمل أيضًا أن يُصبح التلقيح الصناعي شائعًا في حالة وجود خطر وراثة
جينات مميتة أو تُسبِّب الضعف. توجد حاليًّا طريقتان للتشخيص السابق للولادة؛ أخذ
عينات من الزغابات المشيمية، حيث تؤخذ بضع خلايا من المشيمة التي ما تزال في طور
النمو، وذلك في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل؛
٩ والبزل السَّلي، الذي تؤخذ فيه عينات من خلايا الجنين السائل
الأمينوسي، والذي يُجرى عادةً في الأشهر الثلاثة الثانية. في كل حالة يستطيع
التحليل الجيني للخلايا توقُّع الإصابة بحالات، مثل متلازمة داون أو التوحد أو شلل
الحبل الشوكي، أو اضطرابات محتملة مثل ضمور العضلات أو التليف الكيسي أو حتى سرطان
الثدي في مرحلة متقدمة في الحياة.
قد يَتبع التشخيص إجراء إجهاض إذا دعت الحاجة إلى ذلك. وأحيانًا لا يكون هذا
ضروريًّا من الأساس؛ لأن بعض الأمراض التي تسبِّب العجز يمكن كبحها إذا بدأ العلاج
في مرحلة مبكرة بما يكفي. ومع ذلك، بوجه عام، لا يحدث هذا ويُنهي الحمل. وعندما
يوجد شك في والد الجنين، أصبح من الممكن حاليًّا معرفة هذا أيضًا باستخدام التشخيص
السابق للولادة، ويُتخذ الإجراء المناسب. وبالطبع في الدول
١٠ التي تَغلب فيها المعتقدات الدينية على اختيار الوالدَين، ويُحظر فيها
الإجهاض أو يَحدث في أضيق الحدود، لا يُمثل هذا اختيارًا. وعلى المناهضين للإجهاض
إدراك أن عدد حالات الإجهاض التي تَحدث في دول تُحظَر فيها هذه الممارسة يفوق
كثيرًا عدد الحالات في الدول التي يَسمح فيها القانون بذلك.
١١ ويعني التحليل الجيني لجنين تكوَّن باستخدام التلقيح الصناعي أن الجنين
الذي يَحتمِل أن ينمو ليُصبح طفلًا ضعيفًا لا يُزرَع ببساطة. ولا تكون التقنية
المعروفة باسم التشخيص الجيني قبل الزرع ضارة بالضرورة؛ فعند توافر المهارة
والتدريب السليم، يُمكن إزالة خلية أو اثنتين من الجنين في المرحلة التي يكون فيها
مكوَّنًا من ٨ خلايا، دون الإضرار بقدرة كتلة الخلايا المتبقية على النمو لتصبح
جنينًا طبيعيًّا. قد يكون التحليل الجيني المعتمد على مواد مأخوذة من خلية أو
خليتين صعبًا، لكنه ممكنٌ، خاصةً مع التطور المستمر للتكنولوجيا المستخدَمة لفعل
هذا. فبالنسبة لكثير من الناس الذين يعلمون أنهم يَحملون جينات مميتة محتملة، يكون
قرار استخدام التلقيح الصناعي وعدم زرع الجنين إذا جاءت نتيجة التشخيص سيئة، أقل
إيلامًا من قرار إنهاء الحمل. ومن يدري ربما تُغيِّر المؤسسات الدينية موقفها
وتتوصَّل إلى الرأي نفسه.
(٣) الاستنساخ
منذ بضع سنوات حصلت النعجة دوللي — وبعدها بسنة الفأرة كومولينا — على شهرة
عالمية؛ فقد نشأت كلٌّ منها باستخدام «الاستنساخ». تتمثل التقنية تقريبًا فيما يلي؛
تُعزَل الخلايا من نسيج حيوان بالغ، ولا يهمُّ كثيرًا من أيِّ جزء في الحيوان تؤخذ
الخلية، سواء من قطعة من الأمعاء أو الكبد، ولا يهمُّ أيضًا ما إن كانت من ذكر أم
أنثى. بعد هذا يحدث تكاثر للخلايا خارج الجسم في صحن، حيث تنقسم مرارًا وتكرارًا،
حتى تتكون مستعمرة من الخلايا المتطابقة. تؤخذ بعد ذلك واحدة من هذه الخلايا وتوضع
مع نواتها، مستودَع المادة الوراثية، داخل ماصة زجاجية (أنبوب ضيق بالأساس). بعد
هذا تُحقن النواة في بويضة أنتجتها الأنثى وتوضَع في صحن، على نحو يُشبه تكنولوجيا
التلقيح الصناعي. يتمثل الاختلاف الوحيد أن البويضة في هذه الحالة تُزال منها
نواتها وتُرمى. فعلى عكس البويضة الطبيعية المخصَّبة التي تحتوي على مجموعة من
جينات الأب مأخوذة من الحيوانات المنوية ومجموعة من جينات الأم مأخوذة من البويضة،
تحتوي البويضة منزوعة النواة التي تُحقَن فيها النواة المأخوذة من الخلية البالغة
على كل من جينات الأب والأم لنواة المتبرِّع، ولا تحتوي على أيِّ جينات من البويضة
نفسها. تُنشَّط البويضة
١٢ ويُسمَح لها بالنمو لتُصبح جنينًا. يُزرع هذا الجنين فيما بعد في أنثى
مستقبِلة مُناسبة (إما المتبرِّعة الأصلية بالبويضة، أو أنثى أخرى)، تمامًا مثل
الحال في التلقيح الصناعي لدى البشر. عندما يولد الصغير — يبدو أن مصطلح «ذرية» لم
يَعد مناسبًا — أخيرًا، يكون في حقيقته مُستنسَخًا، أو نسخة طبق الأصل، من الحيوان
الذي أُخذت منه النواة؛ فإذا أُخذت النواة من ذكر فإنه يكون ذكرًا، وإذا أُخذت من
أنثى فإنها تكون أنثى.
حسنًا، لن يكون نسخة طبق الأصل بالضبط، وهذا لسببين؛ الأول: أن البويضة منزوعة
النواة تُسهم ببعض الجينات في هذه الذرية، هذا بسبب وجود بعض الجينات في
السيتوبلازم الموجود في الخلية خارج النواة، في التكوينات تحت الخلوية التي تُدعى
الميتوكوندريا، التي يوجد منها نحو ١٠٠ ألف في بويضة الثدييات. تحمل جينات
الميتوكوندريا إلى حدٍّ كبير شفرة صنع البروتينات المتعلقة بالتمثيل الغذائي
للطاقة. وكما رأينا في فصل سابق، تنتقل دومًا عبر الخط الوراثي للأنثى؛ لأن
الحيوانات المنوية لا تُسهم بأي جينات ميتوكوندرية عند تخصيب البويضة.
١٣ ويتمثَّل السبب الثاني في عدم كون الحيوان المستنسَخ نسخة طبق الأصل
تمامًا لمتبرِّعه، في أن بيئة الأم التي ينمو فيها الجنين تؤثِّر في تعبير جينات
معينة من جيناته. ويتمثَّل السبب في إغفال الصحف العامة، وكذلك الأبحاث العلمية
التي وصَفت استِنساخ دوللي وكومولينا، ذكر هذه الحقائق في أنه لم يبدُ أن جينات
الميتوكوندريا ولا البيئة داخل الرحم كان لها تأثير على ملامحها الخارجية؛ فقد بدت
هذه الذرية نسخًا طبق الأصل تمامًا من المتبرِّعين. جرى مؤخرًا استنساخ قطة صغيرة
من قطة متبرعة. في هذه الحالة كان لون فرائها — مخططًا أبيض في أسود — يشبه القط
المتبرع إلى حد كبير، لكن ليس بالكامل. وبما أن لون فراء الأم البديلة كان مختلفًا
تمامًا (مما يَستبعد أي تأثير لجينات الميتوكوندريا)، يبدو أن ظهور هذا اللون
تأثَّر جزئيًّا بالبيئة التي نما فيها الجنين.
١٤ ينطبق الأمر نفسه على صفات أخرى، مثل الذكاء والقابلية للإصابة بأمراض،
مثل مرض السكري أو الأزمات القلبية أو السكتات الدماغية، المعروفة بتأثرها بعوامل
غير وراثية داخل الرحم؛ فقد تلعب الجينات الميتوكوندرية لدى الأم البديلة دورًا في
حالات إصابة هذه الأمر بأحد الاضطرابات النادرة المرتبطة بخلل وظيفة الجين
الميتوكوندري.
تجدر بي الإشارة إلى حقيقة أخرى. إن الإجراء بأكمله المتمثِّل في تخليق كائن كامل
من نواة إحدى خلاياه المتمايزة، مثل النسيج الطلائي للأمعاء، يعتمد على حقيقة أن
جميع الجينات في معظم الخلايا تكون نسخة طبق الأصل من الجينات الموجودة في البويضة
المخصَّبة. نحن نعرف أن الدي إن إيه — الجينوم بأكمله — يُستنسَخ بدقة مع كل انقسام
خلوي. يعني هذا أن تخصص الخلية — تكوين الكبد والقلب، والمخ والأمعاء، والعضلات
والكُلى — لا يكون نتيجة لتغيُّر في المحتوى الجيني للخلايا التي تُكوِّن هذه
الأعضاء، بل لتغيُّر في تعبيرها. بعبارة أخرى، تتمتع نواة الخلايا المتمايزة
بالقدرة على التمايز إلى أنواع أخرى من الخلايا. ظهرت هذه الحقيقة العلمية المهمة
منذ أكثر من ٣٠ عامًا على يد عالم إنجليزي يُدعى جون جوردون، الذي كان يعمل في هذا
الوقت في أكسفورد. فقد نقَّح المحاولات السابقة في هذا الاتجاه التي أجراها
العالمان الأمريكيان، روبرت بريجز وتوماس كينج، واستطاع إنتاج شرغوف يَسبح بحرية من
نواة خلية معوية مأخوذة من ضفدع بالغ.
١٥ كان هذا اكتشافًا علميًّا يستحق جائزة نوبل (ما زال العالِم في
انتظارها). كان استنساخ دوللي وكومولينا تقدُّمَين تكنولوجيَّين بارعين كَيَّفا
تقنية اتضح نجاحها من قبل مع البرمائيات بحيث أمكن استخدامها مع الثدييات.
ما احتمال أن نستطيع في المستقبل استنساخ نُسخٍ شبه مطابقة لأنفسنا؟ توجد
التكنولوجيا التي تسمح بهذا إلى حدٍّ كبير؛ لذلك فإن النقاش ليس بشأن الإمكانية
العلمية، بل بشأن تقبُّل جموع الناس للنتيجة. في الوقت الحالي ثمة معارضة للسماح
باستنساخ البشر. لكن الآراء تتغيَّر؛ فمنذ وقت ليس ببعيد، كان الانتحار يُعتبر
جريمة في دول تَسمح به الآن؛ وما زال الزعماء الدينيون يُدينونه.
١٦ فيُعتبَر القتل الرحيم جريمة في معظم الدول، لكن هولندا تمثِّل
استثناءً بارزًا. وقد تحدثتُ من قبل عن مدى اختلاف المَواقف تجاه الإجهاض؛ ففي
الولايات المتحدة الأمريكية تحوَّلت القضية الأخلاقية إلى قضية سياسية. كذلك منذ
مئات السنين كان الرجال يُشنَقون لارتكابهم سرقة صغيرة، أما الآن فلم تعدْ عقوبة
الإعدام في جرائم القتل موجودة في معظم الدول. فمَن يُمكنه أن يقول ماذا سيكون موقف
المجتمعات المختلفة تجاه استنساخ الإنسان بعد ١٠ سنوات أو ١٠٠ سنة؟ شنَّ الفيزيائي
الأمريكي، الدكتور ريتشارد سييد، حملة لاستنساخ إنسان، رغم أنف المعارَضة.
١٧ ما أكرر ذكره أن التطورات العلمية لا تتوقف؛ فتعطُّش الإنسان للمعرفة
والتجديد لا يُمكن إخماده. على أيِّ حال، في المعتاد لا تصير التقنيات المحتملة
النابعة من الاكتشافات العلمية واضحة للعيان قبل مرور عدة سنوات، وبعد ذلك قد
تؤدِّي إلى فائدة بقدر ما تتسبَّب في ضرر. هل يقدم الاستنساخ — ليس استنساخ البشر —
أيَّ فوائد؟
يحدث هذا بالفعل؛ وفيما يلي نقدم مثالًا، رغم أنه ليس عن «الاستنساخ» بمعنى
استيلاد كائنات كاملة. فقد أصبح الآن من الممكن زيادة عدد الخلايا المأخوذة من كائن
بالغ، أو من طفل أيضًا، لتنتج كتلة من الخلايا المتطابقة؛ وقد كان استخدام الخلايا
المتمايزة لفعل هذا يمثِّل عقبة في الماضي، لكن اكتُشفت حاليًّا تقنيات يُمكن
استخدامها في تحقيق هذا؛ ومن ثم أصبح من الممكن أخذ خلايا من الجلد، على سبيل
المثال، وإنتاج شريحة من أنسجة الجلد. من المحتمل أن توجد فائدة هائلة لهذا للذين
يُعانون من حروق فادحة. في الوقت الحالي أصبح تطعيم المناطق المصابة بقطع كاملة من
الجلد مأخوذة من أحد أجزاء الجسم الحل الوحيد. لذا يكون أخذ بضع خلايا فقط نعمة
واضحة. بالطبع سيُضطر المريض لانتظار الخلايا حتى تنموَ لتُصبحَ قطعة كبيرة بما
يكفي لاستخدامها؛ لذلك يَجري البحث عن طرق لتسريع عملية الانقسام الخلوي. من حيث
المبدأ، يمكن للمرء تجميد خلايا الجلد المأخوذة من فرد يتمتَّع بالصحة، حتى
يَستخدمها فيما بعد عند حدوث حالة طارئة؛ بالنسبة للرجال تكون الْقُلفة أسهل مصدر؛
فهي لا تقدِّم مجرد القليل من الخلايا، بل الملايين منها في المرة الواحدة؛ فمن
قطعة واحدة من الْقُلفة يُمكن صنع كَمِّية من أنسجة الجلد تُعادل في حجمها مساحة
ملعب كرة قدم في وقت قصير نسبيًّا. يكون استبدال الأعضاء والأنسجة الأخرى أكثر
صعوبة لكنه يَعِدُ بمكاسب أكثر أهمية؛ خلايا كبد لشخص يعاني من التهاب الكبد
الوبائي، أو خلايا قلب لشخص يُعاني من فشل في القلب، أو خلايا كُلًى لمن يعاني من
التهاب الكُلى، أو خلايا بنكرياس لشخص مريض بالسكر، أو خلايا ثدي لمريضة عليها أن
تخضع لعملية استئصال للثدي بسبب وجود ورم خبيث، أو خلايا رئة لشخص يعاني من السُّل،
والقائمة لا تنتهي. في كلٍّ من هذه الحالات لا تتعرض الخلايا المدخلة حديثًا للرفض
لأنها مأخوذة من الشخص نفسه؛ حيث يوجد تحمُّل مناعي كامل. ولن توجد اعتراضات
أخلاقية كثيرة على هذا الإجراء؛ لأن المرء لا يعمل إلا على تكاثُر الخلايا
المتمايزة؛ فلا تدخل الخلايا الجنسية في العملية. توجد مشكلة واحدة فقط؛ أن إمكانية
تطبيق هذه التقنية ما زالت نظرية إلى حدٍّ كبير في الوقت الحالي. ويتمثل الحل
البديل، الذي يُنشَد بنشاط، في البدء باستخدام التلقيح الصناعي.
يؤخذ حاليًّا في المعتاد نحو ١٠ بويضات أو ما شابه من المتبرعة التي تخضع للتلقيح
الصناعي، يُخصَّب منها نحو بويضتين وتُزرعان. وربما تُجمَّد البويضات المتبقية حتى
تُخصَّب وتُزرَع في وقت لاحق، أو يُمكن استخدامها في «الاستنساخ العلاجي». في هذه
الحالة تُنزع النواة أولًا من بويضة المتبرع، ثم تُحقن نواة الخلية المأخوذة من
الشخص المراد صنع «قطع غيار» له — ذكرًا كان أو أنثى — في البويضة منزوعة النواة.
تُنشَّط الخلية ويُسمَح للجنين الناتج بالنمو لمدة من ٥ حتى ٦ أيام في كيسة أريمية،
التي تكون في الأصل كرة من الخلايا غير المتمايزة. ونظرًا لعدم تكوُّن جهاز عصبي في
هذه المرحلة،
١٨ يُمكن وصف الجنين بأنه لم يصبح «حيًّا» بعد، أو على الأقل لا يستطيع
الشعور بالألم. إذا أُزيلت كتلة من الخلايا من مركز الكيسة الأريمية واستُنبِتَت في
صحن، فإننا نحصل على ما يُعرف باسم الخلايا الجذعية الجنينية
١٩ (شكل
١٣-١). تتمتَّع هذه الخلايا بالقدرة على
التمايز إلى أنواع مختلفة من الخلايا، مثل الكبد أو الجلد أو العضلات أو القلب.
يمكن أيضًا تجميدها وتخزينها من أجل التمايز فيما بعد إلى أنواع الخلايا هذه.
بعبارة أخرى، سيتمكَّن الأفراد — رجالًا أو نساءً — من اللجوء إلى الخلايا المأخوذة
من أي من أعضائهم للعلاج بالإعاضة، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وفي هذه الحالة يكون
التحمُّل المناعي مضمونًا.
٢٠ بالطبع مع استخدام الأدوية المناسبة المثبِّطة للمناعية، لا يحتاج
مُستقبِل الخلايا الجذعية الجنينية أن يكون هو نفسه المتبرع بالنواة البالغة
الأصلية. لا يزال الاستنساخ العلاجي في مراحله الأولية إلى حدٍّ كبير،
٢١ وربما يُستخدم في المقام الأول في تصنيع خلايا من أجل إصلاح نسيج
مُتضرر، بدلًا من صنع أعضاء بأكملها. ومن المفترض أن يُصبح من الممكن في المستقبل
البعيد زراعة حتى خلايا عصبية، مُصنَّعة بالطريقة نفسها، في المخ. في الوقت الحالي،
تقتصر هذه التقنية على استخدام خلايا مأخوذة من جنين مُجهض؛ فيوجد احتمال أفضل
لقبول خلايا الجنين من شخص لا يمتُّ له بصلة من خلايا الشخص البالغ، لكن مشكلة
الرفض المناعي لم تُحَل بالكامل. فربما يكون حان الوقت بالفعل لمساعدة الذين
يُعانون من مرض باركنسون وألزهايمر وغيرهما من الاضطرابات العصبية.
أشرنا في الفصل السابق إلى احتمالات تغيير المحاصيل عن طريق إدخال جينات جديدة في
بذورها. وبالمثل، يُمكن أيضًا إدخال جينات في أجنَّة الحيوانات والبشر باستخدام
تقنيات التلقيح الصناعي والاستِنساخ. فأحيانًا لا يكون الجين هو نفسه الذي يَحمل
شفرة صنْع بروتين معين، بل جزء الدي إن إيه الذي يعمل على تشغيل الجين المنقول أو
إيقاف عمله. تذكَّر أن جزءًا كبيرًا من الدي إن إيه الموجود في كروموسوماتنا لا
يعمل على تصنيع بروتينات معينة، إنما يُعزِّز محتواها في الخلايا أو يُقلله عن طريق
تنظيم تعبير الجين المتعلق بها. في حالة استيلاد الحيوانات، على سبيل المثال، يمكن
التلاعب بمقدار هرمون النمو الذي يسري في مجرى دمها بهذه الطريقة، ويمكن إنتاج
حيوانات أكبر من الطبيعي. الأهم من ذلك احتمال إنتاج حيوانات مقاومة للأمراض.
سيُمكِّن هذا المزارعين في الدول الغربية من تقليل كَمِّية المضادات الحيوية التي
يَجعلون الماشية تتناولها (وهي ممارسة غير مرغوب فيها شرحناها في الفصل الثاني
عشر)، وسيُساعد المزارعين في الأجزاء الاستوائية والأكثر فقرًا في العالم في تربية
حيوانات مُقاوِمة لطفيليات الدم مثل المثقبية البروسية،
٢٢ وفيروسات مثل مرض القدم والفم. وسنتحدث بعد قليل عن تعديل لهذه
التكنولوجيا بحيث يُمكن إدخال جينات بشرية — وليست حيوانية — في حيوانات
المزرعة.
(٤) زرع الأعضاء
أعطت زراعة الأعضاء، مثل الكُلى أو القلب أو الكبد أو الرئة، المأخوذة من جثث
الموتى للمرضى الميئوس من شفائهم أملًا جديدًا في الحياة على مدار العقود الماضية.
ثمة مشكلتان ترتبطان بهذا الإجراء. تتمثَّل الأولى في رفض الجهاز المناعي للأعضاء
الغريبة. فحتى الأنسجة المتوافقة مناعيًّا قدر الإمكان بين المتبرع والمتلقي قد
تتعرض للرفض. ويُمكن لإعطاء الأدوية المثبطة للمناعة، مثل سيكلوسبورين، التغلب
جزئيًّا على المشكلة وتمكين المرضى من الحياة بالكُلى أو الكبد أو القلب المزروعين
لأكثر من ٢٠ سنة في أفضل الحالات. إلا أن العدوى تمثِّل مشكلة كبرى للمرضى
المثبَّطة مناعتهم لأن الجهاز المناعي، الذي يعمل عادةً على منع العدوى، يكون عمله
متوقفًا فعليًّا. أما الصعوبة الثانية فتتمثل في نقص توافُر الأعضاء المناسبة؛
فحاليًّا ينتظر أكثر من ١٥٠ ألف مريض في جميع أنحاء العالم الخضوع لعملية زرع
أعضاء، ويتزايد الطلب سنويًّا بنحو ١٥٪. وسيحالف الحظ فعليًّا ثُلث هذا العدد ليحصل
على عملية زرع قبل فوات الأوان. ما الذي يمكن فعله لحل هذا الوضع؟ يتمثَّل أحد
الحلول في صنع عضو بديل للإنسان باستخدام «الاستنساخ العلاجي». وثمة طريقة أخرى
تتمثل في استخدام أعضاء حيوان، مثل الخنزير، تكون في حجم قريب من أعضاء البشر. وهذا
كل ما يتعلق بزراعة الأعضاء.
٢٣
طُبقت زراعة كبد الخنزير لعدة سنوات، وتبدو فعالة إلى حدٍّ ما في حالة فشل الكبد.
وبوجه عام لا توجد أهمية لحقيقة أن كبد الخنزير يرفضه الجسم بعد عام؛ لأن الكبد
لديه القدرة على إعادة تجديد نفسه. بعبارة أخرى، يكفي توفير مصدر بديل لخلايا الكبد
لفترة محدودة فقط، تعمل في أثنائها خلايا الكبد الصحية المتبقية على إعادة تجديد
نفسها ببطء. وبمجرد حدوث هذا، تختفي الحاجة للعضو المزروع، ويكون رفض الجسم عندها
في الواقع مفيدًا. وثمة تطور حديث لا يعتمد على زرع كبد سليم على الإطلاق. فيُمكن
عزل خلايا كبد الخنزير ووضعها داخل عمود زجاجي يُضخ عبره الدم المأخوذ من المريض.
تُجري خلايا الخنزير كل التغيرات الأيضية الضرورية، مثل تحويل الأمونيا القلوية في
الدم إلى يوريا محايدة وتزيل سُمية الجزيئات الضارة الأخرى، دون الحاجة إلى علاج
مثبط للمناعة. للأسف، لا يحدث تجديد ذاتي في الأعضاء الأخرى مثلما يحدث في الكبد،
ويجب أن تبقى أنسجة الكُلى أو القلب أو البنكرياس أو الأعضاء الأخرى المزروعة في
مكانها إلى أجل غير مُسمًّى. ومؤخرًا تحول اهتمام العلماء الذين استنسخوا النعجة
دوللي إلى الخنازير. فتوصَّلوا إلى استنساخ خنازير صغيرة أُزيل من أجسامها الجين
المسئول عن الرفض المناعي من جسم مستضيف أجنبي؛
٢٤ ومن ثم فهي تُوفِّر مصدرًا مفيدًا لأعضاء يمكن زراعتها. تبدو هذه طريقة
ذات قيمة محتملة للتغلب على كلتا المشكلتين المرتبطتين بزراعة الأعضاء للبشر؛ الرفض
المناعي ونقص الأعضاء المتوافرة. ومع ذلك يوجد جانب سلبي لاستخدام أعضاء الحيوانات؛
فقد يحمل النسيج المزروع فيروسًا ربما لا يكون له ضرر على الخنازير ولكن هذا لا
ينطبق على البشر. يصعب جدًّا التحقق من هذا الاحتمال، خاصة في حالة الفيروسات
القهقرية، مثل فيروس العوز المناعي البشري وفيروسات معينة تسبِّب سرطان
الدم.
٢٥ نحمل جميعنا بالطبع تتابعات جينات الفيروسات التي دخلت أجسامنا دون عمد
طوال فترة حياتنا أو كانت لأجدادنا ونحملها في كروموسوماتنا. إذن هل يكون تهديد
الحصول على تتابع آخر من خنزير خطير للغاية؟ مبدئيًّا، لا، خاصةً عندما يعاني المرء
من مرض يهدِّد حياته. إلا أن العلماء لديهم ما يكفي من الحكمة ليحذروا من الاستخدام
العشوائي لزراعة الأعضاء بهذا الشأن. فيقولون: تذكَّر ما حدث (على الأرجح) عندما
وجد فيروس قهقري لقردٍ نفسه بالصدفة داخل عائل بشري؛ إذ أدى هذا إلى ظهور فيروس
العوز المناعي البشري، الذي وصل حاليًّا إلى مستويات وبائية في أفريقيا ومسئول عن
أكثر من مليون حالة وفاة تحدث سنويًّا بسبب مرض الإيدز الذي يُسبِّبه.
يوجد استخدام محتمل آخر لزراعة الأعضاء والاستنساخ والتلقيح الصناعي؛ هو حفظ
أنواع الحيوانات التي على وشك الانقراض.
٢٦ فتُحقَن خلية مُستنسَخة من أحد أفراد النوع المهدَّد في بويضة منزوعة
النواة لنوع مختلف غير مُهدَّد. تُنشَّط البويضة ويُسمح لها بالنمو لتُصبح جنينًا
في مراحله المبكرة، يُزرع فيما بعد في أنثى الحيوان المتبرعة بالبويضة. من المفترض
أن يولد حيوان يتمتع بالصحة، شريطة أن تكون الخلية المستنسخة معدَّلة وراثيًّا
بطريقة تمنع الرفض المناعي من الحيوان المتلقي، تمامًا مثل التعديل المناعي المذكور
آنفًا عن الأعضاء التي تُزرع من الخنزير في الإنسان. كان المرشَّح الأول لهذه
التقنية الغور، وهو حيوان يُشبه الثور يعيش في أجزاء من الهند وجنوب شرق آسيا
ومُهدد بخطر الانقراض. وقَع الاختيار على بقرة آيوا عادية لتؤدي دور الأم البديلة.
ولدت بالفعل ذرية تتمتَّع بالصحة ظاهريًّا، لكنها للأسف نفقت بعد ٤٨ ساعة بسبب عدوى
بكتيرية.
٢٧ الحيوان التالي على القائمة هو الباندا العملاقة (وستكون الأم البديلة
الدب الأسود الأمريكي). ويوجد مُتنافس آخر يتمثل في الظبي الجبلي الذي يُدعى بونجو،
الذي يقتصر عدده على ٥٠ حيوانًا تقريبًا تعيش في مِنطقة صغيرة في كينيا؛ وستكون أمه
البديلة حيوان الإيلاند.
ظهرت محاولات لاستنساخ الماموث الصوفي، الذي انقرض منذ ١٠ آلاف سنة، من عيِّنة
نافقة عُثر عليها في مِنطقة الجليد الدائم في سيبيريا (وتكون الأم البديلة فيلًا)؛
وحتى الآن لم يَنجح هذا الأمر؛ فقد تعرض الدي إن إيه لدمار كبير. ومع ذلك يوجد
افتراض أن بعض المجموعات المنعزلة من الماموث الصوفي ربما بقيَت على قيد الحياة في
أجزاء نائية من سيبيريا، وإذا اتَّضح أن هذا صحيحٌ فربما تكون الفرصة ما تزال
مُتاحة لإنقاذ هذا النوع. وبالمثل ثمة مشكلات تتعلَّق بعدم استقرار الدي إن إيه
تَكتنف محاولات استنساخ الثايلسين أو النمر التسماني من جرْو محفوظ في كحول منذ عام
١٨٦٦.
٢٨ ومن ثم توجد فرصة ضئيلة للغاية في أن يعدو استنساخ عينات الديناصورات
التي يبلغ عمرها ٦٥ مليون سنة أكثر من كونه مجرد خيال علمي. من ناحية أخرى، ربما
نرى الاستنساخ يُنقذ أنواعًا مهدَّدة مثل الفهد والأسلوت. سيظهر لنا الوقت وحده مدى
فاعلية هذا الأسلوب حقًّا في منع انقراض الحيوانات المعرضة للخطر.
يَتمثل أحد التطورات الطبية المهمة في زرع جينات بشرية في جنين حيوان باستخدام
التلقيح الصناعي من أجل تصنيع كَمِّيات هائلة من البروتينات البشرية. يحتاج المرضى
إلى مثل هذه البروتينات من أجل التصدِّي لغياب بروتين معيَّن أو فقدانه، أو تعزيز
وجوده. ومثال على الحالة الأولى الأنسولين في حالة مرضى السكر؛ ويُعتبر الألبومين
في حالة فقدان الدم في أثناء حادث أو عملية جراحية مثالًا على الحالة الثانية؛
ويُعدُّ إنزيم الثرومبوكيناز، الذي يساعد في إذابة جلطات الدم، مثالًا ثالثًا. توجد
قيود واضحة على عزل هذه البروتينات من مصادر بشرية. أما استخدام البروتين نفسه
المستخرَج من حيوان فيُعتبَر أحد الحلول، وقد نجح في الماضي مع الأنسولين. وبدلًا
من هذا يُمكن استخدام تكنولوجيا الجينات مع الجراثيم؛ فتوضع الجينات البشرية في
البكتيريا ثم تُفرز المنتج المطلوب. إلا أن هاتين العمليتين باهظتا الثمن، وتكون
النواتج منخفضة. وتُقدم زراعة الأعضاء حلًّا بديلًا؛ ولهذا توصَّل العلماء إلى فكرة
إدخال الجين البشري الخاص بالبروتين المطلوب في الخلايا الجنسية لحيوانات تنتج
الحليب، مثل الأبقار أو الخراف أو الماعز.
٢٩ فمن خلال إضافة الجين إلى جين لا يَظهر عمله إلا في غُدد الثدي، فإن
البروتين يُفرَز في اللبن. وعندها يكون عزل البروتين البشري النقي بكَمِّيات كبيرة
إجراءً سهلًا.
توجد تقنية أخرى تتمثَّل في إدخال الجينات البشرية في الخلايا الجنسية للدجاج،
حتى تظهر البروتينات المعنية في زلال بيضها، ومِن هنا يمكن عزلها بسهولة، ومرةً
أخرى يكون هذا بكَمِّيات كبيرة. تُصنَّع حاليًّا بروتينات لديها القدرة على أن تعمل
كعوامل مضادة للسرطان باستخدام هذه التقنية. ومن أجل استخدام حيوانات المزارع في
إعداد البروتينات البشرية، من الضروري بالطبع ألا تكون مصابة بأي عامل يَحتمِل أن
يلوث المنتج البروتيني. من المهم على وجه الخصوص خلوُّ الأبقار من جنون البقر،
والخراف من الراعوش،
٣٠ والدجاج من السالمونيلا أو فيروس مرض نيوكاسل. إلا أن هذه التقنيات
تبدو أنها تعمل بنجاح، وتستمر ذرية الحيوانات المعدلَّة جينيًّا في إنتاج
البروتينات المطلوبة لأجيال وأجيال. هذا مثال جيد على تكنولوجيا حيوية نشأت من علم
الجينات؛ ولأنها تَعتمد على استخدام حيوانات المزارع سُميت «التصيدل». وربما يتساءل
القارئ لماذا يتكبَّد المرء عناء فصل البروتين، ويُعقِّمه ويَحقن به المرضى؛ لماذا
لا يُمكننا ببساطة شرب اللبن أو أكل البيض؟ كما ذكرنا سابقًا، تتعرَّض البروتينات
إلى قدر كبير من التحلل في الجهاز الهضمي، ولهذا السبب يكون تناولها عبر الفم غير
فعال بوجه عام.
يوجد دمج مُحتمَل لتقنيتَي إدخال الجينات البشرية في الحيوانات وزرع أعضاء
الحيوانات في البشر، ويتمثل في زرع خلايا بشرية كاملة في الحيوانات. تُنشَّط
الخلايا بعد هذا لتنمو فتصبح أعضاءً وأنسجة؛ ويُمكن بعدها إزالتها من العائل
الحيواني البديل وزرعها في البشر مرةً أخرى. لا توجد مشكلة بشأن الرفض المناعي لهذه
الأعضاء؛ لأن مصدرها إنسان، وليس حيوانًا.
٣١ لكن لماذا لا تتعرض الخلايا البشرية للرفض من العائل الحيواني في
المقام الأول؟ تتمثَّل الحيلة التي ابتكرتْها مجموعة في معهد العلوم الجراحية
للأطفال في فيلادلفيا، في حقن الخلايا في أجنة لم يتكوَّن لديها أجهزة مناعية بعد.
تكون هذه الخلايا خلايا «جذعية» تُشبه الخلايا الجذعية الجنينية التي شرحناها من
قبل؛ فتكون غير مُتمايزة وتوجد جزيئات مناعية قليلة على سطحها. وما اكتشفه العلماء
الأمريكان عند حقن خلايا جذعية بشرية في أجنَّة الحمل، أنه من الممكن جعل الحِملان
البالغة تحمل خلايا بشرية داخل أنسجة، مثل العضلة الهيكلية والقلب والغضروف.
(٥) موجز
لنُعاود الحديث عن موضوع المخاطر، الذي يقوم عليه الفصلان اللذان يتكون منهما
الجزء الثالث. في مواقف معينة نحسب تلقائيًّا المخاطر — أحيانًا لا إراديًّا؛
فعندما نوشك، على سبيل المثال، على عبور شارع مزدحم، ننظر لنرى حركة المرور التي
تقترب مِنا على الجهتين ثم نأخذ قرار عبور الطريق أو عدم عبوره. لا يخلو أي شيء
نفعله في حياتنا من المخاطر؛ فمعظم الأشياء التي تحدث لنا تَعتمد إلى حدٍّ معيَّن
على أحداث خارجة عن سيطرتنا؛ ومن ثم تحتوي على عنصر المخاطرة. فبالنسبة لمعظمنا لا
يوجد ما يُسمى «القضاء والقدر»؛ فتوجد مجرَّد ظروف بعيدة الاحتمال للغاية، فيمكن،
من حيث المبدأ، حساب احتمالات حدوث أي موقف معين. وهذا في النهاية ما تفعله شركات
التأمين ووكلاء المراهنات طوال الوقت. ربما لا يستطيع علماء الأرصاد الجوية أن
يتوقَّعوا بدقةٍ حدوث فيضان في بنجلاديش أو زلزال في كاليفورنيا، لكنهم يستطيعون
حساب الاحتمالات. وبالطبع يُساعدهم في فعل هذا الحصول على البيانات ذات الصلة بشأن
الحوادث السابقة. وفي النقاش بشأن تأثير المحاصيل المعدَّلة جينيًّا على البيئة
وسلامة الأطعمة المعدَّلة جينيًّا على الصحة، كانت هذه النقطة تحديدًا هي التي
أكَّد عليها المعارضون لهذه التكنولوجيا الجديدة؛ فلأنها جديدة لا سبيل لحساب
احتمالات وقوع خطأ ما، إلا أن هذا الرأي ليس صحيحًا كليًّا.
لا يَحدث تقدم تكنولوجي ضخم للغاية بحيث يستحيل أن نحسب — على الأقل تقريبيًّا —
نتائجه الضارة المحتملة. فقد أدرك العلماء جيدًا الدمار المتوقع أن تُحدثه القنبلة
النووية الأولى، وأخبروا رجال السياسة بهذا، ففي النهاية كان هذا سبب اختراعها؛
لإحداث أقصى حدٍّ من الأذى الجسدي ومن ثم إيقاف الحرب. صحيح أن العلماء لم يَعرفوا
بالضبط ما الآثار المحتملة طويلة المدى لوجود عنصر السترونتيوم المشع في الجسم (على
أيِّ حال لم يكن لهذا علاقة بقرار استخدام القنبلة)، لكن كانت لديهم فكرة تقريبية
عن أن السقط الإشعاعي، مثل الغاز السام أو الجراح الناتجة عن طلق ناري أو الخوف من
التعرض للقتل في معركة، سيؤدي إلى مشكلات إكلينيكية. واسمحوا لي أن أُذكِّر
الخائفين من الموت الذين يريدون وقف جميع عمليات التعديل الجيني التي تتعرَّض لها
الأطعمة والبشر بما يلي: عندما بدأ إدوارد جينر التطعيم ضد مرض الجُدري، اتُّهم
بتدميره لنظام الطبيعة، تمامًا كما يحدث للعلماء المشتغلين بأبحاث التعديل الجيني
في العصر الحالي؛ ومع ذلك لن يُنادي كثيرون الآن بضرورة توقُّف التطعيم ضد أمراض
قاتلة، مثل الجُدري أو شلل الأطفال أو التيفويد أو السُّل. وعندما صنع جورج
ستيفنسون أول قطار سكك حديدية في العالم، حذَّر الأطباء من أن الجسم البشري لن
يَستطيع تحمُّل السرعات العالية المستخدَمة (كان يسير بسرعة ٢٠ ميلًا في
الساعة).
ثمة أمر لا يُمكن توقعه في التكنولوجيا الجينية — سواء أكانت مُطبقة على الطعام
أم على البشر — يتمثل إلى حدٍّ كبير فيما يلي. عند التلاعب بالدي إن إيه لا يُمكننا
التأكد أبدًا من أن الجين أو العنصر المتحكِّم في عمل هذا الجين لن يتصرف بأسلوب
غير متوقع عند نقله من كائن
٣٢ إلى آخر. كذلك يوجد احتمال انتقال تتابعات فيروسية غير معروفة وخاملة.
هل أنا بذلك أُغيِّر رأيي بشأن مخاطر الأطعمة المعدَّلة جينيًّا، التي لخصتُها في
نهاية الفصل السابق وقلتُ إنها منخفضة؟ لا، على الإطلاق. أنا أفقط أستعرض الأمر
بحيادية، كما وعدتُ في البداية؛ ولهذا سأعترف بسهولة أن ثمة مجموعة بحثية ألمانية
اختَبرت فاعلية الفيروسات القهقرية غير المسبِّبة للعدوى بوصفها عوامل نقل لإدخال
الجينات المعدَّلة داخل الفئران، واكتشفت أن الفيروس تسبَّب دون قصد في إصابة بعض
الحيوانات بسرطان الدم.
٣٣ إلا أن العلماء المشرفين على هذه التجارِب أشاروا إلى أن مئات الآلاف
من الحيوانات التي تماثَلت للشفاء بهذه الطريقة لم تُصَب بالسرطان؛ فاحتمالات
إصابتها بهذا المرض تُقدر تقريبًا بحالة واحدة في كل ١٠ ملايين حيوان، ومع ذلك ثمة
حاجة واضحة لمزيد من الأبحاث. كذلك جرى استعراض احتمال عثور الجينات التي تدخل إلى
الخلايا الجسدية، مثل الرئة أو الكبد، على وسيلة للانتقال إلى الخط
الإنتاشي.
٣٤ أما بالنسبة لخطر الإصابة بالمرض بسبب تناول الأطعمة المعدلة جينيًّا،
أُكرِّر أن هذا الخطر ليس أكبر من خطر الإصابة بالمرض بسبب تناول الأطعمة المزروعة
عضويًّا، أو أيِّ نوع آخر من الأطعمة. أما خطر تأثير المحاصيل المعدَّلة جينيًّا
على البيئة فهو أكبر، لكن عواقبه بسيطة مقارنةً بالتغيرات التي أحدثها الإنسان
بالفعل في الطبيعة على مدار ١٠ آلاف سنة مضت. يتناول الأطعمة المعدَّلة جينيًّا
ملايينُ الناس، وتُزرع المحاصيل المعدلة جينيًّا منذ عدة سنوات، دون أيِّ إفادات
بوجود تأثير واضح على الصحة أو البيئة. وإذا رضخْنا لحُماة البيئة المُولَعين
بالجدل، فربما ندمر النسيج نفسه الذي يريدون الحفاظ عليه؛ ومثال على هذا الدمار
الذي يَلحق بالمحاصيل من أسراب الجراد. ثبتَت فاعلية دواء يُدعى ديلدرين كإجراء
مضاد للحشرات، لكن استخدامه توقَّف بسبب اعتراضات بشأن احتمال سُميته تجاه أشكال
أخرى من الحياة البرية؛ فحلَّ محله دواء أخف وأقل فاعلية يُدعى فينيتروثيون.
والنتيجة؟ يعيش الملايين في أفريقيا في خوف من عودة أسراب الجراد، وما تحمله من
تبعات اقتصادية مُدمِّرة. وبالمثل يكون خطر التلاعب بالجينات البشرية متواضعًا؛
فثمة عنصر خطورة في جميع التدخُّلات الطبية، بداية من تناول الأسبرين حتى الخضوع
لعملية زرع قلب. ما نحتاج إلى فعله في كل موقف هو الموازَنة بين الخطورة والفائدة
المحتملة.
أؤكِّد أن فائدة الأطعمة المعدَّلة جينيًّا لمليارات البشر الذين يعانون من نقص
في الغذاء في أفريقيا وآسيا — معظمهم من الأطفال — يفوق أي أخطار محتملة، خاصةً تلك
التي يتخيلها المحتجُّون غير المُلمين بالموضوع. وأعتقد أن فائدة التكنولوجيا
الجينية لمن يعانون من أمراض مُميتة، مثل التليف الكيسي وضمور العضلات والسرطان،
وفائدة التلقيح الصناعي لزوجين عقيمين يُريدان إنجاب طفل، وفائدة استنساخ خلايا
المخ لشخص يعاني من مرض باركنسون، وفائدة زراعة الأعضاء لمريض كبد على شفير الموت،
تفوق كلها المخاطر. علينا أن نَشكر العلماء على سعيهم المستمر للتوصُّل إلى تقنيات
جديدة، لا أن نعاقبهم؛ فالأبحاث الطبية الحيوية ليست هي التي تحتاج إلى تحكُّم، بل
تطبيقها غير المناسب. أدرك هذه المعضلة بالفعل في أوائل القرن السابع عشر الفيلسوف
ورجل الدولة الإنجليزي فرانسيس بيكون؛ فبما أن «المعرفة قوة»، يجب على العلماء
القَسَم على «السرية، على إخفاء الأشياء التي نرى أنه من المناسب إبقاؤها سرًّا؛
رغم أن بعض هذه الأشياء نُظهرها بالفعل للدولة وبعضها لا نظهره.»
٣٥ وفي عصرنا الحالي، لن يصح بالطبع ترك هذا الأمر في أيدي
المخترعين.
٣٦ فتطبيق العلم مسألة يُقرِّرها الجميع — العلماء وعامة الشعب، رجال
السياسة والمنتخبون. لكن رجاءً دع المنطق، وليس العبارات الرنانة، هو الذي يحدِّد
النتيجة.