(١) بداية الحياة
بدأت الحياة على سطح الأرض من نحو ٣٫٥ مليارات سنة، وقبل هذا بمليار سنة بدأت
مادة غازية منبعثة من الشمس تتجمَّع لتكوِّن كوكبنا هذا
١ بالإضافة إلى الكواكب الأخرى الموجودة في مجموعتنا الشمسية. والشمس
نفسها أخذت تتوهج منذ نحو مليار سنة قبل هذا، ورغم أن عمرها يَقرب منذ نحو ٥
مليارات سنة، فإنها ليست على الإطلاق أقدم نجم في الكون؛ فيُشير معظم علماء
الفيزياء الفلكية إلى أن الانفجار العظيم، الذي تكونت بفعله كل المادة الموجودة،
حدث منذ فترة تتراوح بين ١٠ و٢٠ مليار سنة. بمجرد تكوُّن الأرض، رغم تعرُّضها للقصف
المستمر من النَّيازك، انخفضت درجة حرارتها تدريجيًّا في فترة تقلُّ عن مليار سنة
لتصل إلى درجة حرارة تكونُ فيها المياه في صورة سائلة، وتكون فيها الجزيئات العضوية
مستقرَّة. ويوجد جدل حول طريقة تكوُّن هذه الجزيئات.
٢
على مدار فترة طويلة من الوقت بدأت الجزيئات العضوية تتجمَّع في شكل بوليمرات
توجد داخل غشاء دهني، وبالصدفة استطاعت بعض هذه التجمعات مضاعفة نفسها.
٣ عُثر على بقايا متحجِّرة من مثل هذه التكوينات، الخلايا الأولى، في
صخور ترجع إلى ٣٫٥ مليارات سنة مضت.
٤ تبدو الجراثيم التي تعيش في المياه ذات نسبة الملوحة المرتفعة أقرب
شبيه لهذه الجزيئات؛ ومن ثم سُميت بالبكتيريا القديمة، أو العتائق اختصارًا؛
لتمييزها عن معظم البكتيريا الحديثة الأخرى.
٥ تعيش بعض من البكتيريا الحديثة في الينابيع الحارة والفتحات الحرارية
المائية، وقد حافظت على قدرتها على التكاثُر في درجة الحموضة القصوى
(
pH 0) وفي درجات حرارة تفوق ٩٠ درجة مئوية،
التي كانت موجودة عند أسلافها.
٦ لا تستطيع معظم البكتيريا الأخرى، فضلًا عن النباتات والحيوانات،
البقاء في مثل هذه الظروف.
بعد ظهور أول الكائنات الحية منذ ٣٫٥ مليارات سنة مضت، استغرق ظهور الكائنات
المتعدِّدة الخلايا أكثر من مليارَيْ سنة؛ النباتات أولًا ثم الفطريات ثم الحيوانات
(اللافقاريات منذ نحو ٦٠٠ مليون سنة، ثم تبعتها الفقاريات).
٧
توجد نظرية أخرى بشأن تصنيع الجزيئات العضوية الأولى؛ فقد أيَّد عالم الفيزياء
الفلكية الراحل فريد هويل وزميله شاندرا ويكراماسينج فكرة أن الجزيئات الذاتية
التكاثر، مثل الدي إن إيه، لم تُصنَع في الأصل على سطح الأرض، وإنما في الفضاء
الخارجي — ربما قُرْب المذنَّبات — ووصلت إلى الأرض في شكل جسيمات (حتى إنهم
يستخدمون كلمة «خلية»)، انطلقت بعد ذلك لتكوِّن البكتيريا القديمة. يشيران بعد ذلك
إلى أن هذه الجُسيمات تنهال باستمرار على الأرض، ومن ثم تُدخِل إليها، مثل
الفيروسات، أمراضًا معدية جديدة. ربما تكون فرضيتهما الأولى صحيحة جزئيًّا؛ إذ
رُصدت هذه المادة العضوية (باستخدام تقنيات القياس الطيفي) في الفضاء الخارجي،
فيَحتمِل أن تكون مثل هذه الجزيئات، التي تحتوي على الكربون والهيدروجين والأكسجين
والنيتروجين، أمدَّت الأرض بأسلاف الأحماض الأمينية والمكونات الأساسية للأحماض
النووية. أيضًا من الصحيح أنَّ النيازك وجُسيمات الغبار الموجودة في مجموعتنا
الشمسية وُجد أنها تحتوي على مركَّبات عضوية ربما تكون أسهمت في تطور الجزيئات لدى
الكائنات الحية.
٨ ما يصعُب فهمه هو كيف يُمكن للمادة الكونية إصابة البشر في عصرنا
الحالي، فإن خلايانا مأخوذة من صور الحياة البدائية، وتحتوي على الجزيئات نفسها
التي كانت موجودة فيها.
٩ كما ترتبط جيناتنا بكل الأشياء التي سبقتها، فهل يَحتمِل فعلًا أن يكون
تطور هذه الجزيئات حدث في الفضاء الخارجي؛ في مذنَّبات وغبار النجوم، على مدار فترة
ثلاثة ونصف مليارات سنة بالتوازي تمامًا مع تطوُّرها على سطح الأرض؟ لن نستطيع
معرفة هذا حتى نَعثُر على حياة على كوكب آخر، لكن في اعتقادي أنه عند عثورنا عليها،
فإنَّ الجزيئات، بصرف النظر عن الكائنات الفعلية، لن تُشبه الموجودة على سطح الأرض
على الإطلاق. لكن استمع إلى الجُمَل الختامية في واحد من آخر المقالات التي كتَبها
فريد هويل قبل وفاته: «من ثم، فإن التركيبات الجينية لا بد أنها أُحضرت إلى الأرض،
في مادة المذنَّبات في اعتقادنا أيضًا، التي تربط الحياة هنا بأصلها الكوني؛
فالتطور هنا على وجه الأرض عبر الانتقاء الطبيعي لا يَعمل إلا على ضبط نُظُم النشأة
الكونية بمجرَّد استقرارها هنا.»
١٠
(٢) اعتماد الحياة على الضوء
منذ ظهور البكتيريا القديمة لأول مرة، إن لم يكن قبل ذلك، كان ضوء الشمس أساسيًّا
للحياة على سطح الأرض؛ فهو وحده يوفِّر الطاقة التي تُمكِّن النباتات وبعض
البكتيريا من إجراء عملية التمثيل الضوئي؛ ومِن ثم تنمو، وعن طريق تناول النباتات
تستخدم الحيوانات بعضًا من هذه الطاقة في نموِّها وحركتها؛ ومن ثم تَعتمد هي
الأخرى، على نحوٍ غير مُباشر، في بقائها على ضوء الشمس. تكون أشعة الشمس ضرورية
أيضًا لأسباب أخرى؛ فالحرارة التي تُصدرُها تحافظ على بقاء المياه في معظم أنحاء
الكوكب في صورة سائلة، ويُعتبَر الماءُ المذيبَ العالمي الذي تحدُث بداخله كافة
تفاعُلات المادة الحية، ولا تستطيع الحيوانات التي تعيش في درجات حرارة تحت الصفر
البقاء على قيد الحياة إلا لأنَّ الحرارة الناتجة من عملية الأيض لديها تمنع الماء
الموجود في خلاياها من التجمد.
١١
إلا أن أشعة الشمس تَصطدم بالأرض في أثناء النهار فقط، وربما يتساءل البعض عن سبب
عدم انخفاض درجة الحرارة سريعًا في أثناء الليل؛ فهي لا تَنخفض أكثر من ٣٠ إلى ٤٠
درجة مئوية في أحسن تقدير، مقارنة بفارق يزيد عن ألف درجة مئوية على سطح القمر بين
النهار والليل. والسبب الأساسي في هذا هو نفسه الذي يَمنع درجة الحرارة من الارتفاع
كثيرًا طوال النهار؛ فثمة طبقة من الغازات في الغِلاف الجوي تَحمي القشرة الأرضية
من التعرُّض للحرارة والبرودة الشديدتَين، وأهمُّ هذه الغازات هو غاز ثاني أكسيد
الكربون.
١٢ وهذا الاستقرار النسبي في درجة الحرارة، سواء بالقرب من القطبين أو عند
خط الاستواء، هو الذي سمح للحياة بالتطور والاستمرار في هذا.
توجد سمات مشتركة بين التمثيل الضوئي وعملية الإبصار لدى الحيوانات؛ فالرؤية لها
أهمية قصوى في قدرة الحيوانات على البحث؛ فالحيوانات الضريرة، مثل الأسماك
القوبيونية الضريرة «تيفلوجوبيوس كاليفورنينسيس»، التي تَعتمد على جمبري البرغوث
«كالياناسا» ليَحفر لها حفرًا تعيش فيها، لم تُحقِّق نجاحًا كبيرًا في عملية
التطور. من ناحية أخرى، تعتمد حيوانات أخرى، مثل البوم وبعض أنواع
الوطاويط
١٣ التي تصطاد في الليل، على حاسة بصرية حساسة للغاية في العثور على
فرائسها. يمارس الإنسان سعيه، حتى في ظل التكنولوجيا الموجودة حاليًّا، في الأساس
في أثناء النهار؛ فمعظمنا يقضي الليل في النوم. صحيح أن كثيرًا من الحيوانات يُدرك
وجود فريسة (أو مفترس) من الرائحة، كما أن الزواحف، مثل الثعابين، تتمتع بكاشفات
حرارة بالغة الحساسية أيضًا، إلا أن معظم الحيوانات لديها عينان تسمحان لها بالتعرف
على الأشياء كجزء من سعيها للحصول على الطعام والتكاثُر.
لم يشرح كثيرون أهمية الرؤية لسيطرة الإنسان على أشكال الحياة الأخرى بوضوح مثل
جون ويندهام في رواية الخيال العلمي «يوم نباتات التجارِب».
١٤ تمرُّ كرة لهب كبيرة من الفضاء الخارجي بجوار الأرض، فيُعمي ضوءُها
الجميع على الفور، ومع فقدان الناس لقُدرتهم على الرؤية فقدوا تفوُّقهم على
النباتات الضارة، وتمثَّل أحد هذه النباتات في نسخة عملاقة آكلة للبشر من نبات
مصيدة فينوس؛ نباتات التجارِب. انتشرت هذه النباتات سريعًا إذ كانت تَلْتهم
الفاقدين لقدرتهم على الإبصار، الذين لم يتمكَّنوا من تجنُّب الاصطدام بها،
وبالتدريج بدأ البشر يُبادون من على سطح الأرض، ومع ذلك لم ينعدم الأمل؛ فثمة رجل
يَرتدي عصابة كثيفة حول عينيه، كان يُجري عملية في المستشفى في وقت مرور كرة اللهب،
احتفظ ببصره، وكذا بعض الأشخاص الآخرين، بدءوا جميعًا في تدمير هذه النباتات، وهكذا
أُنقذ البشر.
(٣) التمثيل الضوئي
تَستخدم النباتات طاقة الضوء في تصنيع جزيئات عضوية. إنَّ التفاعل الذي يحدث؛
عملية التمثيل الضوئي، هو عكس التفاعُل تمامًا الذي يحدث في عملية التنفُّس، التي
تؤكسد فيها الحيوانات الجزيئات العضوية حتى تحصل على الطاقة اللازمة لحركة العضلات
وتوصيل الأعصاب والنمو والعمليات الأخرى،
١٥ وبعدما تستخدم النباتات طاقة الضوء في تصنيع الكربوهيدرات في أثناء
النهار، تعمل بعد ذلك على أكسدة بعضٍ منها في أثناء الليل، بالطريقة نفسها التي
تستخدمها الحيوانات، المعروفة بالتنفُّس. رغم أن النباتات تحتاج كما يبدو إلى طاقة
أقل مِن تلك التي تحتاج إليها الحيوانات نظرًا لأنها لا تتحرَّك، فإنها تظل بحاجة
إلى قدر منها من أجل النمو وعمليات أخرى؛ مثل تحريك العناصر الغذائية من التربة إلى
الأعلى لتصلَ إلى الأوراق، الذي لا يكون مطلبًا هينًا في حالة شجرة السيكويا التي
يصل ارتفاعها إلى ٣٠٠ قدم.
على الأرجح، يكون ترتيب التغيرات الجزيئية الأساسية في عملية التمثيل الضوئي،
التي تتطلب أكثر من عشرة تفاعلات كيميائية منفصلة، عكس تمامًا التفاعلات المطلوبة
في عملية التنفُّس، لكن الأنزيمات التي تحفز كثيرًا من هاتين المجموعتين من
التفاعلات تكون في الأساس واحدة. في الواقع يَكمُن الاختلاف في اتجاه تدفُّق
المادة؛ تحويل ثاني أكسيد الكربون والماء إلى كربوهيدرات وأكسجين في الحالة الأولى،
وتحويل الكربوهيدرات والأكسجين إلى ماء وثاني أكسيد الكربون في الحالة الثانية.
ويمكن تشبيه الأمر بمقصورتَي سكك حديدية على مسارٍ شديد الانحدار، إحداهما صاعدة
والأخرى هابطة؛ بحيث تحصل المقصورة الصاعدة تدريجيًّا على طاقة كامنة، في حين
تَفقدها الهابطة بالتدريج. ربما يكون مصدر الطاقة الأساسي هو الكهرباء أو ربما يكون
مجرَّد الكتلة، كما في سكة حديد لينتون ولينموث في ديفون الشمالية في إنجلترا؛ إذ
يُضاف الماء إلى خزان تحت المقصورة الموجودة في المحطة العليا التي تقع على جُرف في
لينتون، بقدرٍ يزيد على وزن المقصورة وركابها الموجودة في الأسفل في لينموث. تبدأ
المقصورتان في التحرُّك كل منهما تجاه الأخرى، وعندما تصل المقصورة التي كانت في
الأعلى إلى الأسفل، يُفرَّغ منها الماء وتُكرر العملية. يحرك هذه العملية بأكملها
فقدانُ الماء من القمة، تمامًا كما يُحرِّك فقدان الطاقة الضوئية من الشمس كافة صور
الحياة على الأرض، الذي يكون متناهي الصغر بالطبع مقارنةً بامتصاص المواد الأخرى
لضوء الشمس داخل المجموعة الشمسية.
لا تستطيع الحيوانات استخدام طاقة الضوء في تصنيع الجزيئات العضوية، لكنها تمتصُّ
الضوء وتحوله إلى نبضة تنتقل من الجزء الخلفي من الشبكية في العين إلى مركز الإبصار
في المخ؛ حيث يُسجل الإحساس بالضوء؛ ومن ثم الأشكال. يُشبِه الجزء الأول من هذه
العملية؛ امتصاص الضوء، بطرق كثيرةٍ امتصاصَ النباتات للضوء. يوجد تشابه أكبر مع
نوع معين من الجراثيم؛ وهو نوع من البكتيريا القديمة تُجري عملية التمثيل الضوئي،
تستمد جزءًا من طاقتها من الضوء وجزءًا آخر من أكسدة الجزيئات العضوية. تعيش هذه
البكتيريا في بيئات عالية الملوحة، مثل الموجودة في البحيرة المالحة الكبرى في
يوتاه، والبحر الميت الذي يقع بين إسرائيل والأردن؛ ومن ثم تُسمى أليفة المِلح
(محبة للملح)، ومن الأمثلة النموذجية على هذا النوع بكتيريا الملحاء العصوية
الملحية.
في هاتين الحالتين — الحيوانات وبكتيريا الملحاء العصوية الملحية — يُسمَّى
الجزَيْء الحساس للضوء رودوبسين. يتكون هذا الجزَيْء من وحدتين؛ جزَيْء صغير يُسمى
رتينول يشبه في تكوينه فيتامين «أ» (المُشتَق منه)، وبروتين يُدعى أوبسين. يرتبط
الرتينول بالأوبسين تمامًا مثلما يرتبط الهيم ببروتين الجلوبين في جزَيْء
الهيموجلوبين. إن التركيب الكيميائي لصورته المُتأكسِدة — الريتينال — يُمَكِّنه من
امتصاص الضوء، وعند فعل هذا يتغير شكله (ولونه) قليلًا. يُحدث هذا التغيير تحولًا
طفيفًا في تركيب الأوبسين. في حالة بكتيريا الملحاء العصوية الملحية، يبدأ التغير
التركيبي سلسلة من التفاعلات الجزيئية التي تنتهي بتصنيع جزَيْء محوِّل للطاقة؛
ثلاثي فوسفات الأدينوسين، الذي يُستخدم في كلٍّ من نمو البكتيريا وقدرتها على
السباحة نحو مصدر الضوء. في شبكية العين عند الحيوان، يؤدِّي التغير في الأوبسين
إلى إرسال نبضة كهربائية إلى المخ. هذه النبضة تُشبه تلك التي تَصدُر من اللمس أو
الحرارة أو الصوت أو الرائحة؛ فلا يُصنَّع ثلاثي فوسفات الأدينوسين على الإطلاق.
على العكس، فإن ثلاثي فوسفات الأدينوسين يُستهلك في أثناء عملية توصيل العصب. ومن
الواضح أن الأوبسين لدى الحيوانات ليس مطابقًا للموجود في بكتيريا الملحاء العصوية
الملحية، لكن بينهما من التشابه ما يَكفي لجعلهما يؤديان الوظيفة نفسها المتمثِّلة
في تحويل نبضة ضوئية إلى تفاعل كيميائي.
لا تستخدم النباتات والبكتيريا الأخرى التي تقوم بعملية التمثيل الرتينول الموجود
لدى الحيوانات أو بكتيريا الملحاء العصوية الملحية في جمع الضوء؛ ففي النباتات
تتمثَّل صبغات امتصاص الضوء الأساسية في الكلوروفيل والكاروتين واللوتين، التي
يرتبط كلٌّ منها ببروتين يترجم طاقة الضوء إلى طاقة كيميائية (في شكل ثلاثي فوسفات
الأدينوسين)؛ نظرًا لانفصال البكتيريا القديمة منذ أكثر من ٧٠٠ مليون سنة قبل ظهور
الجدِّ المشترك للنباتات والحيوانات في الحياة، فإن امتلاك بكتيريا الملحاء العصوية
الملحية للرودوبسين أمرٌ شاذٌّ. يقدِّم هذا مثالًا على التطور التقاربي أكثر من
التطور التباعدي. المهمُّ هنا أن الوظيفة العامة — المتمثِّلة في القدرة على امتصاص
الضوء وإحداث تفاعُل كيميائي — تكون واحدة في الأساس في النباتات، وفي البكتيريا
المستخدَمة للتمثيل الضوئي، وفي أعين كل نوع من الحيوانات بما في ذلك
الإنسان.
بالطبع يؤدِّي كثير من الجزيئات وظيفة مشابهة في عدد من الكائنات، ويُعتبر ثلاثي
فوسفات الأدينوسين أحد الأمثلة على هذا؛
١٦ فجزَيْء ثلاثي فوسفات الأدينوسين يوجد بالصورة نفسها لدى الجراثيم
والنباتات والحيوانات، كما أن البروتينات المستخدَمة في العمليات المتنوعة لتحويل
الطاقة، حتى إن لم تكن مُتطابقة فيوجد بينها من التشابه ما يمكنها من أداء الدور
نفسه في كافة الكائنات؛ وبهذا يتَّضح السبب وراء وجود هذا القدر من التشابه بين
جينوم الجراثيم والنباتات والحيوانات.
حتى نتعرَّف جيدًا على التغيرات الجزيئية التي تشكِّل الاستجابة الضوئية لدى
النباتات، نحتاج إلى أن نذكِّر أنفسنا ببعض العمليات الفيزيائية والكيميائية التي
تَكمُن وراء امتصاص الكائنات الحية للضوء.
١٧ يمتصُّ الرودوبسين موجات ضوء يتراوح طولها بين ٤٥٠ و٦٠٠ نانومتر، في
منتصَف الطيف الضوئي، تكفي لتحفيز استجابة لدى بكتيريا الملحاء العصوية الملحية أو
في شبكية الحيوانات، لكنها لا تفسِّر كيف تتمكن الحيوانات أيضًا من تمييز لون عن
الآخر. في الواقع كثير من الحيوانات لا يستطيع فعل هذا، ويتمثل السبب في قدرة
الرئيسيات، مثلنا نحن البشر، على معرفة أن هذا الضوء أزرق أو أخضر أو أصفر أو أحمر
في امتلاكنا، بالإضافة إلى مُستقبِل الرودوبسين الذي يحتوي على الرتينول، لجزيئات
تمتصُّ ضوءًا بأطوال موجات أخرى؛ فيمتص جزَيْء ضوءًا بحدٍّ أقصى ٤٢٠ نانومترًا،
ويمتص جزَيْء آخر ٥٣٠ نانومترًا، ويمتص ثالث ٥٦٠ نانومترًا، وتُمكِّننا هذه
الجزيئات معًا من تمييز لون عن آخر.
١٨
لا تَستخدم النباتات ضوء الشمس في عملية التمثيل الضوئي فقط؛ فهي تبحث عنه بنشاط
يشبه حماس الذين يَحصلون على حمام شمسي على شواطئ البحر المتوسِّط. تفعل النباتات
هذا بطريقتين؛ الانتحاء الضوئي والانتحاء الشمسي. لا تقدِّم هاتان الكلمتان معنًى
دقيقًا عن التغذية (الانتحاء) بفعل الضوء أو الشمس؛ ففي كلتا الحالتين يكون الضوء
الموجود في البيئة الطبيعية هو ضوء الشمس (شكل
٣-١). تُستخدم
كلمة الانتحاء الضوئي في وصْف عملية «نمو» النباتات نحو الضوء، في حين تُستخدم كلمة
الانتحاء الشمسي في وصف عملية «اتجاه» النباتات نحو الضوء. بالنسبة للنبات يكون
إدراك الضوء في أهمية الرؤية للحيوان؛ فهو يخبر النبات بمكانها في الفراغ (في الظل
أو في مساحة مفتوحة) وبالوقت (ظلام الليل أو ضوء النهار).
(٤) الانتحاء الضوئي
تتحكَّم عدة آليات في عملية الانتحاء الضوئي؛ في وقت مبكِّر يرجع إلى عام ١٨٨١
أظهر تشارلز داروين أن الاستجابة الكبرى في النبات تكون عند النهاية الزرقاء في
الطيف الضوئي، ومضت أكثر من ١٠٠ سنة قبل اكتشاف المستقبِل الضوئي الأساسي فيها؛ وهو
عبارة عن مكوِّن حسَّاس للضوء متَّصل ببروتين، تمامًا مثل الرودوبسين، وأُطلق على
هذا المركب اسم فوتوتروبين.
١٩ أما الجزء الحساس للضوء فهو عبارة عن جزَيْء أصفر يُدعى
فلافين.
٢٠ يحوِّل جزء البروتين تأثير الضوء على الفلافين إلى استجابة جزيئية،
تؤدِّي في النهاية إلى النمو في اتجاه الضوء.
٢١ تُسمى مجموعة أخرى من البروتينات الحساسة للضوء الأزرق
كريبتوكروم.
٢٢ إنها تحتوي على المكوِّن نفسه الحساس للضوء، الفلافين، مثل
الفوتوتروبين، لكن الأجزاء البروتينية فيها تكون مختلفة. تلعب الكريبتوكروم دورًا
كبيرًا في ضبط الدورات اليومية للنباتات.
يوجد مستقبِل ضوئي آخر يُشارك في الاستجابة الانتحائية الضوئية للنباتات يتكون من
مجموعة من البروتينات تُدعى فايتوكروم،
٢٣ ويتمثل الجزء الحساس للضوء في جزَيْء يُدعى فيتوكروموبيلين، لا يُمتصُّ
الضوء عند النهاية الزرقاء من الطيف الضوئي مثل الفوتوتروبين أو الكريبتوكروم،
وإنما عند النهاية الحمراء؛ بين ٦٠٠ و٧٠٠ نانومتر. يرجع السبب في هذا إلى أن الضوء
الذي ينعكس من أوراق إحدى الأشجار على أوراق شجرة مُجاورة لها يكون في الغالب ضوءًا
أحمر (ولهذا تبدو الأوراق خضراء اللون)، يعمل الفيتوكروم على تحقيق أقصى امتصاص
ممكن للضوء في ظُلة الغابة عن طريق دفع إحدى الشجيرات أو الأشجار إلى النمو بعيدًا
عن النباتات المُجاورة له، مثل الاستجابة التي يُحدثها الفوتوتروبين؛ فهو رد فعل
«تجنب الظل». ومثلما يحدث مع الفوتوتروبين، توجد نتائج إضافية لتفعيل الفوتوكرومات؛
منها تسريع الإزهار والإنتاج المبكِّر للبذور؛ فالفوتوكرومات هي التي تُخبر النبات
بمكانه مقارنةً بالنباتات الأخرى.
بعدما تعرفنا على التكوينات الجزيئية في النباتات التي تَستشعِر الضوء، سنستعرض
بإيجاز العمليات التي تؤدِّي من خلالها هذه المستقبِلات الضوئية إلى تكاثُر الطرف
النابت للنبات في اتجاه الضوء، بعيدًا عن الظل. يتمثَّل أحد المُكوِّنات المهمة في
هرمون نباتي يُدعى أوكسين. يتسبَّب هذا الهرمون في زيادة طول الخلايا التي يفوق
تركيزه فيها أقصى مقدار له. توجد هذه الخلايا في الجزء البعيد عن الشمس في الطرف
النابت، إلا أن المستقبِلات الضوئية التي تَستشعِر الضوء، سواء كان الضوء الأزرق
الساقط على الفوتوتروبين أو الضوء الأحمر المنعكس الذي يصطدم بالفيتوكرومات، توجد
على الجانب المضيء من الطرف النابت. ينتج عن تفعيل الفوتوتروبين والفيتوكروم تقليل
تركيز الأوكسين، ونتيجةً لهذا يوجد مقدار أكبر نسبيًّا من الأوكسين في الخلايا على
الجانب البعيد عن الشمس في الطرف النابت من الموجود على الطرف المضيء؛ ومن ثم فإن
هذه الخلايا هي التي يزيد طولها. ونظرًا لأنَّ انقسام الخلية يَحدث في الوقت نفسه
في الخلايا التي زاد طولها والأقصَر منها، ونظرًا لعدم قدرة الخلايا المتجاورة على
الانفصال بعضها عن بعض، تكون النتيجة النهائية انحناء الطرف النابت بعيدًا عن
الخلايا الأطوَل، بعبارة أخرى: بعيدًا عن الظل وفي اتجاه الضوء.
(٦) الدورات اليومية
تُشبه النباتات الحيوانات في قيامها بأفعال متكرِّرة يوميًّا، فكما ذكرنا مسبقًا،
في أثناء ساعات النهار تجري عملية التمثيل الضوئي، وفي الليل تُحوِّل جزءًا من
الكربوهيدرات التي صنعتها مرةً أخرى إلى ثاني أكسيد الكربون وماء في عملية
عكسية.
٢٥ في أثناء النهار تُفتَح كثير من الأزهار، وفي الليل تُغلَق. تتطلَّب
الآلية التي تستخدمها النباتات في استشعار وجود ضوء النهار الكريبتوكرومات. يؤدِّي
المحتوى البروتيني للمستقبلات الضوئية هذه عدة وظائف، أهمها «ضبط» الساعة
البيولوجية. لن أتطرَّق إلى التفاصيل، ولكني سأُشير إلى وجود الكريبتوكرومات لدى
الحيوانات أيضًا، فاتَّضح حتى الآن وجود الجينات التي تحدِّد شفرات هذه العائلة من
البروتينات لدى ذبابة الفاكهة والفئران والبشر، ولا شك أنها توجد لدى كافة
الحيوانات التي تظهر في دوراتٍ يومية.
توجد الكريبتوكرومات، مثل الرودوبسين ومستقبلات رؤية الألوان، لدى الحيوانات في
الشبكية، التي تنقل منها رسائل جزيئية من خلال تفعيل جينات معينة وإيقاف عملها.
يوجد المركز المتحكِّم بالكامل في الدورات اليومية داخل الوطاء، وهو جزء متخصِّص
داخل المخ. يَعمل هذا المركز على تفعيل ساعة تعمل على مدار ٢٤ ساعة، ويُضبط التأثير
البصَري الواقع على الشبكية هذه الساعة وفقًا لفترات النهار والليل. وعندما ينتقل
حيوان أو إنسان إلى مِنطقة زمنية مختلفة، فإن الإشارات التي تَنتقل من الكريبتوكروم
في الشبكية إلى مِنطقة الوطاء تعمل على إعادة ضبط الساعة،
٢٦ وتُعتبر الدورات اليومية مثالًا آخر على الاستجابة الجزيئية للضوء التي
ورثها الإنسان من النباتات القديمة.
(٨) وحدة الجزيئات
شرحتُ عملية البحث عن وسائل النمو التي تتبعها الكائنات التي ننحدرُ منها، سواء
أكانت هذه الوسائل جزيئات الضوء أم الجزيئات العضوية. بقيَتِ الجزيئات المستشعرة
للضوء مثل الريتينول والفلافين طوال عملية التطور، وانطبق الأمر نفسه على كثير من
البروتينات. يوجد داخل البروتين الضوئي للنباتات تسلسُلٌ من نحو ٢٧٠ حمضًا أمينيًّا
توجد أيضًا في بروتينات كائنات أخرى. في حالة البكتيريا التي تنفِّذ عملية التمثيل
الضوئي، التي يرتبط فيها بروتين يحتوي على التسلسل المكوَّن من ٢٧٠ حمضًا أمينيَّا
بالفلافين كما في حالة الفوتوتروبين، تكون نتيجة تفعيل الفوتوتروبين بفعل الضوء
حركة الكائن نحو مصدر الضوء. أما في حالة البكتيريا التي لا تقوم بعملية التمثيل
الضوئي، فإنَّ هذا التسلسُل من ٢٧٠ حمضًا أمينيًّا نفسه يُشارك في استجابتها لمصدر
الطعام؛ الجزيئات العضوية والأكسجين.
إن البكتيريا ليست هي الكائنات الوحيدة التي تَستشعر الأكسجين؛ فالحيوانات تستجيب
لتركيز الأكسجين في أنسجتها،
٣٦ وهي أيضًا لديها بروتينات تحتوي على تسلسُل من ٢٧٠ حمضًا أمينيًّا.
يستجيب بعضٌ من هذه البروتينات لتركيز الأكسجين، بينما تتأثَّر أخرى بفرق الجهد على
امتداد غشاء خلاياها، فتلعب قدرة الغشاء دورًا مهمًّا في نقل النبضات العصبية من
مِنطقة لأخرى في الجسم؛
٣٧ لهذا السبب يُطلق على التسلسل المكوَّن من ٢٧٠ حمضًا أمينيَّا لجزَيْء
الفوتوتروبين الشائع لدى البكتيريا والنباتات والحيوانات اسم نطاق «إل أوه في»؛
بمعنى القادرة على استشعار الضوء والأكسجين والجهد، ومؤخرًا استُبدل بهذا الاختصار
حروف «بي إيه إس».
٣٨
يشتمل المحتوى البروتيني للفيتوكرومات أيضًا على نطاق بي إيه إس، ولا يقتصر هذا
فقط على الفيتوكروم الموجود في النباتات والبكتيريا التي تقوم بعملية التمثيل
الضوئي، وإنما يوجد أيضًا في بروتينات البكتيريا والفطر التي لا تقوم بعملية
التمثيل الضوئي؛ حيث يَستشعر نطاقُ بي إيه إس المكونات العضوية؛ كلًّا من العناصر
الغذائية والسموم، بالإضافة إلى درجة الحرارة ودرجة الحموضة والظروف البيئية
الأخرى. حتى الآن لم تَردْ تقارير عن وجود البروتينات التي تشبه الفيتوكروم لدى
الحيوانات، لكن بما أننا تمكَّنَّا حتى الآن من تحديد تسلسل الجينوم لأربعة
حيوانات؛ دودة تُسمى الربداء الرشيقة، وسمكة دانيو مخطَّط، والفأر، والإنسان، أصبح
من المُمكن اختبار مثل هذا الاحتمال.
لقد تعرَّفنا إجمالًا على أكثر من ٢٠٠ بروتين تحتوي على نطاق بي إيه إس،
٣٩ وتكون عواقب تفعيل هذه البروتينات واحدة، سواء كانت تؤدِّي وظيفتها في
بكتيريا أو نباتات أو حيوانات. في كل حالة يَرتطم محفِّز بمُستقبِل يُكوِّن
البروتين الذي يحتوي على نطاق البي إيه إس. قد
يكون هذا المحفِّز ضوءًا (وهو الذي يَستشعر وجودَه مبدئيًّا في هذه الحالة
المكوِّنُ المستقبِل للضوء) أو أيِّ حالة من الحالات التي ذُكرت للتوِّ، وربما تظهر
مع ذلك محفزات إضافية؛ ومن ثم يتبع ذلك تغيُّر طفيف في شكل بروتين بي إيه إس. في
بعض الحالات يعمل بروتين بي إيه إس مثل الإنزيم؛ فيُضيف مجموعة فوسفات إلى بروتين
آخر، يُدعى المستقبِل. في حالات أخرى يرتبط بروتين بي إيه إس المفعَّل ببساطة
بالمستقبِل. في كلتا الحالتَين يتعرَّض المستقبِل الآن إلى تغير طفيف في الشكل،
ويبدأ الاستجابة الحيوية. يلعب مثلُ هذا التفاعل بين بروتين وآخر دورًا مهمًّا في
نقل كلِّ نوع من الإشارات الحيوية فعليًّا. في كثير من الحالات يُشكِّل تفعيل جينات
معيَّنة أو إيقافها، ومن ثم تغيير تركيز البروتينات المتعلِّقة بها، أساسَ هذه
الاستجابة. وفيما يخصُّ علاقة هذا بالآليات التي تنفِّذ بها الكائنات عمليات بحثها
عن الضوء والعناصر الغذائية باستخدام الرؤية، فإنَّ نطاق بي إيه إس يمثِّل تكوينًا
جزيئيًّا يَكمُن في صلب موضوع هذا الكتاب؛ شيوع السعي بدايةً من الجراثيم حتى
الإنسان.
خاتمة
تظهَر بوضوح الميزة الجينية للقدرة على الاتجاه نحو الضوء، عندما تكون أشعة الشمس
هي المصدر الوحيد الذي تُستمدُّ منه الطاقة، فستنمو النباتات التي لديها القدرة على
تنفيذ الانتحاء الضوئي والانتحاء الشمسي أكثر من مثيلاتها التي تَفتقر إلى هذه
الآليات، فتنمو أسرع، وتُنتج المزيد من الأزهار والبذور؛ ومِن ثم تتنافس بنجاح أكبر
على الضوء والمساحة. وكذلك فإن الجراثيم التي يُمكنها استشعار مصدر الغذاء أو الضوء
ثم دفْع نفسها في اتجاهه تتفوَّق في التكاثر على تلك التي لا تُنمي لديها هذه
القدرات جيدًا. وفي كلِّ حالة تؤدِّي سرعة النمو والتكاثُر إلى احتفاظٍ انتقائي
بالجينات المناسبة. ينطبق الأمر نفسه على الرؤية؛ فالحيوانات التي تتمتَّع بقدرة
أفضل على لمح المُفترِسات أو الفرائس تكون فرصتُها للبقاء على قيد الحياة أفضل من
التي تعاني من ضعف في حاسَّة البصر، وتمثِّل القدرة على رؤية الألوان الموجودة لدى
الرئيسيات ميزةً إضافية. إنَّ حقيقة وجود تشابه بين البروتينات التي تكمن وراء
القدرة على إدراك الضوء، من بكتيريا الملحاء العصوية إلى نبات الكركديه، ومن سمك
الرنجة حتى الإنسان، توضِّح شيوعَ السعي بين الكائنات.
يُمكن تفسير كافة الآليات التي شرحتُها تقريبًا على أنها استجابات سلبية
لمحفِّزات معينة، مثل الضوء والطعام، وأنها لا تمثِّل بحثًا نشطًا بمعنى ما تقوم به
الحيوانات والإنسان، لكنَّنا يجب ألا نتقيد بكلمات مثل نشط وسلبي التي أصبحت مرتبطة
بأفعال عالم الحيوان، فهل يُمكننا بالفعل وصف التقاط مصيدة فينوس (خناق الذباب)
لذبابة بأنها عملية سلبية؟ تذكَّر أن هذا النبات لا يصدُّ فحسب هجمات الذباب، وإنما
ينقضُّ عليه تمامًا مثلما ينقضُّ أسد على غزال، ولا يحفِّز أي جماد، مثل حصاةٍ
صغيرة أو فرع شجرة، عملية الاصطياد هذه؛ فيُميِّز النبات بين الأشياء الحية
والميتة؛ فهو مفترس أصيل آكل للحم يبحث عن فريسته. ربما تُجيب عن هذا بأن الأسد
يبحث فعليًّا عن فريسته قبل الانقِضاض عليها، لكنَّ الذبابة لن تأتي لتَرتاح على
إحدى أوراق النبات إن لم يُفرز النبات في المقام الأول رحيقًا يَجذبها. يذهب نوعٌ
فريدٌ من نبات جرة بورنيو، النابنط أبيض الحواف، إلى أبعد من هذا؛
٤٠ فعلى العكس من أنواع النابنط الأخرى، يميِّز النابنط أبيض الحواف بين
مصادر الطعام؛ فلا يمسُّ النمل أو الخنافس أو الذباب، بينما يفترس النمل الأبيض
بالآلاف في مرة واحدة. كيف يستطيع النبات فعل هذا؟ هذا لأنه يقدِّم للنمل الأبيض
مصدرًا من الغذاء لا يَستطيع مقاومته، على عكس الحشرات الأخرى؛ شعيرات الحافة
البيضاء الموجودة في ملامظ أو «فم» النبات. بعد تناول هذه الشعيرات يَفقد النمل
الأبيض توازنه ويُصبح غير قادر على التسلُّق خارج النبات؛ فيَسقط داخل وعاء النبات
وتهضمه إنزيمات النبات القوية. بعبارة أخرى: يبادل نبات الجرة بعضًا من شعيراته في
مقابل وجبة مُغذية من النمل الأبيض.
من وجهة نظر اختزالية، تلك التي يحب
العلماء مثلي رؤية العالم من خلالها، يُصبح الاختلاف بين الأفعال النشطة والسلبية،
والاستجابات الإرادية واللاإرادية غير واضح. أنا لا أنكر وجود إرادة حرة؛ فنحن
نَشترك مع معظم الحيوانات في اختيارنا للأفعال التي نقوم بها. ما أتحدث عنه هو
التفاعُلات الجزيئية التي تكمن وراء هذه الأفعال، التي يتطلَّب كثير منها استخدام
نطاق بي إيه إس نفسه الموجود داخل البروتينات ذات الصلة. إن النبات يشعر بالضوء
وينمو في اتجاهه، وتحدث هذه الاستجابة بفعل نوع مِن الجزيئات (الأوكسين). كما يَشعر
الطير ببزوغ الفجر ويستيقظ، وتحدث هذه الاستجابة بفعل هرمون آخر (الميلاتونين) الذي
يُشارك في عملية الدورات اليومية. أما الشمبانزي والإنسان فيبدآن بحثهما عن الطعام
عند شعورهما بالجوع، وتحدث هذه الاستجابة بسبب حدوث تغيُّر في تركيز جزَيْء يُسمى
اللبتين. تبحث الحيوانات والبشر عن زوج، وتحدُث هذه الاستجابة بفعل هرمونات
(التيستوستيرون لدى الذكور، والإستروجين لدى الإناث). حتى البحث المدفوع بالفضول
لدى الإنسان يكون في الغالب لا إراديًّا؛ فبعض الناس لا يستطيعون التحكُّم في
رغبتهم في حلِّ أُحجية الكلمات المتقاطعة بمجرَّد فتح جريدة أو مجلة، بينما يبحث
آخرون آليًّا في جيب كل ما يَرتدونه عندما يُدركون أنهم لم يرَوْا مستندات سفَرهم
منذ فترة (وتكون في حافظة نقودهم في النهاية)، بينما يضغط البعض تلقائيًّا على كل
قناة في التليفزيون بمجرَّد دخولهم إلى إحدى الغرف في فندق،
٤١ في حين يُجبِر آخرون أنفسهم على أن يستعرضوا في أذهانهم كل سؤال محتمَل
يمكن أن يُطرَح عليهم في مقابلة الغد (ولا يتمكَّنون من الحصول على قسط مناسب من
الراحة في هذه الليلة نتيجة لذلك). هل تختلف حقًّا استجابات البشر للمحفِّزات عن
استجابات النباتات؟