(٢-١) أساليب التأريخ
كيف يُحدَّد عمر قطعة من العظام أو أداة حجرية؟ في حالة البقايا المتحجِّرة
يُحدد عادةً تاريخ الطبقات الصخرية المحيطة بها أو الحجر الجيري الذي عُثر على
العيِّنة فيه، وليس الحفريات نفسها، فمع ترسُّب الغبار والنباتات الميتة على
الأرض، تصبح بعض البقايا الحيوانية متحجِّرة، شريطة ألا يحركها شيء من مكانها،
ثم تتكون طبقة جديدة فوقها، وهكذا. يحدث تحجر الحفريات، الذي يحفظ الكائنات
النافقة، نتيجةً للأملاح المعدِنية الموجودة في المياه التي تجري فوق سطح
الأرض، ومع تبخُّر المياه، تترك وراءها طبقة بلورية تحتفظ بشكل البقايا العضوية
مثل العظام. هذا وقد عُثر على معظم حفريات الإنسان الأول على طول مجاري الأنهار
أو في كهوف؛ بينما الجُثث التي تُترك في الأراضي المفتوحة لا تظلُّ في مكانها
فترة طويلة تسمح لها بالتحجر.
أما البقايا العضوية التي تحتوي على الكربون، مثل الخشب (الذي ربما استُخدم
في صنع إحدى الأدوات)، أو الفحم (من الحرائق)، أو العظام (من بقايا الهياكل
العظمية)، أو الأصداف (من الحيوانات البحرية والأرضية)، أو الخث (من النباتات
السابقة)، فيمكن تحديد تاريخها من خلال قياس نسبة أحد النظائر المشعة للكربون،
ويطلق عليه الكربون
١٤ ومقارنته بنسبة النظير
المستقر الكربون
١٢، الموجودة بها.
٨ وعندما تكون النباتات والحيوانات على قيد الحياة، فإن نسبة الكربون
الموجود في صورة كربون
١٤ تعكس النسبة الموجودة في
الجو المحيط. يرجع هذا إلى أن محتوى الكربون
١٤ في
ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء يعادل ثاني أكسيد الكربون الموجود داخل
خلايا النباتات والحيوانات الحية. عند نفوق هذه النباتات والحيوانات، يتوقف هذا
التوازن وتقلُّ نسبة الكربون
١٤ تدريجيًّا مع تحلُّل
النظير المشع؛ فكلما قلت نسبة الكربون
١٤ الموجودة،
زادت الفترة التي مرت على وفاته. يمكن استخدام هذه الطريقة في تأريخ أشياء
يتراوح عمرها بين ٢٠٠ سنة إلى ٥٠ ألف سنة، بهامش خطأ من ١ حتى ٥٪؛ ومن ثم
بالنسبة لشيء يؤرَّخ عمره بخمسين ألف سنة، تتراوح نسبة الدقة من ٥٠٠ إلى ٢٥٠٠
سنة زائدة أو ناقصة. إلا أنَّ عملية التأريخ بالكربون لا يَصلح استخدامها
لأشياء يصل عمرها إلى مليون سنة أو أكثر، وكذا لا يمكن استخدام تحليل الدي إن
إيه، بفرض إمكانية فصل عيِّنة مناسبة؛ إذ يُصبح الجزَيْء غير مستقر بعد نحو ١٠٠
ألف سنة،
٩ رغم أن التحلُّل الذي يحدث بفعل الإنزيمات عقب الوفاة لا يَترك
عادةً إلا قدرًا قليلًا من المادة السليمة لتحليلها على أيِّ حال.
فيما يتعلَّق بالصخور التي تحتوي على الحديد، فيُمكن تأريخها من خلال تحديد
اتجاه المجال المِغناطيسي داخل العينة؛ والسبب في ذلك أن المحور المِغناطيسي
للأرض يغيِّر الاتجاه في كل مرة يتغير فيها مكان الحديد المنصهر الموجود عميقًا
داخل الأرض، ومِن خلال معرفة متى تحدث مثل هذه التغيرات في المحور المِغناطيسي،
ومن خلال قياس الاتجاه داخل عينة من الصخور، يمكن تأريخ هذه العينة في حدود
«إطار» زمني معين،
١٠ ومن أجل تحديد الإطار المعين الذي حدث فيه حفظ الصخرة، يجب تطبيق
أساليب تأريخ أخرى. وإحدى هذه الطرق التي لاقت قبولًا، وتكون مفيدة في الفترات
الزمنية منذ نحو ٣٠٠ ألف سنة حتى أكثر من ١٠ ملايين سنة مضت، تعتمد أيضًا على
تحلُّل نظيرٍ مُشعٍّ، لكنه في هذه الحالة نظير البوتاسيوم
K.
١١ توجد طريقة أخرى لقياس الإشعاع، تغطِّي الفجوة بين التأريخ
بالكربون المشع (المفيد حتى ٥٠ ألف سنة مضت) والتأريخ بالبوتاسيوم المشع
(المفيد من ٣٠٠ ألف سنة مضت فصاعدًا)، تعتمد على نسبة
اليورانيوم
٢٣٨ المشع إلى
اليورانيوم
٢٣٥ المستقر في قطع الصخور التي
تحتوي على اليورانيوم (سيتذكَّر القارئ أن فصل
اليورانيوم
٢٣٨ عن هذه المواد الخام هو الذي
أدَّى إلى إنتاج أول قنبلة نووية في عام ١٩٤٥)، ومع تحلُّل
اليورانيوم
٢٣٨ يترك أثرًا في عينة الصخور، يكون
طول هذا الأثر معبِّرًا عن مقدار اليورانيوم
٢٣٨
الذي كان موجودًا عند حفظ الصخرة. تُعتبر الطريقتان المستخدمتان في قياس
الإشعاع اللتين شرحناهما للتو فعالتان إلى حدٍّ كبير في تأريخ الصخور في
المناطق ذات النشاط البركاني العالي (الذي يُعاد معه في كل مرة ضبط «الساعة»
إلى صفر). ونظرًا لأن هذه المواصفات تَنطبق على مِنطقة الوادي المتصدِّع
الكبير، فإن هذه الطُّرق أثبتَت فاعليتها في تأريخ طبقات الصخور التي عُثر فيها
على معظم بقايا حفريات الهومو وأسلافه.
تعتمد الطرق المذكورة
١٢ على تحليل عينة فعلية، وبدلًا من ذلك، يُمكن الاستدلال على التاريخ
الذي ظهر فيه أي كائن حي لأول مرة من التحليل الجزيئي لذريته. وتتمثَّل إحدى
طرق فعل هذا في تحليل امتدادات الدي إن إيه. وثمَّة طريقة أخرى تتمثل في تحديد
تسلسل بروتينات معينة. وتوجد طريقة ثالثة؛ وهي طريقة التهجين المشروحة في الفصل
الثاني (الهامش ٢٦). تعتمد كل طريقة على مقارنة دي إن إيه أو بروتين أحد
الأنواع بالخاص بنوع آخر، وكلما زاد اختلافهما، زادت الفترة التي مضت على
انفصالهما. ونظرًا لأن الاختلافات تكون بسبب الطفرات، يُمكن لمعرفة نسبة حدوثها
أن تعطي المرء نطاقًا زمنيًّا فعليًّا، ومن خلال طرح افتراضات معينة، هذا
بالضبط ما تمكن العلماء المتخصِّصون في الجزيئات من فعله. وكان ثمة تشابه ملحوظ
بين النتيجة، التي رُسمت في شكل شجرة ذات أغصان تعبر عن التفرُّعات داخل
المملكة، والشعبة، والفئة، والرتبة، والفصيلة، والجنس، والنوع، وأشجار الحياة
التي رُسمَت منذ ١٠٠ سنة اعتمادًا بالأساس على الحدس وحده. في كلا النوعين يوجد
الإنسان العاقل في القمة، لكن إذا كانت نهاية الفرع من المفترض أن تُشير إلى
مدى حداثة تطوُّر هذا النوع، ألا ينبغي أن يحتل فيروس مثل فيروس العوز المناعي
البشري مركز الصدارة؟
(٢-٣) أنواع الهومو المبكرة
ثمة صفات كثيرة تميِّز الهومو عن أسلافه. على سبيل المثال: شكل الفك
والأسنان، التي كانت أصغر لدى الهومو (أخف وأصغر حجمًا)، والتي كانت أقوى لدى
الأوسترالوبيثكوس (أثقل وزنًا وضخمة). تتمثَّل إحدى الصفات الأخرى في حجم
الدماغ وتعقيده، تلعب هذه الصفة دورًا أساسيًّا في قصتنا؛ فدونها كان الهومو
سيظلُّ مجرد جنس آخر من الرئيسيات، ومع وجودها استطاع صقل قدرة الفضول الفطرية
وتحويلها إلى بحث عقلاني، وهي قدرة بدأت مع أول نوع من أمثاله واستمرَّت في
النمو حتى أصبحت إحدى الصفات المميزة للإنسان في عصرنا الحالي.
توجد لدى ليزلي إيلو، من جامعة لندن، فرضية مثيرة للاهتمام حول تطوُّر دماغ
الهومو، وفي الواقع تطوُّر الهومو نفسه، مفادها أن أحد أشباه البشر (سواء كان
إنسانَ كينيا، أو الأوسترالوبيثكوس أفارينيسيس، أو أيَّ نوع من الرئيسيات
يَثبُت أنه السلف المباشر للهومو)، عثَر مصادفةً على هيكل عظمي لفريسة، ظبي
مثلًا، قتَلها للتوِّ والتهمها أحدُ الحيوانات المفترسة، لم يَعُد يوجد أيُّ
لحم متبقٍّ، لكن انتظر، ربما يوجد في الرأس شيء يُمكن أكله؛ لذا يأخذ قطعة من
الحجارة ليَكسر بها الرأس ويفتحه، وبالفعل يجد بدخلها نسيجًا ليِّنًا يمتصه
بشراهة، تكون هذه أول مرة يتذوَّق فيها اللحم ويُعجب بطعمه؛ فاللحم يُشعره
بالشبع أسرع من الفاكهة والتوت التي اعتاد على تناولها، فيستمرُّ مثل الطير
الجارح في البحث عن الحيوانات النافقة. أدى تحول مجموعة من الرئيسيات هكذا إلى
نظام غذائي عالي الدهون وعالي البروتين إلى زيادة سرعة نموها وتكاثُرها،
وتطوُّر مخها على نحو أفضل؛ مما أدى بدوره إلى صنع أدوات أفضل واستخدامها في
الصيد، الذي أدَّى بدوره إلى الحفاظ على نظام غذائي أغنى، وهكذا؛ ومن ثم يَحدث
التحوُّل من كونها كائنات جامعة للنباتات (رغم أنها كانت على الأرجح تأكل أيضًا
الثدييات الصغيرة والحشرات، تمامًا مثل الشمبانزي في عصرنا الحالي) إلى كائنات
تأكُل كافة أنواع الطعام الذي تجمعه أو تصطاده، وهكذا يحدث تطور كائنات الهومو
من أسلافها المباشرة ببطء.
١٦ لا تعني حقيقة أن بعضًا منا ربما عاد إلى نظام غذائي نباتي صارم
تلف وظيفة أدمغتنا،
١٧ فبمجرد اختيار عملية التطور لوظيفة معينة، تظلُّ موجودة؛ فالجينات
التي تقوم على أساسها هذه الوظيفة لا تحتاج إلى «تغذية» من المحفِّز الأصلي؛
فعلى سبيل المثال، نحن نشترك مع معظم الثدييات غير المُجترة في عدم استخدامنا
للزائدة الدودية، ومع ذلك فإن الجينات المسئولة عن تكوينها لم تختفِ، كذلك توجد
حلمات لدى الذكور من الثدييات، رغم عدم وجود غرض منها.
توجد سمات أخرى تميِّز الهومو عن أقاربه من الرئيسيات، يُمكن أن نذكر من
بينها استخدامه الشائع ليده اليمنى، وحقيقة أنه في المتوسط يكون الذكور أطول من
الإناث، وتعرُّض النساء لسنِّ انقطاع الطمث.
١٨ يتمثَّل أكثر السمات ارتباطًا بموضوع هذا الكتاب في تطور اليد سلسة
الحركة. فمنذ نحو ٢٫٥ مليون سنة تقريبًا، بدأ ظهور الإبهام كامل الدوران. ولا
يسعنا التأكيد بما يكفي على أهمية البراعة اليدوية في تطور الإنسان.
١٩ ونظرًا لكون ٢٫٥ مليون سنة هي أيضًا عمر أقدم المصنوعات الحجرية
التي صنَعها كائن حي، فإن هذا النوع الجديد من الرئيسيات سُمي هومو هابيليس
(الإنسان البارع أو الماهر). هذا وتحدَّد تاريخ نوع آخر من الهومو، ربما مشى
على نحو منتصب أكثر من الإنسان الماهر (الذي كانت قامته أكثر استقامة من
الأوسترالوبيثكوس) وسُميَ الإنسان المنتصب، إلى ما بعد ذلك بنحو نصف مليون سنة؛
أي منذ ١٫٨ مليون سنة مضت. عُثر على أكثر بقايا مُكتملة لهيكل عظمي لفرد من هذا
النوع منذ ١٥ سنة على يد ريتشارد ليكي، ابن عالمَي الأنثروبولوجيا لويس وماري
ليكي، على الضفة الغربية من بحيرة توركانا في شمالي كينيا، ويرجع تاريخها إلى
١٫٥ مليون سنة. عند تجميع أجزاء الجمجمة والعديد من قطع العظام الأخرى، أصبح
واضحًا أن صاحب هذا الهيكل كان صبيًّا، تُوفي تقريبًا في التاسعة من عمره، وقد
أدى صِغر سنه ومكان وفاته إلى إطلاق اسم صبي توركانا على هذه العينة من الإنسان
المنتصب.
على الأرجح تعايَشَ كل من الأوسترالوبيثكوس وإنسان كينيا والهومو معًا في
الوادي المتصدِّع الأفريقي الشرقي، وفي أماكن أخرى لعدة آلاف من السنين. ومن
نوعية الأدوات الحجَرية التي عُثر عليها بجوار بقايا الهياكل العظمية، يبدو أن
بعض الأوسترالوبيثكوس كانت لديهم القدرة على الإمساك بأيديهم بأدوات حجرية
بدائية. إنَّ الاختلاف الوحيد بين الأوسترالوبيثكوس والهومو أن الأول كان
يستخدم فقط ما يجدُه حوله، بينما كان الثاني يُشكِّل فعليًّا الحجارة بحجارة
أخرى؛ ليستخدمها في قطْع أو تقطيع الأغصان واللحم، بالإضافة إلى قتل الفرائس؛
فقد بدأ بذلك بحث الإنسان عن تكنولوجيا جديدة. لكن علينا الاعتراف بأن مُعظَم
التفاصيل بشأن أصلنا قائمة على التكهُّنات إلى حدٍّ كبير.
أولًا: على القارئ أن يعلم أن الربط بين استخدام الأشياء وبقايا هيكل عظمي
معيَّنة عُثر عليها بالقرب منها لا يَعتمد على أكثر من حقيقة أن كلاهما يوجد في
الطبقة نفسها من الأرض أو الصخور تحت سطح الأرض، وكلما زاد عمر العيِّنات، زاد
العمق الذي تُدفَن عليه، كما شرحنا آنفًا.
ثانيًا: إن نسبة بقايا هيكل عظمي — تتمثَّل عادةً فيما لا يزيد عن بعض العظام
وجمجمة إن حالف المرء الحظ — إلى أحد الأجناس، مثل الهومو أو الأوسترالوبيثكوس
أو إنسان كينيا، ناهيك عن نسبتها إلى نوع معيَّن مثل الإنسان الماهر أو الإنسان
المُنتصب؛ ليس علمًا دقيقًا، ويتأثر كثيرًا بتحيز المكتشف. حقَّق المتخصِّص
الكندي في علم التشريح ديفيدسون بلاك، الذي عُيِّن أستاذًا بقسم الأعصاب
والأجنة في كلية اتحاد بكين الطبية المؤسسة حديثًا في عام ١٩١٩، شهرةً واسعة
بعد هذا بثماني سنوات؛ من خلال العثور على سنٍّ واحدة ادَّعى بأنها تنتمي إلى
أقدم حفرية شبيهة بالبشر في آسيا، وأطلَق على صاحبها القديم اسم سينانثروبوس
بيكينسيس أو إنسان بكين. ربما كان محقًّا في افتراضه القدم البالغ، وعُثر على
دستة من العظام المتحجِّرة الأخرى منذ ذلك الحين في المِنطقة نفسها؛ مما دفَع
علماء الأنثروبولوجيا إلى نسبة إنسان بكين إلى نوع الإنسان المنتصب، بعمر يصل
تقريبًا إلى ٥٠٠ ألف سنة. باءت المحاولات الحديثة من حفيد ديفيدسون بلاك لرؤية
عظام إنسان بكين بالفشل. حُفظت العظام في البداية في كلية اتحاد بكين الطبية،
لكن عند غزو اليابان للصين في عام ١٩٣٧ تقرر نقلها إلى مكان آخر لحفظِها في
أمان. يُقال إنها نُقلت إلى السفارة الأمريكية، وكانت ضمن حمولة من الأشياء
التي نُقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك ببضع سنوات، عندما اندلعت
الحرب بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، ومن الواضح أنها لم تَصل إلى
وجهتها قط. ثمة رواية أخرى للأحداث تفيد بأنها أُخذت إلى اليابان بناءً على
أوامر الإمبراطور، لكن مساعي حفيد ديفيدسون بلاك لتحديد موقعها هناك فشلت،
وربما ما زالت في الصين بعد كل هذا، أو ربما يكون شخص ما تخلص ببساطة من
المحتويات المغلَّفة بعناية في صندوق بنِّي صغير؛ اعتقادًا منه بأنها قمامة،
وهو التفسير الأسوأ ولكنه الأكثر احتمالًا. وهكذا أحاط بعظام أقدم إنسان في
الصين الغموض الذي يحيط بلوحة مفقودة رسمها فنان عظيم، أو مخطوطة مفقودة من
مكتبة أحد الأديرة القديمة.
إجمالًا، منذ نحو ٢٫٥ مليون سنة مضت عاشت معًا رئيسيات مختلفة يَتراوح شكل
تكوين هيكلها العظمي بين الشمبانزي والبشر في عصرنا الحالي. ونتيجةً لقدرتها
على الإمساك بأيديها الحجارة والمواد الأخرى التي وجدوها حولهم، تعلَّم بعضٌ من
أشباه البشر الأول هؤلاء صنْع أدوات بدائية. مرَّ أكثر من مليوني سنة قبل ظهور
الإنسان بصورته التي نعرفها الآن. لا يمكن تحديد التواريخ بدقة نظرًا للأسباب
التي ذكرناها بالفعل. على أيِّ حال لا يسع المرء إلا تأريخ الأشياء التي عُثر
عليها، وتوجد ندرة في البقايا، ويكون نسبة شيء من صنع الإنسان، أو بقايا مجزأة
من حيوان مذبوح، أو رسمة على جدار أحد الكهوف، إلى أحد أنواع الهومو؛ معتمدًا
إلى حد كبير على التخمين، خاصةً أن تطور نوع من نوع آخر يكون عملية تدريجية
للغاية، مع استمرار وجود النوعين معًا لوقت طويل؛ ومن ثم يوجد جدل كبير بين
علماء الحفريات البشرية بشأن هوية اكتشافاتهم، ويتجادلون أيضًا، بنفس حدة علماء
اللاهوت في العصور الوسطى، بشأن حقِّ كلٍّ منهم في التنقيب في مِنطقة معيَّنة
على الإطلاق؛ فكانت المكائد والنهب والقضايا التي تدَّعي التعرض لاعتقال غير
قانوني، والحبس ظلمًا، والتعدي البغيض؛ أمورًا شائعة بين صائدي الحفريات في
الصدع الأفريقي الشرقي، فكلٌّ منهم يسعى إلى إفساد مساعي منافسيه بقدر سعيه
لاكتشاف عظام أسلافه.
(٢-٤) أنواع الهومو الحديثة
في أغسطس عام ١٨٥٦، في الوقت نفسه تقريبًا الذي كان تشارلز داروين يضع لمساته
النهائية على كتاب «أصل الأنواع»،
٢٠ تسلَّم مدرِّس في إحدى القرى يُدعى الدكتور يوهان كارل فولروت
جمجمةً وبعض عظام أحد دِبَبة الكهوف؛ فقد عثر العمال الذين يستخرجون الحجارة
على طول ضفاف نهر الدوسل في وادي نياندر، الذي يَصل إلى نهر الراين بالقرب من
مدينة دوسلدورف، على هذه البقايا في أثناء تفجير أحد الكهوف التي تقع على بعد
٦٠ قدمًا فوق النهر. وعلمًا منهم بأن هواية الدكتور فولروت كانت التاريخ
الطبيعي، فكَّروا أنه ربما يهتمُّ بالحصول عليها، وكانوا محقِّين في ذلك. أدرك
هذا المدرِّس على الفور أن هذه العظام لم تكن لدبٍّ، وإنما لإنسان بدائي من
نوعٍ ما، فكانت الجمجمة تشبه جمجمة الإنسان أكثر من أيِّ شيء عُثر عليه من قبل.
في الواقع كان الدماغ أكبر من دماغ الإنسان المعاصر، رغم أن الأجزاء الأخرى
كانت أثقل وزنًا إلى حدٍّ ما. عاد الدكتور فولروت مسرعًا إلى الكهف وبدأ الحفر
فيه من أجل العثور على مزيد من الآثار التي تدلُّ على وجودٍ بشري، لكن في هذا
الوقت كانت أجزاء الحجر الجيري والحُطام طمست كل آثار الساكن السابق لهذا الكهف
الصغير. خمَّن فولروت أنه في سبيله إلى اكتشاف شيءٍ مُهمٍّ واستشار هيرمان
شافهاوزن، أستاذ التشريح في جامعة بون. وافق شافهاوزن على أنَّ العينات يبدو
أنها للقردة العليا (التي تأرَّخت منذ ذلك الحين ﺑ ٤٠ ألف سنة)، وأُعلن
الاكتشاف بعد ٦ أشهر في اجتماعٍ لجمعية التاريخ الطبيعي والطب لدول أسفل الراين
في بون. لم يَنتج عن هذا أيُّ اهتمام أو إثارة كالتي كان إصدار داروين على وشك
إحداثها، وظلَّ اكتشاف فولروت غير ملحوظ لعدد من السنوات.
لم يحدث الربط بين بقايا الهيكل العظمي
التي وصَفها فولروت وشافهاوزن وحفريات أخرى عُثر عليها في أوروبا إلا في وقتٍ
لاحق، ضمَّت هذه الحفريات جمجمةً اكتُشفت في محجر فوربس على صخرة جبل طارق في
عام ١٨٤٨. من البداية، تشكَّك علماء مثل توماس هنري هكسلي في أن هذه الهياكل
العظمية تعبر عن «الحلقة المفقودة» المحيِّرة بين القرد والإنسان، وأكَّدت
اكتشافات تالية في الشرق الأدنى ووسط آسيا وجهة النظر هذه. ومن أجل الإشارة إلى
الاكتشاف الألماني، أُطلق على أشباه البشر هؤلاء إنسان نياندرتال (وتعني كلمة
«تال» وادي بالألمانية)، أو هومو نياندرتالنسيس.
٢١ ظهر هذا النوع من الهومو منذ نحو ٢٥٠ ألف سنة، وظلَّ يعيش حتى وقت
قريب منذ ٣٠ ألف سنة، بعد ظهور الإنسان العاقل، الذي كان في هذا الوقت وصَل هو
نفسه إلى أوروبا. ونظرًا لأن ظهور إنسان نياندرتال تزامَنَ مع العصر الجليدي
الأخير، يوجد سبب جيد للاعتقاد في أن إنسان نياندرتال أتقن فن التدفئة من خلال
الاحتماء في الكهوف، وصنَع ثيابًا من جلود الحيوانات، مثل الثور الأمريكي أو
الدب. لم يُعثَر على أيِّ بقايا لإنسان نياندرتال في شمال الخط الذي يُشير إلى
امتداد سطح الأرض الدائم التجمد في هذا الوقت، كما لم يُعثَر عليه في أفريقيا
ولا في جنوب آسيا، ورغم تحفُّظات بعض علماء الأنثروبولوجيا، توجد أوجه تشابُه
مذهلة بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل لدرجة جعلت كثيرين يَعتبرون الاثنين
شكلين مختلفَين للنوع نفسه (هومو سيبيان نياندرتالنسيس وهومو سيبيان سيبيان).
ويذهب البعض إلى أبعد من هذا، واقترحوا أن إنسان نياندرتال هو سلف الإنسان
الحديث. ومع ذلك تخبرنا الأحياء الجزيئية بقصة أخرى، سنَشرحها بعد قليل.
الواضح لنا أن إنسان نياندرتال كان يمتلك ثلاثًا من الصفات الضرورية للسعي
الإنساني؛ المشية المستقيمة، واليدين ذاوتَي الحركة السَّلسة، ودماغ حجمه
مناسب. لا نعلم ما إذا كانت حنجرته متطوِّرة بالشكل الكافي لتمكنه من الحديث أم
لا. تكمن المشكلة في التشريح التفصيلي للبلعوم؛ وهو الأنبوب الذي يبدأ من آخر
الفم ثم ينقسم: إلى الحنجرة، التي تتنفَّس عبرها الحيوانات بما في ذلك الإنسان،
والمَرِيء، الذي تتم من خلاله عملية البلع لدى الحيوانات بما في ذلك الإنسان.
توجد داخلَ الحنجرة الأحبالُ الصوتية، التي تتكون من غشاءين مَرِنَين يمتدَّان
عبرها من الداخل. يهتزُّ الغشاءان عند خروج الهواء من الرئتين عبرهما؛ مما
يُصدر صوتًا. يعمل هذان الغشاءان إلى حدٍّ ما مثل أوتار الكمان؛ فيُمكن
تقصيرهما وإطالتهما من خلال انقباض وانبساط عضلات متناهية الصِّغَر تتحكَّم
أيضًا في فتح المساحة بينهما وإغلاقها. يُثبِّت هذه العضلات تكوينان غضروفيان؛
الغضروف الدرقي في طرَف، والغضروف الطرجهالي في الطرَف الآخر. إن الوضع الدقيق
لكلِّ هذه القطع من الغضاريف والأنسجة المَرنة والعضلية في الحنجرة هو الذي
يسمح لأحد الكائنات بتعديل الأصوات عبر نطاقٍ هائل من الاحتمالات، بينما لا
يستطيع كائن آخر أكثر من مجرَّد النخير. على عكس العظام، فإنَّ كل التكوينات
التي ذكرناها؛ الغضاريف والنسيج المرن والعضلات، تتحلَّل عند وفاة الحيوان؛ ومن
ثم لا توجد بقايا لها، متحجرة أو غير متحجرة، لتحسم الأمر بشأن امتلاك صاحبها
لأحبال صوتية متطوِّرة أم لا. توجد قطعة صغيرة من العظم (العظم اللامي) تتصل عن
طريق العضلات إلى حدٍّ ما على نحو مختلف بالجزء الخلفي من الفم لدى الإنسان
والشمبانزي، ويُسهم هذا التكوين في قوة الصوت الصادر، حتى إذا كان العظم اللامي
يُكتشف مع العظام الأخرى عادةً، وهو ما لا يحدث بوجه عام، فإن هذا لا يساعد
كثيرًا نظرًا لتشابه شكله كثيرًا لدى النوعين، وستكون أدوات ربطه الخاصة قد
تحلَّلت. ولهذه الأسباب نحن لا نعرف إذا كان الهومو نياندرتالنسيس قد تمتَّع
بالقدرة على الكلام البشري أم لا.
٢٢
بعد مرور بضع مئات الآلاف من السنوات على ظهور إنسان نياندرتال في أوروبا،
وصل نوع جديد من الهومو إلى سهول شرق أفريقيا، كان يسير منتصبًا بسهولة وبإجادة
(نتيجة لتغيرات في الحوض وعظْم الفخذ والقدمين، شكل
٤-١)،
وكان لديه إبهام متحرِّكة وأصابع أقصر (شكل
٤-٢)، سمحت له
بالإمساك بالأدوات على نحو أفضل من أيٍّ من أسلافه، ليس فقط بقبضة القوة
(الإمساك بالشيء بين الإبهام والأصابع المغلقة بإحكام عليها)، بل بقبضة الدقة
الأفضل (الإمساك بالشيء بين الإبهام وأطراف الأصابع المفرودة). الأهم من ذلك أن
دماغه كان أكبر كثيرًا
٢٣ — ثلاثة أضعاف حجم دماغ الأوسترالوبيثكوس جارحي — وتطوَّر لديه
صندوق الصوت الذي تحدَّثْنا عنه للتو (شكل
٤-٣)، الذي
تمكَّن من خلاله الحديث مع الآخرين من نوعه بطريقة أكثر تعقيدًا، وكانت الطبقة
العليا من دماغه، القشرة، تحتوي على عصبونات (خلايا عصبية) أكثر بثلاث مرات من
الموجودة لدى الشمبانزي الحديث (شكل
٤-٤)، فكان أكثر
فضولًا وذكاءً وبراعةً وإبداعًا وطموحًا من أسلافه؛ فكان الكائن الذي نُطلق
عليه حاليًّا اسم الهومو سيبيان، أول ممثِّل للنوع الذي ينتمي له كل البشر
الذين يعيشون على وجه الأرض. يتَّفق الاختلاف الطفيف نسبيًّا بين مشية الإنسان
ويديه وحنجرته ودماغه والغوريلا (شكل
٤-١) أو الشمبانزي
(الأشكال من
٤-٢ إلى
٤-٤) مع تأكيدي
من قبل على غياب جينات خاصة بالإنسان؛ فهذه الجينات هي مجرد أشكال مختلفة
للجينات التي امتلكها السلفُ المشترك للبشر والشمبانزي. وعبر طفرات داخل
امتدادات متشابهة من الدي إن إيه، نتجت بروتينات ذات وظيفة مُعدَّلة؛ فمجرد
تغير في توقيت صنع بروتين معين ربما يكون مسئولًا عن اختلافات، مثل طول أصابع
الشمبانزي والإبهام الطويل لدى البشر.
منذ فترة طويلة أشار علماء الأحياء إلى التشابه بين مراحل تكون الجنين ومراحل
التطور. يظهر هذا على وجه الخصوص في تكون حنجرة الإنسان؛ فحنجرة الطفل حديث
الولادة تكون من نفس نوع حنجرة الشمبانزي؛ فلا تستطيع إلا إصدار أصوات بدائية
ومحدودة، ومع ذلك يُمكنه، مثل الشمبانزي البالغ، البلع والتنفُّس في الوقت
نفسه. منذ بلوغ عام ونصف إلى عامين تقريبًا فصاعدًا يحدث تغيُّر طفيف في حنجرة
البشر؛ فينمو الطرف العلوي تدريجيًّا إلى الأسفل مبتعدًا عن فتحة المريء.
ونتيجة لهذا يكون من الضروري غلق الحنجرة في أثناء بلع مواد صلبة أو سوائل
لمنْع دخولها إلى القصبة الهوائية (ومِن ثم الرئتين)؛ ومن ناحية أخرى يُصبح من
الممكن حاليًّا إصدار تنوعٍ أكبر من الأصوات. تستمرُّ الحنجرة في الانخفاض حتى
تصل إلى موقعها النهائي في سن الرابعة عشر تقريبًا.
٢٤ ونظرًا لوجود تشابه كبير على نحو مذهل بين حنجرة الشمبانزي وحنجرة
الإنسان (انظر شكل
٤-٣)، من المحتمَل أن تكون الجينات التي
تتحكم في تكوينها جميعها أشكالًا مختلفة من جينات كانت موجودةً بالفعل لدى
سلفهما المشترك منذ ٦ ملايين سنة. لم يتطلَّب الأمر أكثر من مجرد تغير طفيف في
بضعة بروتينات، ونتج عنه اختلاف هائل في الوظيفة بين الشمبانزي والإنسان.
توجد نتيجة هائلة لامتلاك صندوق صوتٍ قادر على إخراج كلام، متوافق مع
المعالجة العصبية؛ فكما أشرنا مسبقًا يعتبر علماء أنثروبولوجيا معينون هذا أنه
أهم صفة للبشر. منذ بضع سنوات اكتُشف أنه من ٢ إلى ٥٪ من كل الأطفال يُعانون من
اضطراب حاد في اللغة، فتكون قدرتهم النحْوية ضعيفة للغاية، ويجدون صعوبةً في
نطق الكلمات، ولا تكون لديهم القدرة على التحكم في عضلات فمهم جيدًا. تكون هذه
الحالة وراثيةً، وتستمر طوال الحياة. وتُحدِّد أن جين
FOXP2 هو المسئول عن مثل هذه
الحالة. وأظهرت مجموعة من العلماء من مدينة لايبزيج وأكسفورد أن جين
FOXP2 لدى الشمبانزي والقرود الأخرى يكون
مختلفًا عن ذلك الموجود لدى البشر.
٢٥ لكن كان هذا الجين مُتطابقًا لدى كافة البشر الأصحاء الذين خضعوا
للدراسة، بما في ذلك أفرادٌ من أصول أفريقية وآسيوية وأوروبية وجنوب أفريقية
وسكان أستراليا الأصليين ومن بابوا غينيا الجديدة. بالإضافة إلى هذا، بدا أنه
لم يتعرض لطفرة طوال فترة وجود الإنسان العاقل على وجه الأرض (٢٠٠ ألف سنة).
باختصار، هذا الجين هو أول علامة جزيئية تُكتشف لتطوُّر الكلام واللغة؛ ومن ثم
يُمكن للمرء افتراض أن البروتين الذي يتكون بفعل جين
FOXP2 يكون مختلفًا كثيرًا
لدى الشمبانزي عن البشر.
٢٦ في الواقع، ربما تكون جينات مثل
FOXP2 مسئولةً عن كثير من
التفاوت البالغة نسبته ٥٪ بين جينومات الشمبانزي والبشر. على العكس من ذلك؛
فإنَّ التفاوت في جين
FOXP2 بين الشمبانزي والبشر تصل نسبته فقط إلى
٠٫٠٣٪، كما أنَّ بروتين
FOXP2 يختلف لدى البشر
عن نظيره لدى الشمبانزي بمجرد حمضين أمينيين من إجمالي ٧١٥.
٢٧ فإن التفاوت الأكبر يَحدُث في البروتينات التي تؤدي وظائف متماثلة
في الأساس لدى الشمبانزي والبشر.
٢٨
تتوافق نتائج تحليل بروتينات
FOXP2 بالكامل
مع الفرضية الواردة في الفصل الأول؛ عدم وجود جينات «بشرية» في مقابل جينات
«الشمبانزي»؛ فالاختلاف بنسبة ٥٪ بين الجينومَين المعنيَّين لا يشير إلى وجود
عدد من الجينات المختلفة جوهريًّا لدى الشمبانزي والبشر؛ فربما يقتصر تأثيرها
على إظهار عدد الطفرات «الصامتة» التي تراكمت لدى الشمبانزي والبشر، منذ كان
سلفهما المشترك على قيد الحياة منذ ٦ إلى ٨ ملايين سنة. نحن نضلِّل أنفسنا
بالمساواة بين الفروق الجينية والتغيرات في الوظيفة. إنَّ التشابه بين بروتين
FOXP2 لدى الشمبانزي والبشر يدعم وجهة نظر
حُجَّتي، بارتكاز القدرة المتزايدة لدى البشر على السعي المستمر على تغيرات
طفيفة للغاية، فتمامًا مثلما يرتكز التشابه
بين قدرة الجراثيم والنباتات والحيوانات على البحث على نطاق بي إيه إس، يوضِّح
بروتين
FOXP2 أحد الاختلافات بين قدرة
الشمبانزي والبشر على ممارسة عملية البحث. ستظهر اختلافات أخرى بالتأكيد، خاصةً
مع البدء في عملية تحديد تسلسل جينوم الشمبانزي.
٢٩ ونحن ننتظر بفارغ الصبر عملية تحديد الجينات التطوُّرية المسئولة
عن تكوين الإبهام والحنجرة والتي تُحدِّد عدد عصبونات القشرة الدماغية التي
تُنتَج.
٣٠
من بين الفروق الأربعة التي ركزتُ عليها، ربما تكون طريقة الوقوف أكثرها
تميزًا (قارن بين شكل
٤-١، والأشكال من
٤-٢ إلى
٤-٤). هذا أمر متوقَّع؛ نظرًا
لأن المشية المنتصبة سبقت ظهور الصفات الأخرى بعدة ملايين من السنين؛ ومن ثم
كانت توجد فسحة من الوقت لتراكم الطفرات وإبراز التبايُن. وفي حالة الفروق
الأخرى، كان التفاعل بين استخدام اليدين والأحبال الصوتية وعصبونات القشرة
الدماغية هو الذي جعل تعديلًا طفيفًا نسبيًّا في كلٍّ منها يؤدي إلى مثل هذا
التغيُّر الهائل في وظائفها مجتمعة؛ إلى اختلاف بين نوع من الرئيسيات الذي أدى
فضوله إلى تعديل في جيناته، ونوع آخر لم يسفر فضوله عن تحقيق أي شيء؛ إلى نوع
سافر إلى القمر ونوع ظل داخل حدود موطنه في الغابات.
يُعبِّر البعض عن دهشتهم من فكرة أن فردًا أفريقيًّا من جنوب الصحراء الكبرى
أو صينيًّا أو أوروبيًّا أو من سكان أستراليا الأصليين، الذين تبدو ملامحهم
مختلفة تمامًا بعضهم عن بعض، ينتمون جميعًا إلى النوع نفسه. إلا أن المظهر
الخارجي مضلِّل؛ فالمسارات الأيضية، مثل الهضم وأكسدة المواد الغذائية، وتحكُّم
الهرمونات في هذه العمليات، والتغيرات الأيونية التي يقوم عليها الجهاز العصبي،
تُسهم في تحديد النوع أكثر بكثير من الشكل الخارجي (الذي يتحدَّد على أي حال
بأقل من عشرة جينات من أصل ٣٠٠ ألف جين موجودة عند البشر). وقد ينتج عن طفرة
واحدة في جين واحد أن تُنجب أسرة باكستانية تتَّسم نموذجيًّا بالجلد الداكن
والشعر الداكن والعينين السود، فتاةً بيضاء البشرة وشقراء وذات عينين زرقاوين
لا يُمكن تمييزها عن طفلة سويدية أو نرويجية الأصل.
٣١ تبدو معظم الفراشات مُتشابهة في أعيننا؛ ومع ذلك يوجد حاليًّا
بالفعل ٢٠ ألف نوع مختلف منها حول العالم.
الوصف هومو سيبيان الذي يَصف نوعنا — وهو اسم لاتيني بمعنى الإنسان «المفكر»
أو «الحكيم» — صكَّه عالم تاريخ طبيعي سويدي يُدعى كارل لينيوس في منتصف القرن
الثامن عشر، في الوقت الذي اعتُبرت الرئيسيات الأخرى غير قادرة على مثل هذا
القدر من التفكير الواعي. أصبحنا الآن نعرف أن هذا غير صحيح؛ فحتى إذا كان
ذكاؤها بوجه عامٍّ أقلَّ من ذكائنا، يستطيع الشمبانزي والغوريلا والأورانجوتان
التوصُّل إلى قرارات منطقية مثلنا تمامًا، وإن افتقارهم فقط لأحبال صوتية
متطوِّرة هو الذي يَحول دون التواصُل فيما بينها، كما تُظهر التجربة التالية.
بانبانيشا هي شمبانزي بونوبو تبلغ من العمر ١٤ عامًا، وتعني كلمة بونوبو قزمًا،
لكن لا يمكننا وصفها بالهزيلة نظرًا لأن وزنها يبلغ ١٦٠ رطلًا (انظر شكل
٤-٥). تعيش بانبانيشا في حرم جامعة ولاية جورجيا في مدينة
أتلانتا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي طالبة نجيبة؛ إذ يبلغ عدد مفرداتها
اللغوية ٣ آلاف كلمة، وعندما سألها مراسل قام بزيارتها إذا كانت تريد شيئًا ما،
أجابت قائلة: «قهوة وحليبًا وعصيرًا بالثلج»؛ وتقول عند احتسائها للقهوة «قهوة
جيد»، ثم تقول «المزيد». التزامًا للدقة هي فعليًّا لا تقول هذه الكلمات؛ إذ إن
صندوقها الصوتي غير قادر على إصدار أصوات من نوع ما يصدره الإنسان، لكنها
تستخدم لوح مفاتيح إلكترونيًّا محمولًا به جهاز صوتي (سِنثسَيزر)، فتُظهر
مفاتيحه — التي يبلغ عددها ٣٨٤ مِفتاحًا منسقة داخل مجلد يُشبه ألبوم الطوابع —
أشياءَ مثل: القهوة والحليب والعصير والثلج، بالإضافة إلى مفاهيم مثل: جيد
وسيِّئ ونعم ولا ومع ودون، وهكذا. وُلدت بانبانيشا في الأَسر، ونشأت كما لو
كانت مجرَّد طفل آخر لسو سافاج رومبوج من مركز أبحاث اللغة.
٣٢ تعلمت بانبانيشا جيدًا، وهي الآن تُعلِّم ذريتها. يُثير اهتمام
الباحثين كثيرًا كيف يتناقل هؤلاء البونوبو «الماهرين لغويًّا» مهاراتهم
اللغوية.
كوكو هي غوريلا سَهلية وُلدت في حديقة حيوان سان فرانسيسكو منذ ٣٠ عامًا،
ومنذ ذلك الحين تُشرف على تربيتها فرانسين باترسون من مؤسسة الغوريلا في جبال
سانتا كروز في كاليفورنيا. تعلمت كوكو باستخدام لغة الإشارة، ولديها القدرة على
تحريك أصابعها الصغيرة بالكاد كي تُجري حوارًا عاديًّا. توجد لديها حصيلة من
المفردات تصل إلى ألف كلمة، وتفهم ألف كلمة أخرى، ويُقال إن معدل ذكائها يصل
إلى نحو ٨٠؛ المعدل النموذجي لطفل بشري يعاني من تخلُّف عقلي بسيط. لم تستخدم
السنثسيزر الصوتي لأنها كسَرت أول جهاز يُقدَّم إليها؛ يُصنع واحد أقوى لها،
لكن مهارتها في لغة الإشارة تجعل هذا غير ضروري.
٣٣
ماذا يعني كل هذا؟ بخلاف المعلومات التي قد يقدِّمها لنا بشأن تطور اللغات
البشرية، فإنه يؤكد على نقطتين؛ أولًا: أن الرئيسيات، مثل الشمبانزي والغوريلا،
لديها القدرة التامة على التفكير المنطقي. وثانيًا: أنها ذكية بما يكفي لتعلُّم
لغة البشر مثل الإنجليزية. وعلى الأرجح ربما تستطيع تعلُّم الصينية بالسهولة
نفسها؛ فكونها لغة رمزية ربما يجعل تعلُّمها وكتابتها أسهل عليها. كذلك، يبدو
أن استخدام المفردات بذكاء ليس أحد الاختلافات بين القرود والإنسان. يُظهر هذا
أيضًا أن الكاتب هيكتور هيو مونرو (وكُنيته «ساكي»)، الذي ظهر في أوائل القرن
العشرين كان سابقًا لعصره حين كتب:
كان السير ويلفريد يقول: «وهل تطلُب منا حقًّا أن نصدِّق أنك اكتشفت
طريقةً لتعليم الحيوانات فنَّ كلام البشر، وأن صديقك العزيز القديم
توبرموري أثبت أنه تلميذك الناجح الأول؟»
قال السيد أبين: «إنها مشكلة عملتُ على حلِّها طوال سبعة عشر عامًا،
لكن خلال الأشهر الثمانية أو التسعة الأخيرة فقط جاءت مُكافأتي في ظهور
بصيص من النجاح … مع توبرموري، كما تُطلق عليه؛ فقد وصلتُ إلى هدفي …»
علَّقت السيدة بليملي قائلة: «ألم يكن من الأفضل أن نرى القطَّ
ونَحكُم بأنفسنا؟»
خيَّم صمت مفاجئ من الإحراج والارتباك على هذه المجموعة من الأفراد؛
فبَدا أن ثمَّة عنصرًا من الإحراج إلى حدٍّ ما في الحديث على قدم
المساواة مع قطٍّ منزلي لديه قدرة عقلية مُعترَف بها.
سألت السيدة بليملي بصوت به قدر من التوتُّر: «أتُريد بعض الحليب يا توبرموري؟»
جاء الرد: «لا مانع عندي.» بنبرة من عدم المبالاة. أُصيب المستمعون
برجفة مكتومة من الإثارة، ويُمكن التماس العذر للسيدة بليملي لسَكبها
الحليب في الصحن الصغير وهي ترتجف قليلًا.
قالت معتذرة: «أخشى أنني أرقتُ كَمِّية كبيرة منه.»
فجاء رد توبرموري: «على أيِّ حالٍ إنها ليست سجادتي.»
ساد الصمت مرةً أخرى على المجموعة، ثم سألت الآنسة رسكر، بأسلوبِ
متطوِّعات الكنيسة المهذَّب عما إذا كان من الصعب تعلُّم لغة البشر!
نظر تومبرموري مباشرةً إليها للحظة ثم ثبَّت نظره بهدوء على منتصف
المسافة بينهما. كان من الواضح أنه لا يَكترث البتة بالأسئلة المملَّة.
سألته مافيس بيلينجتون بحماقة «ما رأيك في الذكاء البشري؟»
فسألها توبرموري في برود: «عن ذكاء مَن تحديدًا؟»
قالت مافيس بضحكة ضعيفة: «حسنًا، ذكائي أنا مثلًا!»
قال تومبرموري: «أنتِ تضعينني في موقف محرج.» لكن لم تكن نبرتُه أو
أسلوبه يوحيان بالتأكيد بأي قدرٍ من الإحراج. «عندما عُرض اقتراح ضمِّك
إلى الحفل في هذا المنزل، اعترض السير ويلفريد لأنكِ أكثر سيدة غبية
يَعرفها، ولأنه يوجد فرْق كبير بين الضيافة ورعاية البُلهاء. ردَّت
السيدة بليملي قائلةً إنَّ افتقاركِ إلى القدرة العقلية هو الصفة
المحدَّدة التي جعلتكِ تحصلين على هذه الدعوة؛ لأنكِ الشخص الوحيد الذي
تستطيع التفكير فيه؛ الذي قد يكون غبيًّا بما يكفي لشراء سيارتهم
القديمة.»
٣٤
يَحتمِل أن تكون ثمَّة أنواع أخرى من الهومو سبقت الإنسان العاقل على طول
السلالة المؤدية إلى ظهوره، بدايةً من الإنسان الماهر ومرورًا بالإنسان
المنتصب؛ فثمَّة اقتراح بأن الإنسان العامل وإنسان هايدلبيرج أنواع وسيطة، رغم
أنه ربما يَثبُت أنهما لم يكونا إلا أشكالًا مختلفة، كانت جميعها لديها القدرة
على صنع أشياء معقدة على نحو متزايد بأيديها؛ فحجم أدمغتها، خاصةً الجزء
المُرتبط بوظيفة دماغية أعلى (القشرة الدماغية الجديدة)، تزايد
تدريجيًّا.
تحدَّد عمر الإنسان العاقل داخل نطاق ١٤٠ ألف سنة. اعتمدت أول دراسة تحاول
تحديد مدى قِدمنا على التحليل الجزيئي لمجموعة معينة من الجينات داخل خمس
مجموعات مختلفة من البشر الموجودين في عصرنا الحالي؛ من أفريقيا جنوب الصحراء
الكبرى (المجموعة ١)، ومن الصين وفيتنام ولاوس والفلبين وإندونيسيا
وتونجا (المجموعة ٢)، ومن سلالة سكان
أستراليا الأصليين (المجموعة ٣)، ومن شمال أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا
(المجموعة ٤)، ومن سلالة سكان غينيا الجديدة الأصليين (المجموعة ٥). أظهر
التحليل ثلاثة أشياء:
٣٥ أولًا: أن كل البشر الحاليِّين، المتمثلين في المجموعات الخمس،
مرتبطون ارتباطًا وثيقًا إلى حدٍّ ما. وثانيًا: أن أكبر تفاوت ظهر داخل أيِّ
مجموعة كان داخل المجموعة ١؛ مما يُشير إلى أن الأفارقة ظهروا منذ أطول فترة.
ثالثًا: من خلال افتراض حدوث معدَّل ثابت من الطفرات في ٢ إلى ٤ قواعد
نيوكليوتيدية (بقايا الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين في الدي إن إيه)
من كل ١٠٠ قاعدة كل مليون سنة، فإن نقطة التقاء كل البشر في الماضي يمكن حسابها
بحيث تعود إلى نحو ٢٠٠ ألف سنة مضت. لا بدَّ أن نقول إنه منذ إجراء هذا
التحليل، منذ أكثر من عَقد، ظهرت بعض الانتقادات له، ويتَّضح خطأ افتراضات
معينة فيه. أدت دراسة أخرى حديثة أكثر إلى ظهور الرقم المعدَّل ١٤٠ ألف سنة
بوصفه يعبِّر عن الوقت الذي عاش فيه سلفنا المشترك. تجدُر بنا الإشارة إلى أنه
حتى هذا الرقم محسوب في المتوسِّط فقط؛ فيُمكننا القول، بنسبة ثِقة مقدارها ٩٥٪
فقط، إن عمر الإنسان العاقل يتراوَح بين ٦٣ ألف و٣٨٣ ألف سنة تقريبًا. ما
يتَّفق عليه جميع علماء الأحياء الجزيئية أن النوع الحالي من الهومو لا يصل
عمره إلى مليون سنة ولا إلى ٣٠ ألف سنة (تخمين ظهر في أوائل القرن العشرين)،
لكنه ظهر في وقتٍ ما بينهما، مع اعتبار ١٤٠ ألف سنة الاستنتاج الأكثر منطقية
حاليًّا.
في الواقع لا تقع الجينات التي تقدِّم هذه المعلومات داخل الكروموسومات
الثلاثة والعشرين على الإطلاق؛ فهي تقع داخل مجموعة صغيرة مُنفصلة من الجينات
تُسمى الدي إن إيه الميتوكوندري.
٣٦ ينتقل الدي إن إيه الميتوكوندري من جيلٍ إلى التالي عبر الإناث
فقط؛
٣٧ ولهذا السبب سُمِّي سلفنا البالغ من العمر ١٤٠ ألف سنة «حواء». ومن
الجيد أن نعرف أننا يُمكننا الوصول إلى هذا الرقم نفسه إذا قِسْنا الطفرات في
دي إن إيه بعض الكروموسومات الثلاثة والعشرين داخل نواة الخلايا. تكمن المشكلة
هنا في أنه نظرًا لخلط جينات الأم والأب في كل جيل، يصعب الحصول على بيانات ذات
مغزًى، باستثناء واحد؛ دي إن إيه
الكروموسوم
Y.
٣٨ إذا أمكن فصل الكروموسوم
Y من كل
الكروموسومات الأخرى، فإنه سيقدِّم سجلًّا واضحًا لنسب الأب، تمامًا مثلما
يحدِّد الدي إن إيه الميتوكوندري نسب الأم. أصبح هذا يتحقَّق حاليًّا، وتؤكِّد
النتائج العلاقة الوثيقة بين المجموعات السكانية البشرية الحالية وأصلهم
المشترك مِن أفارقة جنوب الصحراء الكبرى.
يوجد تضارب واحد فقط؛ فيبدو أن وقت ظهور آدم لأول مرة كان تقريبًا منذ ٥٩ ألف
سنة، وليس ١٤٠ ألف سنة. إذا كان هذا صحيحًا، فإنه يعني أن الرجال — المُفترض
أنهم من نوع الإنسان العاقل — الذين تزاوَجت معهم حواء وذريتها طوال نحو ٨٠ ألف
سنة لم يتركوا ورثةً من الذكور ليُواصلوا استمرار سلالة غير منقطعة حتى العصور
الحديثة. وربما نتَج عن تزاوجٍ حدَث مصادفةً منذ ٥٩ ألف سنة ابنٌ انحدر منه كل
الرجال في عصرنا الحالي. يُظهر توقيت ظهور آدم (إذا تأكَّدت الأرقام) أن
أسلافنا الذكور كانوا لا يَزالون في أفريقيا منذ ٥٩ ألف سنة؛ ومِن ثم فإن
هجرتَهم إلى أوراسيا حدثت في وقتٍ أكثر حداثةً مما كان يُعتقد من قبل.
٣٩ عندما نضع في اعتبارنا كافة الأدلة الحالية، بناءً على بقايا
الهياكل العظمية بالإضافة إلى التحليلات الجزيئية، ربما نستقر على رقم ١٤٠ ألف
سنة بوصفه الوقت التقريبي الذي ظهَر فيه الإنسان الحديث. وبالنسبة لموضوع هذا
الكتاب، لا يكون عمرنا الدقيق بمثل أهمية وجهة النظر المُتَّفق عليها بوجه عام
بأننا جميعًا ننحدر من مجموعة واحدة من الأسلاف، تتكون تقريبًا من ١٠ آلاف فرد،
عاشوا في الأصل في أفريقيا.
يكشف تحليل الدي إن إيه الميتوكوندري ودي إن إيه الكروموسوم
Y المستخرجَين من عظام عيِّنات مختلفة من
إنسان نياندرتال وجود تشابُه طفيفٍ بينه وبين البشر؛ فالإنسان الأوروبيُّ أقرب
شبهًا إلى الأفريقي من جنوب الصحراء الكبرى منه إلى إنسان نياندرتال؛ ومن ثم
أصبَح من الواضح أن إنسان نياندرتال ليس سلفًا للإنسان الحديث. ويُقال إن نحو
١٤ نوعًا مختلفًا من أشباه البشر (مجموعة تضم جنس الأوسترالوبيثكوس) عاشت على
مدار الخمسة ملايين سنة الماضية انقرضَت جميعها عدا نحن. لماذا؟ هل لأنَّ
السلالة التي أدَّت إلى ظهور الإنسان العاقل قتَلت الأنواع الأخرى، أم أنها
تنافسَت بنجاح أكبر على الطعام والمأوى، أم لأنها تكيَّفت على نحو أفضل مع
الظروف المُناخية في هذا الوقت؟ أم أنه مجرد حظ بوجودها في المكان المناسب
والوقت المناسب، بينما قُضي على الأنواع الأخرى بفعل اصطدام الكويكبات الصغيرة،
كما يَعتقد بعض العلماء؟ نحن لا نعلم حاليًّا؛ فلندع علماء الأنثروبولوجيا
وعلماء الحفريات وعلماء الجيولوجيا وعلماء الفيزياء الفلَكية يبحثون عن
الإجابة. أما بالنسبة لنا، فسنَنتقل إلى الجزء الثاني من هذا الكتاب، ونستعرض
كيف مكَّن السعيُ الإنسانَ من السيطرة على العالم الذي يعيش فيه.