الخروج من أفريقيا: الاستكشاف والتوسع
(١) هجرة الهومو الأوائل
منذ فترة تتراوَح بين مليون إلى مليونَيْ سنة بدأت مجموعات من الهومو استكشاف ماذا يوجد خارج موطنهم المباشر في الأدغال الأفريقية. على الأرجح كانوا من نوع الإنسان المُنتصِب، لكن لا يُمكننا التأكُّد من هذا؛ لأن الإنسان المنتصب لا بد أنه عاش لمئات الآلاف من السنوات مع سلفه الإنسان الماهر (على افتراض أنهما كانا نوعَين منفصلَين، وليسا مجرَّد شكلَين مختلفين من النوع نفسه)، ومع ذلك من وجهة نظر توضيح النزعة الاستكشافية لدى أسلافنا، لا يهمُّ في الواقع إذا كانوا من نوع الإنسان العامل أو الإنسان المنتصب. كما أن المنشأ الجغرافي المحدَّد لهذه المجموعات المبكِّرة من الهومو ليس معروفًا أيضًا، وربما بدأ تكوُّن مجموعات مختلفة من أماكن مختلفة. بالتأكيد لا بد أن تكون مجموعات كثيرة منها ترجع أصولها إلى الأجزاء السُّفلى للوادي المتصدع الكبير، الذي شهد أغنى اكتشافات لنشاط أشباه البشر. كانت الأدوات التي عُثر عليها بجوار بقاياهم ما تزال بدائية للغاية؛ ليس أكثر من مجرد حجارة مدببة صُنعت من خلال حك قطعة بأخرى، وهي عملية يُسميها علماء الآثار «التقشير»، ولم تُركب مثل هذه الأدوات إلا فيما بعد على أعمدة خشبية لصنْع فئوس ورماح بدائية.
لا بد أن المتجوِّلين أدركوا منذ فترة مبكرة للغاية أن النيران التي تشتعل أحيانًا بفعل البرق لا تمثل خطرًا، شريطة أن يَبقى المرء على مسافة آمنة منها. وعلى العكس، تُبعد النيرانُ المفترساتِ المحتملةَ، وتطهو الحيوانَ الذي تمكَّن أحدُ أفراد المجموعة مِن قتْله؛ مما يجعل مضغَه أسهل بكثير ويُحسِّن طعمه. لكن كيف يشعل المرء نارًا بنفسه؟ لا بد أنه عرف بالملاحظة العرَضية أن الشرارة الناتجة من تقشير الأشياء يُمكنها إشعال العيدان الجافة والنباتات الأخرى. هذا الفعل الواحد المتمثِّل في إشعال النار عن عمْد يُعدُّ إحدى الصفات المميزة للإنسان؛ فلم يُشعل أي شمبانزي نارًا على الإطلاق. ومع تجول مجموعات من الهومو إلى نقطة أبعد في شمال أوراسيا، لا بد أن الحرارة الناتجة عن ألسنة النار في مدخل الكهف أصبحتْ إضافةً مرحَّبًا بها للغاية لجلود الحيوانات التي تعلَّموا وضعها على أجسامهم؛ فقد يكون تشوكوتيان في شمال شرق الصين مكانًا باردًا في الشتاء.
كانت الوظائف المُخيَّة للهومو منذ مليون سنة لا تزال محدودة؛ فقد استخدم النار والأدوات، لكن على الأرجح لم يكن يتواصل إلا عبر النخير والصيحات، إلا أنه حتى مثل هذه الأصوات البدائية يمكن إصدارها بطرُق مختلفة للإشارة إلى سيناريوهات بيئية متنوعة؛ فتُصدِر قرود الفرفت الشائعة في جميع أنحاء أفريقيا صيحةَ تحذير مختلفة عند رؤيتها لفهد أو نسْر أو ثعبان؛ فيتعرَّف رفاقها على الصوت ويتَّخذون الإجراء المناسب. نحن نعرف هذا لأن المتخصِّصين في علم الحيوان سجَّلوا صيحاتِ مجموعةٍ منها وأعادوا تشغيلها، دون أن يراهم أحد، لمجموعة أخرى؛ عند سماع الصوت الذي يحذِّر من فهد ستتسلَّق المجموعة الأخرى إحدى الأشجار، وعند سماع صوت التحذير من نسْر تُحاول الاختباء بين الشجيرات، وعند سماع صوت التحذير من ثعبان تقف منتصبة حتى تستطيع رؤية العدو على نحو أفضل بين العشب على الأرض. ومع ذلك ربما لم يكن يحدث إلا نقاش طفيف بين مجموعة الهومو حول وقتِ تحرُّكهم، وفي أي اتجاه، وبدلًا من ذلك كانوا يتبعون قائدهم، فيكون لكل مجتمع أو مجموعة قائد، وبين مجموعات القرود الحديثة يكون بوجهٍ عام الذكر الألفا هو المهيمن، رغم أن قرار وقت التحرك تتَّخذه أنثى دومًا. وفي حالة الهومو الأوائل لا نَعرف إلى أي مدًى كان التوسُّع في مناطق جديدة نتيجة تأثير الذكور أو الإناث. على أيه حال، كما ذكرنا سابقًا، ربما كانت الهجرة بفعل الخاسرين في المنافسات على القيادة.
أيًّا كان ما سعى المهاجرون وراءه، فإنهم ذهبوا بعيدًا للغاية عن موطنهم أكثر من أي نوع آخر من الرئيسيات في هذا الوقت، أو منذ ذلك الحين. ونظرًا لعدم العثور على بقايا من هياكل عظمية لأسلاف الشمبانزي الحالي، داخل أفريقيا أو خارجها، لا يُمكنُنا قطعًا أن نقول إن مثل هذه الرحلات لم تَحدُث؛ فكل ما نستطيع قوله إنها إن حدثت، فإنها لم تكن ناجحة. أنا أتكلم هنا عن وقائع حديثة نسبيًّا؛ فعلى مدى ملايين السنين، التي تقلبت خلالها الظروف المُناخية، انتقلت كثير من الحيوانات من موقع إلى آخر ثم ظلت في موطنها الجديد. كما أن حركة القارات عبر التحرُّك التكتوني الذي فصل بالتدريج كتلة الأرض الشمالية (أمريكا الشمالية وأرواسيا) عن الكتلة الجنوبية (أمريكا الجنوبية وأفريقيا والهند وأستراليا والقارة القطبية الجنوبية) منذ نحو ١٣٥ مليون سنة، وأعقبه اندماج الهند مع آسيا بعد ٧٠ مليون سنة، يَعني أن كثيرًا من الحيوانات والنباتات صارت منفصلةً؛ ونتيجةً لهذا ظهرت أنواع مختلفة في أماكن مختلفة. كانت السعالي أحد الأمثلة على هذا؛ فتَختلف القرود في أمريكا الجنوبية (سَعادِين العالم الجديد، ذات الأنف المفلطح) عن قرود العالم القديم الموجودة في أفريقيا وآسيا (النَّسْناسيات نازلة الأنف، ذات الأنف البارز). وتمثِّل الفِيَلة مثالًا آخر؛ فيتميَّز الفيل الهندي عن فيل الأدغال الأفريقية بأنه أصغر حجمًا، ولا توجد أنياب لدى الإناث. بالطبع يجب ألا يكونَ الانفصال الجغرافي فادحًا مثل الموجود بين القارَّات؛ فيعيش النوعان الحاليان من الشمبانزي (الشمبانزي الشائع والبونوبو) معًا في وسط أفريقيا، كما تعيش أنواع مختلفة من السلاحف وطيور البرقش، كما أشار داروين، على جزر جالاباجوس المختلفة. كل المطلوب من أجل ظهور نوع جديد من الحيوانات (أو النباتات أيضًا) هو ألا توجد فرصة لديه للتزاوج مع أحفاد آخرين لأسلافه. ما أريد توضيحه أن عمليات التجوُّل التي قام بها الهومو لم تكن غير مألوفة لدى الحيوانات، فكان الأمر المميَّز في الإنسان الأول هو توسُّعه المتعمَّد خارج مُناخ مناسب ودافئ إلى مُناخ أقل من هذا؛ فقد سعى إلى التكيُّف مع الظروف الأكثر برودةً بمجرَّد وصوله إلى وسط آسيا وأوروبا بفضل براعته، وتعطُّشه للسعي المستمر.
(٢) تحرك الإنسان العاقل
تمثَّل اختلاف الإنسان العاقل عن الأنواع المبكِّرة من الهومو في قدرته على الكلام؛ فأدَّى ظهور أحبال صوتية معقَّدة إلى تمكُّن أعضاء إحدى المجموعات من التحدُّث بعضهم إلى بعض، وعندما استقرَّت المجموعات وأصبحت منعزلةً في أجزاء مختلفة من أفريقيا وأوراسيا التي توسَّعت فيها، تطورت لغاتهم إلى أشكال مختلفة؛ فعلى عكس التكنولوجيا، التي تتَّسم بوحدة كبيرة في الشكل والوظيفة لدى شعوب مختلفة، ظلَّت اللغات منفصلةً. وهي تمثِّل إشارة جيدة على مدى تفاعُل المجتمعات المختلفة؛ في كثير من أنحاء أوراسيا من ناحية (تشهد السمات المشتركة لكل اللغات الهندية الأوروبية)، وغيابه تمامًا في أماكن أخرى (فكر في الألف لغة المستخدمة في غينيا الجديدة، على الأقل ١٠ منها له أصول مختلفة تمامًا). سنعود للحديث عن هذا الموضوع في الفصل الثامن.
يصعُب تفنيد أو إقرار هذه الافتراضات؛ ببساطة بسبب عدم وجود أدلَّة كافية. تؤكد الدراسات الجزيئية بالتأكيد الأصل المنغولي لكثير مِن الهنود الأمريكان الحاليِّين، لكن بسبب التزاوج الداخلي على مرِّ السنين، لا يُمكننا إغفال خليط من مجموعات صغيرة منفصلة من الأفراد ربما نشأت في غرب أوروبا أو شرق أستراليا. وبما أن البقايا الأثرية تَقتصِر إلى حدٍّ كبير على أدوات مَصنوعة من الحجارة، يصعب تتبُّع الأنماط البديلة لحياة المجموعات المُختلفة، مثل صيد الأسماك بدلًا من صيد الطرائد. عُثر قطعًا على بعض الأدلة على الاستيطان في جنوب جرينلاند، لكن يبدو أن هذه المجموعة من المستوطنين على وجه التحديد انقرضَت ولم تصل إلى أمريكا قط. يستمرُّ الجدل حول سرعة الهجرة؛ فيَعتبر جارد دايموند ألف سنة أكثر من كافية لإجراء رحلة من ألاسكا إلى باتاجونيا. على أيِّ حال، بما أن السفر على طول الساحل بالزَّوارق الطويلة أسرع من شق المرء طريقه عبر الغابات المطيرة الكثيفة وعلى طول جبال وسط أمريكا وجنوبها، لماذا لا يُمكن أن يكون بعض المهاجرين الأصليين من سيبيريا فعلوا الأمر عينه بأنفسهم؟ فلا بد أنهم صنعوا زوارق؛ إذ توجد إشارات على كَون كثير من الأنهار الكبرى في أمريكا الشمالية مأهولة بالسكان على الضفتين. فيما يخص فكرة حُجَّتي الأساسية، فإن هذه التوقعات من شأنها تقويتها فحسب؛ فأينما وجد الإنسان نفسه نتَج عن فضوله بشأن ما يوجد بعيدًا عنه وبحثه عن التقنية التي توصله إلى هناك؛ هجرات في جميع أنحاء العالم.
في النهاية الأخرى من العالم، في جنوب شرق آسيا، كان البحارة يتحرَّكون مرةً أخرى؛ فقد بدأت جزُر المُحيط الهادئ تُحتَل من أناس من أصل آسيوي. منذ ٣٦٠٠ وصلوا إلى فيجي (على بُعد ألفَي ميل جنوب شرق غينيا الجديدة)، ووصلوا بعد ألفَي عام أخرى إلى هاواي (على بعد ٣ آلاف ميل شمال شرق فيجي)، ووصَلوا منذ ألف سنة إلى نيوزيلندا (على بعد ١٥٠٠ ميل جنوب فيجي). لا تُعتبر بضعة آلاف من السنوات فترة طويلة لتغيُّر صفات عرقية، فسكان هاواي والفيجيون والماوري في نيوزيلندا تجمعُهم جميعًا صلة قرابة وطيدة. وحتى الانتهاء من تحليل الدليل الجزيئي للدي إن إيه الميتوكوندري، كان ثمة اعتقاد بأن سكان جزر كوك في تاهيتي، الموجودة شرق فيجي، ناهيك عن سكان جزيرة القيامة التي تقع أبعد حتى من هذا جهة الشرق، وصلوا إليها من أمريكا الجنوبية، وليس من جنوب شرق آسيا. وإن جزيرة الفصح، التي أطلق هذا الاسم عليها مُستكشِف هولندي يُدعى روجيفين لأنه عثر عليها في يوم عيد الفصح في عام ١٧٢٢، على بعد ٢٥٠٠ ميل فقط من الساحل الغربي لتشيلي، بينما تبعد ضعف هذه المسافة من فيجي وخمسة أضعافها من البر الرئيسي لجنوب شرق آسيا. وبما أن عالم الأنثروبولوجيا النرويجي ثور هايردال أظهر إمكانية الإبحار بطوف صغير، الكونتيكي، نحو ٦ آلاف ميل في الاتجاه الغربي من الساحل الغربي للبرِّ الرئيسي لأمريكا الجنوبية (من بيرو إلى تاهيتي)، كان من الطبيعي افتراض أن هذا هو الاتجاه الذي جاء منه سكان جزيرة الفصح.
توفِّر الطفرات التي تحدُث داخل مركب مُستضدات الكُريَّات البيضاء البشرية عددًا وفيرًا من الجزيئات المختلفة التي لا تميِّز الأفراد فحسب، وإنما المجموعات العِرقية أيضًا؛ فربما يثبت أن نسخةً معينة من البروتينات مفيدة في نوع معيَّن من المُناخ، بينما تكون نسخة أخرى مفيدة في مُناخ مختلف، ويوفِّر شكلٌ من أحد البروتينات وقايةً من مرضٍ مُعدٍ منتشر في إحدى المناطق، بينما يقي شكل آخر منه من جرثومة مسبِّبة للمرض توجد في مكان آخر. بمرور الوقت، سيتكاثَر أصحاب التكوينات الجزيئية المناسبة بأعداد أكبر من غيرهم، وسيَحملُ أحفادُهم هذه الجزيئات لعدة أجيال. وبما أننا ذكرنا مميِّزات امتلاك جزَيْء بروتين معيَّن دون الآخر، ومن ثم الجين من أجل الحفاظ على استمرار إنتاجه لدى الذرية، عليَّ أن أكرِّر نقطة قديمة؛ أن كثيرًا من الجزيئات، مثل التي تدخل في تكوين الزائدة الدودية، توجد ببساطة دون أن يكون لها أي نفع أو ضرر، فربما ارتبطت فائدتها بفترة مبكِّرة من حياة البشر، أو في الواقع الثدييات.
(٣) المستكشفون المعاصرون
(٣-١) غزاة ورحالة
لم تَنقرض الرُّوح الاستكشافية للإنسان سواء منذ ٥٠ ألف سنة أو ألف سنة فقط. ومع ظهور الحضارات في بعض أجزاء من العالم دون غيرها — سنتحدَّث عن هذا الموضوع في الفصل القادم — أراد حُكَّامها معرفة ما يوجد وراء حدودهم. أُرسلت البعثات الاستكشافية، وكانت تُفيد على الدوام بوجود مجتمع أجنبي، وبناءً على الطبيعة الحربية للحاكم، كان يرسل جيشًا من أجل الإغارة على جيرانه وتوسيع أراضيه، أو كان بدلًا من ذلك يوسِّع قاعدته الاقتصادية من خلال تكوين شركاء تِجاريِّين جدد. ويَظهر هذان النوعان من التوسُّع على نحو متكرِّر على مدار التاريخ البشري.
على سبيل المثال، في حالة الإسكندر الأكبر في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد؛ كان هدفه الأول استعادة الأرض التي أخذها الفُرس في الأناضول (تركيا حاليًّا)، بعد ذلك عمل على توسيع الإمبراطورية اليونانية من خلال هزيمة الفُرس في مصر وسوريا وبلاد الرافدَيْن (العراق حاليًّا)، وبعد ذلك كان هدفه أسر ملك الفرس المُراوغ، داريوس الثالث، بنفسه. دخل الإسكندر بلاد فارس واستولى على برسبوليس، العاصمة القديمة للملك خشايارشا. حرق القصر وباقي المدينة، التي كانت الأكثر خصوبة وروعة في العالم في هذا الوقت، وسوَّاها بالأرض، على ما يبدو انتقامًا من الهزائم السابقة التي تعرَّض لها اليونانيون على يد الفرس. كان هذا عملًا تدنيسيًّا لا يتناسب مع القيم اليونانية للسلوك المتحضِّر. لم يكن بحاجة لأسر داريوس؛ فقد عُزل الملك الفارسي، ثم طُعن حتى الموت على يد أحد رجاله. أصبح الإسكندر آنَذاك حاكمًا لأكبر إمبراطورية في العالم، «الملك العظيم» و«سيد آسيا»، ومع ذلك واصل الغزو، واتجه نحو وسط آسيا. من هذه المرحلة أصبح الإسكندر مُستكشِفًا أكثر منه قائدًا؛ ففي مُعظم الأحيان لم يكن يعلم إلى أين يذهب، ومع ذلك وسَّع الدولة اليونانية شرقًا وصولًا إلى البنجاب، مسافة ٢٥٠٠ ميل. قضى ١١ عامًا في حملاته، فعليًّا فترة حكمه بأكملها. كان يقود جيشًا يَسير معظمه على أقدامه، لكن مثل القادة التالِينَ له — نابليون في ١٨١٢ وجنرالات هتلر في ١٩٤١ في محاولاتهم على التوالي للاستيلاء على روسيا — فقد أفرط أكثر مما يَنبغي في طموحاته. فالأراضي التي تؤخذ بالقوة عادةً ما تعود إلى السكان الأصليين؛ ولهذا السبب تنجو الخصائص الثقافية واللغوية لأحد الشعوب عادةً من فترات هيمنة قوة أجنبية. لم يَعِش الإسكندر ليرى إمبراطوريته وهي تنهار، بل لم تتسنَّ له العودة إلى اليونان؛ ففي طريقه إلى بلده تُوفِّي على أثر حُمى، على الأرجح التيفوس، في بابل، وكان في الثالثة والثلاثين فقط من عمره.
ألحَّ على ملك البرتغال، ودوق مدينة شدونة وكونت مدينة سالم، وحكام إسبانيا، والملك فرديناند والملكة إيزابيلا؛ من أجل الحصول على التمويل، فرفَضوا كلهم. كان كولومبوس رجلًا طموحًا؛ فبعد ٦ سنوات من التوسُّل للزوجين المَلِكَين الإسبانيَّين، استطاع إقناعهما بتغيير رأيهما، وفي الثالث من أغسطس عام ١٤٩٢ انطلق في رحلته (صورة ١). نحن جميعنا نعلم أن كولومبوس لم يَرسُ على أرض آسيا، وإنما في أمريكا. بالطبع كان يَعتقد أنه وصل إلى جزر الهند الشرقية. كذلك لم يعثر على جزيرة أنتيليا، التي يُعتقَد بأنها في حجم قارة أوروبا، لكن تكريمًا لسعيه الدءوب سُمِّيَت بعض الجزر في البحر الكاريبي باسم الأنتيل. الأمر الأقل شهرةً أن كولومبوس لم يكن أول أوروبي يَعثُر على الأمريكتين.
فقد وصل الفايكنج إلى هناك قبله بخمسمِائة عام؛ إذ أبحروا هم أيضًا، في حالتهم من مضايق النرويج، في اتجاه الغرب. لم يتَّضح لنا ما كانوا يبحثون عنه؛ هل استُنزفت الأراضي التي كانوا يَصطادون فيها، أم أنهم كانوا يهربون من الضرائب التي سيثور عليها إخوانهم الأوروبيون في نيو إنجلاند بعد ٧٠٠ عام؟ استقرَّ إريك الأحمر في جرينلاند في عام ٩٨٢، بعد ما نُفي من أيسلندا لارتكابه جريمة قتل، حاول تشجيع آخرين باتباعه من خلال إطلاق اسم «الأرض الخضراء» (جرينلاند) على هذه الدولة الجديدة (بخلاف المناطق الساحلية في الجنوب، هذا الاسم به قدْر من المبالغة). في القرن الحادي عشر أدخل ليف إريكسون المسيحية من النرويج إلى جرينلاند، ووصل نورمانديون آخرون إلى أبعد من ذلك حتى البر الرئيسي لكندا. فأُقيم موقع بالقرب من موقع لانس أوه ميدوز في شبه الجزيرة الشمالية لمقاطعة نيوفندلاند؛ وبذا وصل أول أوروبيين إلى الأراضي الأمريكية، ومع ذلك فقد ذهَبوا دون ترك أيِّ مُستوطنات باقية. وكذلك لم يفعل المستعمرون لجرينلاند، مع أنهم التقَوا بالإنويت المحليين في ثول حتى وصل الحال بهم أن أقاموا إبرشية في عام ١١٢٦. اتَّضح أن الظروف بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية قاسية للغاية على هؤلاء البشر من أصل أوروبي؛ فعلى الأرجح ماتوا جميعًا من نقص الطعام والمأوى. أما على بعد آلاف الأميال جنوبًا فكان المُناخ أكثر اعتدالًا، وعاش الإسبان ليَحكوا عن اكتشافاتهم.
لم تبدأ هذه الاكتشافات على البرِّ الرئيسي، بل على الجزر الموجودة في البحر الكاريبي. ورغم أنه اتَّضح فيما بعد أنها ليست جزءًا من آسيا، فقد سُميت المِنطقة بأكملها جزر الهند الغربية إشارةً إلى اعتقاد كولومبوس؛ فهو إجراء يهدف لإثبات أنه وصَل إلى أرض على أيِّ حال، فبعد قضائه شهرين في البحر، بدأ الطعام والماء يَنفدان في رحلته الاستكشافية، وكانت الرُّوح المعنوية آخذة في الانهيار. ترجَّاه الملازمون البحريون في السفن الثلاث التي كان أسطوله الصغير يتكون منها؛ «سانتا ماريا» و«نينا» و«بينتا»، أن يغيِّر مساره ويعود إلى أوروبا، فرفض كولومبوس. حصد ثمار مثابرته هذه في غضون أسابيع؛ إذ رسا على جزيرة أطلق عليها اسمًا مناسبًا هو سان سلفادور. واصل في اتجاه الجنوب الغربي ووصَل إلى الساحل الشمالي لكوبا (التي اعتقد أنها اليابان، ثم أطلق عليها سيبانجو). غيَّر اتجاهه وانحرف نحو الشرق، ورسا على جزيرة أطلق عليها اسم إسبانولا أو هيسبانيولا (هي حاليًّا هايتي وجمهورية الدومينيكان). في هذا الوقت كانت سفينته الأساسية، سانتا ماريا، جنحت وتركها من عليها. ظلَّت مجموعة من الرجال على إسبانولا بينما عاد كولومبوس إلى إسبانيا في أوائل عام ١٤٩٣ على متن السفينة نينا ومعه السفينة بينتا، ولقي ترحيبًا حافلًا.
مع ذلك، لم يتوانَ وأبحر في شهر أكتوبر من العام نفسه نحو الغرب مرةً أخرى، فكانت رُوح السعي تسري في دمه، لا لسبب إلا الفضول واكتشاف طريق جديد للتجارة مع كاثاي. اكتشف جوادالوبي وأطلق عليها اسمها (جوادلوب)، ثم اكتشف بورتوريكو في طريقه إلى إسبانولا، وهناك وجد رجاله قد ذُبحوا، ثم انتقل إلى موقع آخر وأسَّس مدينة إيزابيلا، أول مدينة أوروبية في الأمريكتين. أبحر غربًا ووصل عندها إلى الساحل الجنوبي لكوبا، الذي سار عليه حتى وصل إلى البر الرئيسي لآسيا. وعند اتجاهه نحو الجنوب وصَل إلى جزيرة أخرى أطلق عليها اسم سانتياجو (أصبحت جامايكا فيما بعد). عاد في النهاية إلى إسبانيا، على متن أول سفينة بُنيت على الإطلاق في الأمريكتين. لم يكن استقباله حماسيًّا كما أراد، وفي عام ١٤٩٨ انطلق مرة أخرى. اتخذ هذه المرة طريقًا جنوبيًّا، ورسا على جزيرة سمَّاها ترينيداد. أكَّد فيما بعد لأنصاره أن مصب النهر الذي كان يقع أمام مينائه هو دلتا نهر الجانج (كان حوض نهر أورينوكو في فينزويلا). في أثناء عودته إلى إسبانولا، بدأت الأمور تسوء بشدة؛ فقد تمرَّد الرجال وقبض على كولومبوس فرانسيسكو بوباديلا، الذي أرسله فرديناند وإيزابيلا من أجل حلِّ المشكلات الموجودة فيما أصبح يُسمى الآن العالم الجديد (مونودس نوفوس)؛ فقد توصل الملك فرديناند والملكة إيزابيلا إلى استنتاج أن كولومبوس كان قائدًا بحريًّا عظيمًا لكنه حاكم سيئ. هذه المرة عاد كولومبوس إلى إسبانيا مكبَّلًا بالأغلال.
لم يردعْه هذا وتمكَّن من استرجاع قدر من كرامته ورحَل مرةً أخرى في عام ١٥٠٢. ومن إسبانولا أبحر إلى سانتياجو، ثم انحرف نحو الجنوب الغربي ورأى أرضًا فيما يُعرف حاليًّا بهندوراس. سار على طول الساحل جنوبًا حتى وصل إلى بنما (مقاطعة «المانجو»)؛ حيث أسَّس مدينة بيلين (بيت لحم). ترك فيها أخاه بارتولومي مع فريق من ٨٠ رجلًا، أما هو فتوجه شمالًا إلى إسبانولا، وفي عام ١٥٠٤ عاد إلى إسبانيا، وقد أصبح في الثالثة والخمسين من عمره ويعاني من ألم المفاصل. أُصيب كريستوبال في الواقع بخيبة أمل كبيرة؛ فهو لم يَحصل على التكريم ولا الثروة التي كان يشعر بأنه يستحقُّها، وبعد عامين في بلد الوليد لَقي حَتْفه. كان مؤمنًا حتى النهاية بأنه عثر على طريق غربي إلى جزر الهند الشرقية (ولولا شريط الأرض الضيق الذي يربط القارَّتين، أمريكا الشمالية بالجنوبية، ربما تمكَّن بالفعل من النجاح في هذا). كان أبناء بلده هم من تشكَّكوا فيه، ومع ذلك فقد قدَّروا اكتشافه عن طريق نقل عظامه إلى إسبانولا، وهي توجد هناك في كاتدرائية سانتو دومينجو حتى يومنا هذا.
لا يرتبط اسم كولومبوس بأماكن موجودة في أمريكا الوسطى فحسب، بل بمدن وأنهار — وحتى جامعة — داخل الولايات المتحدة الأمريكية. اعترض مؤخرًا بعض الأمريكان الأصليين على هذا التبجيل لرجل يعتبرونه مُغتصب أراضيهم. إن غضبهم واستخدام اسم كولومبوس كلاهما في غير موضعهما؛ فعلى حد علمنا لم يقع نظر كولومبوس قطُّ على الشريط الساحلي لأمريكا الشمالية، ناهيك عن الذهاب إليها؛ فقد حدث هذا على يد إسباني آخر، خوان بونثي دي ليون، الذي فعل هذا في عام ١٥١٣؛ وقد أطلق على الأرض اسم فلوريدا، ليَعكس اكتشافه الذي كان في أثناء احتفالات عيد الفصح (باسكوا فلوريدا)، وحقيقة أن الريف كان عامرًا بالفعل بالنباتات المزهرة بسبب الأمطار الاستوائية. رسا بونثي دي ليون على الشاطئ الشرقي بالقرب من البُقعة التي تطورت لتُصبح ميناءً مفيدًا. أقام الفرنسيون مستوطنةً في هذه المِنطقة، لكن في عام ١٥٦٥ طرَدهم الإسبان، الذين أقاموا مدينة مُكتملةً في موقع الميناء، وأطلقوا عليها سان أوجستين. رغم أن هذه هي أقدم مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الاسم الفرنسي، سان أوجستين، هو الذي ظلَّ باقيًّا.
وصَل جيش صغير آخر من الإسبان في عام ١٥٢٨، ولم يكن هدفهم الاستقرار في الأرض، بل كان هدفهم العثور على الذهب، مثل معظم مُستكشفي الأمريكتين في هذا الوقت. بدءوا من كوبا وأبحروا أعلى الساحل الغربي لفلوريدا. نزَل مجموعة من الرجال ليبدءوا البحث، تجوَّلوا في المستنقعات وتواصَلوا مع هنود سيمينول، الذين يعيشون هناك إلى يومنا هذا، لكنهم لم يَلتقوا بأبناء بلدهم الذين كانوا يعيشون على بُعد أميال كثيرة في الجانب الآخر من شبه الجزيرة؛ ولم يَعثُروا أيضًا على الذهب. ونظرًا لمعاناتهم من الحمى وهجمات التماسيح، تحرَّكوا شمالًا للقاء سفنهم، بالقُرب من تالاهاسي الحالية. حدثت مشكلة أخرى؛ فقد أبحر الأسطول وتركهم. قررت هذه المجموعة البرية، التي تقلصت آنَذاك إلى ٣٠٠ رجل ويقودُها كابيثا دي فاكا، أن يحاولوا الوصول إلى المكسيك، التي اعتقدوا أنها قريبة نسبيًّا. بنَوْا قوارب صغيرة وانطلقوا في المياه المضطربة لخليج المكسيك. وبعد قضاء ستة أسابيع في البحر، مات معظمُهم خلالها، رسا المتبقون على ما اتَّضح أنها جزيرة، فلم يصلوا إلى المكسيك، بل جزيرة جالفستون على ساحل تكساس. لم يكن هنود كارانجوا عدائيِّين، وأقام الناجون هناك لعدة سنوات. في هذا الوقت كان كابيثا دي فاكا فقَد الجميع ما عدا ثلاثة رجال؛ فقد مات معظم رجاله بسبب المرض، تمامًا مثل هنود كارانجوا، وبسبب الافتقار لأي مناعة ضد الأمراض التي جلَبها الأوروبيون، انقرضَت القبيلة بأكملها على مدار القرنين التاليَيْن. في الواقع، من بين ٥ ملايين هندي أمريكي كانوا يَعيشون في أمريكا الشمالية والمكسيك وجزر الكاريبي في نهاية القرن الخامس عشر (يقول البعض إنهم كانوا ضعفَيْ أو خمسة أضعاف هذا العدد) مات معظُمهم بسبب جراثيم الغزاة، وليس رَصاصهم؛ إذ قتلَت الحصبة والجدري وحدَهما ٩٥٪ من الآزتيك. وفي أمريكا الجنوبية كان الوضع مشابهًا؛ ويستمر حتى يومنا هذا، مع محاولة الباحثين الطموحين — لكن الحمقى في الوقت نفسه — «تحسين» حياة الهنود الأمريكان المنعزلين الذين يعيشون في غابات الأمازون المطيرة.
على شواطئ تكساس في عام ١٥٣٠، كان كابيثا دي فاكا ورفاقه يتعلَّمون لغة الهنود الكارانجوا، ويتبعون أنماط حياتهم. ومن خلال دمج مُعتقداته المسيحية بمعتقدات الهنود، أصبح كابيثا دي فاكا أشبه بالكاهن، وكان يعظ جيرانه ويُحاول علاج أمراضهم. لكنه لم يتخلَّ عن مسعاهُ الأصلي. وفي النهاية رحل هو ورفاقه، فساروا في اتجاه الجنوب الغربي بحثًا عن الذهب. وصلوا إلى المناطق الجبَلية في شمال المكسيك، وعثروا على معادن تَحتوي على الحديد — البيريت أو الذهب الكاذب — الذي كان الهنود المحليون، الذين يعيشون في القرى والمدن، يُذيبونه. ربما كان كابيثا دي فاكا لا يتمتَّع بذكاء كبير، لكنه كان عنيدًا للغاية؛ فقد كان يبحث عن الذهب، وكان يعتزم العثور عليه. اتجهت المجموعة شمالًا على طول الآثار التي تبعها على الأرجح المهاجرون الأصليون القادمون إلى الجنوب من ألاسكا قبل هذا بعشرة آلاف سنة، ووجدوا أنفسهم في النهاية يَسيرون في طرق مليئة بالأصداف. سلكوا هذه الطرق نحو الغرب حتى أصبحوا يرَون البحر؛ فقد ساروا أكثر من ألفَي ميلٍ عبر الجزء الجنوبي من أمريكا الشمالية، وكانوا أول أوروبيين يَعبُرون القارَّة.
قبل أن يتمكَّنوا من نزول المياه لأول مرة منذ نحو ٥ سنوات، هجمَت عليهم دورية إسبانية اعتقدتْ خطأً أنهم من السكان المحليِّين، وكانت على وشك إطلاق النار عليهم وقتلهم على الفور؛ فقد وصل كابيثا دي فاكا ورجاله إلى الحضارة الأوروبية. عند عودته النهائية إلى إسبانيا كتب كابيثا دي فاكا قصة أسفاره، وحاول إقناع السلطات بتغيير موقفهم تجاه الهنود ومعاملتهم كبشر عاديِّين، لكنه فشل في هذا، تمامًا مثل فشله في بحثه عن الذهب؛ فقد مات كابيثا دي فاكا فقيرًا.
اعتبر الغزاة أنفسهم مبشِّرين، رغم أنه يصعب رؤية أيِّ تشابه بينهم وبين المؤمنين الحقيقيين بالله؛ فالمبشرون مثل القدِّيس أوجستين، الذي أرسله البابا جريجوري في عام ٥٩٦ لتحويل الإنجليز إلى المسيحية، أو ألبرت شفايتزر، الذي بنى مستشفًى إرساليًّا لعلاج المصابين بالجُذام والسكان الأصليين الآخرين المرضى في لامبارين في أفريقيا الاستوائية الفرنسية (الجابون حاليًّا) في عام ١٩١٣، أو الأم تيريزا التي أسَّست جمعية الإرساليات الخيرية لرعاية المُعدَمين والمُحتضَرين في كلكتا في عام ١٩٤٨، لا يشاركون في إراقة الدماء؛ بالإضافة إلى هذا، في المثالين الأخيرين لم يشمل مسعاهم أيَّ تحوُّل ديني على الإطلاق. يسعى المبشِّرون الحقيقيون إلى مساعدة الآخرين، ماديًّا وروحانيًّا؛ فهم يسعَوْن إلى تحسين حياة البشر، لا تدميرها.
(٣-٢) أبطال معاصرون
كانت ثمة صعوبة مزدوجة في الوصول إلى القطب الشمالي؛ فهو يبعد أميالًا كثيرة عن أقرب نقطة يمكن الوصول إليها بالقارب، كما أن الجليد يَذوب ليصنَع بِرَك مياه مما يجعل الذهاب بالمِزْلجة أمرًا صعبًا. يوجد أيضًا خطر ذوبان الجليد عند الحواف أو تشقُّقه. كل هذا يحدُث في الصيف؛ فلم يكن أي شخص بالغباء الكافي ليُحاول الذهاب إلى هناك في الشتاء، عندما تَنخفِض درجة الحرارة إلى −٧٠ درجة مئوية ويستمرُّ الظلام طوال ٢٤ ساعة في اليوم. لم يردَع هذا ضابط البحرية الأمريكية روبرت بيري؛ فقد ذهب في ثماني رحلات إلى القطْب الشمالي، ونجح في رحلته التاسعة، فادَّعى أنه وصل مع رفيقه الأمريكي ماثيو هينسون، تجرُّهما الكلاب، إلى القطب الشمالي في ٦ أبريل عام ١٩٠٩؛ فكانا أول رجلين يفعلان هذا. أنا أتحدث عن القطب الشمالي الجغرافي، أما القطب الشمالي المِغناطيسي، الذي تُشير إليه كافة البوصلات، فيبعد أكثر من ٣٠٠ ميل جنوب غرب القطب الشمالي الكندي، ولم يصل إليه أحد حتى عام ١٩٢٦، وكان هذا على يد ريتشارد بيرد، أمريكي آخر، على متن طائرة، والمستكشف النرويجي روال أموندسن على متن منطاد مزوَّد بمحرك توجيه.
(٤) الهجرات الحديثة
دعوني أُنهِ هذا السرد القصير لسعي الإنسان وغزوه من حيث بدأْت؛ بالحديث عن غريزة الهجرة لدى الإنسان، وستكفي أربعة أمثلة يوضِّح كلٌّ منها حركة مجموعة مترابطة من البشر في العصور الحديثة.
إن الغجر، الذين يوجد انطباع خاطئ بأنهم جاءوا من مصر، نشئوا فعليًّا في شمال الهند. ولغتهم الرومانية، التي سُميت بهذا الاسم أيضًا بسبب إقامتهم لفترة طويلة في رومانيا، مُشتقة من اللغة السنسكريتية؛ ومن ثم تقع ضمن مجموعة اللغات الهندوأوروبية. إنهم في الأصل رحَّالة وتحرَّكوا تدريجيًّا نحو الغرب إلى أوروبا وشمال أفريقيا، حتى إنَّ بعضهم وصلوا إلى أمريكا الشمالية والجنوبية. بدأ تجولهم على الأرجح كمُتتبِّعين لمعسكرات الجيوش الهندية؛ فربما كانت الحِرَف التي ما زالوا يُمارسونها حتى يومنا هذا، مثل تجارة الخيول وصنع الأدوات المعدِنية ونسج السِّلال ونحت الأخشاب، مفيدةً للجيش في أثناء تحرُّكه. هناك أيضًا الموسيقى التي يعزفونها. لتأثُّرهم برقص الموريش، الذي كان مشتقًّا في حد ذاته من شمال الهند، أنشأ الغجر الذين عاشوا في إسبانيا في القرن الخامس عشر أسلوبًا حزينًا لكنه جريءٌ، أصبح معروفًا باسم الفلامنكو (بمعنى فلمنكي، تسمية أخرى مغلوطة). كان لديهم سبب للحزن؛ فكانوا يتعرضون دومًا، مع المورسكيين، للاضطهاد على يد «حاكميهم الأكثر التزامًا بالكاثوليكية»، فرديناند الثاني وإيزابيلا الأولى ملوك إسبانيا. كان الاضطهاد عاملًا مميزًا في رحلات الغجر على مدى مُعظم تاريخهم؛ فقد تمكَّن النازيون من إبادة نصْف مليون منهم بين عامي ١٩٣٣ و١٩٤٥، ومنذ ذلك الحين وهم مطارَدون في دول مثل رومانيا، أولًا من الرئيس تشاوشيسكو ثم من خلفائه. ومع ذلك فقد حافظوا على هُويَّتهم؛ فلم يقلِّل تفرُّقهم عبر القارَّات من قيَم الأُخوَّة لديهم. ومثل المجموعات الأخرى التي سأتحدث عنها، كانوا لا يسعَوْن إلا إلى السماح لهم باتِّباع أساليبهم التقليدية.
أُقيمت دولة إسرائيل في عام ١٩٤٨؛ فقد سعى الصهيونيون لإقامة وطن لليهود لسنوات عديدة، ونجحوا جزئيًّا في عام ١٩١٧، عندما أعلن وعد بلفور فلسطين بوصفها وطنًا قوميًّا لليهود. أقول «جزئيًّا» لأنَّ فلسطين كانت ولاية تحت الحكم البريطاني العام طوال الأعوام الثلاثين التالية. هاجر ملايين اليهود (٤٫٥ ملايين بين عامي ١٩٤٨ و١٩٩٤) إلى إسرائيل. لم يكن سببهم هو الحماس الديني، ولا تجنُّب الاضطهاد بالدرجة الأولى، رغم أنه بالنسبة للذين هاجروا من أوروبا كان الاضطهاد بالتأكيد الدافع الرئيسي. كان السبب المشترك للهجرة أمرًا آخر؛ الرغبة في الحصول على نوع من الهُوية والانتماء، في حياة يُمكن لليهودي أن يقول فيها بصدق إنه يعيش في بلده. لم يَخلُ سعيُ هؤلاء البشر من الصِّعاب؛ تمثلت في التخلي طوال الوقت عن وظائف مجزية في بيئة مريحة من أجل بدء الحياة كعامل في مزرعة، أو كمجنَّد في جيش في حالة حرب، أو كمدنيٍّ يواجه خطر التفجير يوميًّا. إن القاسم المشترك مع الغجر أن اليهود أيضًا تعرَّضوا للاضطهاد من فرديناند وإيزابيلا، وعانوا من الإبادة على يد النازيين في أوروبا (توفي منهم ٦ ملايين شخص).
كان بإمكاني استخدام أمثلة أخرى على الهجرات الحديثة، مثل الهوجونوتيون الذين تعرَّضوا للاضطهاد من حين لآخر طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر على يد حكامهم الفرنسيين بسبب التزامهم بالبروتستانتية، والمليون أيرلندي الذين تركوا وطنهم في عام ١٨٤٥ عندما فسد محصول البطاطس بسبب آفة زراعية، والعدد الهائل الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب اضطهاد الحكام البريطانيين بسبب اتباعهم للكنيسة المشيخية. كان بإمكاني الإشارة إلى هجرات الجامايكيين إلى بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية، وإلى طرد الآسيويين خارج أوغندا على يد عيدي أمين في عام ١٩٧١، وإلى الفيتناميين الذين هرَبوا من بلدهم عقب سقوط مدينة سايجون في يد الفيت كونج في عام ١٩٧٥، وإلى المهاجرين من الصين وشرق أوروبا وشمال أفريقيا إلى غرب أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية في العقود الأخيرة (لأسباب اقتصادية وسياسية على حدٍّ سواء). إلا أن الأمثلة الأربعة التي اخترتُها توضِّح بالقدر الكافي وجهة النظر التي أريد التعبير عنها؛ أن بحث الإنسان عن حياة أفضل لا يَنسحِب على الأفراد فحسب، بل يَنسحب عادةً على مجموعة مترابطة من الناس تدفعها قيم مشتركة. أخرج السعي أولًا الإنسان من أفريقيا منذ مليون سنة، ويستمرُّ في تحريكه من بلد لأخرى أمام أعيننا.