السُّلَّم: المِحَن والإنجازات
دعوني أبدأ بتشبيهٍ لتوضيح كيف أدَّى تعطُّش الإنسان لطرق جديدة كي يعيش بها حياته، وما نتج عن هذا من إنجازات، إلى ظهور الحضارات والثقافات. إنه مفهوم بسيط؛ السُّلَّم، فمع كل اختراع مُتعاقب، سواء كان تقدمًا تكنولوجيًّا أو شكلًا أفضل للحكم، يصعد الإنسان درجة على السُّلَّم. وهذه ليست خطوة فردية، بل مجتمعية؛ فربما تكون أذكى شخص وأكثر شخص مُبتكِر في العالم، لكن إذا كنتَ تعيش في عزلة تُشبه عزلة الناسك على قمة جبل أو في كهف على شاطئ المحيط، فإن إبداعك لن يُساعد أحدًا، بل إن أحدًا لن يلحظه. فحتى تُحدِث حكمتك تأثيرًا لا بد من التعبير عنها داخل مجتمع يتقبَّل أفكارك، ويُمكنه دمج إسهامك في نمط حياته. يجب أن يكون للمجتمع حجم معين، فأسرة واحدة لا تكفي، لكن ١٠٠ أسرة تبدأ في تشكيل كتلة حَرِجة؛ فهي تستطيع تحقيق الإنجازات. تحدثتُ في الفصل الثاني عن التنوع الحيوي في البشر، وأشرتُ إلى وجود خليط من المهارات بين مجموعة من ١٠٠ شخص مثلًا؛ فبعضهم سيكون أكثر ذكاءً وآخرون أكثر إصرارًا، وبعضهم سيكون أفضل في الصيد وآخرون في صنع رداء أو إناء، وبعضهم سيكون مناسبًا أكثر للقيادة بينما يكون آخرون أفضل في الاتباع. إذا تخيلنا أن كل فرد من هؤلاء جزء من أسرة، فسيُصبح لدينا ١٠٠ أسرة، تُكوِّن مجتمعًا قادرًا على التقدم خطوة أو اثنتين أعلى السُّلَّم.
(١) تحدي المحنة
يُشير هذا ضمنيًّا إلى أن بعض مجموعات الهومو سيبيان كانت أكثر ذكاءً وتنظيمًا إلى حدٍّ ما من غيرها. يوجد اعتقاد، يَشيع ترويج المنحدرين من أصل أوروبي له، أن بعض الأعراق — كما تحدِّدها الخصائص الجسدية مثل لون البشرة — أقل حظًّا في المهارات العقلية من غيرهم. ومع ذلك لا توجد أدلة علمية إطلاقًا على ارتباط الصفات الجسمانية بصفات دماغية مثل الذكاء؛ ومن ثم تورثها على نحو متلازم. على العكس من ذلك، أوضحتُ في أوقات كثيرة أن الأفراد، وليس المجتمعات، هم الذين يتفاوتون في صفات مثل البراعة الذهنية. بالإضافة إلى هذا، بما أن المايا في أمريكا الوسطى والإنكا في بيرو، الذين أقاموا حضارات مُزدهرة يَرتبطون بالهنود الأمريكان في أمريكا الشمالية وجزر الكاريبي، الذين لم يتطوَّروا كثيرًا إلى أبعد من إقامة مُستعمرات قبلية، فإن افتراض أن العِرق يُحدِّد التأسيس الناجح للحضارات يبدو غير موثوق فيه. تنشأ الْمُعضلة نفسها مع الثقافة المينوية في كريت، مقارنةً بالحياة البسيطة التي يعيشها أمثالهم في أماكن أخرى من حوض البحر المتوسط. صحيح أنَّ اليونانيين في أرض اليونان (المسينيين) أقاموا فيما بعد واحدًا من أنجح المجتمعات على وجه الأرض، إلا أنهم سرقوا أفكارهم من المينويين، تمامًا كما أخذ الرومان أفكارهم من اليونانيين، وقلَّد بقية الأوروبيين في النهاية ثقافة روما، أو فُرضت عليهم.
إذن ليس العرق هو السبب. تَعتمد التفسيرات الأخرى لظهور حضارة في جزء من العالم دون الآخر على نوع البيئة؛ وتَختلف فقط في كونها مناقضة تمامًا لبعضها؛ فتقترح الأولى أن البيئات المناسبة؛ الوادي الخصب لنهر النيل في مصر، والمِنطقة الخصبة بين نهرَي دجلة والفرات في بلاد الرافدَيْن، وضفاف النهر الأصفر في الصين، والغذاء الوفير من البحر في كريت؛ هي التي أدَّت إلى حياة مستقرة وإلى ظهور مجتمعات مستقرة، فانتقل البشر ببساطة إلى حيث بدتِ الحياة سهلةً، واستقروا في هذه الأماكن. لا يمكنني إنكار أن الانتهازية واستغلال موقف مُواتٍ صفة بشرية مَحضة، لكنها أيضًا، مثل البحث، إحدى الصفات التي تميز جميع الكائنات الحية؛ فتستغلُّ النباتات بيئة مناسبة وكذا الجراثيم؛ فتَتكاثَر الأخيرة بسرعة داخل إنسان وظيفة جهازه المناعي مختلة. لكن يوجد جانب سلبي لهذا؛ فالبكتيريا التي تتطفَّل على الحيوانات، مثل البكتيريا المكورة العنقودية والبكتيريا العُقَدية — التي تسبِّب كثيرًا من الأمراض التي تصيب الإنسان — أصبحت معتمِدة كثيرًا على عوائلها؛ بحيث فقدت القدرة على النمو في أي مكان آخر؛ فاحتياجها إلى عناصر غذائية مُعدَّة مِن قبلُ أكبر بكثير من حاجة الإنسان؛ فمن بين عشرين نوعًا مختلفًا من الأحماض الأمينية المطلوبة لصنع بروتين، نستطيع نحن البشر صنعها جميعًا عدا عدد قليل من الجلوكوز والأمونيا عبر عملية الأيض لدينا، وتحتاج البكتيريا المكوَّرة العنقودية والبكتيريا العُقَدية إلى وجود كل واحد من هذه الأحماض الأمينية العشرين في وجبتها الغذائية.
يكون المجتمع الذي يعيش على الانتهازية أقل ابتكارًا وأقل تقدمًا من المجتمع الذي يواجه التحديات على نحو مباشر؛ فقد أثبت نشاط الصيد القاسي، على المدى الطويل، أنه أكثر نفعًا للإنسان من جمع والتقاط الطعام.
إذن فإن الافتراض الثاني الخاص المتعلِّق بالبيئة هو أنَّ تحدي الظروف الصعبة هو الذي يُخرج الإبداع لدى الإنسان، وسعيه للعثور على طرق لترويض البيئة لأوامره، فكانت المِحَن، وليس الرخاء، هي التي أدَّت إلى ظهور الحضارات. حتى في وقت مبكر من التاريخ، منذ ٥٠ ألف سنة، ألم يكن الإنسان يستجيب لتحدٍّ عندما انطلق من المكان المعروف حاليًّا بإندونيسيا وبدأ يجدف في اتجاه الشرق ليصل إلى سواحل غينيا الجديدة، التي كانت ترتبط في هذا الوقت بأستراليا بجسر أرضي؟ يُعتبر وجود مجرى مائي عنصرًا مهمًّا في أي مجتمع؛ خاصةً إن كان مجتمعًا زراعيًّا، وحقيقة أن الحضارات السومرية والمصرية والهندية والصينية نشأت كلها على ضفاف نهر ليست مصادفة. إلا أن توينبي يشير إلى أن المراعي المجاورة لنهر النيل، وتلك الموجودة بين نهري دجلة والفرات، في الواقع مرَّت بفترة من الجفاف عقب نهاية العصر الجليدي الأخير، تحولت خلالها الأرض المحيطة بها من أرض عشبية إلى صحراء. ومع ذلك كانت هذه هي الفترة نفسها، منذ نحو ٦ آلاف إلى ٤ آلاف سنة، التي وصلت فيها الثقافات المصرية والسومرية (في بلاد الرافدَيْن) إلى ذروتها.
ربما تكون الغابات الموجودة في سهول يوكاتان غنية بالموارد الطبيعية، لكن نموَّها بسرعة كبيرة طرح تحديًا مستمرًّا يتمثَّل في تقليم أظافر الطبيعة؛ وذلك بتقليم الشجيرات وتقطيع الأشجار باستمرار من أجل الحفاظ على الممرات التي اختار المايا الاستقرار فيها. أما الذين عاشوا على المرتفعات — الذين أسَّسوا في النهاية إمبراطورية الآزتيك — فكانت حياتهم أسهل. فلم يؤسِّس أسلافهم حضارة بدائية، ولكنهم ظلوا صيادين ومزارعين بدائيِّين، حتى استوعبوا في النهاية ثقافة أولئك الذين أسَّسوا مدينة تيوتيهواكان في الشمال، والمايا الذين بنَوْا مدينة بالينكي وتشيتشن إيتزا في الجنوب الشرقي. اضطُر الإنكا في بيرو إلى مواجهة نوعين من التحدي؛ فعلى جبال الأنديز المرتفعة كان ثمَّة مُناخ قارس البرودة وتربة فقيرة، وعلى طول الساحل كانوا يواجهون غيابًا تامًّا لسقوط للأمطار وكانت الأرض مجرَّد صحراء، كحالها إلى يومنا هذا. ومع ذلك استطاعوا التغلب على كلا التحديين وأسَّسوا إمبراطورية استمرت طوال ٣٠٠ عام.
في حالة الحضارة المينوية (وثمة من لا يعتبرونها حضارة بدائية على الإطلاق) فيصعب تحديد التحدي الذي فرضته الحياة على جزيرة كريت. تتمثل الحُجة التي يَعرضها أرنولد توينبي في أن التحدي كان قد حدث بالفعل عند استعمار الجزيرة، وتمثَّل في الواقع في البحر. وتشير الأدلة الإثنولوجية إلى أن المستوطنين لم يأتوا من أوروبا أو آسيا، ولكن من شواطئ شمال أفريقيا الأكثر بُعدًا؛ فيبدو أن جفاف المراعي لم يدفع مؤسسي الحضارة المصرية نحو مستنقَعات النيل فحسب، لكنه أيضًا حثَّ مجموعة أخرى من الرجال، المستعدِّين لمواجهة تحدٍّ مختلف، إلى عبور البحر إلى جزيرة كريت.
إن سلم الإنجازات نفسه ليس ثابتًا؛ فهو سُلم متحرِّك — سُلم دوار — ويتحرك في اتجاه واحد فقط، إلى الأعلى؛ فالحضارات قد تتدهور، لكن هذا يكون تراجعًا مؤقتًا. فالعُرف الصيني المتمثل في التفاخر بالمهارة اليدوية والمعرفة ربما توقَّف لجيل أو اثنين في النصف الثاني من القرن العشرين (مع فقدان نحو ٥٥ مليون مواطن صيني بريء حياتَهم بسبب المجاعة أو الانتحار، وهو عدد أكثر من ضحايا ستالين وهتلر معًا، خلال قفزة ماو العظيمة إلى الأمام)، لكنها لم تُفقد وأُعيد إحياؤها في أثناء تأليفي لهذا الكتاب. ومعظم الناس على وجه الأرض حاليًّا يعيشون حياة أفضل مما كان عليه الوضع منذ ٥ آلاف سنة. وإذا كان سكان الأحياء الفقيرة المُعدَمين في مكسيكو سيتي أو مومباي (بومباي سابقًا) يعيشون حاليًّا حياة أسوأ من التي عاشها أجدادُهم؛ فإن هذا لأن محاولتهم لتحسين جودة حياتهم بالانتقال من القرية إلى المدينة بحثًا عن عمل ثبت أنها خاطئة؛ فلم تكن توجد وظائف. كان عنصر السعي موجودًا، لكنهم ساروا في الطريق الخطأ.
(٢) توريث القدرات البشرية
إذا كانت المهارات التي اكتسبتها الحضارات السابقة لا تُفقَد، فهل هذا يعني أننا نزداد ذكاءً بمرور الوقت؟ نعم؛ فطالما أن الذكاء يشير إلى قدرتنا على بناء منزل أو سد أو زورق أو طائرة أو صاروخ أفضل، أو قدرتنا على التواصُل مع بعضنا عبر الهاتف أو لا سلكيًّا أو عبر الإنترنت. إن التِّقنية التي يتوصَّل إليها أحد الأجيال تُعدُّ نقطة الانطلاق للجيل التالي؛ فالمعرفة هي أصل في زيادة مستمرة، ولأن مزيدًا من الناس يشاركون تباعًا في السعي، لأن التقنية الواحدة تنتج عنها عدة تقنيات جديدة، فإن اكتسابنا للمهارات يزيد بمعدل أُسي. وقد اكتسبنا تقنيات أكثر في المِائة سنة الأخيرة أكثر مما حدَث في السنوات العشرة آلاف السابقة عليها. لا يُغيِّر أي نوع آخر بيئته على هذا النحو؛ فنمط حياة الحيوانات من حولنا هو نفسه إلى حدٍّ كبير كما كان منذ مليون سنة. الأمر الذي لا يتغيَّر هو قدرة الإنسان على اختراع شيء جديد؛ قدرته الذهنية. فيَمتلك الأفراد، كما أكَّدتُ، قدرة ذهنية بدرجات متفاوتة، لكن تظل هذه الدرجات نفسها على مدى آلاف الأجيال.
أما الصفات الجسمانية مثل شكل الوجه ومرونة الأطراف، والصفات العقلية مثل الحالة المِزاجية أو البراعة، أو الطيبة أو القسوة، والنزعة للاستكشاف أو صنع أعمال فنية، فتتحدَّد جميعها بشبكة من الجينات المتفاعلة وامتدادات الدي إن إيه الأخرى. تُحدِّد هذه معًا مجموعة من عدة بروتينات تعمل في تناغم. وتتأثَّر النتيجة النهائية بالبيئة أيضًا؛ بعوامل مثل نظام غذائي صحي من ناحية، أو مستوًى غير صحي من التلوث أو إصابة جرثومية من ناحية أخرى. يبدو أن الذكاء، مثلًا، تُحدِّده جيناتنا والبيئة بالقدر نفسه تقريبًا. كذلك يبدو أنه لا يتغير كثيرًا مع التقدُّم في العمر؛ فمُعدَّل ذكائنا في السبعين يُعادل القدر نفسه الذي كنا عليه في السابعة (تمامًا كما تظل شخصيتنا — ضعيفة أو قوية، كاذبة أو صادقة — نفسها طوال حياتنا). إن معرفتنا — ما نتعلمه — هي التي تزيد مع التقدم في العمر، تمامًا مثلما تكون المهارات التي تَكتسبها الثقافات المتعاقبة تراكُمية، كما أن قدرتنا على استخدام هذه المعرفة؛ على نحو جيِّد أو سيئ، وبسرعة أو ببطء، لا تتغير، تمامًا كما لا تتغير قدرة المجتمعات على صنع ثقافة أو رغبتها في تدميرها. إذا كان الذكاء لا يتغير مع التقدم في العمر، فإن هذا يعني أن التأثير البيئي — مثل التغذية والتلوث والإصابة بالأمراض — يحدث في سنٍّ مبكِّرة، على الأرجح في أثناء فترة الحمل. هذا ليس مثيرًا للدهشة؛ فنحن نعلم أن معظم خلايا المخ تتجمَّع في سن الثالثة أو ما شابه. وفي أثناء فترة الطفولة اللاحقة يتشكَّل سلوكنا أكثر إلى حدٍّ ما بالعوامل البيئية؛ فتكون على الأرجح لمجموعات أقراننا التأثير نفسه الذي يلعبُه والدانا. وبمجرد وصولنا إلى مرحلة البلوغ، نظل أذكياء أو أغبياء، أُمناء أو مراوغين، عدائيِّين أو وُدَعاء، تمامًا كما كنا ونحن صغار. ولهذا فإن الرجال والنساء المبدعين الذين حقَّقوا نجاحًا في مجالهم — العلماء والكُتاب الحاصلون على جائزة نوبل، على سبيل المثال — يواصلون العمل في السبعينيات والثمانينيات من عمرهم. لماذا يفعلون هذا؟ ألا يُمكنهم الاعتماد على ما حققوه من نجاح؟ لا يمكنهم فعل ذلك؛ فالبحث عن أفكار جديدة، والرغبة في الإبداع تجري في دمائهم.
ينطبق الشك نفسه بشأن انتقال الموهبة على الإبداع الفني؛ فقد تزوجت كوزيما ابنة المؤلف الموسيقي ليست من ريتشارد فاجنر، لكن لم يؤلِّف أيٌّ من ذريتهم — الذين ارتبط معظمهم بشكل أو بآخر بمهرجان بايرويت — فعليًّا مقطوعات موسيقية. من ناحية أخرى، ألف أربعة من أبناء يوهان سباستيان باخ مقطوعات موسيقية؛ حيث ألَّفَ فيلهلم فريدمان مقطوعات للأورج، تمامًا كما فعل أخوه الأكثر منه أعمالًا كارل فيليب إيمانويل، أحد مبتكري أسلوب السوناتا والسيمفونية في الموسيقى، كما ألَّف يوهان كريستوف فريدريش موسيقى الحجرة وكونشيرتوهات وسيمفونيات، كما فعل يوهان كريستيان الأمر نفسه وأصبح معروفًا باسم «باخ الإنجليزي»؛ فكان يعمل مايسترو لدى أسرة جورج الثالث، وقدَّم عزفًا مميزًا لسوناتا مع موتسارت (في الثامنة من عمره) في لندن.
لكن هل بالفعل التأثير الوراثي، وليس البيئي أيضًا، هو الذي يفسِّر إنجازات الذُّرية؟ كان زوج إيرين كوري، جان-فريدريك جوليو، الذي حصل مناصفة معها على جائزة نوبل، مساعد ماري كوري، ولا بد أن كلًّا من جان-فريدريك وإيرين تأثَّرا كثيرًا بوالدَي إيرين وببيئة المعهد الذي كانوا يعملون جميعًا فيه. كما كان براج الوالد والابن متعاونَين مقرَّبَين، وعلَّم يوهان سباستيان باخ التأليف الموسيقي لأبنائه الأربعة جميعهم (بالرغم من عوامل التشتيت الأخرى المتمثِّلة في إنجاب ١٦ طفلًا آخر، وتأليف أكثر من ٦٠٠ كانون وكانتاتا وكونشرتو وفوجا وقداس وأوراتوريو ومقدمة موسيقية ومتتالية)، ولا يمكن وصف البيئة في منزل باخ بأي شيء آخر إلا أنها كانت موسيقية بشدة. ومن أجل إظهار علاقة وراثية واضحة بين العباقرة وذريتهم علينا البحث عن أمثلة ينفصل فيها الطفل عن والديه في سنٍّ مبكِّر ومع ذلك تظهر عليه صفات بارزة في الفلسفة أو العلم، في تحصيل العلم أو الفن. وللأسف لا يتبادر أيُّ مثال إلى الذهن.
مرةً أخرى، تتوزَّع الصفات التي تميِّزنا عن الشمبانزي بالتساوي بين كل البشر الموجودين في العالم. ربما يتفاوت لون البشرة وغيره من الصفات الجسدية بين المجموعات العرقية المختلفة، لكن لا توجد أدلة على أن الصفات الدماغية التي تحدَّثْنا عنها تظهر بقدر كبير لدى بعض الأعراق أكثر من غيرها. فإن فرص العثور في أي مجتمع على شخص ذكي أو غبي، وعلى قائد أو تابع، وفنان أو مخرِّب، وشخص أمين أو مخادع، وعلى طاغية أو قدِّيس، هي نفسها في أمستردام وأديس أبابا وأديلايد، وفي بوسطن وبوجوتا وبكين. كما أنها في عصرنا الحالي كما كانت تقريبًا منذ ١٠ آلاف عام. ويتمثَّل الاختلاف في طريقة استخدام المجتمعات المختلفة لهذا الخليط من الصفات. سنتحدث في الفصلين التاليَين عما يُدعى الثقافة وجودة الحياة، لكن أولًا سنستفيض قليلًا في الحديث عن الموضوع الذي نتناوله الآن؛ أن صفاتٍ مثل العبقرية نادرًا ما تنتقل إلى ذرية المرء، ونتحدث عن صفة القيادة.
(٣) الحُكام
يوجد دائمًا داخل أي مجموعة من الحيوانات حيوان واحد يُسيطر على الآخرين. يكون الحاكم بوجهٍ عام الأقوى والأشرس بين الذكور، لكن أحيانًا تكون أنثى، مثل حال قرود الفرفت أو الضباع. بالمثل، في الحشرات الاجتماعية، مثل الدبابير والنحل والنمل، تكون الملكة هي التي تحكم. تَختلف السيطرة عن القيادة عند انتقال الحيوانات من مكان لآخر. وفي مجموعة من الرئيسيات ربما يكون الذكر القائد في المعركة، لكن تتخذ الأنثى دومًا قرارَ متى يتحرَّكون وإلى أين؛ هذا لأن العامل المقيِّد للإناث فيما يتعلق بنجاح عملية الإنجاب هو العثور على الطعام، بينما يكون بالنسبة للذكور العثور على أنثى. في ٩٧٪ من كل أنواع الثدييات، لا تستثمر ذكور الرئيسيات وقتًا في الاعتناء بذريتها، بل بدلًا من ذلك تبحث عن إناث. قد تكون القيادة في مجتمع الحيوانات قصيرة الأمد تمامًا كما في مجتمع البشر؛ فعندما يفقد الذكر المهيمن داخل المجموعة عراكًا مع منافس له، فإن الأخير يتولى القيادة. ومع تقدم القائد في العمر، يحلُّ محله عضو آخر في المجتمع. يخرج القائد الجديد على نحو طبيعي، فيكون الأقوى والأكثر هيمنة، ولا يحدُث اختيار الحاكم الجديد إلا في حالات قليلة للغاية. يوجد مثال على هذا في نظام التسلسل الهرمي بين الحشرات الاجتماعية؛ فعندما تموت ملكة النحل، يختار العمال خليفتها من خلال انتقاء الأنثى التي يرجَّح إنتاجها لأكبر عدد من الذرية (فالملكة هي الوحيدة المسموح لها بالتكاثر داخل خلية النحل). ومع ذلك لا يقع الاختيار أبدًا على ذرية القائد ليخلف والده لمجرَّد انتسابه إليه. فالحيوانات تستفيد على النحو الأمثل من غريزتها؛ فصفات مثل القيادة نادرًا ما تَرثها الذرية. أما البشر، في مجتمعات في جميع أنحاء العالم، فقد اختاروا اتباع هذا المسار فحسب، من خلال اختيار أحد الأقارب المقربين — عادة المولود الأول — للحاكم السابق كي يخلفه. إلى أيِّ مدًى نجاح مبدأ التوريث هذا؟
خلال فترة ازدهار الثقافة اليونانية طوال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، عندما كان رجال مثل إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس وسقراط وديموقريطوس وأريستوفان وأفلاطون وأرسطو، يضعون قواعد الفلسفة والدراما الغربية، وعندما كانت أول جامعة في العالم (أكاديميا) في طَور التأسيس، كان المواطنون في أثينا هم مَن يتولَّون حكمها. ويرجع أصل مبدأ الديمقراطية (حكم الشعب) — الذي أيده بريكليس طوال حياته — إلى هذه الفترة بالتحديد؛ وإذا كان الذين يتولون الحكم الأكثر قدرة، والأفضل تعليمًا، كان هذا أفضل. لم يكن يوجد عنصر التوريث في الخلافة في الحكم الأرستقراطي (حكم الأفضل) في هذا الوقت. فعلى العكس، تُظهر إنجازات هذا العصر أن البيئة كان لها تأثير أكبر من القرابة في انتقال القدرات العقلية؛ فقد كان سقراط معلم أفلاطون، الذي علَّم بدوره أرسطو.
يُمكننا أيضًا ملاحظة كيف كان الحكم في الصين في هذا الوقت؛ فرغم أن الكلمة الأخيرة كانت دومًا للإمبراطور، فقد كان الحكم يحدث في الأساس على يد بيروقراطية متعلمة؛ فحتى الجيش كان يأتي في المرتبة الثانية. ومنذ الوقت الذي لم تكن فيه الصين موحدةً بَعدُ تحت قيادة أسرة تشين في القرن الثالث قبل الميلاد، شكَّل الدارسون الذين تلقَوْا تدريبًا في فن الإدارة نظامًا للإدارة بالاستحقاق والكفاءة، اعتمَد بموجبه الترقي بصرامة على الموهبة، وليس النسَب؛ فكان نظام الاختبار الذي يحدث على أساسه اختيار الإداريين المستقبليين من أكثر الأنظمة صرامة على الإطلاق. وبالتأكيد أدى شكل الحكم هذا إلى استقرار الإمبراطورية واستمرارها على مدى ٢١ قرنًا تالية.
عند وفاة أوغسطس في ١٤ ميلاديًّا، انتقل التاج إلى ابن زوجته (فلم يكن لديه ابن) تيبيريوس، الذي اعتبره أوغسطس ابنه بالتبني، واستمر تقليد تحديد المرء لخليفته طوال سنوات بقاء الإمبراطورية. وكما قد نتوقع، أحيانًا يُثبت الابن بالتبني جدارته للمهمة، وأحيانًا لا، كان ابن تيبيريوس بالتبني (حفيد أخيه) كاليجولا كارثةً على روما، بينما تمكَّن خليفته، كلوديوس (عمه فعليًّا)، من إنقاذ الوضع إلى حدٍّ ما. أما ابن كلوديوس بالتبني، نيرون (حفيد حفيدة أغسطس من زواج سابق) فقد اتَّضح أنه أسوأ حتى من كاليجولا؛ وعندما مات ألغى مجلس الشيوخ فترة حكمه رسميًّا من السجلات. ومع وفاة نيرون انتهت السلالة التي تمتدُّ حتى يوليوس قيصر، وأُدخل دم جديد من خلال اختيار أباطرة من أسرة فلافيان، مثل فسبازيان، وأُنقذت روما. وقد بدأت أحد أكثر فتراتها نجاحًا عندما تلاشَتِ السلالة الأنطونية، التي تلت سلالة فلافيان، فوقع الاختيار على شخص غريب تمامًا؛ فكان أول ابن مُتبنًّى، وربما الوحيد الذي لم تكن تربطه بوالده صلة قرابة على الإطلاق، فلم يكن حتى من روما، إنما كان قرويًّا من إسبانيا. كان هذا هو الإمبراطور تراجان الذي أثبَتَ أنه أحد أفضل حكام الإمبراطورية؛ إذ وسع حدودها أكثر، مثلما فعل خليفتُه؛ إسباني آخر هو هادريان. إن الاستنتاج الذي يُمكننا التوصل إليه من هذا بسيط؛ فطوال عهد الجمهورية وفي السنوات الأولى من الإمبراطورية، وهي الفترة التي لم يكن أيُّ حاكم يُعيَّن بسبب نسبه فقط، كانت روما في أوج ازدهارها؛ ومن ثم عندما أصبح الاختيار يقع على الأباطرة إلى حدٍّ كبير بسبب نسبهم (وكانت فترات حكمهم تُقتطع بالقتل)، بدأت روما في الاضمحلال.
لا يكون الحاكم الذي يعيِّن نفسه، مثل يوليوس قيصر أو أغسطس، أسوأ بالضرورة من الحاكم المنتخَب، شريطة أن يكون رجلًا موهوبًا. في إنجلترا عندما عَيَّن أوليفر كرومويل نفسه في عام ١٦٥٣ السيد الحامي للكومنولث، بدأ كثيرًا من الإصلاحات المفيدة، وورث ابنُه ريتشارد اللقب بعد وفاة كرومويل في عام ١٦٥٨، وأثبت عدم كفاءته للمهمة. ونتيجة لهذا سرعان ما أُعيد النظام الملكي بدلًا من هذا، لكن مع شرط واحد؛ من الآن فصاعدًا أصبح البرلمان، وليس التاج، هو الذي يتَّخذ القرارات المهمة في الدولة.
في العصور الوسطى كانت القوة الوحيدة خارج آسيا التي تُضاهي الإمبراطورية العثمانية — القوة السائدة منذ ١٣٠٠ ميلاديًّا فصاعدًا — في الثقافة والحضارة توجد في دولة مدينة صغيرة تقع على عدد من الجزر داخل بحيرة تبلُغ مساحتها أقل من ١٠٠ ميل من أحد جوانبها إلى الجانب الآخر. ومع ذلك كانت البندقية تُضاهي الإمبراطورية العثمانية — التي بلغت مساحتها ٥ آلاف ميل من الهند في الشرق حتى البرتغال في الغرب — في التِّجارة وفاقتْها في الفن. استمرَّت جمهورية البندقية نحو ٨٠٠ سنة، وأنتجت فترةَ ازدهارها (من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر) بعضًا من أفضل الفنانين في أوروبا؛ رسامين مثل ياكوبو بيليني وابنيه جينتيلي وجوفاني، بالإضافة إلى تلميذيه جورجوني وتيتيان، وأعقبهم تينتوريو وفرونزه وإل جريكو. كانت هذه الجمهورية أيضًا موطنًا لمعماريين مثل بالاديو، وموسيقيين مثل مونتيفيردي وفيفالدي. مع ذلك، في الوقت الذي كانت معظم الدول في بقية أنحاء أوروبا يحكمها ملوك وأمراء بالوراثة، فضلت البندقيةُ القادةَ المنتخَبين (لا بد من الاعتراف بأن نحو ١٪ فقط من الشعب كان له الحق في التصويت)؛ فقد ألغت على وجه الخصوص الخلافة الوراثية لأسرة دوجي — حُكام البندقية — في عام ١٠٣٢. يمكن القول إن سُلطات الأسر الحاكمة حققت نجاحًا مماثلًا في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا، إلا أن الحُكام الضعفاء حدُّوا من تقدم بلادهم في أوقات كثيرة. نمَتِ البندقية بثبات، على مستوى ممتلكاتها الخارجية وفي استقرار مؤسساتها. ولم تبدأ قوَّتها، وليس ثقافتها، في التدهور إلا عندما تحوَّلت التِّجارة بين أوروبا وآسيا من كونها تُجرى عبر البحر المتوسط (رحلة برية طويلة) إلى إجرائها عبر طريقٍ في المحيط أسهل حول أفريقيا، اكتشفه المستكشِفون البرتغاليون في مطلع القرن السادس عشر.
يمكننا إجراء مقارنة سريعة بين استقرار الحكم البابوي في روما مع حكم الإمبراطورية خارج حدود المدينة المقدَّسة، التي من المفترض أنها تُطبِّق حكم الباباوات؛ أي الجانب العلماني في مقابل الجانب الديني للعالم المسيحي. كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، رغم استمرارها لألف سنة، تُمزِّقها النزاعات بين الأسر الحاكمة وجيرانهم، وقد نجت الكنيسة الكاثوليكية مرَّتين في هذه الفترة. ومنذ عام ١٠٥٩ لم يستطع أيُّ بابا تعيين خليفته؛ فيجب انتخاب كل بابا، عبر اقتراع سري، من مجمع الكرادلة. يوجد مثال آخر يُمكن الاستشهاد به؛ فمنذ عام ١٣٢٨ حتى عام ١٥٧٢ حكمت أسرة ياجيلون بولندا، ورغم أن الحكام جميعهم كانوا أقارب، فإن الملك كان يُنتخَب — وإن كان من الطبقة الأرستقراطية — ولم يكن يُعين ذاتيًّا؛ حتى إنه أُدخل شكل محدود للحكم البرلماني في عام ١٤٩٣. ازدهر الفن والعلم في أثناء حكم أسرة ياجيلون؛ فقد أحدثت دراسات نيكولاس كوبرنيكوس، التي أدَّت إلى افتراضه في عام ١٥٤٣ أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس، وليس العكس، إلى إحداث ثورة في علم الفلك، وأثَّرت كثيرًا في رجال مثل جاليليو ونيوتن. توسَّعت بولندا على أكبر مساحة ملكتْها في تاريخها؛ فبحلول عام ١٥٦٩ امتدت من البلطيق حتى البحر الأسود. وصلت حركة الإصلاح الديني إليها في عام ١٥٢٠ تقريبًا، رغم قمعها في البداية، وأُقر الدين البروتستانتي في عام ١٥٥٢ وطوال السنوات اﻟ ١٣٠ التالية كانت بولندا الدولة الوحيدة في أوروبا الخالية من الاضطهاد الديني. وبمجرد إدخال الحكم الوراثي مرةً أخرى، انهارت الدولة، ولم تَستعِدْ قطُّ المكانة التي تمتعت بها تحت حكم الحُكام المنتخَبين.
(٤) عودة إلى العصر الحجري الحديث
تُعتبر زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات طريقة أكثر فاعلية في إنتاج الطعام من الصيد وجمع النباتات. وكما أشرنا سابقًا، فإنها تشجِّع أيضًا على استقرار المجتمعات وتوسعها. لا عجب إذن أن أول قُرًى ومدن نشأت من المستوطَنات التي صاحبت ممارسة الزراعة، وكانت الزيادة السكانية فادحة. فقبل ظهور المجتمعات الزراعية، كان سكان العالم يزيدون لكن ببطء، ومنذ نحو ١٠ آلاف سنة ربما كانوا فعليًّا يقلُّون، فكان الإنسان العاقل معرَّضًا لخطر الانقراض، ومع ذلك فقد نجا، وبعد هذا بخمسة آلاف سنة كان ثمة مليون شخص يعيشون في مصر وحدها. تتطلَّب الزراعة مخزونًا مضمونًا من المياه، وبدأ النمو الحضري يحدُث على طول ضفاف الأنهار، كما يحدُث حتى وقتنا هذا. وفي أماكن أخرى، مثل كريت، يكون هطول الأمطار كافيًا لدعم نمو معظم المحاصيل. ويَنطبِق الأمر نفسه على أمريكا الوسطى؛ حيث نشأت المجتمعات الزراعية في المرتفعات الوسطى أو داخل الغابة المطيرة نفسها. وفي أمريكا الجنوبية أيضًا، ربما كان المزارعون الأوائل يعيشون في المناطق الجبلية في جبال الأنديز؛ حيث وفَّر الجليد الذائب، إن لم تكن مياه الأمطار، بيئة مناسبة (ظهر التحدي فيما بعد، عندما انتقلت المجتمعات إلى المناطق الساحلية الجافة أو إلى المنحدَرات المرتفعة في جبال الأنديز). في العالم القديم ظهر تحول الأفراد من صيادين وجامعي نباتات إلى مزارعين منذ نحو ١٠ آلاف سنة، واستغرق الانتقال من الحياة في مخابئ بدائية إلى التمتُّع باستقرار المباني ٤ آلاف سنة أخرى، وأصبح واضحًا في عام ٤ آلاف قبل الميلاد تقريبًا في أقدم الحضارات. وفي أمريكا، التي لم تصبح مأهولة بالسكان إلا منذ نحو ١٢ ألف سنة أو ما شابه في الشمال وبعد ألفي عام أخرى في الجنوب، يجب ألا يتوقع المرء العثور على أدلة على مستوطنات ترجع إلى وقت أبعد من هذا. في الواقع لم تكن هذه المستوطنات تَرجع إلا إلى بضعة آلاف من السنوات؛ مما يُشير إلى ظهور الزراعة في العالم الجديد في الوقت نفسه تقريبًا الذي ظهرت فيه في العالم القديم. هل كان المسئول عن هذا تغيُّر عالمي في المُناخ، في اللحظات الأخيرة من آخر عصر جليدي؟ إنها مسألة غير محسومة تَحيق بها فرضيات أكثر عددًا من الحقائق.