(١) ثلاثة رجال من قرطبة
كان الرجل الجالس إلى الطاولة ذات السطح الرخامي في مَقهى «جريت كابتن» — إن صحَّت ترجمتي للافتة — رجلًا ميسورًا خالي البال. كان رجلًا طويل القامة ذا لحية مُشذَّبة وعينين رماديتَين مُتجهمتَين تجوبان الشوارع في شرود، فكأنه لا يعرف مُبتغاه. راح يرتشف فنجانًا من القهوة الممزوجة باللبن، وينقر على الطاولة بيديه البيضاوين النحيلتين عازفًا نغمة صغيرة.
كان متَّشحًا بالسواد، الذي يُعدُّ لونًا تقليديًّا رائجًا في إسبانيا، وكانت عباءته السوداء مبطنة بالمخمل. كانت رابطة عنقه من الساتان الأسود، وكان بنطالُه المُحكَم عليه تمامًا مربوطًا أسفل حذائه المدبَّب، على طريقة بعض السادة الإسبان.
كانت هذه الملامح التي يتَّسم بها ملبسُه غريبة أشد الغرابة في قرطبة، بالرغم من أنه كان تقليديًّا بالدرجة الكافية. ربما كان إسبانيًّا؛ إذ كانت العيون الرمادية إرثًا من جيش الاحتلال، وقد وُلِد الكثير من الأشخاص من زيجاتٍ تَجمع بين أيرلنديِّي ولينجتون الذين يَغلب عليهم المرَحُ والبهجة، وبين سيدات إستريمادورا المرهَفات الحس.
كانت طريقة حديثه سليمة تمامًا بلا أي أخطاء، وكان يتحدَّث بلثغة أندلسية؛ مُجتزئًا كلماته مثلما يفعل أهل الجنوب. وقد تجلَّى الدليل على أصله الجنوبي في ردِّ فعله تجاه الشحَّاذ المُتأوِّه الذي جاءه يجرُّ قدمَيه في ألم ومرارة، مادًّا يده طلبًا للإحسان.
«باسم العذراء، والقدِّيسين، والرب الذي هو فوق الجميع، أتوسل إليك يا سيدي أن تمنحني عشرة سنتيمات.»
اتجه الرجل ذو اللحية بعينيه الشاردتين نحو راحة يده الممدودة.
ثم قال باللكنة العربية المدغمة المميِّزة لمنطقة المغرب الإسباني: «سوف يعطيك الرب.»
قال الشحاذ بنبرة رتيبة: «إنني لن أكفَّ أبدًا عن الدعاء لفخامتك بالسعادة، حتى وإن عشتُ مائة عام.»
نظر ذو العباءة المبطنة بالمخمل إلى الشحاذ.
كان الشحاذ رجلًا متوسط الطول، حاد الملامح، طليق اللحية على غرار أمثاله، ومعصبًا بضمادات ثقيلة تُغطِّي رأسه وإحدى عينَيه.
كان أعرج أيضًا تتجسَّد قدماه في كتل بلا شكل محدَّد من الضمادات الملفوفة، وكانت يداه الشاحبتان تَقبضان بقوة على عصا.
قال متأوهًا: «أيها السيد والأمير، بيني وبين آلام الجوع اللعينة عشرة سنتيمات، ولن تهنأ فخامتك بنومك وأنت تَراني في خيالك أتقلَّب على جمر الجوع.»
قال الآخر في صبر: «فلتذهب في سلام.»
أطلق الشحاذ زفرةَ أنين قائلًا: «فليباركك يسوع في حجر أمه» ثم أشار بعلامة الصليب «بحق القدِّيسين ودماء الشهداء المباركة، أستحلفك ألَّا تتركني أموت على جانب الطريق، بينما يمكن لعشرة سنتيمات، لا تُساوي لديك شيئًا شأنها شأن قلامة أظافرك، أن تشبع معدتي.»
ارتشف الرجل الجالس إلى الطاولة قهوته دون أن يُحرك ساكنًا.
ثم قال: «اذهب في رعاية الرب.»
غير أنَّ الرجل لم يزل يتباطأ ويتلكأ.
راح ينظر يَمنة ويسرة إلى الشارع المُشمِس بلا حول ولا قوة، ثم حدَّق في المقهى البارد المظلم من الداخل؛ حيث جلس نادلٌ إلى إحدى الطاولات يقرأ الجريدة دونما اكتراث لأي شيء.
بعد ذلك مال إلى الأمام، ومدَّ يده ببطء ليأخذ كسرة كعك من الطاولة المجاورة.
سأل بإنجليزية ممتازة: «أتعرف د. إيسلي؟»
بدا السيد المختال بنفسه الجالس إلى الطاولة مستغرقًا في التفكير.
سأل باللغة نفسها: «لا أعرفه، لكن لماذا؟»
قال الشحاذ: «يجدر بك أن تعرفه؛ إنه شخص مثير للاهتمام.»
وانصرف يجرُّ قدميه بصعوبة عبر الشارع دون أن يزيد كلمة. وراح السيد يُراقبه ببعض الفضول وهو يشق طريقه ببطء إلى المقهى المُجاور، ثم صفَّق بحدة جعلت النادل الغافل، الذي كان في تلك اللحظة منكبًّا على الجريدة على نحو ملحوظ، يستفيق فجأة، وحصل منه على قيمة الفاتورة، وعلى بقشيش يَتناسب مع قيمتها. وبالرغم من أن السماء كانت صافية بلا غيوم، فقد ألقت الشمس بظلال زرقاء على الشارع، وكانت تلك الظلال نفسها تحمل برودة قارصة؛ إذ كانت تلك هي الأيام الباردة التي تسبق أولى بشائر حر الربيع.
وقف الرجل فاردًا قامته التي كان طولها يزيد على ستِّ أقدام، وحرَّك عباءته قليلًا وبخفَّة ألقى أحد طرفيها على كتفه، ثم بدأ يمشي رويدًا في الاتجاه الذي ذهب منه الشحاذ.
قاده الطريق إلى شوارع ضيقة للغاية؛ حتى إن الجدران على كلا الجانبَين قد تخلَّلتها شقوق عميقة تسمح بمرور صناديق عربات النقل. أدرك الشحاذ الذي كان في مقهى كال بارايزو واجتازه، سالكًا الشوارع المؤدية إلى شارع سان فرناندو، الذي سار فيه بتمهُّل شديد، ثم عرج إلى شارع كاريرا دي بوينتي؛ فصار في ظلال المسجد-الكاتدرائية المكرس لله والرب على حدٍّ سواء، بحيادية تشرح الصدور. وقف متردِّدًا أمام البوابات المؤدية إلى الأفنية الداخلية، وقد بدا في شيء من الريبة، ثم استدار مجددًا وانحدر عبر التل نحو جسر كالاهورا. امتد الجسر في استقامة شديدة، بأقواسه الست عشرة التي شيَّدها الموريون القدماء. وصَل الرجل ذو العباءة إلى منتصف الجسر، ومال من فوقه يراقب باهتمام فاتر تلك المياه الصفراء المتلاطمة في النهر الكبير.
رأى الشحاذ بزاوية عينه وهو يتقدَّم ببطء نحو البوابة ويسير في اتجاهه. وقد انتظر لوقت طويل؛ إذ كان الرجل يتقدم ببطء. وفي النهاية اقترب منه في حذر، وقبَّعته في يده وراحة يده ممدودة. كان سلوكه كسلوك الشحاذين، لكن صوته كان صوت رجل إنجليزي مثقَّف.
قال في نبرة جادة: «مانفريد، لا بد أن ترى هذا الرجل المدعو إيسلي. لديَّ سبب خاص لطلبي ذاك.»
«من هذا الرجل؟»
ابتسم الشحاذ.
وقال: «إنني أعتمد على الذاكرة إلى حدٍّ كبير؛ إذ إنَّ المكتبة الموجودة في مسكني المُتواضع محدودة إلى حدٍّ ما، لكن لديَّ فكرة محدودة أنه طبيب في إحدى ضواحي لندن، أو بالأحرى جراح ماهر.»
«ماذا يفعل هنا؟»
ابتسم جونزاليس الجليل مجددًا.
«يوجد في قرطبة رجل يدعى د. كاجالوس. ونظرًا إلى أجواء الفخامة في ساحة باسيو دي لا جران كابيتان، والتي أعلم أن مسكنك الفاخر يقع فيها، لا يصلك أي صدًى لعالم قرطبة السُّفلي.» أشار إلى أسطح المباني الواقعة في الطرف الأقصى من الجسر وما تعج به من فوضى وأردف قائلًا: «هنا، في كامبو دي لافيرداد؛ حيث يعيش الناس في سعادة على أجر لا يتعدَّى بيزيتَيَيْن في الأسبوع، نَعرف د. كاجالوس. إنه رجل معروف وذو شعبية؛ كم هو رجل رائع، يصنع معجزات لا تَحلم بها في فلسفتك؛ فهو يُعيد البصر إلى الكفيف، ويسبل تعاويذ على المُذنبين، ويصنع أشربة الحب المعصوم للأبرياء! وهو يتمتَّع بالقدرة على إزالة دمل، أو إيقاف ويلات مرض النوم.»
أومأ مانفريد، وقال وفي عينَيه بريق: «حتى في ساحة باسيو دي لا جران كابيتان لا يَفقِد احترامه. لقد رأيته وأخذت مشورته.»
اندهش الشحاذ بعض الشيء وقال وفي صوته نبرة إعجاب: «أنت رجل مُدهِش. متى فعلت ذلك؟»
ضحك مانفريد ضحكة خافتة.
«في إحدى الليالي، قبل بضعة أسابيع معدودة، حين وقف أحد الشحاذين أمام باب الطبيب المبجَّل ينتظر بفارغ الصبر حتى يَنتهي زائر غامض، كان مُتخفيًا بالكامل، من أمره.»
قال الآخر مُومئًا: «أذكر ذلك. كان غريبًا من رُندا، وكان لديَّ فضولٌ لمعرفة أمره؛ هل رأيتَني وأنا أتبعه؟»
قال مانفريد بجدية: «رأيتُك. رأيتك من زاوية عيني.»
سأل جونزاليس مُندهشًا: «لقد كان أنت، أليس كذلك؟»
قال الآخر: «بلى، لقد خرجت من قرطبة لأذهب إلى قرطبة.»
لاذ جونزاليس بالصمت لبرهة.
ثم قال: «سأتقبَّل الإهانة. والآن، بما أنك تعرف الدكتور، أترى أي سبب يدفع طبيبًا إنجليزيًّا عاديًّا إلى زيارة قرطبة؟ لقد قطع هذه المسافة كلها من إنجلترا على متن قطار الجزيرة الخضراء السريع، دون أن يتوقَّف في محطة واحدة. وسوف يُغادر قرطبة غدًا مع أول ضوء للنهار على القطار السريع نفسه، وسوف يأتي لاستشارة د. كاجالوس.»
«بويكارت هنا؛ فهو شديد الاهتمام بأمر هذا المدعو إيسلي، حتى إنه سيأتي إلى قرطبة خلسة بصحبة بيدكير، سعيًا للحصول على معلومات بشأن هذا المرشد الرحَّالة، وسيستسلِم في خنوع لأخطائه.»
مسَّد مانفريد على لحيته الصغيرة، وفي عينيه الحكيمتَين ذلك التعبير التأمُّلي الجاد نفسه الذي ارتسم فيهما عندما شاهد جونزاليس آتيًا يُجرجِر قدميه من مقهى دي لا جران كابيتان، ثم قال: «كانت الحياة لتُصبحَ مُملَّة بدون بويكارت.»
«ستكون مملَّة حقًّا! آه يا سيدي، لأقضينَّ عمري في الثناء عليك، ولسوف يَرتفِع في الهواء مثلما يرتفع دخان البخور المقدَّس إلى عرش السماء.»
وفجأةً تخلَّى عن أنينه؛ إذ كان ثمَّة شرطي من حرس المدينة يَقترب نحوهما، لاشتباهه في الشحاذ الذي وقَفَ بيدٍ مَمدودة في ترقُّب الإحسان.
هز مانفريد رأسه بينما كان الشرطي يجوب الأرجاء على مهَل.
وقال: «اذهب في سلام.»
قال الشرطي ويدُه الغليظة تنقضُّ على كتف الشحاذ: «كلب، لص ابن لص، اذهب حتى لا تؤذي أنف هذا السيد المرموق برائحتك.»
ووقف يراقب الرجل وهو يعرج مُبتعدًا، واضعًا يديه حول خاصرتَيه، ثم التفت إلى مانفريد.
تحدث بحدة فقال: «لو كنت رأيت هذا الحثالة من قبل يا صاحب الفخامة، لأرحتك من رفقته.»
قال مانفريد بأسلوب تقليدي: «لا عليك.»
تابع الشرطي محررًا إحدى يدَيه من خاصرته ليُبرم أحد طرفي شاربه الهزيل: «إنني أؤدِّي عملًا شاقًّا في حماية الأثرياء والسادة الكرام الأجواد من هؤلاء الخنازير. ويعلم الله كم أن راتبي هزيل، والحياة صعبة في ظل وجود ثلاثة أفواه جائعة يجب إطعامها، فضلًا عن والدة زوجتي، والتي تأتي دومًا في أيام الأعياد ولا بدَّ من اصطحابها لمشاهدة مصارعة الثيران. وفوق ذلك كله يا سيدي، فهي من أولئك النساء الأندلسيات المُتغطرِسات اللاتي لا بد أن يتخذن مقعدًا في الظل مقابل بيزيتَيَيْن. أما أنا، فلم أذُقْ طعم النبيذ الإسباني منذ عيد القديسة تريزا …»
دس مانفريد بيزيتا في يد الشحاذ ذي الزي العسكري. وسار الرجل بجواره حتى نهاية الجسر، ومضى يَسرد على مسامعه مشكلاته المنزلية سردًا تفصيليًّا ومشوقًا، بحُريةٍ وحميميةٍ لا وجود لهما في أي مكان آخر في العالم. ووقفا يتسامَران بالقرب من المدخل الرئيس للكاتدرائية.
تساءل الشرطي: «فخامتك لست مِن قُرطبة، أليس كذلك؟»
قال مانفريد دون تردُّد: «أنا من مالقة.»
أسر له الشرطي قائلًا: «كان لي أختٌ مُتزوِّجة من صياد من مالقة. وقد مات زوجها غرقًا، وهي الآن تعيش مع رجلٍ لا أذكر اسمه. إنها امرأة مُتدينة ورعة، لكنَّها أنانية للغاية. هل ذهبت فخامتك إلى جبل طارق من قبل؟»
أومأ مانفريد بالإيجاب؛ إذ كان مهتمًّا بمتابعة مجموعة من السائحين كانوا يُشاهِدون أمجاد بويرتا ديل بيردون.
انفصل أحد السائحين عن رفقته واتجه نحوهما. كان رجلًا متوسِّط الطول ذا بِنية جسدية قوية. كان ثمة تحفُّظٌ غريبٌ في سيمائه وهدوء كئيب في قسمات وجهه.
تساءل بلغة إسبانية ركيكة: «هلا أرشدتماني إلى ساحة باسيو دي لا جران كابيتان؟»
قال مانفريد في دماثة: «ذاك طريقي، إن تفضَّل السيد بمرافقتي …»
قال الآخر: «سأكون ممتنًّا لك.»
أخذا يتحادَثان قليلًا في موضوعات تنوعت بين الطقس والطابع المبهج للمسجد-الكاتدرائية.
قال السائح فجأة: «لا بد أن تأتي وتقابل إيسلي.» وكان يتحدَّث حينها بإسبانية ممتازة.
قال مانفريد: «حدثني عنه. فقد أثرتُما فضولي أنت وجونزاليس بحديثكما عنه يا عزيزي بويكارت.»
قال الآخر بجدية: «إنها مسألة مهمَّة. إيسلي هو طبيب في إحدى ضواحي لندن. لقد وضعته تحت المراقبة لبضعة أشهر. لديه عيادة صغيرة — بل صغيرة للغاية في الواقع — ويشرف على علاج بضع حالات. ليس لديه نشاط ذو أهمية في ضاحيته، وقصته غريبة؛ لقد كان طالبًا في كلية لندن الجامعية، وفور حصوله على شهادته الجامعية غادَرَ إلى أستراليا مع شابٍّ يُدعى هينلي. كان هينلي فاشلًا ميئوسًا منه وكان يُعاني بشدة في اختباراته، غير أنَّ الاثنين قد تصادَقا بسرعة، وهو ما قد يُفسِّر رحيلهما معًا ليُجرِّبا حظهما في بلدٍ جديد. لم يكن لأيٍّ منهما أي أقرباء في العالم، عدا عم ثري لهنلي كان يعيش في مكانٍ ما في كندا، وهو لم يرَه من قبل. فور وصولهما إلى ملبورن، انطلق الاثنان عبر البلاد وهما يَعتزمان التوجُّه إلى مناجم الذهب الجديدة التي كانت في أوجِ ازدهارها آنذاك. لا أدري موقع هذه المناجم؛ غير أنَّ إيسلي لم يصل إلا بعد ثلاثة أشهر على أيِّ حال، وقد وصل بمفردِه؛ إذ تُوفي رفيقُه في الطريق!»
وتابع بويكارت حديثه قائلًا: «يبدو أنه لم يَبدأ في مُمارسة مهنته لثلاث سنوات أو أربع. يُمكننا تتبع تنقُّلاته من معسكر تنقيبي إلى آخر؛ حيث نقَّب قليلًا وقامر كثيرًا، وكان معروفًا في العموم باسم د. إس؛ لعله اختصار لإيسلي. ولم يُحاول أن يؤسس سمعته كطبيب حتى وصوله إلى أستراليا الغربية. كان لديه شيءٌ أشبه بالعيادة، صحيح أنها لم تكن راقية بالدرجة الكافية، لكنها كانت مربحة بلا شك. اختفى من مدينة كولجاردي في عام ١٩٠٠، ولم يُعاوِد الظهور في إنجلترا حتى عام ١٩٠٨.»
كانا قد وصَلا إلى الساحة في ذلك الوقت. وكانت الشوارع أكثر ازدحامًا مما كانت عليه حين كان مانفريد يَتتبَّع الشحاذ.
قال: «لديَّ شقة هنا. تفضَّل بالدخول لنَحتسيَ بعض الشاي.»
كان يسكن شقة تقع فوق محلِّ مَصُوغات في كال موريرا. وكانت شقَّة فخمة جيدة التأثيث. وبينما كان مانفريد يُدخل المفتاح في الباب، تابع موضحًا: «وهي مُميزة على نحوٍ خاص فيما يتعلَّق بالإضاءة.» ووضَع غلاية شاي فضِّية على الموقد الكهربائي.
تساءل بويكارت: «الطاولة معدَّة لاثنين؟»
قال مانفريد بابتسامة خفيفة: «غالبًا ما يَأتيني زوَّار. أحيانًا تصبح مهنة التسوُّل عبئًا لا يُحتمل لصديقنا ليون، ويدخل إلى قرطبة عبر السكة الحديدية، بصفتِه عضوًا مرموقًا من أعضاء المجتمع وكله رغبة في الاستمتاع برفاهيات الحياة، وبالقصص. فلتُكمِل قصتك يا بويكارت؛ فأنا متشوق لسماعها.»
جلس «السائح» في مقعدٍ وثير ذي ذراعين. وتساءل: «إلى أين وصلت؟ آه، نعم، اختفى د. إيسلي من كولجاردي، وبعد اختفاءٍ دام ثمانية أعوام، عاد للظهور في لندن.»
«هل أحاط بظهوره أي ظروف استثنائية؟»
«كلا، كان الأمر عاديًّا تمامًا. يبدو أنَّ النسخة الأحدث من نابليون قد تبنَّته.»
سأله مانفريد رافعًا حاجبَيه: «أتقصد كولونيل بلاك؟»
أومأ بويكارت برأسه بالإيجاب.
ثم قال: «بالضبط، هو ذلك الرجل الذي بزغ نجمه بسرعة هائلة. على أيِّ حال، يبدو أن إيسلي ينعم برغد العيش، بفضل الحالات التي استطاع سرقتَها من المُمارسين الآخرين في ضاحيته، والتي تقع في مكانٍ ما في حي فوريست هيل، والحالات التي تأتيه بتزكية من نابليون. لقد جذب انتباهي لأول مرة …»
في تلك اللحظة سُمع طرق على الباب، ورفع مانفريد إصبعه مُحذِّرًا. اجتاز الغرفة وفتح الباب. كان حارس البِناية واقفًا أمامه، وفي يده قبَّعة؛ وكان هناك من خلفه، على مسافة قصيرة بالأسفل، شخص غريب، وكان واضحًا أنه إنجليزي.
قال الحارس: «يوجد سيد يرغب في لقاء فخامتك.»
قال مانفريد مخاطبًا الغريب بالإسبانية: «مرحبًا بك في منزلي.»
قال الغريب الواقف على السلم: «يُؤسفني أنني لا أتحدث الإسبانية جيدًا.»
سأله مانفريد بالإنجليزية: «هلا صعدت؟»
فصعد الآخر السلَّم بتُؤَدة.
كان رجلًا في العقد السادس من العمر. كان شعره رماديًّا طويلًا، وحاجباه كثيفَين وأشعثَين، وفكه السُّفلي بارزًا، مما أضفى على وجهه مظهرًا مُنفِّرًا بعض الشيء. كان يرتدي معطفًا طويلًا ويحمل في يده المكسوة بقفاز قبعة كبيرة ناعمة.
أخذ يحدق عبر الغرفة محولًا بصره من أحدهما إلى الآخر.
قال: «اسمي إيسلي.»
وأطال في نطق صوت اﻟ «س» فتردَّد صوته كأنما كان يصدر هسيسًا. كرر الاسم وكأنه يستمد بعض الرضا من التكرار، ثم أردف قائلًا: «د. إيسلي.»
أشار له مانفريد بالجلوس، لكنه هز رأسه رافضًا.
قال بنبرة حادة: «سوف أقف؛ فحين يكون لديَّ مُهمَّة أظلُّ واقفًا.» نظر بارتياب إلى بويكارت. ثم قال بنبرة تأكيدية: «لديَّ مهمة خاصة.»
قال مانفريد: «لديَّ ثقة كاملة في صديقي.»
أومأ إيسلي بالموافقة كرهًا. قال: «أعلم أنك عالم ورجل على دراية كبيرة بإسبانيا.»
هز مانفريد كتفَيه؛ فقد كان بصفته الحالية يشتهر بكونه أديبًا شبه علمي، وكان قد نشر كتابًا عن «الجريمة العصرية» تحت اسم «دي لا مونت».
قال الرجل: «وفي ظلِّ معرفتي هذه، جئت إلى قرطبة؛ لا سيما وأنَّ لديَّ مهمة أخرى أيضًا، لكنها ليسَت ملحة.»
راح يبحث حوله عن كرسي، فقدم له مانفريد واحدًا هوى فيه، مُديرًا ظهره إلى النافذة.
تحدث الطبيب بتروٍّ شديد وقد مال إلى الأمام، ووضع يديه على ركبتَيه: «سيد لا مونت، إن لديك قدرًا من المعرفة بالجريمة.»
قال مانفريد: «لقد ألَّفتُ كتابًا عن الموضوع، غير أنَّ ذلك لا يعني ما تقول بالضرورة.»
قال الآخر بصراحة مباشرة: «كان لديَّ هذا التخوف. وكنتُ أخشى أيضًا ألا تكون مُتقِنًا للإنجليزية. والآن أريد أن أسألك سؤالًا واضحًا، وأريد منك إجابة واضحة.»
قال مانفريد: «سأكون مُستعدًّا تمامًا لذلك قدر استطاعتي.»
لوى الطبيب قسمات وجهِه في توتُّر، ثم قال: «هل سمعت من قبل عن رجال العدالة الأربعة؟»
خيم صمتٌ وجيز.
قال مانفريد بهدوء: «نعم، سمعت عنهم.»
«هل هم في إسبانيا؟» طُرحَ السؤال بنبرة حادة.
قال مانفريد: «ليس لديَّ معلومة دقيقة عن ذلك. لماذا تسأل؟»
قال الطبيب متردِّدًا: «لأن … آه، حسنًا أنا مُهتمٌّ بالأمر. يقال إنهم يكشفون الجرائم التي لا يُعاقب عليها القانون؛ إنهم، إنهم يُمارسون القتل، صحيح؟» صارت نبرة صوته أكثر حدة، وضاق جفناه إلى أن صار يجول ببصره من أحدهما إلى الآخر عبر شقَّين ضيِّقَين.
قال مانفريد: «إن مثل هذا التنظيم معروف وجودُه، ومن المعروف أنهم يُصادفون جريمة لا تَخضع للعقاب، ويُنزلون العقاب بمرتكبها.»
«أيصلون بالعقاب ولو إلى … إلى القتل؟»
قال مانفريد بجدية: «يَصلُون ولو إلى القتل.»
انتفض الطبيب واقفًا في غضب شديد وطوح يديه محتجًّا: «ويُفلتون دون عقاب! يفلتون دون عقاب! وجميع رجال القانون بالأمم كافَّة لا يُمكنهم الإيقاع بهم! لقد نصَّبُوا أنفسهم قضاة؛ من هم ليحاكموا الناس ويُدينوهم؟ من أعطاهم الحق للجلوس على منصة القضاء؟ يوجد قانون، وإذا احتال عليه أحدهم …»
وفجأة كبح جماح نفس، وهزَّ كتفَيه، وهوى في مقعده بقوة مرة أخرى.
ثم قال بأسلوب فظ: «إنَّ المعلومات التي استطعت الحصول عليها عن هذا الموضوع حتى الآن تفيد بأنَّ هؤلاء الرجال قد توقَّفُوا عن ممارسة نشاطهم؛ فهم خارجون على القانون، وتوجد أوامر قضائية بضبطهم في كل بلد.»
أومأ مانفريد.
وقال في لطف: «هذا صحيح تمامًا. أما ما إذا كانوا لا يَزالون يُمارسون نشاطهم أم لا، فهذه مسألة لن يكشف عنها إلا الوقت.»
تطلع الطبيب ببصره سريعًا وقال: «أهم ثلاثة، وعادةً ما يجدون شخصًا رابعًا مؤثرًا؟»
أومأ مانفريد مجدَّدًا وقال: «هذا ما فهمتُه.»
تلوَّى د. إيسلي في كرسيه بعدم ارتياح. كان من الجليِّ أنَّ المعلومات أو التأكيد الذي توقَّع الحصول عليه من هذا الخبير المتخصِّص في الجرائم لم يكن مُرضيًا تمامًا له.
تساءَل قائلًا: «وهم في إسبانيا؟»
«هذا ما يُقال.»
قال الطبيب في استياء: «إنهم ليسوا في فرنسا، وليسوا في إيطاليا، وليسوا في روسيا، ولا في ألمانيا؛ فلا بدَّ إذن أنهم في إسبانيا.»
راح يُجيل فكره في الأمر لبعض الوقت في صمت.
قال بويكارت الذي كان مستمعًا صامتًا حتى الآن: «معذرة، لكن يبدو أنك مُهتم بهؤلاء الرجال أبلغ الاهتمام. هل سيُزعجك إذا طلبت منك، إرضاءً لفضولي، أن تُخبرَني بالسبب وراء لهفتك لمعرفة مكانهم؟»
قال الآخر سريعًا: «الفضول أيضًا؛ فأنا دارس مُتواضع لعلم الجريمة نوعًا ما، مثل صديقنا لا مونت.»
قال مانفريد بنبرة هادئة: «بل طالب متحمِّس.»
قال إيسلي غير مُبالٍ بالتأكيد المُعبِّر في نبرات صوت الآخر: «كنتُ أتمنَّى لو أنك استطعت تقديم المساعدة؛ فأنا لم أعلم عنهم شيئًا بخلاف حقيقة أنهم قد يكونون في إسبانيا، وهي في النهاية محض افتراض.»
قال مانفريد وهو يُرافق ضيفه إلى الباب: «ربما حتى لا يكونون في إسبانيا؛ ربما لا يكون لهم وجود أصلًا؛ ربما تكون مَخاوفك لا أساس لها تمامًا.»
قطب الطبيب وشحبت شفتاه، وقال وأنفاسه تتلاحَق: «مخاوف؟ هل قلت مخاوف؟»
ضحك مانفريد بلا اكتراث قائلًا: «آسف! ربما لا تكون إنجليزيتي جيدة.»
تساءل الطبيب في نبرة عُدوانية: «لماذا أخشاهم؟ لماذا؟ إنك تَنتقي كلماتك برُعونة شديدة يا سيدي. ليس لديَّ ما يَجعلني أخشى رجال العدالة، ولا أي شيء آخر.»
وقَف يَلهث عند المدخل كرجل حُجبَ عنه الهواء على حين غرة. تمالك نفسه بصعوبة، وتردَّد للحظة، ثم غادَرَ الغرفة بانحناءة بسيطة متصلِّبة.
نزل على السلَّم، ومنه إلى الشارع، ثم عرج إلى ساحة باسيو. كان هناك شحاذ على الناصية يَرفع يدًا واهنة. قال متأوِّهًا: «لأجل الرب …»
سدد إيسلي ضربة ليد الشحاذ بعَصاه وهو يسب، لكنَّها لم تصب؛ إذ كان الشحَّاذ سريعًا على نحو فريد، ففي ظلِّ كل المشاقِّ التي كان متأهِّبًا لمواجهتها، لم يكن لدى جونزاليس أي رغبة لتحمل كدمة أو خياطة جراحية في يدِه؛ فقد كانت هاتان اليدان المُرهفَتان هما كل ما يَمتلكه جونزاليس.
سلك الطبيب طريقًا موحشًا متوجِّهًا إلى فندقه. وعند وصوله إلى غرفته، أغلق الباب وألقى بنفسه على كرسي ليُفكِّر. أخذ يلعن حماقته؛ فقد كان جنونًا منه أن يفقد أعصابه، حتى وإن كان ذلك أمام شخص في تفاهةِ هاوٍ إسباني في مجال العلوم. وهكذا انتهى النصف الأول من مهمَّته بالفشل. أخذ من جيب معطفِه الذي كان معلقًا خلف الباب كتيبًا سياحيًّا إسبانيًّا، وأخذ يقلب أوراقه حتى وصل إلى خريطة لقرطبة. وكان مُلحَقًا بها خريطة أصغر، بدا واضحًا أن مَن وضعها يعرف تضاريس المكان أكثر مما يفهم عن قواعد رسم الخرائط.
كانت أول مرة سمع فيها عن د. كاجالوس من أناركي إسباني كان قد قابَلَه في بعض جولاته الليلية الاستطلاعية في لندن. وتحت تأثير نبيذٍ من نوع جيد، أضفى هذا الرجل الجريء على ساحر قُرطبة صفات هي أقرب إلى القُوى الإعجازية، وقال أيضًا أشياء أثارت اهتمام الطبيب إلى درجة بالغة. أعقب ذلك رسالة، وكانت النتيجة هي هذه الزيارة.
نظر إيسلي إلى ساعة يده. كانت عقاربها تُشير إلى السابعة تقريبًا. سوف يَتناول عشاءه، ويذهب إلى غُرفته ويستبدل ثيابه. أصلح هندامه على عجل في ظلام الغرفة الآخِذِ في التزايد — والغريب أنه لم يُشعل نور الغرفة — ثم ذهَب لتناول العشاء. اتخذ لنفسه طاولة، ودفَنَ وجهه في مجلة إنجليزية أحضرها معه. وفي أثناء القراءة، كان يُدوِّن بعض الملاحظات من آنٍ لآخر في مُفكِّرة صغيرة تقبع على الطاولة بجوار طبقِه.
لم تكن لهذه الملاحظات أي صلة بالمَقال الذي كان يقرؤه، ولم تكن لها سوى صلة محدودة بالطب؛ فقد كانت تتناول في العموم جوانبَ ماليةً معيَّنة لمُعضلةٍ خطرَت بباله.
فرغ من عشائه، وراح يَتناول قهوته على الطاولة، ثم نهض، ووضع المفكرة الصغيرة في جيبه والمجلة تحت ذراعه، وعاد أدراجه إلى غرفته. أضاء النور، وأسدل الستائر، وسحب مزينة خفيفة تحت المصباح. أخرج المفكرة مرةً أخرى من جيبه، وبالاستعانة بعدد من الأوراق المكتظَّة بالكتابة كان قد أخذها من حقيبته، استطاع تجميع جدول صغير. وظل مُنهمكًا في ذلك تمامًا لقرابة ساعتَين. وكأن ساعة مُنبِّهة خفية وغير مسموعة قد نبَّهتْه إلى انهماكه ذاك؛ فأغلق المُفكِّرة، ووضع مذكراته في الحقيبة، وارتدى مِعطفه. غادر الفندق مُعتمرًا قبَّعة ناعمة من اللِّبْد قد انسدَلَت على عينَيه، وبدون تردُّد سلك الطريق المؤدِّي إلى جسر كالاهورا. كانت الشوارع التي اجتازَها وصولًا إلى وجهته مهجورة، لكنه لم يتردَّد للحظة في اختيار طريقِه؛ إذ كان يعرف جيدًا ما تتَّسم به هذه الضواحي الإسبانية الصغيرة المُفتقِرة إلى أيِّ جاذبية من التزام بالقوانين.
خاض في متاهة من الشوارع الضيقة — وكانت دراسته للخريطة قد قدَّمت له نفعًا كبيرًا — ولم يتردَّد إلا حين وصَلَ إلى زقاق كان أكثر اتساعًا ورحابة من الشارع الذي تفرَّع منه. ازداد المكان كآبة بوجود مصباح زيتي واحد في الطرف الأقصى من الشارع. وتراصَّت على كلا الجانبين بيوت عالية بلا نوافذ، قد حُفر في كلٍّ منها باب. وبعد لحظة من التردُّد، طرق الطبيب مرتين على الباب الواقع إلى يساره.
فُتح الباب في الحال دون أيِّ ضجيج، مما جعَله يتردَّد.
جاء صوت من الداخل يتحدَّث بالإسبانية قائلًا: «ادخل. لا داعيَ للخوف يا سيد.»
دلف وسط الفراغ الحالك، وأُغلقَ الباب من خلفِه. قال الصوت: «من هذا الاتجاه.» استطاع وسط الظلام الحالك أن يتبيَّن هيئة غير واضحة لرجل ضئيل البِنية.
دلف الطبيب وأخذ يَمسح قطرات العرق من على جبينِه خِلسة. أشعل العجوز مصباحًا، وراح إيسلي يتفحَّصه بعناية. كان ضئيلًا للغاية، لا يَزيد طوله عن أربع أقدام إلا قليلًا. كانت له لحية بيضاء شعثاء، ورأس أصلع كبيضة. كان وجهه متسخًا وكذلك يداه، وكان مظهرُه بالكامل يوحي بوجود جفاء بينه وبين الماء.
استقرَّت عيناه السوداوان اللامِعتان في غور رأسه، وكانت التجاعيد المحيطة بهما تُوحي بأنه رجل قد تحرَّى الجانب المرح في الحياة. كان هذا هو د. كاجالوس، أحد مشاهير إسبانيا، غير أنه لم يحظَ بمكانةٍ اجتماعيةٍ بارزة.
قال كاجولوس: «اجلس. سوف نتحدَّث في هدوء؛ إذ إنَّ لديَّ في الغرفة المُجاوِرة سيدة من الطبقة الراقية في انتظار مُقابلتي بشأن علاقة حبٍّ مفقودة.»
اتخذ إيسلي موضعه في الكرسي الذي قدَّمه له، بينما جلس الطبيب على مقعَد مُرتفِع بجوار الطاولة. كانت هيئة غريبة تلك التي اتَّخذها بساقَيه الضئيلتَين المُتدليتَين، ووجهه العجوز، ورأسه الأصلع اللامع.
استهلَّ الطبيب الحديث قائلًا: «كنتُ قد كتبتُ إليك بشأن بعض الظواهر الغامضة.» لكن العجوز قاطَعَه بإشارة سريعة من يدِه.
وتحدث قائلًا: «لقد أتيت لمقابلتي يا سيدي بشأن العقار الذي قمتُ بتحضيره؛ مُستحضر …»
هبَّ إيسلي واقفًا.
قال متلعثمًا: «أنا، أنا لم أُخبرْك بذلك.» قال الآخر بنبرة جدِّية: «أخبرني الشيطان الأخضر. إنني أتحدَّث كثيرًا مع الشياطين الحزينة، وهم يتحدَّثون بصدقٍ شديد.»
«أظن أن …»
قال العجوز: «انظر!» وقفَزَ من مجلسه العالي بخفَّة ورشاقة، ثم توجه إلى الجانب المُظلِم من إحدى الغرف حيث كانت هناك بعض الصناديق. سمع إيسلي صوت شغب، وسرعان ما عاد العجوز حاملًا في يده أرنبًا من أذنَيه وهو يتلوَّى. بيده الخاوية نزَعَ سدادة زجاجة خضراء صغيرة على الطاولة، ثم التقط ريشةً من على الطاولة، وغمسَ طرفها بحذر في الزجاجة. بعد ذلك، لامَسَ أنف الأرنب بطرف الريشة في حذر وخفة بالغَين، حتى إنَّ الريشة لم تكَد أن تمسَّ أنف الأرنب.
وفي الحال، ودون أي مقاوَمة، صار الأرنب يترنَّح ويَعرج وكأن جوهر الحياة قد انسحب من الجسد. أعاد كاجالوس السدادة إلى موضعها ووضع الريشة في نيران خافِتة أشعلها في منتصَف الغرفة بواسطة الفحم.
قال باقتضاب: «الفيسوستيموناين هو تركيبة من ابتكاري.» ووضع الأرنب الميت على الأرض تحت قدمي الآخر. وقال في تباهٍ: «سيدي، سوف تأخذ الأرنب معك وتَفحصُه؛ سوف تُخضعه لاختباراتٍ لا نهاية لها، لكنَّك لن تَكتشِف المادة القلوية التي قتلتْه.»
قال إيسلي: «ليس ذلك صحيحًا؛ فسيكون هناك انقباض لبُؤبؤ العين، وهي علامة ثابتة لا تتغيَّر.»
قال العجوز بنبرة انتصار: «ابحث أيضًا عن ذلك.»
أجرى إيسلي الاختبارات الظاهِرية، ولم يجد حتى لتلك العلامة الثابِتة أيَّ أثر.
كان ثمَّة جسدٌ بلا ملامح واضحة يَلتصِق بقوة إلى الجدار بالخارج يُرهف السمع. كان واقفًا بجوار النافذة الموصدة، وقد ثبَّت بأذنه أنبوبًا صغيرًا من المطاط المُكبرَت به مستقبل مكبِّر للصوت، وكان المطَّاط الذي يُغطِّي طرف الأنبوب ذا الشكل الجرسي؛ مثبَّتًا بمصراع النافِذة.
ظل واقفًا على هذا الحال لنصف ساعة، بلا حراك، ثم انسحَبَ في هدوء واختفى وسط ظلال بستان البرتقال الذي كان ينمو في مُنتصَف الحديقة الطويلة.
وفي هذه الأثناء فُتِح باب المنزل، وبواسطة مصباح في يده، أنار كاجالوس لضيفه الطريق إلى الشارع.
ضحك العجوز قائلًا: «إن الشياطين أكثر اخضرارًا من أيِّ وقتٍ مضى. وي، سوف يكون هناك أحداث ومجريات يا أخي!»
لم يَنبس إيسلي بكلمة. كان كل ما يُريده هو العودة إلى الشارع مجددًا. وقف واجفًا في جزع مُمتزج بالتوتُّر، بينما كان العجوز يَفتح مزلاج الباب الثقيل، وحين انفتَح، اندفَعَ نحو الشارع.
قال: «إلى اللقاء!»
قال العجوز: «صحبتْك رعاية الرب.» وانغلَقَ الباب بهُدوء.