(١٠) مهمة شُرطي
كان يعيشُ في حيِّ «سومرز تاون» آنذاك رجلٌ ضئيل اسمه جيكوبس.
كان رجلًا طيب الخصال وإن كان تعيس الحظ تُلاحقه «لطخة من الماضي» غير أنَّ تلك اللطخة لم تصل إلى حدِّ الحُكم عليه بالسجن مُددًا طويلة. صحيحٌ أنَّه قد عوقب بالأشغال الشاقة لمدة ثلاثة أشهر في مرات كثيرة، لكنَّه لم يُعاقَب بالسجن قط.
كان رجلًا ضئيلَ الحجم ذابلَ الوجه ذا عينين سوداوين حادتين، يتسم بيقظته الشديدة في التصرف، واعتنائه بأن يكون حسن الهندام. كان يُعطي للمرء انطباعًا بأنَّه يستمتع بأحد أيام العُطلة، لكن إذا ذُكِر العمل بكدٍّ وإخلاص، فيُمكن القول إنَّ يومَ جيكوبس كان أبديًّا.
ظل السيد جيكوبس يتقاضى معاشًا من الكولونيل بلاك على مدار بضع سنوات. وفي أثناء تلك الفترة الزمنية، عاش ويلي جيكوبس حياة النبلاء، ويجب أن نوضح أنَّه قد عاش هذه الحياة على النحو الذي يراه أكثر توافقًا مع الوضع المثالي، وليس تلك الحياة التي تعيشها الطبقات الأغنى في العادة.
كانت تمرُّ به أوقاتٌ يعيش فيها كأنَّه لورد — وتجدر الإشارة هنا مرَّة أخرى إلى أنَّ ذلك كان وفق معاييره الخاصة — لكنَّ هذه الأوقات كانت تأتي على فتراتٍ متقطِّعة نادرة؛ إذ لم يكن الإسراف من طبع ويلي، لكنَّ المؤكَّد أنَّه عاش حياة النبلاء، مثلما اتَّفق على ذلك جميع أهالي «سومرز تاون»، إذ كان يَخلد إلى النوم وقتما يشاء، وينهض من فراشه في الشروق مع تلك الطيور الصدَّاحة التي تُحلِّق خارج أعشاشها آنذاك، أو يبقى في الفراش ويقرأ جريدته المفضَّلة.
وكان رجلًا ثريًّا؛ إذ لم يَفتقر قَط إلى عملةٍ نحاسية يشتري بها نصف باينت من شراب المَزَر، ولم يكن يُبالي بإنفاق شلنٍ على أحد سباقات الخيل بأكثر ممَّا قد أبالي أنا أو أنت، حتى إنَّ البعض كان يعتقد أنَّه يتناول فطوره في الفراش، وتلك علامةٌ حقيقية على الترف والثراء بكلِّ المعايير.
كانت تصل إليه في صباح كلِّ سبت حوالةٌ بريدية بقيمة جنيهين إسترلينيين من فاعل خيرٍ لم يكن يطلب من مُتلقِّي الحوالة إلَّا أن يكون سعيدًا وينسى تمامًا أنَّه قد رأى في حياته تاجرًا موقَّرًا في الأوراق المالية والأسهُم يُفتِّش في جيوب رجلٍ ميت ليسرق ما فيها.
ذلك أنَّ وليام جيكوبس قد رأى ذلك بالفعل.
كان ويلي لصًّا، بل وُلِد لصًّا، ولم يكُن يُخفي فخره بمهارة خفَّة اليد التي توارثتها سلالته أبًا عن جد. ولم يكن هدفه الأبرز من الالتحاق بشركة «بلاك وشركاؤه» هو التأهُّل لتقاضي معاشٍ بعد عشرين عامًا من ذلك الوقت بقدرِ ما كان يأمل في جني أرباحٍ فورية، حتى وإن بدا ذلك مستبعدًا آنذاك. لقد كان يَسترشد بالمبادئ نفسها التي كانت تُحرِّك رئيس شركته.
كان مجلس الإدارة يضمُّ عضوًا بغيضًا — أو بالأحرى بغيضًا للكولونيل بلاك اللطيف — مات فجأة. وتَوصَّل التحقيق القضائي الذي أُجري لاحقًا إلى استنتاجٍ مفادُه أنَّه قد مات بسبب فقدان الوعي نتيجة هبوط حادٍّ في الدورة الدموية، وحتى ويلي لم يكن يعرف أكثر من ذلك. لقد تسلَّل خلسةً ذات مرَّة إلى غرفة مكتب المدير العام في أثناء سير العمل المعتاد، وقد كان السيد جيكوبس معتادًا على أن يَسرق خلسةً؛ وذلك بالمعنيين الحرفي والمجازي. كان يبحث عن طوابع بريدية مهملة وعملاتٍ معدنية مفروطة كتلك التي يُمكِن العثور عليها في مكتب رجلٍ معروف بإهماله ولا مبالاته بفُتات العملات المعدنية القليلة. كان يتوقَّع أن يَجد الغرفة فارغة، لكنَّه شُلَّ لحظيًّا حين رأى بلاك الضخم بنفسه ينحني فوق جسد رجلٍ راقد، ويُفتِّش جيوب جثَّته بهمَّةٍ بحثًا عن رسالة؛ إذ كان الرجل الصامت المُستلقِي على الأرض قد جاء إلى بلاك يَحمل استقالته في جيبه وبمُنتهى الطيش قد أورد في هذه الرسالة أسباب استقالتِه. وقد كان التصرُّف الأكثر رعونة على الإطلاق هو أنَّه كَشَف للكولونيل بلاك عن وجود هذه الرسالة الفاضِحة.
لم يكن ويلي جيكوبس يعرف شيئًا عن الرسالة، ولم يَجِد تفسيرًا دقيقًا للمحفظة التي رآها في حالةٍ فوضوية. وظنَّ بتفكيره الساذج أنَّ الكولونيل بلاك كان يبحث عن مال، لكنَّه كان يبحث في حقيقة الأمر عن طابعٍ بريدي يمثل له أهمية كبيرة. ومن فرط اهتياجه، أفصح جيكوبس عن ذلك الظن بلا تفكير.
وفي التحقيق الذي أُجريَ لاحقًا، لم يُدلِ السيد جيكوبس بشهادته؛ إذ لم يكن يعرف شيئًا عن المسألة على الصعيد الرسمي. غير أنه قد تقاعَدَ ولزم بيته الواقع بحيِّ «سومرز تاون»، وصار يتلقَّى معاشًا قد خُصِّص له مدى الحياة شريطةَ استمرار سكوته. وبعد ذلك بعامين، في صبيحة أحد أيام عيد الميلاد، تلقَّى السيد جيكوبس في البريد علبةً جميلة جدًّا من الشوكولاتة، مصحوبة بعبارة «مع أطيب التمنِّيات»، من شخصٍ لم يُكلِّف نفسه عناء إرسال اسمه. ولأنَّ السيد جيكوبس لم يكن من محبِّي رقائق الشوكولاتة، تساءل بينه وبين نفسه عن تكلفة تلك العلبة وتمنَّى لو أنَّ ذلك المُهدِي اللطيف قد أرسل له الجعة بدلًا منها.
قال وهو يَرمي عيِّنةً من تلك الحلوى إلى كلبه الذي كان يحب الحلويات: «هيا يا سبوت، تلقَّف هذه!»
فأكلها الكلب وهو يهزُّ ذيله، ثم توقَّف عن هزِّ ذيله، وخرَّ صريعًا على الأرض بارتجافةٍ في جسده.
مرَّ بعض الوقت قبل أن يُدرك ويلي جيكوبس العلاقة بين جثَّة كلبه الصغير الهامدة وبين تلك الهدية اللطيفة المنمَّقة التي تلقاها في عيد الميلاد اللطيفة.
جرَّب قطعةً من الشوكولاتة على كلب صاحب البيت الذي يسكنه فمات، ثم جرَّب قطعةً أخرى على كناري أحد رفاقه من سُكَّان البيت، فمات هو الآخر، وقد كان من الممكن أن يُهلِك جميع الحيوانات المنزلية الأليفة في «سومرز تاون» لولا التدخُّل في الوقت المناسب من صاحب البيت، الذي اتهمه بالمسئولية عن جريمة القتل الأولى وسلَّمه إلى الشرطة. وظهرت الحقيقة؛ كانت قطع الشوكولاتة مُسمَّمة. وَجَد ويلي جيكوبس صورته منشورة في الصحف العامة على أنَّه بطلُ قضيةِ تسميم غامضة، وقَد سبَّب هذا مأزقًا لويلي؛ إذ تعرف عليه من صورته أحد تجار حيِّ «كانينج تاون»، الذي احتال عليه ويلي ذات مرَّة، واعتُقِل ويلي مرَّة ثانية في أسبوعٍ واحد.
خَرَج ويلي من الإصلاحية (بعدما قضى فيها عقوبة ثلاثة أشهر) متوقعًا أن يجد في انتظاره كومةً من الحوالات البريدية، التي تبلغ قيمة كلٍّ منها جنيهًا. غير أنَّه قد وجد عملة ورقية من فئة خمسة جنيهات ورسالةً مكتوبة بالآلة الكاتبة على ورقةٍ ذات لونٍ واحد لا تفصح عن أي معلومات وتقول في فحواها إنَّ المُرسِلَ يعرب عن أسفه ويخبر المتلقِّي بألَّا يتوقع أيَّ أموالٍ أخرى بعد ذلك.
فأرسل ويلي رسالةً إلى الكولونيل بلاك، وتلقَّى الردَّ في رسالةٍ قيل فيها إنَّ «الكولونيل بلاك لم يفهم محتوى رسالتك التي بعثت بها في الرابع من الشهر؛ فهو لم يُرسل أموالًا قَط، ولا يفهم السبب في أنَّ مُرسل الرسالة يتوقَّع منه مالًا.» وأشياء من هذا القبيل إلى آخر الرسالة.
غاضبًا ومتألِّمًا من غشِّ راعيه وجحوده الخسيس، أخذ ويلي الرسالة إلى محامٍ وسَرَد له ما حدث، فقال المحامي كلمةً واحدة: «ابتزاز!» وحينئذٍ، اضُطرَّ ويلي، الذي كان ساخطًا، إلى العمل؛ أي إلى الاعتماد على شراء تذاكر اليانصيب والغنائم المنهوبة النفيسة. ومن حسنِ حظِّه أنَّ يُمناه لم تكن قد فقدت براعتها، ولا فقدتها يُسراه في واقع الأمر. كان «ينتقي» أشياء مميزة، ويبيعها لتاجر المسروقات الجديد في شارع «إيفزويل رود» (والذي اعتُقِل وسُجِن في نهاية المطاف لأنَّه كان مجرد هاوٍ وكان يَشتري المسروقات بأكثر مما تستحق). وقد تصرَّف ويلي تصرُّفًا حسنًا، بل ممتازًا في الواقع، بأنَّه مال إلى تبنِّي رأيٍ مُعتدِل عن جرائم بلاك.
وفي أمسية مأدبة العشاء التي أقامها اللورد فيرلوند، خَرَج جيكوبس من مسكنه عازمًا على العمل وكسب رزقه بغنيمةٍ من هنا أو هناك، غير أنَّ الإنصاف يُحتِّم علينا الاعتراف بأنَّه لم يكن يعرف شيئًا عن خطط سيادته. شقَّ طريقه عبر الفناء الصغير والأزقَّة التي كانت تفصله عن شارع «ستيبنجتون ستريت»، ثم اتَّجه من هناك جنوبًا نحو شارع «يوستن رود»، وتمهَّل في طريقه حتى وصل إلى شارع «توتنهام كورت رود»، ومنه إلى شارع «أكسفورد ستريت».
كان شارع «توتنهام كورت رود» في تلك الليلة بالذات مليئًا بأناسٍ مُنشغِلين؛ كانوا منشغلين بنوافذ العرض في المتاجر، أو منشغلين بعضهم ببعضٍ، أو مُنشغلين بالصعود على متن الحافلات أو الترجُّل منها. وقد كان ذلك حشدًا مثاليًّا من وجهة نظر جيكوبس؛ إذ كان يُعجَب بالأشخاص الذين يُركِّزون، الذين يُسلِّطون انتباه عقولهم على شيءٍ واحد ولا ينشغلون بأيِّ شيء سواه. يُمكن القول إنَّه كان أشبه بخبيرٍ نفسي من منظورٍ ما، وقد نَظَر حوله ليعثر على شخصٍ ثريٍّ لعلَّه يَنتفِع من قوى تركيزه.
وفي تلك الأثناء، كان حشدٌ صغير من الناس قد اجتمعوا حول درجات سلم حافلةٍ عمومية ينتظرون بفارغ الصبر نزول الركاب الآخرين، وهناك وقَعت نظرات جيكوبس السريعة الثاقبة على زبونٍ محتمَل.
كان رجلًا بدينًا في منتصف العمر. وكانت قبَّعته موضوعةً على رأسه بزاويةٍ جعلت ساكنَ حيِّ «سومرز تاون» يستنتج أنَّه «ثملٌ». وربما كان مُحِقًّا في تخمينه، لكن يكفيه أنَّ الرجل قد بدا له ثريًّا، وليس ذلك بسبب معطفه المصنوع من خامةٍ جيدة فحسب، بل بدت عليه أيضًا أمارات أخرى تدلُّ على التباهي وتُبرهن على ثرائه الحالي. لم يكن ويلي جيكوبس ينوي ركوب الحافلة إطلاقًا، وأشكُّ بشدة فيما إذا كان قد غيَّر نيته حتى في ذلك الوقت، لكنَّ المؤكَّد أنَّه بدأ يشق طريقه بمرفقه وسط الحشد الصغير الذي كان محيطًا بالحافلة، والذي كان بحلول ذلك الوقت يندفع نحوها من أجل الصعود على متنها.
بدا أنَّ جيكوبس قد حَصَد ثمار شقِّ طريقه وسط الحشد؛ إذ توقَّف فجأة كأنَّه تذكَّر موعدًا أو عملًا شديد الأهمية، ثم بدأ يتراجع. وحالَما وصل إلى أطراف الحشد المتكدِّس الصغير، استدار ليبتعد بسرعة.
وحينئذٍ سَقَطت يدٌ قوية ثابتة على كتفِه بطريقةٍ وُدِّية بعض الشيء. فنَظَر حوله بسرعةٍ ووجد شابًّا طويلًا ذا ثيابٍ مدنية يقف وراءه.
قال الشاب بلُطفٍ كبير: «مرحبًا! ألن تركب؟»
فقال جيكوبس: «كلا يا سيد فيلو. كنتُ على وشك المغادرة، لكنِّي تذكرتُ أنني تركت موقد الغاز مشتعلًا في المنزل.»
قال الشرطي فيلو الذي كان في مهمة خاصةٍ جدًّا في تلك الليلة: «هيا نعود ونُطفئه.»
فقال جيكوبس بنبرةٍ تأمُّلية: «لقد فكرت مجددًا وغيَّرت رأيي، ولا أظنُّ أنَّ الأمر يستحق عناء الرجوع إلى المنزل. ففي كلِّ الأحوال، إنَّه إحدى تلك الآلات التي تعمل بوضعِ بنسٍ في الشقِّ المخصص له، وكل ما سيحدث أنه سينطفئ تلقائيًّا بعد استهلاك كمية الغاز المحددة.»
فقال فرانك بحسٍّ فكاهي: «إذن، فلتأتِ معي وترَ ما إذا كان موقدي مُشتعِلًا.»
أمسك ذراع الآخر برفق، لكن حين حاول جيكوبس تخليص نفسه، وجد أن الضغط على ذراعه قد ازداد؛ فسأله ببراءة: «ما الخطب؟»
قال فرانك بابتسامةٍ صغيرة: «الخطب المُعتاد نفسه. وي! لقد أسقطتَ شيئًا يا ويلي.»
انحنى بسرعة، دون أن يُفلتَه من قبضته، والتقط محفظةً من فوق الأرض.
كانت الحافلة على وشك الانطلاق حين استدار فرانك سريعًا وأوقف مُحصِّل التذاكر بإشارةٍ منه، ثم قال له: «أظنُّ أنَّ أحد الركاب الذين ركبوا حافلتك للتو قد أضاع محفظة. أظنُّه ذلك الرجل السمين الذي دخل للتو.»
فترجَّل الرجل السمين من الحافلة ليُفتِّش ثيابه علانية. واكتشف أنَّه قد فقَدَ العديدَ من الأغراض التي كان يَنبغي أن تكون بحوزتِه وَفْق كلِّ القوانين المتعلقة بحقوق الملكية.
وبعد ذلك أخذت المسألة مجرًى عاديًّا جدًّا. قال ويلي بهدوءٍ بالرغم من ورطته: «اعتقالٌ عادل لأنني أخطأت بالفعل. لم أرك في أرجاء المكان يا سيد فيلو.»
«أجل، أظنُّك لم ترني بالرغم من أنني ضخم جدًّا.»
فأضاف ويلي بحيادية: «وقبيح جدًّا.»
فابتسم فرانك، وسأله مازحًا بينما كانا يشقان طريقهما ببراعةٍ عبر الشوارع التي كانت تَفصلُهما عن أقرب مركز شرطة: «ليست لديك خبرةٌ كبيرة في الجمال، أليس كذلك؟»
قال ويلي: «آه، لا أعرف. الجمالُ جمالُ الأفعال لا المظهر. قُل لي يا سيد فيلو، لماذا لا تلاحق الشرطة رجلًا مثل أولوروف؟ لماذا يشغلون بالهم بنشَّالٍ صغير مثلي، وأنا أكسبُ رزقي بمشقَّةٍ كبيرة، إن جاز هذا التعبير؟ إنَّه رجلٌ يَجني الآلاف ويُبدِّد المئات. هل تستطيعون أن تزجُّوا به في السجن مدَّة طويلة؟»
قال فرانك: «أرجو أن نستطيع ذلك عندما يحين الوقت المناسب.»
فقال ويلي: «ثمة رجل! يُغري الموظَّف المكتبي البسيط المسكين؛ إذ يجعله يدفع ورقةً نقدية بخمسة جنيهات ليشتري مناجم ذهب قيمتها مليون جنيه. فيدفعها الموظَّف المكتبي؛ إذ يسرق النقود من دُرج النقود، ولا يعني ذلك أنَّه محتال، إن صحَّ التعبير من منظورٍ ما، لكنَّه يأمل أن يدخل يومًا ما على رئيسه مكسوًّا بالصيت والألماس، ويقول له: «انظر إلى هوريس الذي لم تره منذ أمدٍ بعيد!» أتفهمُ قصدي؟»
أومأ فرانك برأسه.
واصَل جيكوبس حديثه بلسان ذاك الموظف سارحًا بمخيلته بعيدًا: «انظر إلى أمين الصندوق الذي كان يعمل لديك وصار مترفًا. سَلِّط أنوار مصابيحك على أشيائي اللامعة، مرِّر قبضتيك على ياقتي المصنوعة من فروِ الحُمْلان. يا سيدي، هذا أنا، خادمك.»
ولا عَجَب في أنَّهما تحدَّثا عن بلاك؛ إذ كانت المحكمة قد شهدت في ذلك اليوم قضيةً رَفَع فيها زبونٌ شديد السذاجة من زبائن بلاك، كان قد عانى الأمرَّين جراء سذاجته تلك؛ دعوى على الكولونيل مُطالبًا إيَّاه بردِّ أمواله، ولم تشهد القضية أيَّ دفاعٍ عن المُدَّعى عليه.
قال جيكوبس منهمكًا في الذكريات: «كنتُ أعملُ لديه. مرسالٌ مقابل تسعة وعشرين شلنًا في الأسبوع. كنت كمرسالٍ في مشرحة.» رفع ناظريه نحو فرانك، وسأله: «هل سَبَق لك أن أحصيت عدد أصدقاء بلاك الذين ماتوا فجأة؟ هل سَبَق لك أن حَسبتهم؟ إنَّه شجرة عناب لا تنضب. إنَّه كذلك بالفعل.»
فقال فرانك بلُطف: «أظنك تقصد شجرة أوباس، يا ويلي.»
حذَّره السيد جيكوبس بنبرةٍ مرحة قائلًا: «إنك تنتظرُ حتى يعاقبه الأربعة، لكنهم لن يقضوا عليه إطلاقًا.»
سكت بُرهةً بعدئذٍ، ثم التفت فجأة إلى فرانك.
قال بالأُلفة الصارخة التي يشعر بها شخصٌ قد اعتاد الوقوع في الأسر في التعامل مع آسره: «آه، لقد تذكرتُ بالمناسبة، هذه هي المرة الثالثة التي تَقبض عليَّ فيها.»
فاعترف فرانك بذلك بنبرةٍ مرحة قائلًا: «آه بالمناسبة، هذا صحيح.»
توقَّف السيد جيكوبس فجأة وتفقَّد الآخر بهيئةٍ متحيرة، وقال: «تمهَّل لحظة! لقد قَبَض عليَّ في شارع «توتنهام كورت رود»، وقَبَض عليَّ في شارع «تشارينج كروس رود»، واعتقَلني في شارع «تشيبسايد».»
فابتسم الشاب قائلًا: «لديك ذاكرةٌ رائعة.»
قال السيد جيكوبس لنفسه: «لم يقبض عليَّ قَط في أثناء تأدية خدمته، بل دائمًا ما كان يقبض عليَّ وهو يرتدي الثياب المدنية، وهو عادةً ما يراقبني، فلماذا إذن؟»
فكَّر فرانك لحظةً. ثم قال: «تعالَ معي واحتسِ كوبًا من الشاي يا ويلي، وسأقصُّ عليك قصةً خيالية.»
فقال ويلي بأكثر أساليبه حصافة: «أعتقد أننا سنعرف الحقائق قريبًا جدًّا.»
قال فيلو حين كانا قاعدين في مقهى مجاور: «سأكون صريحًا تمامًا معك يا صديقي.»
فترجَّاه ويلي قائلًا: «أفضِّل أن أناديك باسم عائلتك إذا سمحت لي؛ لا أريد أن يَذيع بين الناس أنني صديقك.»
ابتسم فرانك مجدَّدًا؛ إذ كان دائمًا يجد في ويلي شخصًا مُسلِّيًا، ثم قال: «لقد قبضتُ عليك ثلاث مرات، وهذه هي المرة الأولى التي تذكرُ فيها صديقنا بلاك. وأرى أنَّك لو ذكرته من قبل، لربما أحدَث ذلك فرقًا كبيرًا لك يا ويلي.»
فقال السيد جيكوبس مُخاطبًا السقف: «بالمناسبة، لقد لمَّح إليَّ بذلك ذات مرة من قبل.»
فقال فرانك: «وها أنا أُلمِّح إليه مرة أخرى. هل ستُخبرني لماذا يدفع لك بلاك جنيهَين أسبوعيًّا؟»
فقال ويلي فورًا: «لأنَّه لم يَعُد يدفع؛ لأنَّه لص ماكر حقير، لأنَّه محتال، لأنَّه كاذب …»
فقال الشرطي فيلو باللهجة العامية: «إذا تبقَّى أيُّ سببٍ لم تَذكرْه، فلتُخبرني به.»
تردَّد ويلي، وسأله: «وماذا سأستفيد إذا أخبرتك؟ لا شكَّ أنَّك ستقول لي إنني لستُ سوى كاذب.»
فقال له فرانك: «جرِّبني.» وظلَّا يتحادثان ساعةً كاملة، شرطيًّا مع لص.
وبعد ذلك، مضى كلٌّ منهما في طريقٍ مختلف؛ ذهب فرانك إلى مركز الشرطة، حيث وجد صاحبَ عَقارٍ حانقًا في انتظاره، واتجه جيكوبس إلى مسكنه في «سومرز تاون» وهو يشعر بالامتنان وتوجَّس القلق في الوقت ذاته.
اكتملت مهمة فرانك في مركز الشرطة، وتناوبَت براثنُ الانزعاج والحيرة على افتراس أحد رُقباء المركز بسبب السلوك الشاذ الذي أبداه شرطيٌّ في ثيابه المدنية كان يُصدِر الأوامر بثقةٍ شديدة كأنَّه مفوض مساعد، ثم استقلَّ فرانك سيارة أجرة، واتَّجه بها أولًا إلى بيت بلاك، ثم إلى «هامبستيد» (وقد أمر السائق بخرقِ كلِّ القواعد الموضوعة لتنظيم المرور).
كانت ماي ساندفورد تنتظر الكولونيل. وقفت أمام مدفأة غرفة الجلوس، بينما كانت تُغلق أزرار قفازها وتحاول جاهدةً إخفاء سعادتها بأنَّ صديقها القديم قد أتى.
كانت أولى تحيَّاته الفظَّة التي قابل بها الفتاة هي أنَّه سألها: «إلى أين أنت ذاهبة؟»
تحكمت الفتاة في مشاعرها، وقالت بهدوء: «لا يحقُّ لك أن تسأل بهذه النَّبرة، لكني سأُخبرك. ذاهبةٌ إلى تناول العشاء.»
«مع من؟»
فبدأ وجهُها يحمر من شدة الانزعاج، وقالت وهي تحاول كبح جماح غضبها المتأجج: «مع الكولونيل بلاك.»
فهزَّ رأسه، وقال ببرود: «يُؤسفني القولُ إنني لا أستطيعُ السماح لكِ بالذهاب.»
حدجته الفتاة بعينيها، وقالت بكبرياء هادئة: «سأقول ذلك قولًا واحدًا قاطعًا لن أكرره أبدًا يا سيد فيلو، عليك أن تفهم أنني سيدة نفسي، ولي أن أفعل ما أشاء. لا يحقُّ لك أن تُمليَ عليَّ أوامرك، لا يحقُّ لك إطلاقًا.» طَرقت الأرض بقدمها بغضبٍ شديد، وتابعت: «لا يحق لك أن تُمليَ عليَّ ما أفعله وما لا أفعله. سأذهب إلى حيث أشاء ومع من أشاء.»
قال فرانك بقسماتٍ مُتجهِّمة جادة: «لن تَخرُجي الليلة بأيِّ حالٍ من الأحوال.»
فتورَّدت وجنتاها تورُّد الغضب، وقالت: «إذا أردتُ أن أخرج الليلة، فسأَخرُج الليلة.»
فقال لها: «لن تفعلي شيئًا كهذا في الواقع.» كان باردًا جدًّا آنذاك — كان سيد نفسه — ورابطَ الجأش تمامًا.
أضاف: «سأَقضي بقية الليلة خارج هذا البيت. وإذا خرجتِ مع ذلك الرجل، فسأَعتقلُك.» فانتفَضَت وتراجَعت خطوةً إلى الوراء، فيما واصل الحديث بإصرار وقال: «سأَعتقلُك. ولا أكترث بما سيحدث لي بعدئذ. سأُلفِّق أيَّ تهمةٍ ضدك. سأقتادكِ إلى مركز الشرطة عبر الشوارع، وأزجُّ بكِ في قفص الاتهام الحديدي كأنَّكِ لصةٌ عادية.» ثم قال بعاطفةٍ ملتهبة: «سأفعل ذلك لأنني أحبك؛ لأنَّك أهم ما لديَّ في هذه الدُّنيا، لأنني أحبك أكثر من حياتي، أكثر ممَّا تُحبِّين نفسك، أكثر ممَّا يُمكن أن يحبك أيُّ رجل.» وأضاف بجدِّية: «هل أُخبركِ بالسبب في أنني سآخذكِ إلى مركز الشرطة؟ لأنَّكِ ستُصبحين في مأمنٍ هناك، والنسوة اللواتي سيَعتنين بكِ هناك لن يَسمحْنَ لأيِّ كلبٍ مثل هذا الرجل بالاقتراب منكِ، لأنَّه لن يجرؤ على ملاحقتكِ هناك، مهما كان ما يجرؤ عليه من أفعالٍ أخرى. أمَّا بخصوصه …»
استدار فرانك بحدةٍ شديدة بينما دَخَل بلاك الغرفة مُتألِّقًا. فتوقَّف بلاك حين رأى وجه فرانك، ودَسَّ يده في جيبه سريعًا.
قال فرانك: «خذ حِذْرك منِّي.» فابيضَّ وجه بلاك من شدة الشحوب.
استعادت الفتاة قدرتها على النُّطق وقالت هامسة: «كيف تجرؤ، كيف تجرؤ؟!» ثم أضافت بحنق: «تقول لي إنَّك ستعتقلني! كيف تجرؤ! وتقُول إنَّك تحبني!»
أومأ ببطء، ثم قال بهدوءٍ كبير: «نعم. أحبك. أحبكِ كثيرًا إلى حدٍّ يجعلكِ تكرهينني. هل يُمكنني أن أحبكِ أكثر من ذلك؟»
كانت نبرته مُفعَمةً بالمرارة، ويشوبها شيءٌ من العجز أيضًا، لكنَّ التصميم الكامن في كلماته كان جليًّا كالشمس. لم يتركها حتى رَحَل بلاك، وفي خِضمِّ اضطرابه، الذي يُمكن أن يُغفَر له، نسي أنَّه كان يعتزم تفتيش الكولونيل بحثًا عن قنينةٍ خضراء ذات سدادةٍ زجاجية.
عاد الكولونيل بلاك إلى شقته تلك الليلة ليجد أدلةً جليَّةً على أنَّها فُتِّشَت تفتيشًا منهجيًّا جدًّا. بيد أنَّه لم يجد دليلًا على كيفية دخول أولئك الزوَّار. كانت أبواب الغرف مفتوحةً مع أنَّه تركها موصدةً بمفتاح ليس له نسخةٌ أخرى وأقفالٍ كان من الواضح أنَّه لا يُمكن فتحها عنوةً بأيِّ أداة. كانت النوافذ سليمة، ولم تظهر أيُّ محاولةٍ لنهب الأموال والأغراض الثمينة من المكتب الذي فُتِّشَ بدقة. وكان الدليل الوحيد الذي تركه أولئك الزوار على هويتهم هو الختْم الذي وجد بلاك أنَّ لوحَ الورق النشَّاف على مكتبه قد دُمِغ به.
كان ذلك ليقلق رجلًا أضعف شخصيةً من بلاك، لكنَّ بلاك كان رجلًا قد تحمل الكثير على مدار عشرين عامًا، وقد تخلَّل كلَّ عامٍ منها أفظعُ التهديدات على فترات منتظمة. لقد عاش طوال حياته الماضية في ظلال الثأر، لكنَّه لم يتعرَّض للعقاب قَط.
كان من أبرز ما يفتخرُ به بحرارةٍ أنَّه لم يفقد أعصابه قَط، وأنَّه لم يفعل أي شيء قَط في نوبة انفعال. والآن، ربما لأولِّ مرة في حياته، كان يعتزم التصرُّف بدافعٍ أكبر من المصلحة الذاتية؛ دافع الانتقام.
وقد جعله ذلك أقلَّ حذرًا ممَّا أراد أن يكون عليه؛ فلم يحترس في تلك الليلة من المُتعقِّبين السريِّين، وقد كان هناك غير واحد منهم.