(١١) إلى سباقات لنكولن
ذهب السير آيزاك ترامبر إلى لنكولن بمزاجٍ عكر. كان قد حَجَز مقصورةً في القطار، ولَعَن حظَّه حين اكتشف أنَّ مقصورته مُلاصِقةٌ لمقصورة هوريس جريشام.
سار جيئةً وذهابًا على رصيف محطة «كينجز كروس» الطويل مُنتظرًا ضيوفه. كان إيرل فيرلوند قَد وعده بالذهاب معه وإحضار الليدي ماري، وقد انزعج السير آيزاك حين رأى على العربة المُجاوِرة مُلصقًا كُتِب عليه: «محجوزةٌ للسيد هوريس جريشام ورفقته.»
أتى هوريس قبل حوالي خمس دقائق من انطلاق القطار، وكان مُبتهجًا مُشرِقًا كشمس الظهيرة، على العكس تمامًا من السير آيزاك، الذي لم يقضِ ليلته الماضية بحكمةٍ. أومأ هوريس بلا مبالاة ردًّا على تحية السير آيزاك التي كانت شِبه غير ملحوظة.
نَظَر البارونيت إلى ساعته، ولَعَن الإيرل العجوز وتقلُّباته المزاجية في سرِّه. لم يكن متبقيًا على موعد انطلاق القطار سوى ثلاث دقائق. وبينما كان لسانه يصوغ اتهامات لاذعة للرجل العجوز، لَمَح قامته الطويلة النحيلة تقطع رصيف المحطة بخُطًى واسعة.
سأله الإيرل وهو يتَّجه إلى المقصورة: «لقد اعتقدتَ أننا لن نأتي، أليس كذلك؟» كرَّر سؤاله بينما كانت الآنسة ماري تدخل المقصورة بمساعدة خرقاء من السير آيزاك: «أقول إنَّك ظننتَ أننا لن نأتي، أليس كذلك؟»
فقال آيزاك: «حسنًا، لم أتوقع أنَّكما ستتأخَّران.»
فقال الإيرل: «لم نتأخر.»
جلس بارتياحٍ على مقعدٍ في رُكن العربة، وهو المقعد الذي كان السير آيزاك قد رتَّبه خصِّيصى للفتاة. مرَّ بالسير والرجل العجوز بعضٌ من أصدقائهما وأومئوا لهما. واقترب منهما بضعة من الفضوليِّين ليتحدَّثوا إليهما.
سأل أحد الشبان المتسكعين: «هل أنت ذاهبٌ إلى «لنكولن» أيُّها اللورد فيرلوند؟»
فقال الإيرل بلُطف: «لا، بل ذاهبٌ إلى الفراش مُصابًا بالنُّكاف.» قال هذه الكلمة الأخيرة مزمجرًا، ففرَّ الشاب السائل عن المعلومة.
ثم قال الرجل العجوز للسير بحدة: «يُمكنك أن تقعد بجواري يا آيكي، دَع ماري وشأنها. أريدُ معرفة كلِّ شيءٍ عن ذلك الحصان. إنني سأراهن ﺑ ١٥٠ جنيهًا على حصانك الأصيل هذا؛ لذا فهو أهمُّ كثيرًا من تلك الاستِفسارات السخيفة التي تعتزم طرحها عن ابنة أخي.»
قال السير آيزاك مُتذمِّرًا بامتعاض: «استفسارات؟»
فكرَّر الآخر قائلًا: «استفسارات! تريدُ أن تعرف هل نامت الليلة الماضية أم لا، وهل تشعر بدفءٍ كبير في هذه العربة أم لا، وهل تريد القعود على مقعدٍ في رُكن العربة أم وسطها، وهل تريد أن تقعد موجِّهةً ظهرها ناحية القاطرة أم موجِّهةً وجهها ناحية القاطرة. دَعها وشأنها. دَعها وشأنها يا آيكي. ستُقرِّر هي كلَّ ذلك بنفسها. أنا أدرى بها منك.»
حدَّق إلى الفتاة بذلك اللمعان المُسلِّي في عينيه، وقال لها: «الشاب جريشام في العربة المجاورة. اذهبي واقرعي النافذة وأحضريه إلى هنا. هيا اذهبي!»
فقالت الفتاة: «أظنُّ أنَّه بصحبة بعض الأصدقاء هناك أيُّها العم.»
قال فيرلوند بانفعال: «لا تكترثي بأصدقائه. ما الذي قد يكون مُهمًّا في أصدقائه بحقِّ الجحيم؟ ألستِ من أصدقائه؟ اذهبي واقرعي الباب وأحضريه.»
كان السير آيزاك يَستشيط غضبًا.
قال بصوتٍ عال: «لا أريده هنا. يبدو أنَّك نسيت يا فيرلوند أنَّك إذا أردت الحديث عن الخيول، فهذا هو الشاب نفسه الذي ينبغي ألا يعرف شيئًا عن «تيمبولينو».»
فقال الإيرل بانفعال: «وي! ألا تظن أنَّه يعرف كلَّ المعلومات الممكنة. ما فائدة الصُّحُف الرياضية في رأيك؟»
قال السير آيزاك بنبرةٍ تشير إلى أهمية ما يقوله: «لا تستطيع الصحف الرياضية إخبارَ رجلٍ بما يعرفه المالك.»
فقال الإيرل: «بل تُخبرني بأكثر ممَّا يعرف. كان حصانك مُفضَّلًا عند المُراهنين صباح أمس، لكنَّه لم يعُد كذلك يا آيكي.»
قال السير آيزاك متذمِّرًا: «لا يُمكنُني التحكُّم في قرارات الاستثمار التي يتَّخذها الأغبياء السُّخَفاء.»
فقال الإيرل بفظاظة: «ما عدا واحدًا. غير أنَّ هؤلاء الأغبياء السخفاء لا يُبدِّدون أموالهم هباءً؛ تذكَّر ذلك يا آيكي. حين تحضرُ سباقاتٍ بقدرِ ما حضرتُ أنا، وتجني أموالًا بقدرِ ما جنيتُ، لن تكترث برأي أصحاب الخيول عن خيولهم. فمن يطلبُ من صاحبِ حصانٍ معلوماتٍ غير متحيزة عن حصانه كمن يطلب من أمٍّ رأيًا صريحًا عن مفاتن ابنتها.»
كان القطار في تلك الأثناء قد انساب عَبر ضواحي لندن المكسوة بالسُّخام، وصار الآن يشقُّ الحقول الخضراء مسرعًا نحو بلدة «هاتفيلد». وكان ذلك يومًا ربيعيًّا رائعًا زاده ضوء الشمس جمالًا، يومًا يمكن للمرء المتصالح مع الدُّنيا أن يعيشه باستمتاعٍ تام.
غير أنَّ السير آيزاك لم يكن بهذه الحال السعيدة، ولم يكن في مزاجٍ يسمح بالحديث عن نزاهة هواة سباقات الخيول والمهتمِّين بها، ولا عن مسألة الرياضة نفسها عمومًا. لاحظَ الفتاة وهي تقوم وتذهب إلى رواق القطار بلا مبالاةٍ باديةٍ عليها، فأسرَّ باللعنات والسباب في قرارة نفسه. كان بإمكانه آنذاك أن يُقسِم على أنَّه سمع صوت نقرةٍ على نافذة المقصورة المُجاورة، لكنَّه كان مُخطِئًا في ذلك بالطبع؛ فكلُّ ما فعلته الفتاة أنَّها تحرَّكت في مجال بصر الرفقة الصغيرة الذين جلسُوا في تلك المقصورة يَضحكُون ويتحدثون، فخَرَجَ إليها هوريس فورًا.
حيَّته بقليل من التورُّد في وجنتَيها، قائلةً: «أؤكد لك أنَّ هذا ليس خطئي، بل كانت تلك فكرة العم.»
قال هوريس بعاطفةٍ مُلتهبة: «عمك رجلٌ راقٍ رائع. أتراجعُ عن أيِّ مذمَّةٍ ربما أكون قد تفوَّهت بها في حقه.»
قالت بجدِّيةٍ مُصطَنعة: «سأخبره.»
فصاح هوريس قائلًا: «لا، لا، لا أُريدكِ أن تفعلي هذا بالضبط.»
قالت فجأة: «أريد التحدث إليك بشدةٍ بشأن موضوعٍ مهم. تعال إلى مقصورتنا. العم والسير آيزاك منشغلان جدًّا بالحديث عن مزايا «تيمبولينو». أهذا هو اسمه الصحيح؟» فأومأ برأسه، واختلجت شفتاه على نحو يدلُّ على الاستمتاع. بينما اختتمت كلامها قائلة: «لدرجة أنَّهما لن يلاحظا أيَّ شيءٍ ممَّا سنقوله.»
وحين دخل المقصورة، أعطاه الإيرل العجوز إيماءةً مُقتضَبة فظَّة، بينما لم يُعطِه السير آيزاك سوى قَسَماتٍ مكفهرَّة. كان من الصعب أن يحافظ الشاب والفتاة على أيِّ سرِّيةٍ في كلامهما، لكنَّهما اتَّبعا حيلة مُناوِرة بارعة؛ إذ كانا لا يتحدثان عن الأشياء الأهم إلَّا حين يكون الجدال بين السير آيزاك وضيفه المشاكس مُحتدمًا للغاية، وبذلك استطاعت الفتاة أن تزيح الهمَّ عن بالها.
قالت بنبرةٍ خفيضة: «أنا قلقةٌ بشأن العم.»
فسألها هوريس: «أهو مريض؟»
هزَّت رأسها وقالت: «لا، لا أقصد مَرَضه، وإن كان ذلك محتملًا، لكنَّه شخصٌ شديد التناقض، وأخشى أن يؤذيَنا ذلك. تعرفُ كم كان راغبًا في أن …» تردَّدت هنا، بينما بحثت يده عن يدها وأمسكتها تحت ستارِ جريدةٍ مفتوحة.
هَمَس قائلًا: «كان ذلك رائعًا، أليس كذلك؟ لم أتوقَّع قَط، ولو لحظةً واحدة، أنَّ الشيط…» وحينها صحَّح لنفسه بسرعةٍ قائلًا: «أنَّ عمَّك العزيز كان سيقتنع بمثل هذه السهولة الكبيرة.»
أومأت برأسها مرَّة أخرى، وقالت وقد استغلَّت جدالًا آخر قد احتدم بين الرجل العجوز والبارونيت المنفعل: «حسنًا، إنَّ ما يفعله باندفاعٍ شديد يُمكن أيضًا أن يُبطله بسهولةٍ مماثلة. أنا خائفة جدًّا من أن ينقلب ويُمزقك.»
قال هوريس: «دعيه يُحاول؛ فأنا لا أمزَّق بسهولة.»
وحينها قوطع كلامهما فجأة بتدخُّل الرجل الذي كانا يتحدَّثان عنه.
صاح الإيرل بنبرةٍ حادة قائلًا: «أصغِ إليَّ يا جريشام. أنت واحدٌ من العالمين ببواطن الأمور، وأظنك تعرف كلَّ شيء؛ فمَن هم رجال العدالة الأربعة الذين أسمع الناس يتحدَّثون عنهم؟»
كان هوريس يُدرك أنَّ عيني السير آيزاك تُحدِّقان إليه بفضول؛ إذ لم يكن بالرجل الذي يُخفي شكوكه.
قال هوريس: «لا أعرف أكثر ممَّا تعرفه. إنني أراهم مجموعةً رائعة تعمل على تقويم الشرور الاجتماعية.»
فصاح الإيرل مزمجرًا وقد عبس من تحت حاجبَيه الكثيفَين: «مَن هم ليُقرِّروا ما الشر وما الذي ليس شرًّا؟ أي سفاهة لعينة تلك! فلماذا إذن ندفع رواتب القضاة والمحلَّفين والمحقِّقين في أسباب الوفيات والشرطيِّين ومثل هؤلاء الناس، هاه؟ لماذا ندفع الضرائب والإيجارات والضرائب المخصصة للشرطة ورسوم استهلاك الغاز ورسوم استهلاك المياه، وكلَّ نوع من أنواع الرسوم اللعينة التي يمكن لمهارة الإنسان أن تبتدعها؟ هل نفعل ذلك كي يتسنَّى لأولئك الوقحين أن يأتوا ويتدخَّلوا في سير العدالة؟» وصَرَخ بعنفٍ: «هذا سخيف! هذا غير معقول!»
فمَدَّ هوريس يده معترضًا، وقال: «لا تَلُمْني أنا.»
فاتَّهمه الإيرل قائلًا: «لكنَّك تستحسن وجودهم. آيكي يقول ذلك، وآيكي يعرف كلَّ شيء، ألست كذلك يا آيكي؟»
فتململ السير آيزاك في مقعده، وقال بأسلوبٍ واهٍ غير مقنع: «لم أقل إنَّ جريشام يعرف أيَّ شيء عن ذلك.»
فسأله العجوز بانفعال: «لماذا تكذب يا آيكي؟ لماذا تكذب؟ لقد أخبرتني للتو بأنَّك على يقينٍ تام من أنَّ جريشام كان أحد المؤيدين الرئيسيين للعصابة.»
اكتسى وجه السير آيزاك، الذي كان مُعتادًا على تصرُّفات أصدقائه الطائشة الفظَّة، بحُمرةٍ باهتة، وقال بارتباكٍ وقليلٍ من الغضب: «آه، لم أقصد ذلك حرفيًّا. سُحقًا أيُّها اللورد فيرلوند، لا تُحرِج رجلًا بتعريضه لأضرارٍ جسيمة وكلِّ ما شابه.»
لم ينزعج هوريس من شكوك الآخر، وقال ببرود: «لا داعيَ إلى أن تقلق؛ فلن أفكِّر أبدًا في مقاضاتك.»
التفت مرَّة أخرى إلى الفتاة، وطَلب الإيرل من البارونيت أن يعيره انتباهه. كانت إحدى عادات الرجل العجوز الخاصة أنَّه كان أحيانًا ما يبدأ موضوعًا مختلفًا تمامًا على حين غرة؛ إذ كان يقفز من موضوعٍ إلى آخر كطيفٍ يستحيل إدراكه. فقبل أن يستطيع هوريس صياغة بضع كلمات، كان العجوز يجرُّ ضحيته رغمًا عنه إلى الحديث عن الصيد، وكان السير آيزاك أشبه حينئذٍ برجلٍ يُصارع الغرق بصعوبةٍ بالغة في عُمقٍ يفوق طول قامته — إن جاز استخدام هذه الاستعارة — في أحد مستنقعات صيد أسماك السلَمون أو صيد سمك السلمون المرقَّط صيدًا غير قانوني أو صيد سمك الكراكي؛ ذلك أنَّ السير آيزاك لم يكن يستطيع أن يعتبر نفسه خبيرًا في رياضة الصيد على الإطلاق.
وصل القطار إلى «لنكولن» بعد الغداء بوقتٍ قصير. كان هوريس عادةً ما يستأجر بيتًا خارج البلدة، لكنَّه قد رتَّب سلفًا في هذا العام للذهاب والعودة إلى لندن في الليلة نفسها. افترق عن الفتاة في المحطة.
قال لها قبل الافتراق: «سأَراكِ عند مضمار السباق. ما ترتيباتكِ؟ هل ستعودين إلى المدينة الليلة؟»
أومأتْ برأسها، وسألته ببعض القلق واللهفة: «هل يُهمُّك كثيرًا أن تفوز بهذا السباق؟»
فأومأ برأسه، وقال: «لا أحد يُفرِّط في الاهتمام بسباق «لنكونشير هانديكاب» حقًّا؛ فالموسم لا يزال في مرحلةٍ مبكِّرة للغاية مثلما ترين، حتى إنَّ المُراهنين أنفسهم يجازفون بأموالهم بلا أيِّ ضمانات. فلا يمكن للمرء أن يعرف الكثير، ومن شبه المستحيل أن يُحدِّد الخيول التي تتمتع بلياقة أفضل. أعتقد بيقينٍ تام أنَّ الفَرَس «نيميسيس» ستفوز، لكنَّ كل الظروف ضدها.»
أضاف هوريس بنبرة ارتياب: «حسنًا، نادرًا ما يكون الفوز في سباق لنكولن من نصيب مُهرةٍ، وفضلًا عن ذلك، فهي عدَّاءة أيضًا. أعلمُ أنَّ خيولًا عدَّاءة قد فازت بالسباق من قبل، بل كان فوزها في السباق مجددًا في الأعوام التالية متوقعًا بثقةٍ كبيرة، لكنَّ التقديرات كلها ضد فَرَسٍ مثل «نيميسيس».»
قالت متعجبة: «لكنِّي ظننتكَ كُنتَ واثقًا جدًّا من فوزها.»
فضحك قليلًا، ثم قال: «حسنًا، كما تعلمين، يُمسي المرءُ في أحد الأيام واثقًا للغاية ويُصبح مفعمًا بالشكوك في اليوم التالي. هذا شيءٌ طبيعي معتاد؛ فجاهزية الخيول لتقديم أداء طيِّب متقلِّبةٌ، لكنَّ جاهزية أصحابها أكثر تقلُّبًا منها بكثير. فمن المحتمل أن أقابل رجلًا هذا الصباح يُخبرني بأنَّ أحد الخيول سيفوز بكلِّ تأكيد في السباق الأخير من اليوم. سيُمسكُني من عروة سترتي ويظلُّ يُقنعني بأنَّ المراهنة عليه هي أسهل الطرق التي ابتُدِعَت لجنْي الأموال منذ بداية السباقات وأكثرها استثنائية. وحين ألتقي به بعد السباق الأخير، سيقول لي بكل برود إنَّه لم يُراهن على ذلك الحصان، وإنما تلقَّى نصيحةً سرية في اللحظة الأخيرة من شخصٍ غامض يعرف أخت عمَّة صاحب الحصان. يجب ألَّا تتوقَّعي أن يكون المرء ثابتًا على رأي واحد.»
وأضاف: «ما زلتُ أعتقد أنَّ «نيميسيس» ستفوز، لكنِّي لستُ واثقًا جدًّا مثلما كنت. معظم الطلَّاب الواثقين إلى حدِّ الغرور يُصبحون متجهِّمي الوجوه قليلًا في مواجهة المُمتَحِن.»
انضمَّ إليهما الإيرل وكان ينصت إلى محادثتهما ببعض الاستمتاع الممزوج بالتجهم، وقال: «آيكي متيقنٌ من أنَّ «تيمبولينو» سيفوز، حتى في مواجهة المُمتَحِن. لقد أخبرني شخصٌ ما بأنَّ الممتحن سيكون رخوًا بعض الشيء أسفل الأقدام.»
فسأله هوريس بشيء من القلق: «أتقصدُ المضمار؟»
فأومأ الإيرل، وقال: «لن يُناسِبَ فَرَسك يا صديقي. فلا شكَّ أنَّ مهرةً عدَّاءة تُنافس في سباق «لنكولنشير» لأولَّ مرة ستحتاج إلى أرضيةٍ جيدة. يُمكنُني تخيُّل نفسي عائدًا إلى لندن اليوم ومعي ١٥٠٠ جنيه.»
«هل راهنتَ على «تيمبولينو»؟»
فقال الإيرل بفظاظة: «لا تسأل أسئلة وقحة.» وأضاف: «وأسئلة غير ضرورية. فأنت تعرف يقينًا لعينًا أنني راهنت على «تيمبولينو». ألا تُصدِّقني؟ لقد راهنتُ عليه، وأنا خائفٌ من ألَّا أفوز.»
«خائف؟» كان هوريس يَعرف أنَّ الرجل العجوز يتقبل الخسارة بصدرٍ رحب، بالرغم من جميع عيوبه.
فأومأ الإيرل. لم يكن مُستمتعًا آنذاك. وأسقَطَ عنه ذلك السلوك المُزعِج والنظرات المُحدِّقة الخبيثة مثلما يُسقط المرء عنه عباءة يتقلَّدها. وهنا رآه هوريس لأولَّ مرة رجلًا عجوزًا ذا مظهرٍ حسنٍ فريدٍ من نوعه، إذ كانت تجاعيد فمِه الراسخة مُستقيمة، وبدا وجهه الشاحب في ارتخائه وسكينتِه، مكسوًّا بمسحة من الحزن.
قال: «نعم، أنا خائف.» كان صوته هادئًا وخاليًا من السخرية العيَّابة اللاذعة التي دائمًا ما كان يُبديها في سلوكه. وأضاف وقد اختلج جانب فمه قليلًا: «هذا السباق سيُحدث فارقًا كبيرًا لدى بعض الناس.» وواصل بجدِّية: «صحيحٌ أنَّه لن يؤثِّر فِيَّ تأثيرًا كبيرًا، لكنَّه سيُحدِث لدى البعض فارقًا بين الحياة والموت.» عاد فجأة إلى أسلوبه الفظِّ المعتاد قائلًا: «صحيح؟ إلى أيِّ مدًى ترى أنَّ ذلك عيِّنة جيدة من الميلودراما يا سيد جريشام؟»
هزَّ هوريس رأسه في حيرة، وقال: «يُؤسفني القول إنني لا أفهمك إطلاقًا أيُّها اللورد فيرلوند.»
فقال الإيرل بفظاظة: «لعلَّك ستفهمُني بطريقةٍ أخرى. ها هي سيارتي. طاب صباحُك.»
ظلَّ هوريس يُشاهده حتى غاب عن ناظرَيه، ثم اتَّجه إلى مضمار السباق. كان الرجل العجوز يُحيِّره بشدة. كان هوريس يعرف أنَّ سُمعة الرجل غير سارَّةٍ على أقل تقدير، هذا إن لم تكن بغيضة. وكان يُعتَقَد أنَّه صاحب اللسان الأخبث في لندن، لكن حين راح هوريس يُفكِّر، مثلَما فعل وهو يمشي على طول ضفَّة النهر في طريقه إلى المضمار، وجد أنَّ ذلك العجوز لم يَجرح أناسًا أبرياء أو يُؤذِهِمْ بكلامه إلَّا نادرًا. لقد كانت سُخريته العيَّابة تُسلَّط في الأساس على بني طبقته أنفسهم. وغالبًا ما كانت وحشيته تتجلَّى ضد المُذنبين السيِّئي السمعة؛ لذا كان أمثال السير آيزاك ترامبر يشعرون بجَلدِ لسانه.
لا شك بأنَّ معاملته لوريثه لم يكن لها من مُبرِّر على الإطلاق، وحتى الإيرل نفسه لم يُبرِّرها قَط، بل دائمًا ما كان يتجنَّب الخوض في الموضوع، حتى إنَّ مَن كان يجرؤ على التطرُّق إلى موضوع مُزعجٍ جدًّا كهذا ضد رغبة الإيرل يُعَدُّ رجلًا شجاعًا.
كان الإيرل معروفًا بثرائه الفاحش؛ لذا كان يحقُّ لهوريس جريشام أن يُهنِّئ نفسه على أنَّه أوتي نصيبًا كبيرًا من متاع الدنيا. ولولا ذلك لما كانت آفاقه المستقبلية مشرقة للغاية. فلما كان هوريس نفسه فاحش الثراء أيضًا، حال ذلك دون أيِّ تلميح إلى أنَّه كان يسعى وراء ثروة السيدة ماري (وقد كان هذا التلميح سيظهر لا محالة). ولم يكن هوريس يكترث إطلاقًا بما إذا كانت ماري سترثُ ملايين فيرلوند أم ستتزوَّجه خاوية الوفاض.
غير أنَّ بعض الآخرين ممَّن كانوا في «لنكولن» في ذلك اليوم لم يَنظُروا إلى ذاك الموقف من منظورٍ فلسفيٍّ كهذا.
كان السير آيزاك قد اتجه بالسيارة مباشرةً إلى المنزل الواقع على التلِّ المؤدِّي إلى الكنيسة الكبرى، والذي كان بلاك يقيم فيه منذ يومين. كان مزاجه عكرًا للغاية حين وصل أخيرًا إلى وجهته. كان بلاك قاعدًا يتناول الغداء؛ فرَفَع ناظريه إلى آيزاك حين دخل عليه، وقال: «أهلًا يا آيكي، تعالَ واقعد.»
نَظَر السير آيزاك إلى أصناف الطعام ببعض الازدراء، وسرعان ما قال بفظاظة: «شكرًا، لقد تغديت في القطار. أريدُ التحدث إليك.»
قال بلاك وهو يأخذ شريحةً أخرى من اللحم: «فلتتحدَّث مباشرة.» كان بلاك أكولًا متذوقًا للطعام، وكان يجد لذَّة عميقة في تناول وجباته.
قال له آيزاك: «أصغِ إليَّ يا بلاك، الوضع سيئ للغاية. إذا لم يفُز حصاني اللعين اليوم، فلا أعرف ماذا سأفعل للحصول على المال.»
فقال بلاك بهدوء: «أعرف شيئًا واحدًا لن تستطيع فعله؛ ألا وهو اللجوء إليَّ؛ فأنا في ضائقةٍ شديدة مثلك.» دَفَع صحنه بعيدًا وأخذ من جيبه علبة سيجار، وقال: «ما الذي قد نجنيه من فوز حصانك هذا المدعو «تيمبولينو»؟»
قال السير آيزاك بنبرةٍ كئيبة: «حوالي ٢٥ ألف جنيه. لا أعرفُ ما إذا كان ذلك الشيء اللعين سيفوز. إن لم يَفُز، فسيكون ذلك بسبب سوء حظِّي ليس إلَّا. أنا خائفٌ من فَرَس جريشام هذه.»
ضحك بلاك بهدوء، وقال: «هذا أحد مخاوفك الجديدة. لا أتذكر أنني سمعتُ عنه من قبل.»
فقال الآخر: «هذه ليست مسألة مُضحِكة. لقد كلَّفت مُدرِّبي، طَبس، بمتابعة أدائها. إنَّها سريعةٌ للغاية. والمشكلة الوحيدة هي ما إذا كانت تستطيع مُواصَلة العدو بالوتيرة السريعة نفسها.»
فسأله بلاك: «ألا يُمكن الوصولُ إليها؟»
فقال الآخر بنفاد صبر: «الوصول إليها! سيُقام السباق في غضون ثلاث ساعات!» وسأله بانفعال: «من أين أتيت بفكرتك عن السباقات؟ لا يُمكنك تسميم خيولٍ في غُضون ثلاث ساعات، بل لا يُمكنك تسميمها في غضون ثلاثة أيام، إلَّا إذا كان مُدرِّبها مشتركًا معك في ذلك. وهذا الصنف من المدربين ليس موجودًا إلَّا في الروايات.»
كان بلاك يقطع طرفَ السيجار بعناية، وقال وهو مُنهمِك في التفكير: «إذن، إن خسر حصانك، فسنُصبِح في شارع «هاي ستريت» الرئيسي في «بلدة قاع الجحيم»؟» وأضاف بنبرةٍ جادة متجهِّمة: «لقد راهنتُ عليه لإنقاذ حياتي.»
قَرَع جرسًا، فدخل عليه الخادم. قال له بلاك: «قُل لهم أن يُحضِروا العربة.» ثم نَظَر إلى ساعته، وقال: «لست مهتمًّا جدًّا بحضور السباق، بل أظن أنني سأَستمتِع بهذا اليوم في الهواء الطلق؛ فهذا يَمنح المرء فرصةً للتفكير.»