(١٤) ويلي جيكوبس يُفصح عما لديه
بعدما صار الرجل الذي كانا يدعوانه «فارمر» بمفرده، انتظر بضع دقائق، ثم أنزل معطفه الذي كان معلَّقًا خلف الباب، واعتمر قبعته وارتدى قفازيه بتروٍّ وعناية، وغادر المنزل. سار في الاتجاه الذي سلَكَه بلاك والسير آيزاك، لكن سيارة الأجرة التي أقلَّتهما كانت تُسرِع باتجاه الشمال قبل وقتٍ طويل من وصوله إلى المكان الذي كانت تنتظر فيه.
واصَل طريقه إلى شارع «كامبروِل رود» واستقلَّ عَربة ترام. بدا من مصابيح إنارة الشوارع وأضواء نوافذ عرض المحلات أنَّه رجلٌ حسن المظهر ذو قامةٍ أطول بقليل من المتوسط، ووجه شاحب مُهذَّب. كان يرتدي ملابس بسيطة، لكنه كان أنيقًا.
ترجَّل من الترام بالقرب من حي «إيليفانت آند كاسل»، ومشى سريعًا في طريق «نيوكِنت رود»، ثم انعطف إلى شارعٍ أفقر يقود إلى متاهةٍ من الشوارع الأصغر والأشد فقرًا الموجودة في تلك المنطقة التي كان يحُدُّها من الغرب سوق «إيست ستريت» ويحُدُّها من الغرب شارع «نيوكِنت رود». وعلى مسافةٍ قصيرة في ذلك الشارع، كانت بعض المنازل القديمة قد هُدِمَت وشُيِّدت مكانها مبانٍ جديدة بالطوب الأصفر. كان يوجد عمود إنارة أحمر كبير خارج أحد المداخل الواسعة يُخطِر أهالي الحي بأنَّ هذا هو المستوصف المجاني، مع أنَّه ما من أحد ممَّن كانوا يعيشون ضمن منطقةٍ يبلغ نصف قطرها خمسة أميال كان يحتاج إلى أي معلوماتٍ عن وجود هذا المستوصف.
كان هذا المدخل يحوي لوحةً تحمل أسماء ثلاثة أطباء، وكان أمامَ كلٍّ من هذه الأسماء لوحٌ منزلق صغير يُتيح للأطباء إبلاغ زوارهم بما إذا كانوا موجودين في المستوصف أم لا. وقف الرجل أمام اللوحة.
كان اللوح المنزلق الصغير الموجود أمام الاسم الأول يشير إلى علامة «في الخارج».
فَرَفع فارمر يده وحرَّك اللوح فأظهر كلمة «موجود»، ثم عَبَر الباب إلى غرفة الانتظار الكبيرة، ثم دخل غرفة صغيرة تحمل اسم «الطبيب ويلسون جريل».
أغلق الباب خلفه وأوصده بمزلاج. خلع قبعته ومِعطَفَه، وعلَّقهما، ثم قَرَع جرسًا، فأتى إليه خادم.
سأله الرجل: «هل الطبيب أوهارا موجود؟»
أجاب الخادم قائلًا: «نعم أيها الطبيب.»
«هلا طلبت منه أن يأتي إليَّ من فضلك؟»
وفي غضون دقائق، دخل رجلٌ متوسط القامة، قوي البنيان، وأغلق الباب وراءه.
قال: «حسنًا، كيف أبليت؟» وسحب كرسيًّا نحو المنضدة من تلقاء نفسه.
قال جونزاليس بضحكةٍ طفيفة: «لقد ابتلعا الطُّعم. أظنُّهما ينويان فعل شيءٍ ما. لقد كانا متلهفين للغاية لمعرفة ما إذا كُنَّا نعتزم اتخاذ إجراءٍ في وقت قريب أم لا. فلتُخبِر مانفريد بأننا سنَعقِد اجتماعًا الليلة. ماذا عن ديسبارد؟ هل تظن أنه سيعترض على استخدام اسمه الحقيقي؟»
كان صوته آنذاك قد تجرَّد من الرُّقيِّ المُصطنَع الذي انطلى للغاية على بلاك.
«لا إطلاقًا. لقد اخترته عمدًا لأنني كنتُ أعرف أنَّه سيُسافر الليلة إلى خارج البلاد.»
«والآخرون؟»
«باستثناء الخبير الفني، فهُم غير موجودين.»
«وماذا إن تحرَّى عن الأمر؟»
«إنه ليس بالرجل الذي قد يفعل هذا، بل سيكتفي بمعرفة الأبرز من بين «الأربعة»: ديسبارد؛ وذلك الرجل الآخر الذي نسيتُ اسمه. سيغادر ديسبارد الليلة، وسيرحل الآخر يوم الأربعاء متجهًا إلى أمريكا. ومثلما ترى، فإنَّ هذا يتسقُ مع ما قُلتُه لبلاك.»
أخرج من جيبه الورقتين النقديتين من فئة العشرة جنيهات، ووضعهما على المنضدة. قال وهو يُعطيهما الرجل الآخر: «عشرون جنيهًا. يجدر بك أن تجد شيئًا تستخدمها فيه.»
حشرهما الآخر في جيب صداره.
«سأرسل طفلَي «برادي» هذين إلى شاطئ البحر. صحيحٌ أنَّ ذلك لن يُنقذ حياتهما على الأرجح، لكنَّه سيمنح الشيطانَيْن الصغيرَيْن تصوُّرًا عمَّا تحمله الحياة من متعة، على مدار شهر بأكمله تقريبًا.» بدا أنَّ الفكرة نفسها خَطَرت ببال الاثنين، وضحكا.
قال جريل، أو فارمر، أو جونزاليس — سَمُّوه ما شئتم — وقد التمعت عيناه الزرقاوين: «لن يحبَّ بلاك معرفة المسعى الحقير الذي أُنفِقَت فيه أمواله الطيبة.»
قال بويكارت: «هل كانا مُهتمَّين بمعرفة هوية الرجل الرابع؟»
فقال الآخر: «كانا مُتلهفَيْن للغاية، لكنِّي تساءلتُ عمَّا إذا كانا سيُصدقانني لو كنت قد اعترفتُ لهما بأنني شخصيًّا واحدٌ من الأربعة، واعترفتُ في الوقت نفسه بأنني أجهلُ هوية الرابع مثلهما تمامًا.»
قام بويكارت، ووقف ينظر إلى نيران المدفأة وقد بدت عليه الحيرة وهو يضع يديه في جيبي بنطاله.
قال: «كثيرًا ما أتساءل عن هويته. ألا تتساءل؟»
قال جونزاليس: «لقد تجاوزتُ مشاعر الفضول تلك؛ فأيًّا ما كانت هويته. أنا متيقنٌ من أنه رجلٌ طيب القلب يعمل من أجل غرضٍ واحد.»
أومأ الآخر بالموافقة.
قال جريل بحماسة: «أنا ميتقنٌ من أنه قد أدى عملًا رائعًا وشريفًا وله ما يُبرِّره.»
أومأ بويكارت بجِديةٍ رزينة.
قال الآخر: «بالمناسبة، لقد ذهبتُ إلى اللورد فيرلوند العجوز، تتذكرُ أنَّ الرابع قد اقترح علينا أن نُحاول الحصول على أموالٍ منه. إنَّه شخصٌ ساخر ذو لسانٍ سليط.»
ابتسم بويكارت، وقال: «ماذا فعل؟ هل قال لك أن تَغرُب عن وجهه إلى الجحيم؟»
قال د. جونزاليس: «شيءٌ من هذا القبيل. لم آخذ منه سوى نصف جِنِي، وكان ذلك على مضض منه، وظلَّ يُسلِّيني طوال الوقت بأكثر مما يستحق هذا النصف جِنِي.»
قال الآخر: «لكنَّ ذلك لم يكن من أجل هذا العمل.»
هزَّ جونزاليس رأسه، وقال مبتسمًا: «لا، بل من أجل قِسمٍ آخر.»
لم يكن لديهما متَّسعٌ إضافي كبير من الوقت للمحادثة؛ إذ بدأ توافد المرضى. وفي غضون ربع ساعة، أولى الرجلان كامل اهتمامهما لتدبُّر أمر إصابات أهالي هذا الحي المكتظ وأمراضهم وشكاواهم.
يعود الفضلُ في إقامة هذا المُستوصَف العظيم واستمرار عمله إلى سخاء ثلاثة أطباء قد ظهرُوا فجأة. أما عن هوية ذلك الرجل الذي تَبرَّع بمبلغ خمسة آلاف جنيه لصيانة المُستوصَف وإبقائه في حالٍ طيبة، والذي ظهر بنفسه بعد ذلك مُلثمًا ومتَّشحًا بعباءة وأعرب لثلاثة رجال مُخلصين يعملون من أجل الإنسانية عن رغبته في الانضمام إلى المنظمة، فلا أحد يعرفها سوى مانفريد. فقد كان مانفريد هو الحكيم الذي لم يَكتفِ بقبول العرض، بل تَقبَّل كذلك حُسن نية ذلك الغريب؛ أي كان مانفريد هو الذي قَبِلَه شريكًا معهم.
كان بعضٌ ممَّن يلاحظون الأطباء الثلاثة المخلصين ملاحظة عابرة لا يصفونهم بأنَّهم مهووسون فحسب، بل متعصِّبون أيضًا. لم يكونوا مُنتسِبِين إلى أيِّ مؤسسة، ولم تكن هناك أي دلالة قد يُستنتَج منها انتسابهم بأي شكلٍ من الأشكال إلى المنظمات الدينية العاملة في المجال الطبي. ومن الحقائق التي لا تقبل الجدل أنَّهم كانوا يتمتعون بالمؤهلات اللازمة لممارسة الطب، وأنَّ أحدهم، وهو ليون جونزاليس، كان صيدلانيًّا بارعًا أيضًا.
لم يكن أحد يتذكَّر أنه رآهم يذهبون إلى الكنيسة، أو يحثُّون على الذهاب إلى أيٍّ من أماكن العبادة، بل إنَّ الهيئات الدينية في الحي، كانت هي نفسها مَشدوهة. وكانوا، واحدًا تلو الآخر، قد أبدوا تحفظًا عند سؤالهم عن طائفتهم. وقد سألهم البعض مباشرةً عن ماهية المنظمة الدينية التي ينتسبون إليها، لكنَّ السائلين لم يتلقوا إجابةً مُقنعة قَط.
كانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة تقريبًا حين أنهى الطبيبان عملهما. كان آخر مريضٍ قد غادر، وكان آخر تأوُّه مُنزعِج صادر من طفلٍ سقيم قد تلاشى، كان الباب مُقفلًا وكان عمال التنظيف منهمكين في تنظيف غرفة الانتظار الكبيرة وترتيبها.
جلس الرجلان في غرفة المكتب، مُنهكَين لكنَّهما كانا مبتهجين. كانت الغرفة جيدة الأثاث، وقد كانت هي الغرفة العامة المشتركة للثلاثة. كانت جذوةٌ من نيران مشتعلة تتوهج في المدفأة، وكانت الغرفة تحوي كراسي ذات أذرعٍ وأرائك كبيرة فسيحة. كانت الأرضية مُغطَّاة بسجاد سميك، وكانت توجد لوحتان نادِرتان أو ثلاث مُعلقة على الجدران المطلية بالطلاء الجيري.
كانا جالسين يُناقشان أحداث أمسيتهما؛ إذ كانا يقارنان بين المذكرات التي كتباها للمرضى، ويتبادلان التفاصيل المهمَّة المُتعلِّقة بالحالات التي حظيت بعنايتهما. كان مانفريد قد خرج في وقتٍ مبكر من المساء ولم يعُد. وبينما كانا جالسين، رنَّ أحد الأجراس بصوتٍ حاد. نَظر ليون إلى الأعلى نحو مؤشِّر الأجراس، ثم قال بالإسبانية: «هذا جرس باب المستوصَف. أظن الأفضل أن نرى هوية ذاك القارع.»
قال بويكارت: «سيكون فتاة صغيرة تقول: «أرجو أن تأتي إلى أبي، فهو إمَّا ميت أو ثمل».» ضحكا ضحكةً طفيفة على ذكرى هذه الحادثة التي وقعت بالفعل.
فتح بويكارت الباب، فوجد رجلًا يقف في المدخل. قال الرجل: «وقع حادث سيئ على مقربةٍ كبيرة من هنا. هل أستطيع إحضاره إلى هنا أيها الطبيب؟»
فقال بويكارت: «حادثٌ من أيِّ نوع؟»
«طُعِن رجل بسكين.»
فقال بويكارت: «أحضره.» وذهب بسرعة إلى الغرفة المشتركة، قال: «إنها حالة طعن. هل ستُدخله عيادتك يا ليون؟»
فقام الشاب بسرعة، وقال: «نعم. سأُجهِّز السرير.»
وفي غضون بضع دقائق، دخل ستة رجال يحملون ضحيةً فاقد الوعي. كان وجه الضحية مألوفًا للاثنين. وضعاه برفقٍ على سرير الجراحة، ومزَّقا الملابس من فوق الجرح بأيادٍ بارعة، بينما كان الشرطي، الذي كان قد رافق الرجال الذين أتوا به إلى المستوصَف، يُبعد الحشد المتكدِّس عن باب العيادة.
أصبح الرجلان وحدهما مع الرجلِ الفاقد الوعي. تبادلا النظرات.
قال أحدهما بحذر: «ما لم أكن مُخطئًا فهذه جثة السيد ويلي جيكوبس.»
كانت ماي ساندفورد في ذلك المساء جالسة وحدها في غرفتها تقرأ. وحين دخل والدها الغرفة ليُودِّعَها قبل ذهابه إلى إحدى ولائم عشاء مديري المصانع والشركات، تركها وهي تقرأ كتابًا تثقيفيًّا، حسب ما بدا، لكنَّ الكتاب قد صار الآن مُلقًى بجانبها دون أن تلقي له بالًا.
كانت قد تلقَّت في عصر ذلك اليوم رسالة موجزة مُلِحَّة من بلاك، يطلب فيها لقاءها «بشأن مسألة بالغة الأهمية». وقال إنَّ تلك المسألة متعلِّقة بوالدها، وسرِّية للغاية. وقد كانت الفتاة تشعر بالانزعاج وبقدر غير هين من الحيرة؛ فإلحاحُ الرسالة وتكتُّمها قد أصاباها بقلقٍ لا تفسير له. وللمرة العشرين، بدأت تقرأ مسرحيات «مسيو موليير» التثقيفية، حين جعلتها قَرعةٌ على الباب تُخفي الرسالة بسرعة.
أذنت ماي للطارق بالدخول؛ فدخلت خادمة شابة، وقالت: «ثمة رجلٌ يرغب في لقائك.»
«أيُّ نوعٍ من الرجال؟»
قالت الخادمة: «رجلٌ عادي المظهر.»
تردَّدت ماي، لكنَّها اطمأنت بوجود كبير الخَدم في المنزل، وإلَّا لما قابلت هذا الزائر.
قالت: «أدخليه غرفة مكتب أبي. وأخبري توماس بأنَّ ذاك الرجل موجود هنا، واطلبي منه أن يكون مستعدًّا تحسبًا لأي لحظةٍ قد أستدعيه فيها بالجرس.
لم يَسبقْ لها أن رأت ذاك الرجل الذي وجدته في انتظارها. اعتراها ارتيابٌ غريزيٌّ تجاه وجهه، غير أنَّ ثمة شيئًا بشأنه قد انتزع شفقتها. كان شاحبًا مُنهكًا تُحيط بعينيه هالتان سوداوان، وكانت يداه، اللتان لم تكونا نظيفتَين إطلاقًا، ترتعشان.
قال: «آسفٌ على إزعاجكِ يا آنسة، لكنَّ الأمر مهم.»
قالت: «إنَّ الوقت متأخِّر بعض الشيء. ماذا تريد؟»
تحسَّس قبعته بلمساتٍ مرتبكة ونظر إلى الخادمة التي كانت تنتظر؛ فغادرت الغرفة بإيماءةٍ من ماي.
قال الرجل مجددًا: «الأمر مهمٌّ لكِ يا آنسة. لقد عامَلَني بلاك أسوأ معاملة.»
وحينها خَطَر ببالها شكٌّ وضيع للحظة. فهل أرسل فرانك رجله لزعزعة ثقتها ببلاك؟ خالجها شعورٌ بالاستياء من زائرها والرجل الذي ظنَّت أنَّه مَن كلفه بالذهاب إليها.
قالت ببرود: «يُمكن أن تُوفِّر كلامك لنفسك، وتستطيعُ أن تعود إلى الرجل الذي أرسلك وتُخبره …»
فقال بلهفة: «لم يُرسلني أحدٌ يا آنسة. لقد جئت من تلقاء نفسي. أقولُ لكِ إنَّهم آذوني. لقد كتمت أسرار بلاك من أجل مصلحته طوال سنوات، وها هو يَنبذني الآن.» ثم أضاف وهو يمُدُّ ذراعَيه يائسًا: «إنني مريض يا آنسة، تستطيعين رؤية ذلك بنفسك. أكاد أتضور جوعًا ولم يُعطوني حبَّة فولٍ حتى. ذهبت إلى منزل بلاك اليوم ورفض مقابلتي.» كان يكاد يئن في نبرته الغاضبة اليائسة. قال بعُنفٍ بالغ: «لقد آذاني وسأردُّ له الأذى. هل تعرفين حيلته السرية؟»
قالت مجددًا وارتيابها القديم يُعمي عينيها: «لا أريدُ أن أعرف. لن تستفيد شيئًا من انتقاد الكولونيل بلاك.»
قال متوسلًا: «لا تكوني مغفَّلة يا آنسة، لا تظنِّي أنني أتيتُ من أجل المال. لا أنتظر مالًا، ولا أريده. أظنُّ أنني أستطيع نَيل مساعدةٍ من السيد فيلو.»
فقالت: «آه! إذن، فأنت تعرف السيد فيلو؛ أي إنه هو الذي أرسلك. لن أسمع أي كلمةٍ أخرى. أعرفُ الآن من أين أتيت؛ لقد سمعت كلَّ هذا من قبل.»
سارت عبر الغرفة بخُطًى عازمة وقَرَعت الجرس؛ فدَخَل كبير الخدم. قالت ماي: «أخرِج هذا الرجل.»
نَظَر الرجل إليها بأسًى.
وقال بنبرةٍ تُنذر بالسوء: «لقد سنحت لكِ فرصتكِ يا آنسة. بلاك هو إيسلي، هذا كلُّ شيء!»
وبعد هذه العبارة الوداعية المؤثِّرة، مشى مُتثاقلًا عبر الصالة ونَزَل الدرجات الخارجية، ليختفيَ بعد ذلك في ظلام الليل.
حين صارت الفتاة بمفردها، قعدت مُنكمشةً في كرسيها. كانت ترتجف من رأسها إلى أخمص قدمها من شدة السخط والحيرة. لا بُد أنَّ فرانك هو من أرسل ذاك الرجل. يا له من وضيع! يا له من وضيع إلى حدٍّ لا يوصَف!
تساءلت: «كيف يجرؤ؟ كيف يجرؤ؟»
جال بخاطرها أنَّ شخصية الشُّرطي في فرانك هي التي جعلته فظيعًا للغاية؛ إذ كان دائمًا ما يعتقد أشياء بشعة عن الجميع. غير أنَّ هذا طبيعي جدًّا؛ إذ عاش حياته وسط المجرمين؛ ولهذا لم يكن يشغل باله سوى انتهاكات القانون. نَظَرت إلى الساعة، كانت العاشرة إلَّا ربع. لقد ضيَّع مساءها هذا الزائر. لم تكن تعرف ماذا ستفعل بالضبط. لم تستطع القراءة، وكان الوقت ما يزال مبكرًا جدًّا على الخلود إلى النوم. كانت تتمنَّى أن تخرج في نزهة قصيرة، غير أنه لم يكن يوجد مَن يصطحبها. وكانت فكرة سخيفة أن تطلب من كبير الخدم أن يَمشيَ وراءها، حتى إنها قد ابتسمت حين راودتها تلك الفكرة.
ارتجفت فجأة إذ سمعت جرس الباب الأمامي البعيد؛ فمَن علَّه أن يكون هذا القارع؟
لم يَطُل انتظارها إلى أن عرفت مَن يكون. فبعد ذلك بدقائق قليلة، أعلنت الخادمة قدوم الكولونيل بلاك. كان يرتدي ثياب السهرة وكان في غاية الابتهاج.
قال بنبرةٍ دافئة رقيقة تؤكد صدقه: «سامحيني على هذه الزيارة. كنتُ مارًّا بالقرب من هنا مصادفة، وارتأيتُ أن آتي في زيارة قصيرة.»
غير أنَّ ذلك لم يكن صحيحًا تمامًا؛ إذ كان بلاك قد خطَّط لهذه الزيارة بعناية. كان يعلم أن والدها خارج المنزل، وكان يعلمُ أيضًا، بعدما خاض نقاشًا حادًّا للغاية معه عصر ذلك اليوم، أنَّه لم يكن ليسمح بهذه الزيارة. قدمت له ماي يدها، فقَبَض عليها بحرارة.
تطرَّقت إلى صميم الموضوع مباشرة، وقالت: «أنا سعيدة للغاية بقدومك. كنت مُنزعِجة للغاية.» فأومأ برأسه متعاطفًا، وإن كان متحيرًا بعض الشيء. أضافت: «حسنًا، لقد جاء ذلك الرجل.»
سألها بحدة: «ذلك الرجل؟ أيُّ رجل؟»
«نسيتُ اسمه، لقد جاء هذا المساء، بل إنه رحل منذ بضع لحظات فقط. وقد بدا سقيمًا جدًّا. أظنك تعرفه، أليس كذلك؟»
قال بانفعال: «لا تقولي إنَّه جيكوبس؟»
أومأت قائلة: «أظنُّ أنَّ هذا هو اسمه.»
كرَّر سؤاله وقد صار وجهه شاحبًا قليلًا: «جيكوبس؟» ثم سألها بسرعة: «ماذا قال؟»
أخبرته بما استطاعت تذكُّره من المحادثة. وحين انتهت، قام. سألته في دهشة: «هل ستُغادر حقًّا؟»
قال: «يؤسفني القول إنني مضطرٌّ إلى المغادرة. لديَّ موعد مهم و… لقد أتيتُ إلى هنا إذ كنت مارًّا بالصدفة فحسب. في أيِّ طريق ذهب هذا الرجل؟ هل أعطاكِ أي فكرةٍ عن وجهته؟»
هزَّت رأسها، وقالت: «لا. كل ما قاله إنَّ بعض الأشخاص سيسعدون بالمعلومات التي يستطيع الإدلاء بها عنك.»
قال بلاك وهو يُحاول الابتسام بصعوبةٍ بالغة: «أقال هذا حقًّا؟ لم أكن أظنُّ قَط أنَّ جيكوبس من ذلك الصنف من الرجال. ليس لديَّ ما أُخفيه بالطبع، لكن ثمة أسرار تتعلَّق بالعمل كما تعلمين. يا آنسة ساندفورد. لقد كان موظفًا عندي وطردته بعدما سرق بعض العقود. لا داعيَ إلى أن تقلقي حيال ذلك الأمر.»
ابتسم لها بثقةٍ وهو يُغادر الغرفة.
قاد سيارته مباشرةً من المنزل إلى مكتبه. كان المكتب حالك الظلام، لكنَّه كان يعرف طريقه داخل المكتب دون الحاجة إلى إضاءة الأنوار. صعد الدَّرَج راكضًا إلى غرفة الاجتماعات.
كان ثمة بابٌ صغير في أحد أركان الغرفة، وتخفيه عن الأنظار ستارة مُعلقة.
أغلق مصاريع النوافذ وأنزل ستائرها قبل أن يُضيء النور، ثم أزاح الستارة وتفحَّص وجه الباب. لم تكُن توجد علامة على أنَّه قد فُتِح عنوة. لقد كان جيكوبس على درايةٍ بوجود هذا الملاذ السرِّي الصغير، وكان، في إحدى لحظات طيشه، قد ذَكَره في إحدى الرسائل التي كان يطلب فيها المال من بلاك.
أخرج بلاك من جيبه مجموعة من المفاتيح معلَّقة في سلسلةٍ فضية. فتح باب الغرفة بسهولة؛ فكشف عن غرفةٍ أصغر ذات مساحةٍ لا تتجاوَز مساحة خزانةٍ كبيرة. تدلى من السقف مصباح كهربائي واحد وكان يكفي لتوفير القدر اللازم من الإضاءة. كانت الغرفة تحوي منضدة للتزيين وكرسيًّا ومرآة كبيرة وعددًا من المشاجب التي كانت تحمل العشرات من قطع الملابس. وكان الهواء يدخل الغرفة بمروحتين مُثبَّتتين في الجدار ومتصلتين بماسورة التهوية الرئيسية للمبنى.
فتح باب منضدة التزيين وأخرج عددًا من قِطَع الشعر المستعار. كانت بجودة تلك القِطع التي لا يُمكن أن يوفرها سوى مصنع «فيسو» الشهير. كانت قد صُمِمت تصميمًا مثاليًّا، وكان الشعرُ فيها كلها بدرجةِ لونٍ واحدة، وإن كان تصفيفه مختلفًا.
ألقى بها على المنضدة بفارغ الصبر، وتلمَّس بيديه باحثًا عن شيءٍ كان يعرف أنه من المفترض أن يكون هناك، وسيكون هناك إلا أن يأخذه لصٌّ يتمتع بالمهارة في استخدام المفاتيح الهيكلية، ويعرف المكتب بعض الشيء. أوقف البحث فجأة وتفحَّص حزمة من الورق كانت موضوعة على المنضدة. كانت حزمةً قد أبقاها جاهزةً في المتناول لتدوين ملاحظات سريعة عن الاتفاقات التي تُبرَم بصورة رسمية بعد. كان وجه الورقة الأبيض يحمل علامة إبهامٍ بُنية كبيرة، ومع أنَّ الكولونيل بلاك لم يكن يعرف إلا القليل عن علم الأنثروبولوجيا، فقد كان على درايةٍ كافية بتلك العلامة ليعلم أنَّها بصمة إبهام لم يكن من المفترض أبدًا أن تكون في مكتبه السري هذا.
إذن، فقَد كان ويلي! ويلي جيكوبس الوضيع، الذي كان يتودَّد إليه وخصَّص له معاشًا، هو الذي أخذ قنينة زجاجية خضراء معينة كان بلاك يحمل نسخةً طبق الأصل منها في جيبه في تلك اللحظة.
لم يفقد بلاك أعصابه. اتجه إلى دُرجٍ في مكتبه الخارجي وأخرَج منه مسدسًا من طراز براوننج. كان المسدس مُذخرًا. حمله وشعر بتوازنه على راحة يده اليُمنى، ونظر إليه متأمِّلًا، ثم أعاده إلى الدرج. كان يكره الأسلحة النارية؛ إذ كانت تُحدِث قدرًا كبيرًا من الضوضاء بلا داعٍ، وتترك وراءها دليلًا قاطعًا على هوية مُستخدمها؛ فالرصاص دليل يقود إلى صاحبه عند تعقبه.
ثمَّة وسائل أخرى. استلَّ من الدرج سكينًا رفيعًا طويلًا. كان خنجرًا إيطاليًّا من القرن السادس عشر أشبه بسكينٍ غير حقيقي كالذي قد يستخدمه أيُّ رجل في أيامه العادية لفتح الرسائل. وقد كان هذا هو السبب الظاهري الذي كان بلاك يَتذرَّع به لإبقاء ذلك السلاح في متناول يده.
سحبه من غمده الجلدي المُزخرَف واختبر صلابته، لمس حافته المسنونة وضغط بإصبعه على رأسه المُدبب بحذرٍ شديد، ثم وضع الخنجر في غمده ودَسَّه في جيب معطفه، وأطفأ الأنوار وخرج. لم تكن هذه المسألة تتطلب استخدام القنينة الزجاجية الصغيرة؛ إذ لم يكن مُتبقيًا من مادتها الثمينة سوى أقل القليل، وكان يحتاج إليها من أجل أغراضٍ أخرى.
كان أمامه مكانان أو ثلاثة يُمكن أن يعثر فيها على هذا الرجل؛ أحدها كان حانةً تقع قبالة شارع «ريجنت ستريت». استقلَّ سيارة أجرة إلى هناك، وأوقفها على بُعد خطواتٍ قليلة من المكان. دخل الحانة، حيث كان يُمكِن العثور على رجالٍ من أمثال جيكوبس، لكنه لم يجد فيها بغيته. فلم يكن الرجل الذي كان يبحث عنه هناك.
تفقَّد أماكن محتملة أخرى دون أن يفوز بنتيجةٍ أفضل. إذن، فويلي سيكون في مسكنه. ذهب بلاك إلى بعض المساكن الموجودة على الضفة الجنوبية من نهر التايمز.
وبينما كان عائدًا من حانة صغيرة قبالة شارع «نيوكِنت رود»، عثر على رجله. كان ويلي قد قضى المساء يُفكر في مَظلمته، وكان في طريقه إلى مسكنه للاستعداد لمغامرته الكبرى حين صَفَعه بلاك على كتفه من الخلف.
قال: «مرحبًا يا ويلي.»
فاستدار الرجل وقد جفل، وقال على عَجَلٍ وهو يتعثر مرتطمًا بالحائط: «أبعد يديك عنِّي.»
قال بلاك: «أصغِ إليَّ، لا تكن سخيفًا، ودعنا نناقش هذه المسألة بعقلانية؛ فأنت رجلٌ عقلاني، ألست كذلك؟ لديَّ سيارة أجرة تنتظر على مقربةٍ من هنا.»
قال جيكوبس: «لن تُقِلَّني في أيٍّ من سيارات الأجرة. لقد مللتُ منك يا بلاك. لقد انقلبتَ عليَّ. لقد طردتني كالكلب. هل هذه المعاملة تليقُ بصديق؟»
قال بلاك ببعض اللين: «إنك قد ارتكبت خطأً يا صديقي. وكلنا عُرضة لارتكاب الأخطاء. أنا نفسي قد ارتكبتُ العديد من الأخطاء، وأرى أنك ارتكبت بضعةً منها. والآن، لنتحدَّث عن العمل.»
لم يَقُل ويلي شيئًا؛ إذ كان الشك لا يزال يُساوره. وحالَما خَال أنه رأى يد الآخر تتسلَّل خلسةً إلى جيب صدره، خمَّن الدافع وراء ذلك التصرف. لقد كان هذا هو مكان القنينة الزجاجية إذن.
كان بلاك بارعًا في فن التملُّق؛ إذ كان يعرف مواطن ضعف كل مَن كانوا على صلةٍ به. فرويدًا رويدًا، ظل يقود الآخر من شارعٍ إلى آخر بلا هدفٍ محدَّد ظاهر، حتى وصلا إلى طريقٍ مسدود صغير. كانت حظائر الخيل تشغل أحد جانبي الطريق الصغير، وكانت بيوت الحرفيين تشغل الجانب الآخر. وكان أحد أعمدة الإنارة في منتصف الطريق يبثُّ ضوءًا خافتًا.
تردَّد ويلي. وقال: «لا يوجد طريق هنا.»
قال بلاك بثقة: «كلا، بل يوجد طريق؛ فأنا أعرفُ هذا الحي جيدًا. والآن، يوجد شيءٌ واحد أريد أن أسألك عنه يا ويلي. أنا متيقِّنٌ من أنك تشعر بودٍّ أكبر تجاهي الآن، أليس كذلك؟»
استقرَّت يده بشيءٍ من الحنان على كتف الآخر.
أصر الآخر على كلامه قائلًا: «إنك لم تتصرَّفْ بنزاهة.»
قال بلاك: «عفا الرب عمَّا سَلف. ما أريد معرفته يا ويلي هو: لماذا أخذت القنينة؟» طَرَح السؤال بنبرةٍ واقعية. لم يرفع صوته. ولم يُشدِّد نُطق نهاية السؤال بنبرةٍ غير عادية.
بوغِت الرجل الآخر بالسؤال. قال: «حسنًا، لقد شعرتُ بغصَّةٍ من الألم.»
قال بلاك بتوبيخٍ لطيف: «وهل تَنتظِر تسليم هذه القنينة إلى صديقنا فيلو؟»
قال ويلي: «لم أُسلِّمها إلى أيِّ شخصٍ حتى الآن، لكنَّ الحقيقة …»
لم يزد على ذلك كلمة؛ إذ التفَّت يد الرجل الضخم حول حلقه فجأة بقبضةٍ صلبة كالفولاذ. ناضل ويلي لإفلات نفسه، لكنَّه كان كطفلٍ في قبضة الآخر.
قال بلاك بحدة: «أنت كلب.»
ظل يهز الرجل العاجز بين قبضته بعُنف، ثم استلَّ القنينة، التي كانت دليلًا فاضحًا عليه، بيده الطليقة من جيب الآخر، ودفعه ليَرتطم بالحائط. «وسأُعلِّمك أنَّ هذا عقابٌ هيِّنٌ جدًّا مقارنةً بما ستناله مني إذا وجدتك في طريقي مجددًا.»
ارتطم جيكوبس بالحائط وهو شاحبٌ وفي حالٍ يُرثَى لها. قال: «لديك الزجاجة يا بلاك، لكنِّي أعرفُ كلَّ ما فعلته بها.»
«أتعرفُ حقًّا؟»
قال الآخر بيأس: «نعم، كل شيء. لن تتخلَّص مني كالنفاية، أتسمعني؟ يجب أن تمنحني معاش تقاعُد، مثلما منحتَ أناسًا آخرين. إنني أعرفُ ما يكفي لسجنك مدة طويلة دون …»
قال بلاك: «كنتُ أظنُّ أنك تعرف بالفعل.»
تلألأ شيءٌ ما في ضوء المصباح، وخرَّ جيكوبس مُتكوِّمًا على الأرض دون صرخةٍ واحدة.
نظر بلاك حوله. ومسح نصل الخنجر بعناية بمعطف الرجل المطعون، وأعاد وضع السلاح بعناية في غمده الجلدي، وتفحَّص يديه بعنايةٍ بالغة بحثًا عن أيِّ آثار دماء، لكنَّ هذه الأسلحة الإيطالية لا تُحدِث سوى جروح صغيرة.
استدار، وبعدما ارتدى قفازيه، عاد إلى حيث كانت سيارة الأجرة ما تزال تنتظره.