(١٦) لقاء الكولونيل بلاك بأحد رجال العدالة
صار منزل د. إيسلي في حيِّ «فورست هيل» غير مسكون. كان المصباح الأحمر أمام الباب مُطفأً، ومع أنَّ قطع الأثاث القليلة كانت ما تزال موجودة فيه، فقد اتشح المنزل بأستاره المُسدَلة ودرجات عتبته الخارجية القذرة المكسوة بالسخام، بمظهر الخلاء الخَرِب.
كان ثمَّة شائعة تتهامس بها الأفواه قد أثارت حفيظة أهالي تلك الضاحية المحترمة. كانت شائعة صادمة، إن صحَّت فقد تجعل أهالي «فورست هيل» كلهم يفغرون أفواههم في سَخَطٍ مُبرَّر. كان «الطبيب» إيسلي يمارس الطبَّ بلا تصريح، وكان محتالًا تَنطبق عليه أسوأ الأوصاف؛ إذ كان قد انتحل اسم رجل ميِّت ولقبَه القانوني.
أوضح الكولونيل بلاك، الذي وجده مُراسلٌ صحفي في مكتبه، قائلًا: «كلُّ ما أعرفه أنني التقيت الطبيب إيسلي في أستراليا، وأنني بُهِرتُ ببراعته.» وأضاف في نوبة صراحةٍ مفاجئة: «ربما يُمكنني القول إنَّني مسئول، من منظورٍ ما، عن مكانته في إنجلترا؛ ذلك أنني لم أُقدِّم له المال ليشتري عيادته فحسب، بل أوصيت به جميع أصدقائي أيضًا، وأنا مُستاء بالطبع من ذلك الاكتشاف الصادم.»
كلا، لم يكن لديه فكرةٌ عن مكان «الطبيب» في الوقت الحالي. فآخر مرة قد رآه فيها كانت قبل شهر، حين تحدَّث «الطبيب» عن سفره إلى القارة.
كان الكولونيل بلاك يعرف قدرًا أكبر من المعلومات، لكنه لم يكن لديه شيء ليقوله للمُحقِّقين الذين زاروه من «سكوتلانديارد». كانوا يأتون إليه بإصرارٍ مُزعِج، ولم يَبدُ قَط أنَّهم كَلُّوا من المجيء. كانوا ينتظرونه على عتبة الباب وفي مكتبه. وكانوا يَنتظرونه في دهاليز المسارح وعند مداخل البنوك. كانوا يأتون مرارًا كمبعوثِي الشركات التي كان الكولونيل بلاك مدينًا لها بالمال.
بعد مرور أسبوع على الأحداث التي دُوِّنت في الفصل الأخير، كان الكولونيل بلاك يجلس بمفرده في شقته بقلبٍ خالٍ من الهموم. كان قد جمع مبلغًا طائلًا من المال. أما حقيقة أنه اكتسب هذا المال بغير حق قانوني، فلم تُزعِج انسياب تيار أفكاره السلس. كان يكفيه أنَّه مال، وأنَّ ثمة سيارة يُمكن أن تنقله بسرعة إلى «فولكستون» موجودة تحت إمرته ليلًا ونهارًا رهنَ مُكالمةٍ تليفونية منه. والأهم من ذلك، أنَّه كان حيًّا.
لم يكن الكولونيل بلاك يفهم سبب الانتقام الذي توعَّدت به إحدى المنظمات الطبيب إيسلي؛ فقد يكون له عذره إذ ظن أنَّ قطعة شعرٍ مُستعار رمادي وحاجبَين أشعثين، إضافة إلى بعض الدراية بالطب؛ قَد خَدَعت الرجال الأذكياء المتبصِّرين الذين أتوا إلى إنجلترا لملاحقته.
كان هذا الرجل الجهنمي فيلو، الذي كان يظهر ويختفي وكأنما يفعل ذلك بتعويذة سحرية، يُحيِّره، بل يكاد يُقلقه. لم يكن فيلو أحد رجال العدالة الأربعة، بل كان حدسه هو الذي يُخبِّره بهذا الكمِّ من الأشياء. كان فيلو موظفًا حكوميًّا.
نُقِل الرقيب المدعو جوردن، الذي كان نافعًا جدًّا لبلاك، إلى قِسمٍ شُرطيٍّ بعيد فجأة، ولم يعرف أحدٌ السبب في ذلك. واختفى معه من نطاق خدمته القديم شرطيٌّ شاب كان قد شوهد وهو يتناول العشاء مع وزراء الحكومة البريطانية. كان جليًّا جدًّا أن ثمة سببًا يدعو إلى القلق، لكنَّ الكولونيل بلاك، بتفرُّده الشديد، كان مبتهجًا، وإن كان ابتهاجه يحمل شيئًا من الخبث. انشغل بإتلاف تلك الأوراق التي كان يحتفظ بها لديه، والتي كانت قليلة على أي حال.
أخرج محفظة قديمة وعَبَس حين رأى محتوياتها. كانت تحوي قسيمة عَرَبةِ نومٍ في قطار متجه من باريس إلى مدريد، وكانت مُخصَّصة باسم الطبيب إيسلي؛ زلَّةٌ جنونية ربما كانت ستؤدي إلى عواقب وخيمة، مثلما قال لنفسه. أحرق تلك الورقة التي تدينه بالإجرام، وسحق الرماد ثم رمى به إلى المدفأة.
خيَّم الظلام قبل أن يُنهيَ استعداداته، لكنه لم يُحاول إنارة الغرفة. كانت حُلَّته الرسمية موضوعةً خارج الخزانة في غرفة مجاورة؛ إذ كانت خزاناته مكتظَّة بالثياب. نَظر إلى ساعته. كان من المفترض أن يكون في طريقه إلى بيت آل ساندفورد في غضون نصف ساعة. كانت تلك مخاطرة أخرى لا يخوضها سوى رجل مجنون، هكذا قال لنفسه، لكنَّه كان يفكر في عاقبة زيارته برباطة جأش.
ذهب إلى غرفة نومه وبدأ استعداداته، ثم تذكر أنَّه ترك حزمة من النقود على منضدة الكتابة، فعاد إلى الغرفة. وجد النقود في مكانها، وبينما كان عائدًا، سمع نقرةً وغَمَر الضوء الغرفة.
استدار فجأة متفوهًا بلفظٍ نابٍ، ودَسَّ يده بسرعة في جيب بنطاله الخلفي.
قيل له بهدوء: «لا تتحرَّك من فضلك.»
فقال بلاك فاغرًا فاه: «أنت!»
أومأ الرجل الطويل ذو اللحية الصغيرة المدببة برأسه. قال: «أبعِد يدك عن جيبك أيها الكولونيل، فما من خَطَر وشيك يُهدِّدك.»
كان الرجل أعزل. وكان السيجار الرقيق الذي كان يحمله بين أسنانه البيضاء يُبرهن على هدوئه وسكينته. قال بلاك متلعثمًا: «دي لا مونت!»
فأومأ الرجل الملتحي مرة أخرى، ثم قال: «كان آخر لقاء لنا في قرطبة، لكنَّك تغيرت منذ ذلك الحين.»
تكلَّف بلاك الابتسام.
وقال: «أنت تخلطُ بيني وبين الطبيب إيسلي.»
صدَّق الآخر على كلامه قائلًا: «أخلطُ بينك وبين الطبيب إيسلي، لكنِّي أظن أنَّ هذا الخَلط مُبرَّر.»
لم يُزل سيجاره من بين أسنانه، وبدا مرتاحًا تمامًا، حتى إنه قد ألقى نظرةً على أحد الكراسي، منتظرًا من بلاك أن يدعوه إلى القعود. قال: «سواءٌ أكنت إيسلي أم بلاك، فقد خيَّم الغسق على نهارك بالفعل، وصار ليلُك قريبًا جدًّا.»
سَرَت قشعريرةٌ باردة من الرعب في جسد الكولونيل. حاول أن يتحدث، لكنَّ حلقه وفمه كانا جافين، ولم يستطع إلا أن يتفوه بهمهماتٍ عاجزة عن التعبير. قال بصوتٍ أجش وهو يرفع يديه المرتعشتين إلى فمه: «الليلة، الآن؟» بالرغم من ذلك، فقد كان مسلَّحًا بينما كان الرجل الواقف أمامه أعزل؛ أي إنَّه بحركةٍ سريعة واحدة بيده كان سيُردي ذلك الشبح الذي كان يُرهِب أوروبا فيما سبق قتيلًا. لم يشكَّ في أنه كان يقف وجهًا لوجه أمام أحد «الأربعة» المُرعِبين، ووجد نفسه يحاول جاهدًا أن يحفظ قسمات وجه الرجل الواقف أمامه ليستخدمها في المستقبل. ومع ذلك، لم يلمس المسدس الذي كان يَقبع مستقرًّا في جيب بنطاله الخلفي. كان بلاك منوَّمًا ومشلولًا بثقة الآخر الهادئة. كلُّ ما كان يعرفه أنَّه كان يريد الارتياح، الذي لم يكن من الممكن أن يتحقق إلَّا إذا رحل هذا الرجل الهادئ. شعر بأنه محصورٌ في مأزق مُروِّع، ولم يرَ أي سبيلٍ إلى الفرار في وجود هذه القوة.
خمَّن الآخر ما كان يجول في خاطر بلاك.
قال له: «لديَّ نصيحة واحدة فقط سأُسديها إليك؛ ألا وهي أن تجتنب عشاء ساندفورد.»
قال بلاك مُتلعثمًا: «لماذا، لماذا؟»
مشى الآخر إلى المدفأة ونَفَض رماد سيجاره من شبكتها الحديدية.
قال دون أن يلتفت: «لأنَّك في عشاء ساندفورد ستُصبح ضمن نطاق سُلطة رجال العدالة الأربعة، الذين، كما قد تعلم، يُمثِّلون قوةً واقية. أمَّا في أي مكان آخر …»
«نعم، ماذا سيحدث في أي مكان آخر؟»
«تُصبح ضمن نطاق سلطة الشرطة. أيهُّا الكولونيل بلاك؛ ففي هذه اللحظة، يَتقدم مُساعِد شاب متحمِّس إلى أحد مُفوضي الشرطة بطلبٍ للحصول على مذكرة لاعتقالك بتهمة القتل.» وبإيماءةٍ بسيطة، أدار مانفريد ظهره ومشى نحو الباب على مهل.
قال بلاك بصوت بدا وكأنه هسيسٌ: «قف!» كان في تلك اللحظة يُمسك المسدس وهو يستشيطُ غضبًا وخوفًا.
ضحك مانفريد بهدوء. لم يُوقِف مِشيته، بل نظر إلى الوراء من فوق كتفه، وقال مقتبسًا المثل الشهير: «فليلتزم كل حِرَفيٍّ بالأداة التي يبرع في استخدامها. والسُّمُّ، يا عزيزي الكولونيل، هو الأداة التي تَبرعُ في استخدامها، أو السكين في حالة موت جيكوبس. أمَّا الدَّويُّ، حتى وإن كان دَويَّ مسدسٍ من طراز «ويبلي»، فسيُحطِّم أعصابك.»
فتح الباب، وخَرج ثم أغلقه خلفه بعناية. ارتمى بلاك على أقرب كرسيٍّ له، وقد فغر فاه وصار وجهه يتصبب عرقًا. كانت هذه هي النهاية. لقد صار قوة بالية. مشى عبر الغرفة إلى الهاتف، وأعطى رقمًا، ثم تلقَّى ردًّا بعد بعض الوقت.
نعم، كانت السيارة جاهزة، ولم تُطرَح أيُّ استفسارات. أغلق الهاتف ثم رفع السماعة مجددًا، واتصل بستةٍ من مستودعات تأجير السيارات. أعطى كلَّ مُستودَعٍ منها التعليمات نفسها. كان من المقرر أن تنتظره سيارتان، وقد غيَّر المكان في كلِّ طلب. سيارتان سريعتان تستطيعُ كلتاهما قطع الأميال الثمانين إلى بلدة «دوفر» دون خوفٍ من أن تتعطل.
قال: «سأستقلُّ واحدة، على أن تتبعها الأخرى مباشرة، نعم أريد الأخرى فارغة. أنا ذاهبٌ إلى «دوفر» لأَلتقي بعض الأشخاص.» لم يكن يُريد المجازفة بأن يتعطل في وسط الطريق؛ لذا يجب أن تكون السيارة الثانية جاهزة في متناوله تحسبًا لأي حادثٍ طارئ قد يُصيب الأولى.
كان يتمتَّع بدرجة جيدة من القدرة على التنظيم؛ ففي الوقت القصير الذي قضاه في استخدام الهاتف، رتَّب السيارات المُستأجَرة ترتيبًا يُتيح له أن يجد سيارتين تنتظرانه أيًّا كان الطريق الذي سيضطر إلى الهرب منه. وبعد ذلك، أكمل ارتداء ثيابه. كان ردُّ فعله النابع من الخوف قد ظهر. كان مُفعمًا بكراهيةٍ خبيثة تجاه الرجال الذين وضعوا نهايةً لمسيرته في الجريمة. وكان أشدَّ كرهًا لساندفورد، الرجل الذي كان يستطيع إنقاذه. قرَّر أن يُجازف بمواجهة «الأربعة»، وأن يجرب حظَّه في الإفلات بفعلته من الشرطة. والغريب أنَّ الشرطة هي أقل ما كان يخشاه. عقد العزم على أن يضرب ضربةً أخيرة ويكسر الرجل الذي كسره عنادُه.
كان يَستشيط غضبًا، ولم يَعُد يرى شيئًا سوى تحقيق خطته الانتقامية. دخل غرفته، وفتح خزانة وأخرج منها القنينة الزجاجية الخضراء. لم يكن يحتاج إلى الريشة؛ إذ قرَّر تنفيذ المهمة على أتم وجه.
أتمَّ ارتداء ثيابه، ووضع نقوده الورقية في جيبه، ودَسَّ القنينة الخضراء الصغيرة في جيب صداره. ألقى نظرةً أخيرة حوله. ارتدى قبعته وقد شعر بشيءٍ من البهجة القديمة التي كانت تغمره قبل قدوم مانفريد، ثم ألقى معطفًا على ذراعه وخَرَج.
كانت رفقةً صغيرة راقية تلك التي اجتمعت على العشاء في فندق «جريت ساوث سنترال»؛ إذ كانت ماي ساندفورد قد دَعَت إحدى صديقاتها، وأحضَر السيد ساندفورد شريكه الأصغر في إحدى شركات حي المال، والذي كان يُجري بعض الأعمال معه. تأخَّر بلاك ولم يصل إلَّا بعد رُبع ساعةٍ من الوقت المُحدَّد لبدء تناول العشاء. أمر ساندفورد الخُدام بتقديم الوجبة حين دخل الكولونيل.
قال ساندفورد: «اقعد يا بلاك.» فارتمى الكولونيل على كرسي بين صاحب مصنع الحديد وابنته. ارتجفت يدُه وهو يَرفع الملعقة ليضعها في صحن الحساء؛ فأنزل الملعقة وفتح منديل المائدة الموضوع أمامه. وقعت من المنديل رسالةٌ على الأرض. كان إيسلي قد صار آنذاك على درايةٍ بتلك الأظرف الرمادية، وكمشَ الرسالة بيديه واضعًا إيَّاها في جيبه دون أن يُحاوِل قراءتها.
ابتسم ساندفورد قائلًا: «تبدو مشغولًا يا بلاك، هاه؟» كان رجلًا مُتورِّد البشرة يتمتع بالحيوية، ولديه سالفتان بيضاوان على جانبَي وجهه المُحمر، وكان، في لحظات سروره، يُصبح رجلًا محبَّبًا للغاية. «يجب أن تكون ممتنًّا لأنني لم أوافق على الدمج، وإلا صرتَ تعمل حتى الموت.»
قال الكولونيل باقتضاب فظ: «نعم.» كان يبدو عليه العزم والإصرار، وقد كانت تلك عادة تظهر لديه حين يكون قلقًا.
قال الرجل العجوز مازحًا: «أنت رجل مُثير للإعجاب من منظور ما. ولو كنت أكثر عقلانية بقليل، كنت ستصبح أنجح.»
«ألا تراني ناجحًا؟»
ضمَّ ساندفورد شفتَيه مُفكِّرًا، ثم قال: «بلى ونعم. أنت لستَ ناجحًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فقد حققتَ كلَّ ما تُسمِّيه نجاحًا بسهولةٍ مُفرِطة.»
لم يُتابع الكولونيل بلاك الحديث في هذا الموضوع، ولم يُشجِّع الآخر على مواصلة الخوض فيه. كان يحتاج إلى فرصة. وكان عليه أن ينتظر بصبر لبعض الوقت، ويشارك في المحادثة التي كانت تموج من حوله بقدرِ ما كان يستطيع أن يجمع من فتات الكلام.
كانت كئوس نبيذ الفتاة واقعةً على يساره. رفضت الفتاة احتساء النبيذ الخفيف، فانتزعت ضحكةً اعتراضية من أبيها.
قال: «يا عزيزتي، في عيد ميلادك، يجب أن تَحتسي بعض الشمبانيا.»
قالت بابتهاج: «إذن، فهي الشمبانيا!» كانت مبتهجة لأسبابٍ عديدة، أبرزها … حسنًا، كانت مبتهجة وحسب.
كانت تلك هي الفرصة السانحة. قرَّب كأسها إليه وهو شارد الذهن، ثم تلمَّس جيبه حتى وجد القنينة. نزع السدادة بيدٍ واحدة، وسكب نصف محتوى القنينة على منديل المائدة الموضوع أمامه، ثم أعاد غلق القنينة، ودَسَّها في جيبه. أخذ الكأس على حِجره، ومسَحَ حافتها مرتين بالمنديل الرطب. ثم أعاد وضع الكأس في مكانها، دون أن يلاحظه أحد.
شعر بتحسن آنذاك بعد أن فعل ذلك. اتكأ إلى الوراء في كرسيه، حاشرًا يديه عميقًا في جيبي بنطاله. كان ذلك تصرفًا غير راقٍ، لكنَّه استمد منه شعورًا بالارتياح.
كان ساندفورد يتحدث إليه في تلك اللحظة قائلًا: «بلاك، استَفِق يا صديقي العزيز!» واستفاق بلاك بانتفاضة مفاجئة «لقد كان صديقي هذا وقحًا للغاية حتى إنه قد علَّق على شعرك.»
قال بلاك وقد وضع يده على رأسه: «هاه؟»
«حسنًا، إنَّه مُصفَّف وجيد، لكن منذ متى صار أبيض؟»
«أبيض؟» كان قد اعتاد على سماع مثل هذه الأمور، ولم يكن يُبالي كثيرًا. «أبيض؟ آه، اممم، منذ فترةٍ طويلة.»
لم يُواصِل المناقشة. كان النُّدُل يَملئون الكئوس. نَظَر عبر المائدة إلى ساندفورد. كم كان سعيدًا ومغترًّا. اعترض النظرات الرقيقة المتبادَلة بين الأب وابنته. كان بينهما تعاطُف مثالي. كان من المؤسف أنَّ أحدهما سيموت في غضون حوالي دقيقة، وأنَّ الآخر سيَنفطِر قلبه. كانت الفتاة مُفعمةً بالحيوية تتمتع بجسد رائع، وكانت نضرة وفاتنة. التفت ونظر إليها. أمر غريبٌ، بل غريبٌ جدًّا مدى هشاشة الحياة، حتى إنَّ ملليجرامًا واحدًا من سائل عديم اللون يكفي لقطع الحبل الواصل بين الروح والجسد. ملأ النادل الكأسين؛ كأسه أولًا ثم كأس الفتاة.
فَرَفع كأسه دون مبالاةٍ وتجرع كل ما فيها.
أمَّا الفتاة، فلم تلمس كأسها. كانت تتحدَّث إلى الرجل الذي كان على يسارها. لم يكن بلاك يرى سوى الخدِّ المستدير وكتفٍ واحدة بيضاء. وكان ينتظر بفارغ الصبر.
حاول ساندفورد إشراكه في المحادثة، لكنه رفض الاشتراك فيها. قال إنه قانع بالاستماع. كان قانعًا بالاستماع وبالمشاهدة وبالانتظار. رأى الأصابع البيضاء الممشوقة تقترب من ساق الكأس وتحيط بها، ورأى من الفتاة نصف جسدها وهي ترفع الكأس بينما لا تزال تنظر إلى رفيقها. دَفَع بلاك كرسيه قليلًا إلى أحد الجانبَين حين لامست الكأس شفتيها. تجرَّعت جرعة غير كبيرة، لكنَّها كانت كافية. حبس الكولونيل أنفاسه. أعادت وضع الكأس وهي ما تزال تُكلم الرجل الموجود على يسارها.
ظل بلاك يعُدُّ الثواني البطيئة. أحصى حتى ستِّين، ثم مائة، ولم ينتبه إلى ساندفورد الذي كان يُكلمه. لم يؤدِّ العقار مفعوله!
«أأنتَ مريض أيها الكولونيل؟»
كان الجميع يُحدِّقون إليه.
كرَّر بصوتٍ مبحوح: «مريض؟ لا، لستُ مريضًا، ولمَ أكون مريضًا؟»
«افتح إحدى هذه النوافذ أيها النادل.»
أصابته نفحة من الهواء البارد فارتعش. غادر المائدة على عَجَلٍ وخرج من الغرفة متخبطًا كالأعمى. كانت توجد نهاية لكل ذلك. وفي خِضمِّ عجلته في دهليز الفندق، اصطدم برجل. كان ذلك هو الرجل الذي زاره في وقت سابق.
قال الرجل ممسكًا بذراعه: «معذرةً. أنت الكولونيل بلاك، على ما أظن.»
«ابتعد عن طريقي.»
تلفَّظ بلاك تلك الكلمات بوحشية.
«أنا المُحقِّق الرقيب كاي من «سكوتلانديارد»، وسآخذك إلى الحجز.»
وحالَما شعر الكولونيل بالخطر، ابتعد عنه قليلًا. وفجأة انطلقت قبضته ولَكَمت الضابط تحت فكِّه. كانت لكمةً هائلة باغتت المُحقِّق الذي لم يكن مستعدًّا لها. فهوى على الأرض كجذعٍ قُطِع من شجرة.
كانت الردهة فارغة. رَكَض الهارب إلى البهو تاركًا الرجل على الأرض. كان بلا قبَّعة، لكنَّه حجب وجهه ومرَّ وسط الزحام في الرواق وخرج إلى الشارع. لوَّح لإحدى سيارات الأجرة. قال: «بلدة «واترلو»، وسأعطيك جنيهًا، إذا لحقتَ بقطاري.»
وفي غضون أقل من دقيقة، كانت السيارة تُسرِعُ به في شارع «ستراند»، لكنه غيَّر تعليماته للسائق قبل الوصول إلى المحطة.
قال: «لن ألحق بالقطار، أنزلني عند ناصية ميدان «إيتون سكوير».»
وعند ميدان «إيتون سكوير»، دفع للسائق أجرته وأمره بالانصراف. وبشيء من الصعوبة، وجد سيارتَين تنتظرانه.
قال: «أنا الكولونيل بلاك.» فحيَّاه السائق الأول بلمس طرفِ قبعته. قال له بلاك: «اسلك الطريق المستقيم إلى ساوثهامبتون، ودَع السائق الثاني يتبعك.» وقبل أن تقطع السيارة شوطًا طويلًا، غيَّر رأيه، وقال: «اذهب أولًا إلى نادي «جونيور تيرف كلوب» للخيول في شارع «بول مول».»
وصل إلى النادي، وأومأ للبواب، ثم أمره قائلًا: «أخبر السير آيزاك بأنني أريده حالًا.»
كان آيكي في النادي، وقد كانت محاولة بلاك محض تخمين، لكنَّه قد أصاب رَجُلَه.
قال بلاك على عَجَلٍ للبارونيت المتحير المهتاج: «أحضِر مِعطفَك وقبَّعتك.»
«لكن …»
صاح الآخر بغضبٍ وحشي: «من دون جدال، أحضِر معطفك وقبعتك، إلا إذا كنت تريد أن تُجَر من هنا إلى أقرب مركز شرطة.»
رجع آيكي على مضض إلى النادي وعاد في غضون بضع ثوانٍ، وهو يسير بصعوبةٍ وسط معطفه الكبير. سأله بانفعال: «والآن ما سبب كل هذا بحق الجحيم؟» وحين وقع ضوء أحد أعمدة الإنارة على رأس الكولونيل المكشوف، شهق قائلًا: «يا رباه! لقد صار شعرك أبيض! إنك تُشبه هذا الرجل المدعو إيسلي تمامًا!»