(٤) الرجال الذين نصَّبوا أنفسهم قضاة
سَمِع فرانك صوت جلبة بسيطة في الصالة، وعرف أنَّ الرجال الذين كانوا يراقبونه قد ذهبوا للاختباء. لم يكن يشعر بخوفٍ كبير، مع أنَّه لم يكن يحمل سلاحًا؛ إذ كان واثقًا للغاية في قوته وبراعته.
دَخل بلاك خلفه وأغلق الباب وراءه، ثم سمع فرانك صوت مزلاج الباب يستقر في موضعه في الظلام. وأضاء بلاك النور.
قال بلاك بابتسامةٍ ودية: «نحن نعمل بنزاهة أيها الشرطي. ها أنت ترى أننا لا نمارس معك أيَّ ألاعيب خبيثة؛ فكل شيء مستقيم وواضح.»
بادَر بصعود الدَّرَج الذي كان مُغطًّى بسجادٍ كثيف، وتبعه فرانك. لاحظ الشاب أنَّ المنزل كان مفروشًا بأثاث فاخر. كانت الجدران تحمل رسومات فَخمة، وكانت الستائر المُسدَلة على نافذة الدَّرَج مصنوعة من الحرير، وكانت خزانات المشغولات الخزفية الصينية تملأ تجاويف الجدران.
قاده بلاك إلى غرفة في الطابق الأول. لم تكن تلك هي الغرفة التي عُقِد فيها اجتماع مجلس الإدارة، بل كانت غرفة صغيرة تتفرع من غرفة الاجتماعات، وكانت الفخامة فيها أقل وضوحًا. لم تكن الغرفة تحوي أيَّ أثاثٍ سوى مكتبين، وكان السجاد المفروش تحت أقدامهما من النوع الشائع الموجود في المكاتب العادية. وثمَّة لوحةٌ كبيرة من بساط الحوائط، هي لمسة الفخامة الوحيدة في الغرفة، كانت تُغطِّي أحد الجدران. وتدلَّت من السقف نجفةٌ أضاءَت الغرفة. كانت المدفأة تحوي جذوةً صغيرة من النيران. وعلى منضدةٍ صغيرةٍ بالقرب من أحد المكتبَين، كان يوجد عشاء مُعَدٌّ لشخصين. وقد لاحَظ فرانك ذلك، وابتسم بلاك بينه وبين نفسه لاعنًا غباءه.
قال بهدوء: «قد يوحي المظهر العام بأنني كنت أنتظرك، لكن الحق أنَّ لديَّ بعض الأصدقاء هنا الليلة، وسيبقى أحدهم لتناول العشاء.»
أومأ فرانك برأسه. كان يعرف دلالة مائدة العشاء وحزم الأوراق المُدبَّسة الجاهزة للاستخدام.
قال له بلاك: «اجلس.» وجلس هو نفسه إلى أحد المكتبَين. جلس فرانك على مسافةٍ من المكتب الآخر، واستدار نصف استدارةٍ ليواجه الرجل الذي كان عازمًا على إهلاكه.
قال بلاك بنبرةٍ سريعة: «والآن، لنبدأ العمل. لا سببَ في الدنيا يَمنع التوصُّل إلى تفاهُمٍ بيننا.» وأضاف بنبرة استحسان: «أنا رجل أعمال، وأنت رجل أعمال، وشابٌّ ذكيٌّ أيضًا.»
لم يَرُد فرانك. كان يعرف ما سيحدث بعد ذلك.
أردف بلاك بنبرةٍ تأمُّلية: «لنفترض أننا أبرمنا اتفاقًا كهذا. أنت تتصوَّر أنني مُنخرِطٌ في نوع شنيعٍ للغاية من الأعمال.» وواصل كلامه مستنكرًا: «آه، أنا أعرف! أعرف! أنت تعتقد أنني أحقِّق أرباحًا طائلة، وأنني أسرق الناس بأساليب محلات المُضاربة غير القانونية. لا داعي إلى أن أخبرك أيها الشرطي بأنني حزينٌ وغاضب لأنَّك تتبنَّى انطباعًا سيئًا عن شخصيتي.»
لم يكن صوته حزينًا ولا غاضبًا، بل كانت النبرة التي تحدَّث بها إقرارًا مبتهجًا بالذنب.
«الآن، أنا مُقتنعٌ تمامًا بأنَّك ينبغي أن تُحقِّق في شئوني بنفسك. تعرفُ أنَّنا نتلقَّى عقودًا كثيرة للأعمال من جميع أنحاء القارة، وأننا نَدفع أموالًا طائلة من تمويلاتنا للزبائن الذين، حسنًا، هل لنا أن نقول: الذين يُراهِنون على هامش الأرباح؟»
قال فرانك: «لك أن تقول ما تشاء.»
فقال بلاك: «الآن، لنفترض أنَّك ستذهب إلى باريس أيُّها الشرطي؛ إذ يُمكنُك أن تأخذ إجازة بسهولة، أو يمكنك أن تذهب إلى أي منطقة خارج العاصمة أو أيٍّ من المدن الكبرى في بريطانيا العُظمى حيث يقيم زبائننا وتُحاورهم بنفسك عن نزاهتنا. اسألهم، سأعطيك قائمةً بأسمائهم. لا أريدك أن تفعل ذلك على نفقتِك الخاصة …» قال ذلك ثمَّ مَدَّ يده الكبيرة تأكيدًا لهذا النفي، ثم تابع: «فأنا لا أظنُّ أنَّك تملك أموالًا وفيرة لتُبدِّدها على ذلك النوع من الرحلات. الآن، سأُعطيك الليلة مائتي جنيه، إن شئت، ولك أن تستخدم هذا المبلغ مثلما تشاء لتَتعمَّق في تحقيقاتك. ما رأيك في ذلك؟»
ابتسم فرانك، وقال: «أراه مقترحًا ذكيًّا شيطانيًّا؛ آخذ مائتي جنيه، ويُمكنني حينئذٍ أن أستخدمها للغرض الذي ذكرته، أو أضعها في حسابي الخاص، وما من أسئلة ستُطرح عن هذا الشأن. هل أفهمه فهمًا صحيحًا؟»
ابتسم الكولونيل بلاك وأومأ برأسه. تغضَّن وجهه القوي الأصفر في تعبيرٍ عن استمتاعٍ داخلي، وقال: «أنت شابٌّ ذو ذكاءٍ فريد.»
قام فرانك من كرسيه. وقال: «لن يَحدث هذا.»
فاكفهرَّ وجه الكولونيل بلاك، وقال: «أتقصدُ أنَّك ترفض؟»
أومأ فرانك برأسه، وقال: «أرفضُ بالتأكيد. لا يُمكنُكَ رشوتي بمائتي جنيه ولا بألفي جنيه يا بلاك؛ فلستُ ممَّن يُشترى، إنني أعتقدُ أنَّك من أخطر الأشخاص الذين يَعرفهم المجتمع. أعتقدُ أنَّك تتبع حيلًا مُلتوية هنا وفي حيِّ المال، ولن يهدأ لي بالٌ حتى أزجَّ بك في السجن.»
فقام بلاك ببطء، وقال: «إذن، فهذا كلُّ ما لديك، أليس كذلك؟» كانت نَبرته تحمل وعيدًا وشرًّا. التقَت نظرةٌ منه مليئة بكراهيةٍ لا يُمكِن استرضاؤها بنظرات فيلو المُحدِّقة الثابتة، وأضاف بنبرةٍ صارمة: «ستندمُ على ذلك. لقد منحتُك فرصةً كان معظم الشبان ليَغتنمها بلهفة. يُمكنني أن أجعل المبلغ ثلاثمائة …»
قال فرانك بنفاد صبر: «حتى ولو جعلته ثلاثًا وثلاثين مائة أو ثلاثة وثلاثين ألفًا، فلن يكون هناك من عملٍ بينَنا. إنني أعرفك جيدًا جدًّا يا بلاك. أعرف عنك أكثر ممَّا تظنُّ أنني أعرف.
حمل قبعته، وتفحَّص تجويفها الداخلي وقد بدا مُتفكِّرًا.
وبعد ذلك قال متأنيًا: «ثمة رجلٌ مطلوب القبض عليه في فرنسا — رجلٌ داهية قد أنشأ بعضًا من بنوك الثراء السريع في كلِّ أنحاء البلاد، لا سيما في ليون والجنوب — اسمه أولوروف. لقد عَرَضت السلُطات مكافأة كبيرة جدًّا لمن يساعد في القبض عليه. وكان لديه شريكٌ مات فجأة …»
امتُقع لون وجه بلاك وصار شاحبًا. وراحت يده التي رفَعَها إلى شفتَيه ترتجف قليلًا، قال: «أعتقد أنك تعرف أكثر ممَّا ينبغي.» استدار بسرعة وغادَرَ الغرفة. وعاد فرانك إلى الباب بخطواتٍ واثبة. كان قد اشتمَّ رائحة الغدر، لكن الباب قد انغلَقَ قبل أن يصل إليه وصدرت عنه طقطقةٌ حادَّة. أدار مقبض الباب وسحبه، لكنَّه كان موصَدًا.
نَظَر حوله في أرجاء الغرفة، ورأى بابًا آخر في الطرف الأقصى منها. وبينَما كان في مُنتصَف الطريق نحوه، أطفِئَت كل أنوار الغرفة. صار وسط ظلامٍ حالك. وما كان يَظُن أنه نافذة عند أحد أطراف الغرفة، اتَّضح أنَّه جدارٌ فارغ كان مُغطًّى، بدهاءٍ شديد، بأستار وشيش حصيرةٍ مُصمَّم ببراعةٍ فائقة ليَخدَع من يراه. أمَّا النافذة الحقيقية التي كانت تُطِلُّ على الشارع في الأسفل، فكانت موصدة بإحكام.
لم يكن غياب الضوء مزعجًا له؛ إذ كان يحمل مصباحًا كهربائيًّا صغيرًا في جيبه، فأخرجه وظلَّ يوجه إضاءته في كلِّ أرجاء الغرفة. كان خطأً تخطيطيًّا منه أن يسمح لبلاك بأن يأخذ حِذْره، لكنَّ إغراء إخافة الرجل الضخم كان أشد من أن يُقاوَم. أدرك أنَّه قد صار في خطر شديد. فباستثناء الشاب الذي رآه في الشارع، والذي عَرف هويته بغرابةٍ شديدة، لم يكن أحدٌ يدري بوجوده في ذلك المنزل.
بحث سريعًا في أرجاء الغرفة، وتنصَّت بانتباهٍ شديد عند كلا البابَين، لكنَّه لم يسمع شيئًا. تذكَّر أنَّه رأى عند ردهة الطابق، خارج الباب الذي دَخَل منه الغرفة، عددًا من الأسلحة الشرقية العتيقة مُعلَّقةً على الحائط، وراوَدَه بصيصٌ من الأمل في أن يكون ذلك النمط من الزينة ممتدًّا إلى داخل الغرفة، لكنه قد أدرك من قبل أن يبدأ بحثه أنَّ مسعاه سيخيب لا محالة. فما كانت هذه الغرفة لتحوي أيَّ أسلحة. تفحَّص الأرضية بدقة، إذ أراد أن يأخذ حذره من أيِّ فخٍّ أو شراك.
لم تكن الأرضية تُشكِّل خطرًا من ذلك النوع. قَعَد فرانك على حافة المكتب وانتظر. وظلَّ منتظرًا على هذا النحو لمدة نصف ساعة قبل أن يُعطيه خصمه أيَّ إشارة. سمع بعد ذلك صوتًا بدا قريبًا من أذنه يقول: «هل ستكون رشيدًا أيُّها الشرطي؟»
وجَّه فرانك نور مصباحَه في الاتجاه الذي جاء منه الصوت؛ فرأى ما بدا له مِشكاةً شرقية مُعلَّقة. كان قد لاحَظ قبل ذلك أنَّ سُمكَ الجذع الذي تتدلَّى منه كان أكبر من العادي، وأدرك الآن أنَّ تلك المشكاة الشبيهة بالجَرس هي طَرَف أنبوب مُوصِّل للصوت. وحينها خمَّن، تخمينًا صحيحًا على الأرجح، أنَّ ذلك الجهاز قد عُلِّق ليُمكِّن بلاك من التنصُّت على مَن في الغرفة وليس التواصُل معهم.
لم يَرُد. وكُرِّر السؤال مرَّةً أخرى؛ فرَفَع رأسه وأجاب مُتحديًا: «فلتأتِ وتَرَ بنفسك.»
ظل انتباهُه مُنقسمًا بين البابين طوال الوقت الذي كان يَنتظره وسط الظلام؛ إذ كان متأهِّبًا ليرى خيط الضوء الرفيع الذي كان من المُنتظَر أن يدلَّه على الفتحة الخفية لكنَّه، بغرابةٍ شديدة، قد أغفل أن يضع في حسبانه احتمالية أن تكون الأضواء خارج الغرفة مُطفأةً أيضًا.
وبينما كان يَمشي جيئةً وذهابًا في وسط الغرفة المُغطَّى بالسجاد، الذي كان خاليًا من أيِّ عائق، استرعى انتباهه ضجيج خافت خلفَه. وبينما كان يستدير ليرى مصدر ذاك الضجيج، انزلَقَ حبلٌ معقودٌ حول جسدِه، وأحاط بساقيه ذراعان عنيفتان، وطُرِح على الأرض بعُنف. ناضَل قدر المستطاع، لكنَّ الأفضلية العددية لم تكن في صالحِه، وكذلك أعجزه الحبل المعقود الذي أوثقه عن استخدام ذراعَيه بحُرِّية. وجد نفسه مُستلقيًا على السجادة ووجهُه نحو الأسفل، ثم حُشِر في فمه وِشاحُ عُنُقٍ أحمر، بينما طوَّق شيءٌ بارد وصلب معصمَيه وربطهما معًا. سمع صوت طقطقةٍ، وأدرك آنذاك أنَّ يديه أصبحتا مُصفَّدتين خلفه.
قال صوت بلاك: «أوقفه على قدميه.»
أضيئت أنوار الغرفة حينئذ. وأُوقِف فرانك على قدميه مترنحًا بمساعدةٍ قاسية من جيكوبس. كان بلاك موجودًا، وسباركس موجودًا، وكذلك الرجل الغريب الذي رآه فرانك يدخل المنزل، لكنَّ ذاك الغريب كان يعقد وشاحَ عُنُقٍ على النصف السُّفلي من وجهه، ولم يستطع فرانك أن يرى سوى النصف العلوي من مُحيَّا مُتورِّد اللون وعينين زرقاوين فاتحتين كانتا تتلألآن بالخبث.
قال بلاك: «ضَعه على تلك الأريكة.» وأضاف حين وُضِع أسيره كيفما أمَر: «والآن، أعتقد أنك ستُصغي إلى صوت العقل.»
كان من المستحيل على فرانك فيلو أن يرد؛ إذ كان الوشاح المحشور في فمه عائقًا فعَّالًا يُعجزه عن التفوه بأيِّ ردٍّ قد يَخطر بباله، لكنَّ عينَيه الواضحتَين الصارمتَين، تحدثتا بلهجةٍ جلية كالشمس إلى الرجل المُبتسِم الذي كان يُواجهه.
قال بلاك: «اقتراحي بسيطٌ جدًّا، عليك أن تُمسك لسانك وألَّا تتدخَّل في شئوني وتقبل مائتي جنيه تحت الحساب، ولن تتعرَّض حينئذٍ لمزيدٍ من المضايقات. أمَّا إذا رفضت، فسأضعك في المكان الذي أراه مناسبًا لك.» ابتسم ابتسامةً معوجة، ثم أضاف: «يوجد خمسة سراديب في هذا المنزل، وإذا كنتَ مهتمًّا بدراسة التاريخ، مثلي، يا سيد فيلو، فينبغي أن تقرأ تاريخ بارونات الراين وستُدرك حينئذٍ أنني أملك بديلًا ممتازًا لأشدِّ الأبراج المُحصَّنة التي كانت تُشيَّد قديمًا. سوف تُقيَّد هناك بالأغلال من ساقيك، ولن تذوق الطعام إلا وَفق أهواء حارسٍ موثوق به، ويُمكنُني أن أخبرك بأنَّه حارسٌ شارد الذهن للغاية، وسوف تقبع هناك حتى ينتابك الجنون أو السرور؛ إما أن يسرَّك أن تَقبل شروطنا أو تُصاب بالجنون بالقدر الكافي لإيداعك في مصحةٍ للأمراض العقلية، حيث لن يَأخُذ أحدٌ اتهاماتك على محمل الجد.»
التفت بلاك قائلًا: «انزع عنه هذه الكمامة، سنأخذه إلى الغرفة المجاورة. لا أظنُّ أنَّ صوته سيُسمع من هناك مهما علا صراخه.»
شدَّ جيكوبس الوشاح بقسوةٍ من فم فرانك، الذي كان يُدفَع تارةً ويُقتاد تارةً أخرى إلى بابِ غرفة الاجتماعات التي كانت حالِكة الظلام. تقدَّم بلاك وتحسَّس بيده بحثًا عن مِفتاح الإضاءة، بينما كان الآخرون واقفين في مدخل الغرفة. وقد وَجَد مِفتاح الضوء وأشعله أخيرًا، ثم تراجَعَ مُطلقًا صرخةَ ذُعر.
وقد كان ردُّ فعله مُبرَّرًا؛ إذ كانت الغرفة تضمُّ أربعة رجالٍ جالسين إلى الطاولة، بل أربعة مُقنَّعين. كان الباب المؤدِّي إلى غرفة الاجتماعات واسعًا؛ فكان الرجال الثلاثة يَقفون في وسطه مع أسيرهم مُتجمِّعين، ومُتحجِّرين بلا حَراكٍ من فرط الذُّعر. أما الأربعة الجالسون إلى الطاولة، فلم يتفوَّهوا بأيِّ صوت.
كان بلاك أوَّل من استَفاق واستعاد رباطة جأشِه. بدأ يتحرَّك إلى الأمام ثم تَوقَّف. وبالرغم من أنَّ وجهه كان قادرًا على الحركة والتعبير كالمُعتاد، وأنَّ فمَه كان مفتوحًا، فقد عَجز عن صياغة أيِّ كلمات. فقال لاهثًا: «ماذا، ماذا؟»
استدار الرجل المُقنَّع الذي كان قاعدًا إلى رأس الطاولة بعينَيه اللامعتَين إلى مالك المؤسسة، قال بفظاظة: «لم تتوقَّع قدُومي يا سيد أولوروف، أليس كذلك؟»
فقال الآخر بعُنف: «اسمي بلاك. ماذا تَفعل هنا؟»
قال الرجل المُقنَّع: «سوف تَعرف. توجد كراسي.» رأى بلاك آنذاك أنَّ الكراسي مرصوصة عند الجانب المُقابل من الطاوِلة.
أضاف الرجل المقنع: «أولًا، سأُخلِّصك من أسيرك. حُلَّ هذه الأصفاد يا سباركس.»
تحسَّس الرجل داخلَ جيبِه بحثًا عن المفتاح، لكنه لم يكن يبحث داخل جيب صدارِه، بل حرَّك يده أبعد نحو الأسفل؛ فقال الجالس إلى الطاولة بنبرةٍ حادة: «أبقِ يدَكَ في الأعلى.» وأشار إشارةً بسيطة بيدِه، فرأى خادم بلاك بريق انعكاس الضوء على مُسدَّس. أضاف الرجل: «لا داعي إلى أن تخاف؛ فمُهمَّتنا الصغيرة لن تُسفِر عن عاقبةٍ مأساوية الليلة، الليلة!» وقد كرَّر هذه الكلمة الأخيرة بنبرةٍ لافتة ذات مَغزًى، ثم واصل كلامه قائلًا: «لقد تلقيتَ منَّا ثلاثة تحذيرات، وجئنا لنُسلِّم التحذير الأخير شخصيًّا.»
كان بلاك يَستعيد حضوره الذهني سريعًا. فقال مُتهكِّمًا: «ولماذا لا تُبلِغ الشرطة؟»
رَدَّ الرجل بنبرةٍ مُهذَّبة: «سنفعل ذلك في الوقت المناسب، لكنِّي أُحذِّرك شخصيًّا يا بلاك بأنَّ صبرنا كاد ينفد.»
لم يكن بلاك جبانًا من بعض النواحي. لقد أخرج مسدَّسه فجأةً وهو يُطلِق اللعنات والسباب واندفع إلى داخل الغرفة. وحين فعل ذلك، أظلمت الغرفة ووجد فرانك نفسه وقد أمسكت به يدان قويَّتان وانتزعته من قبضة آسرِه المُرتخية. دُفِع إلى الأمام وأغلِق من خلفه أحد الأبواب بعُنف. ووجد نفسه ينزل فجأة وبسرعةٍ شديدة مترنِّحًا على الدرَج المُغطَّى بالسجاد والمؤدِّي إلى الصالة في الطابق السُّفلي. أيادٍ سريعة قد حلَّت الأصفاد عن يديه، وفَتَح البابَ المؤدِّي إلى الشارع شخصٌ كان من الواضح أنَّه يعرف تصميم المنزل من الداخل ومداخله ومخارجه، ووجد فرانك نفسه يقف في الشارع مرتبكًا بعض الشيء، وبجواره رجلان كانا يَرتديان ثياب المساء الرسمية.
كانا ما يَزالان يرتديان قناعَيهما. ولم يكن فيهما شيءٌ يُميِّز أيًّا منهما عن أيِّ رجلٍ عادي في الشارع. قال أحدهما مُشيرًا إلى اتجاه الشارع المؤدِّي إلى «فكتوريا»: «هذا طريقك يا سيد فيلو.»
تردَّد فرانك؛ إذ كان متحمِّسًا لرؤية نهاية هذه المغامرة. فأين ذهب الاثنان الآخران من هؤلاء الأربعة اليقظين؟ ولماذا تُرِكَا في الخلف ولم يأتيا معهم؟ وماذا كانا يفعلان؟ ولا شكَّ أنَّ مُحرِّريه خمَّنا تلك الأفكار التي كانت تجُول بخاطره؛ إذ قال أحدهما: «صديقانا في أمان، لا تَقلق عليهما. سنكون مُمتنِّين لك أيُّها الشرطي إذا غادرتَ بأسرع ما يُمكِن.»
شَكَرهما فرانك فيلو، ثم استدار ومشى سريعًا في الشارع نحو وجهتِه. نظر بعد ذلك إلى الوراء، لكنَّ الرجلين كانا قد اختفَيا وسط الظلام.