(٥) إيرل فيرلوند
لقد استمتع الكولونيل بلاك بما حدث، لكنه قد انزعَج منه أيضًا، وقد أسفر المزيج بين هذَين التعبيرَين عن غضبٍ مُتجدِّد.
كان انزعاجه الحالي ناجمًا عن سببٍ آخر؛ فتلك المحكمة الغامضة، التي تفحَّصت أوراقه وظهرت من العدم ثم تلاشَت فيه مرةً أخرى، قد أزعجتْه، بل الحق أنها قد أخافتْه. غير أنَّ الشجاعة تَعتمِد في أساسها على حالة الضوء مع حالاتٍ مزاجية معيَّنة، أما الآن وقد صار قويًّا في ظلِّ الأمان الذي نثره نور الشمس الصباحي، ومع قناعته بعدم وجود دليلٍ ملموس يَستطيع الرجال الأربعة اكتشافه، فشَعَر بشجاعةٍ كبيرة.
كان يجلس إلى مائدة الإفطار مُرتديًا رداءه المنزلي الصباحي، ومعه السير آيزاك ترامبر. كان الكولونيل بلاك يُحب أطايب الحياة وملذات الطعام ووسائل الرفاهية التي تُوفِّرها الحضارة؛ ومن ثمَّ فقد كان فطوره وافرًا جدًّا. أمَّا النظام الغذائي الذي يتبعه السير آيزاك، فقد كان أبسط؛ إذ لم يكن فطوره يتكوَّن إلا من بعض مشروب البراندي والماء وتفاحة. كان السير قد سهر حتى وقت متأخِّر في الليلة الماضية ولم يكن في أفضل حالاته المزاجية؛ فسأله بصوتٍ هادر أجشَّ: «ما الخَطب؟»
رَمى بلاك برسالةٍ إليه، وسأله: «ما رأيك في هذا؟ هذه رسالة من شركة «تانجيس»، السماسرة، يطالبونني فيها بدفع عشرة آلاف جنيه، ويُلمِّحون إلى أنَّهم سيُعلنونني مُتخلِّفًا عن السداد في حالة عدم الدفع.»
وبهدوء تحدث السير آيزاك قائلًا: «ادفعه إذن.» وضحك الآخر.
قال بمزاح جارح: «لا تتفوَّه بالترهات؛ فأنَّى لي بعشرة آلاف جنيه؟ إنني شبه مُفلس، وأنت تعرف ذلك يا ترامبر؛ فكلانا في مركبٍ واحد. لديَّ مليونا جُنيه على الورق، لكنِّي لا أظنُّ أننا نستطيع معًا أن نجمع مائتي جنيه نقدًا إذا حاولنا.»
فأبعد البارونيت طَبَقه، وقال فجأة: «أنت لا تعني ما قُلته، أليس كذلك؟»
«بشأن النقود؟»
«بشأن النقود، نعم. لقد كِدتَ تُصيبني بنوبةٍ قلبية؛ فسوف نقع في ورطةٍ مُحرجة جدًّا يا صديقي العزيز، إذا نَفِدَت النقود الآن.»
ابتسم الكولونيل بلاك، وقال: «هذا بالضبط ما حدث. سواءٌ أكانت ورطةً أم لا، فقد وقعنا فيها. لقد أنفقتُ مبالغ تتجاوَز رصيدي البنكي وأصبحت مدينًا للبنك، ليس لديَّ في المنزل سوى مائة جنيه تقريبًا، وأعتقد أنَّ لدَيك مثلها.»
فقال الآخر: «إنني لا أملك حتى مائة فِلس.»
أضاف بلاك: «النفقات باهظةٌ للغاية، أنت تعرف كيف تظهر هذه الفرص فجأة. توجد فرصةٌ أو اثنتان تَلُوحان في الأفق، لكنَّنا لا نملك شيئًا سواهما. إذا استطعنا دَمجَ هذه «المسابك الشمالية»، فربما نُوقِّع شيكاتٍ بقيمة مائة ألف جنيه.»
«ماذا عن حيِّ المال؟»
قَطَع الكولونيل شريحةً من رأس بيضته دون أن يَرُد. وكان ترامبر على درايةٍ بالوضعِ في حيِّ المال مثلما كان بلاك يعرفه.
همهم السير آيزاك ثم قال: «علينا الحصول على نقودٍ من مكانٍ ما يا بلاك.»
فسأله الكولونيل بلاك: «ماذا عن صديقك؟» قال السؤال بلامبالاةٍ لكنَّه كان سؤالًا مدروسًا بإمعان.
سأله السير آيزاك بضحكةٍ جشَّاء: «أيُّ صديق؟ وأنا لا أعني أنَّ لديَّ أصدقاء كثيرين لدرجة أنَّك يجب أن تخصَّ أحدهم بالذكر. هل تقصد فيرلوند؟» أومأ بلاك بالإيجاب. فقال البارونيت: «فيرلوند، يا صديقي العزيز، هو الرجل الوحيد في هذه الدُّنيا الذي لا ينبغي أن أذهب إليه للحصول على المال.»
فقال بلاك متأمِّلًا: «إنَّه فاحش الثراء.»
فقال الآخر بجدية: «إنَّه فاحش الثراء، وقد يُضطرُّ إلى ترك أمواله لي.»
فسأله الكولونيل باهتمام: «أليس لديه وريث؟»
قال البارونيت بابتسامةٍ عريضة: «كان لديه ابنُ أخٍ مُفعمٌ بالحيوية والحماس هَرَب من المنزل، ويُعتَقَد أنَّه قُتِل في مزرعة مَواشٍ في تكساس. وعلى أيِّ حال، يَعتزم اللورد فيرلوند التقدُّم بطلبٍ إلى المحكمة لافتراض وفاة ابن أخيه.»
قال بلاك: «لا شكَّ أنَّ ذلك كان صدمةً شديدة للرجل العجوز.»
بدا أنَّ هذه العبارة قد رفَّهت عن السير آيزاك؛ إذ اتَّكأ على ظهر كرسيه وضحك ضحكةً طويلة صاخبة.
تحدث بعد ذلك قائلًا: «صدمة! يا صديقي العزيز، لقد كان يكره الصبيَّ أشد ممَّا يكره السم. إنَّها سُلالة فيرلوند مثلما تعلم، وهو من النسل الفرعي للسلالة. أما الصبي، فقد كان من الفرع الأصلي لسُلالة فيرلوند؛ ولهذا كان العجوز يَكرهه. أعتقد أنَّه جَعل حياته أشبه بالجحيم بعض الشيء؛ إذ كان يدعوه لقضاء عطلات نهاية الأسبوع معه كي يُضايقه، حتى يَئِس الصبي أخيرًا، وجَمع كلَّ مصروفه وهَرَب بعيدًا.
بعد ذلك، تحرَّى بعض أصدقاء العائلة عن مكانه حتى وجدوه، لكنَّ العجوز لم يتحرَّك قيد أنملة ليبحث عنه. وجدوا له عملًا لبضعة أشهُرٍ في محلِّ طباعةٍ بلندن، ثم سافر خارج البلاد؛ إذ رحل إلى أمريكا بحرًا بتذكرةِ مُهاجِر.
تكبَّد بعض الأناس المهتمين عناء متابعة تحرُّكاته. واتضح أنَّه سافر إلى تكساس وعاش في مزرعة سيئة للغاية. وبعد ذلك، ثمة شخص مُوافقٌ لأوصافه قد أُرديَ قتيلًا بالرصاص في شجارٍ في الشارع. لقد كانت إحدى تلك البلدات الصغيرة القائمة على تربية المواشي، التي تراها مصوَّرةً بتفاصيل واضحة زاهية في دور السينما الكبيرة.»
سأله بلاك: «ومن الوريث؟»
«بخصوص اللقب، لا أحد. أمَّا المال، فمن المنتظر أن ترثَه أختُ الصبي. إنها فتاة جميلة جدًّا.» كان بلاك ينظر إليه بعينين نصف مُغلقتَين من انهماكه في التفكير. بَرَم البارونيت شاربه بإمعان، وكرَّر عبارته، كما لو كان يُحدِّث بها نفسه، قائلًا: «فتاة جميلة جدًّا.»
فسأله بلاك ببطء: «إذن، فأنت — آه — تحمل تطلُّعات مستقبلية؟»
سأله السير آيزاك وقد اعتدل في جلسته متصلبًا: «ما الذي تعنيه يا بلاك بحقِّ الجحيم؟»
قال الآخر: «أقصد ما قلته فقط؛ فالرجل الذي سيتزوَّج السيدة سوف ينال نصيبًا طائلًا من الغنيمة. ذاك هو الموقف، أليس كذلك؟»
قال السير آيزاك بتجهُّم: «شيءٌ من هذا القبيل.»
نهض الكولونيل وطوى منديل المائدة الذي كان يستخدمه بعناية. كان الكولونيل بلاك في أمسِّ الحاجة إلى النقود؛ فما كان ليهتمَّ كثيرًا برأيِ حيِّ المال. أمَّا إذا اعترض ساندفورد، فستكون تلك مسألة أخرى، غير أنَّ ساندفورد كان رجلًا متعاونًا، وإن كان التعامل معه صعبًا بعض الشيء. وقف الكولونيل لحظةً ينظر إلى الأسفل نحو البارونيت متأمِّلًا إيَّاه.
تحدث قائلًا: «يا آيكي، لاحظتُ فيك مؤخرًا نزعةً إلى التعامل مع مصالحنا المشتركة على أنَّها شيءٌ قد يدعو المرء إلى الخجل منه. لقد اكتشفت فيك مَسحَةً غير متوقعة من الفضيلة، وأعترفُ بأنَّ ذلك يحزنني قليلًا.»
كانت عيناه الثاقبتان تُحدِّقان إلى الآخر بثبات.
فقال البارونيت بارتباك: «آه، ليس ذلك بشيء، لكنَّ الحقيقة أنني يجب أن ألتزم بتوقُّعات المجتمع.»
قال بلاك: «أنت مَدينٌ لي بالقليل.»
فقال الآخر على الفور: «أربعة آلاف، وهذا المبلغ مضمونٌ ببوليصة تأمين على حياتي قيمتها ٥٠ ألف جنيه.»
فصاح الكولونيل بصوتٍ مُتجهِّم غاضب: «تلك التي أدفعُ أقساطها، لكنِّي لم أكن أفكِّر في المال.»
تفرَّست نظراته المُحدِّقة المُستغرِقة في التفكير في البارونيت من رأسه إلى قدمه.
قال بعد ذلك بنبرةٍ فُكاهية: «خمسون ألف جنيه! يا عزيزي آيكي، إنَّ قيمتَكَ مقتولًا تساوي أكثر بكثير من قيمتك حيًّا.»
فارتجف البارونيت، وقال: «كُفَّ عن هذه النكات السخيفة.» وأنهى كأسه من البراندي في جرعةٍ واحدة.
فأومأ الآخر، وقال: «سأتركك لرسائلك.»
كان الكولونيل بلاك شخصيةً منظمة وأنيقة إلى حدٍّ لافت. سار في الشقة، وهو يرتدي رداءه المنزلي الصباحي الأنيق، إلى أن وصل إلى غرفة مكتبه وحده، ثم أغلق الباب خلفه تاركًا إيَّاه يستقر في موضعه إلى أن صدر عنه صوت الطقطقة.
كان منزعجًا من هذا التظاهر المُفاجئ بالفضيلة الذي أبداه شريكه؛ إذ لم يكن ذلك مُقلقًا فحسب، بل كان مُفزعًا. وكان بلاك يعي حقيقة الموقف دون أيِّ أوهام؛ لذا لم يكن يَثق بالسير آيزاك ترامبر أكثر ممَّا يَثق بأيِّ رجلٍ آخر.
كانت أموال بلاك هي التي ردَّت إلى البارونيت جزءًا من اعتباره وسمعته في المجتمع، وكانت أموال بلاك هي التي اشترَت خيول السباق وسدَّدت فواتير التدريب. وتَجدُر الإشارة هنا مرَّة أخرى إلى أنَّ إقدام بلاك على خدمة شخصٍ قد أُغلِقَت في وجهه أبواب المجتمع وأعرضت عنه أيادي الرجال المحترمين، لم يكن بدافع الإيثار وحبِّ الغير.
فرجلٌ منبوذ، أي السير آيزاك ترامبر، لم يكن ذا قيمة للكولونيل؛ حتى إنَّ بلاك قد لخَّص في إحدى المناسبات علاقته بالبارونيت بجملةٍ موجزة بارعة لا تُنسى؛ إذ قال: «كان أكثر المنازل التي تعاملت معها في حياتي خرابًا، لكنِّي أعدت تأثيثه وتزيينه، وها هو اليوم صار مقبولًا حتى وإن لم يكن جميلًا.»
وقد أثبت السير آيزاك أنَّه مُفيد جدًّا؛ إذ برهن أنَّه يستحق الأموال التي أُنفِقَت عليه ويستحق الحصَّة التي كان يتلقَّاها من أرباح العمل الذي تظاهَر بأنَّه يحتقره.
كان السير آيزاك ترامبر يَخشى بلاك. وقد كانت تلك الخشية هي نصف سرِّ السلطة التي كان الرجل الأقوى يُمارسها عليه. وحين كان يسعى أحيانًا إلى الهروب من الاستبداد الذي رسَّخه شريكه عليه، كان النوم يُجافيه لياليَ كاملة. غير أنه خلال الأسابيع القليلة الماضية، حدث شيءٌ قد حتَّم عليه أن ينأى بنفسه عن هذه الشراكة، وقد كان هذا «الشيء» متعلقًا بإشراق آفاقه المستقبلية.
كانت الليدي ماري كاسيليرس تُمثِّل آنذاك واقعًا أهمَّ ممَّا كانت تُمثِّله في أيِّ وقتٍ مضى؛ إذ اقترن بها ما وصفه بلاك بأسلوبه البذيء بأنَّه «غنيمة».
كان الإيرل العجوز قد لمَّح إلى السير آيزاك بأنَّ محاوَلات تودُّده إليها لن تكون مرفوضة. كانت الليدي ماري تعيش تحت وصايته، وربما لأنَّها لم تكن ترتعب من الرجل العجوز ذي الطبع الحاد المتقلِّب ونوبات نكده الحادة، ولأنَّها كانت تتعامل مع عواصف غضبه الفظيعة كما لو أنَّها غير موجودة أو لم توجَد قَط، كان الرجل العجوز الحاد يَحمل في قلبه القاسي والخبيث على ما يبدو، قبسًا من الاحترام تجاهها.
عاد السير آيزاك إلى غرفته منهمكًا في التفكير؛ إذ كان عليه أن يتخلَّص من سطوة بلاك، ولم يكن ضميره يُبدي سوى القليل جدًّا من المطالب بشأن تصرُّفاته، حتى إنَّه شَعَر بوجود مُبرِّرٍ لأن يحيد عن تلك القاعدة في هذه الحالة.
كان يشعر بأنَّه يتمتع بقدر من الفضيلة حين خَرَج من غرفته مرَّةً أخرى، وهو يرتدي ثيابًا مناسبة للتنزه في الحديقة، وكان في أفضل حالاته المزاجية حين التقى باللورد فيرلوند وابنة أخيه الجميلة التي تعيش تحت وصايته.
كان ثمة أناسٌ وَقِحون دائمًا ما كانوا يُشيرون إلى إيرل فيرلوند وابنة أخيه بكلمتي «الجميلة والوحش»، كانت فتاةً طويلة تحمل السمات الإنجليزية المعتادة من قامةٍ مُنتصِبة وبشرة صافية وعينين لامعتين. وكان لوجهها جاذبية خاصة أضفاها عليه شعرها الكستنائي الكثيف وحاجباها المقوَّسان وذقنها الصغير البارز. كانت تتجاوَز قامة الرجل العجوز برأسها وكتفَيها تقريبًا وهي واقفةٌ بجواره. أمَّا فيرلوند، فلم يكن جميلًا قَط. وقد جعل العُمرُ تجاعيده القاسية أشد قسوة، ولم يكن في وجهه تجعيدةٌ واحدة لا تبدو كأنَّها منحوتة من الجرانيت الصلب؛ إذ كانت ثابتةً جدًّا وراسخة وجافة للغاية.
كان فكُّه السُّفلي بارزًا، وكانت عيناه غائرتين. وكان يترك لديك انطباعًا غريبًا حين تلتقيه لأوَّل مرَّة، وهو أنَّ فكه مألوفٌ لك منذ فترةٍ أطول من تلك التي تألَفُ فيها عينَيه.
ألقى تحيَّةً خاطفة على السير آيزاك، ثم قال له مبتسمًا: «اقعد يا آيكي.» كانت الفتاة قد أعطت البارونيت إيماءةً طفيفة للغاية، والتفتَت فورًا إلى الحشد المار بالقرب منهم.
تساءل السير آيزاك قائلًا: «ألن تمتطيَ الخيل اليوم؟»
فقال الرجل النبيل: «بلى، فأنا أمتطي الآن حصانًا حربيًّا رَماديًّا أقود به لواءً في سلاح الفرسان.»
كان حسُّه الفكاهي يتَّخذ هذه الشاكلة الواحدة، وكان يُقدِّم إجاباتٍ على أسئلةٍ غير ضرورية. وفجأةً عَبَس وجهه، وبعدما ألقى حوله نظرةً خاطفة ليرى ما إذا كان انتباه الفتاة ملتفتًا إلى وجهةٍ أخرى، انحنى نحو السير آيزاك وقال بصوت خفيض: «ستُعاني بعض الصعوبة معها يا آيكي.»
فقال السير آيزاك بلا مبالاة: «إنني مُعتاد على الصعوبات.»
قال الإيرل: «لا أقصد هذه الصعوبات التي تتحدث عنها. لا تكن أحمق يا آيكي، لا تتظاهَر بأنَّك ذكي. إنني أعرفُ — هذه الصعوبات — فأنا مضطرٌّ إلى العيش معها في بيتٍ واحد. إنَّها شيطانةٌ عنيدة، لا يوجد وصفٌ آخر أنسب لها من هذا.»
نَظَر السير آيزاك حوله بحذر، وقال: «أيوجد شخصٌ آخر سواي؟»
رأى السير حاجبي الإيرل يَنكمشان وعينَيه تلمعان وهما تنظران وراءه، فاتَّبع اتجاه نظرهما، ليرى قامة شابٍّ يقترب منها بابتسامةٍ تُنيرُ مُحيَّاه كله.
لم تكن هذه الابتسامةُ موجَّهةً إلى الإيرل ولا رفيقه، بل كان جليًّا كالشمس أنَّها تقصد الفتاة، التي أومأت للوافدِ الجديد، بشفتَين قد انفرجتا بعض الشيء ونورٍ جديد في عينيها، مُشجِّعةً إيَّاه على التقدم نحوهم.
وهنا اكفهرَّ وجه السير آيزاك اكفهرارًا مُروِّعًا. وتمتمَ قائلًا بغضب: «الرجل اللعين.»
قال هوريس جريشام للإيرل: «صباح الخير، أتتنزَّه؟»
فزمجر الرجل العجوز قائلًا: «لا، بل أستحم، أصطاد من أعماق البحر، أسافر على متن طائرة. ألا ترى ما أفعله؟ أنا جالس هنا؛ تحت رحمة كلِّ حمارٍ يأتي ليطرح أسئلته المخبولة عليَّ.»
ضحك هوريس. وكان مستمتعًا بهذه الدُّعابة حقًّا. كانت تلك اللمسة من الحسِّ الفكاهي المشاكس لدى الرجل العجوز هي الشيء الوحيد الذي أنقذه من أن يكون بغيضًا تمامًا. ودون مزيدٍ من الشكليات الرسمية التقليدية، التفت الشاب إلى الفتاة، وقال: «كنتُ أتوقَّع أن أجِدَكِ هنا.»
فسألته: «كيف حال مُهرتك الرائعة؟» ألقى نظرة متبسِّمة على ترامبر.
وقال: «آه، ستتمتع باللياقة الكافية في يوم السباق. سوف نجعل «تيمبولينو» يعدو بسرعة.»
قال السير آيزاك بغضب: «حصاني سيَهزم مُهرتك، أينما كان مركزاهما النهائيان في السباق، وأراهن على ذلك بألف جنيه.»
فقال الشاب: «لا أودُّ أن آخذ من مالك. أشعرُ بأنَّ ذلك سيكون ظُلمًا لك، وظُلمًا ﻟ… صديقك.»
قال الكلمات الأخيرة بلا مبالاة، لكنَّ السير آيزاك أدرك نبرة العداء الكامنة فيها، وقرأ في هذه السكتة القصيرة التي سبقتْها إيحاءً بأنَّ هذا الشاب المُبتهِج يعرف عن شئونه أكثر بكثير ممَّا كان السير راغبًا في الإفصاح عنه آنذاك.
قال البارونيت بغضب: «أنا لا يَعنيني أمر صديقي. كلُّ ما في الأمر أنني عرضتُ عليك عرضًا رياضيًّا عادلًا نزيهًا. وإذا لم تكن ترغب في قبوله بالطبع …» وحينها هزَّ كتفيه.
فقال الآخر: «آه، سأَقْبله بالتأكيد.» والتفت بتروٍّ إلى الفتاة.
سأل فيرلوند صديقه وقد ارتسمت على شفتَيه ابتسامة عريضة بسبب الإحراج الذي تعرَّض له: «إلام يلمح جريشام؟»
قال السير آيزاك: «لم أكن أعرف أنَّه صديقك، أين تعرفت عليه؟»
ابتسم اللورد فيرلوند كاشفًا عن أسنانه الصفراء، وقال: «حيث يجد المرء معظم معارفه الذين يبغضهم؛ في الباحة المُسيَّجة المخصصة للأعضاء في نادي الخيول. غير أنَّ رياضة السباقات صارت تحظى بالاحترام إلى حدٍّ لعين يا آيكي، حتى إنَّ الالتقاء بشخصٍ حقيقي من نُخبة البُغَضاء صار صعبًا. أتعلم ماذا وجدتُ في آخر سلسةِ سباقاتٍ ذهبت إليها؟ كانت غرفة احتساء الشاي مكتظةً عن آخرها حتى إنك لا تستطيع الدخول من أبوابها، بينما كانت الحانة فارغة. إنَّ سباقات الخيل تَنحدِر إلى الحضيض يا آيكي.»
كان فيرلوند يُمارس هوايته المُفضَّلة آنذاك، وكان السير مُتململًا؛ إذ كان من الصعب صَرفُ الرجل العجوز إلى شيء آخر حين يَنخرِط في الثرثرة الحافلة بالذكريات.
واصل الإيرل كلامه قائلًا: «لا يُمكن للمرء أن يراهن الآن مثلما كان يراهن في الماضي. لقد راهنتُ ذات مرة على حصان بخمسة آلاف جنيه بنسبة ربحٍ بلغت ٢٠ إلى ١، دون تغيير الثمن. أين يستطيع المرء فعل ذلك الآن؟»
قالت الفتاة للشاب: «هيا نتمشَّى قليلًا.»
كان اللورد فيرلوند شديد الانهماك في تذمُّره من حال سباقات الخيل في المجتمع لدرجة أنَّه لم يلاحظ الشاب والفتاة وهما ينهضان ويتمشَّيان بعيدًا.
غير أنَّ السير آيزاك قد رآهما، وكان سيُقاطع ثرثرة الآخر، لولا خوفه الشديد من فظاعة سوء مزاج الرجل العجوز.
قال هوريس للفتاة: «لا أفهمُ كيف يستطيعُ عمُّكِ تحمُّل هذا الوغد.»
ابتسمت الفتاة. وقالت بشيء من السخرية: «آه، إنه يستطيع «تحمُّله» بالطبع؛ فصبرُ العم على البُغَضاء مضرب للأمثال.»
قال السيد هوريس جريشام: «إنَّه ليس صبورًا عليَّ.»
فضحكت، وقالت: «هذا لأنَّك لستَ بغيضًا بالدرجة الكافية؛ إذ يجب أن يكرهك كل شخصٍ آخر في العالم قبل أن يُحبَّك العم.»
فسألها بلهفة: «وهذا لا ينطبق علي، أليس كذلك؟»
تورَّد وجهها قليلًا، ثم قالت وهي تنظر إليه نظراتٍ خاطفة قد غطَّتْها رموشُها: «بلى، لا أظنُّ أنَّ هذا ينطبق عليك؛ فأنا مُتيقنة تمامًا من أنَّك شابٌّ لطيف وودود جدًّا. لا بد أنَّ لديك أصدقاء كُثُرًا، أمَّا آيكي، فلديه مثل هؤلاء الأصدقاء المريبين. لقد رأيناه منذ بضعة أيام في «بليتز» يتغدَّى مع رجلٍ لا يُطاق بتاتًا، هل تعرفه؟»
فهزَّ برأسه. وقال فورًا: «لا أعرف أيَّ شخصٍ لا يُطاق بتاتًا.»
فسألته: «شخصٌ يُدعى الكولونيل بلاك؟»
أومأ وأجاب قائلًا: «أعرفه.»
سألته: «مَن هذا المدعو بلاك؟»
«إنَّه كولونيل.»
«في الجيش؟»
فقال هوريس بابتسامة: «ليس في جيشنا. إنَّه من ذلك النوع الذي يُسمُّونه في أمريكا «كولونيل مزمار»، وهو، حسنًا، إنَّه صديق السير آيزاك …» تردَّد هوريس بعدما استهلَّ هذه الجملة الأخيرة.
قالت: «هذا لا يُخبرني بالكثير، باستثناء أنَّه لا يُمكن أن يكون لطيفًا جدًّا.»
فنظر إليها بلهفة، وقال: «أنا في غاية السرور لأنَّك قُلتِ ذلك. كنت خائفًا …» سَكَت مرَّة أخرى، ورمقته هي بنظرة خاطفة.
كرَّرت كلمته متسائلة: «كنتَ خائفًا؟»
لم تكن رؤية هذا الشاب الرَّزين الرابط الجأش مُحرَجًا مثلما كان آنذاك بالأمر المُعتاد. واصل حديثه بقليلٍ من التلعثُم وقال: «حسنًا، يسمع المرء أشياء، شائعات. إنني أعرفُ حقيقة هذا الوغد وأعرف مدى رقتك، الحقيقة، يا ماري، أنني أحبك أكثر من أيِّ شيءٍ في الحياة.»
وحينئذٍ، شحب لونها وارتجفت يداها؛ إذ لم تكن تتوقع قَط تصريحًا كهذا وسط حشدٍ من الناس. وقد جعلتها هذه المفاجأة عاجزةً عن الرد. نظرت إلى وجهه، وقد كان شاحبًا أيضًا.
تمتمَتْ قائلة: «لا ينبغي أن تفعل ذلك في هذا الوقت من الصباح.»