(٦) الشرطي وآنسة من الطبقة الراقية
كان فرانك فيلو يضرب كرة ملاكمة بعُنفٍ في إحدى الغرف العلوية في بيته الصغير البسيط، وقد كان ذلك لسببٍ وجيه.
لقد كان «يأخذ» من الكرة حقَّه في جميع ما كان لدَيه من مظالم تجاه تلك الأمور الحقيرة التي تُزعجه في الحياة.
فالرقيب جوردن كان يُزعجُه بعشرات الأشكال من الأمور المزعجة التافهة. كان فيلو يُكلَّف بأقلِّ المهام تجانسًا مع طباعه، ويُثقَل بالعمل في نقاط المراقبة إلى حدٍّ أصابه بالكآبة، وبدا أنَّه يُكلَّف بأكثر من نصيبه العادل من العمل الإضافي. ثم إنه كان مُنشغلًا في الوقت نفسه بالهمِّ الإضافي المتمثِّل في مراقبة أعمال منظمة بلاك. وقد كان بوسعه، إذا شاء، أن يُزيل جميع القيود التي كانت تُعيق تحرُّكاته، لكنَّ هذا لم يكن من دأبه. وقد كان إحباط خطط بلاك شغفًا مُستحوذًا على فرانك، وإذا شعر بأي شغفٍ آخر من المُمكن أن يستحوذ عليه بهذا القدر، فإنه كان يَرتئي أن يَكبحه، مؤقتًا.
تعرَّف فرانك إلى ابنة المليونير في مشهدٍ عنيف، والْتقى بها لاحقًا في لقاءاتٍ شهدت خفقان قلب أحد طرفيها وقدرًا غير قليلٍ من الارتباك لدى طرفِها الآخر؛ فقد بدأ امتنانها وإعجابها على متن سيارةٍ مُضطربة جامحة ذات مقعدَين ومكابح مُعطَّلة، وازداد في الطريق عَبر حديقة الحيوانات، التي أرسلت إليه تذكرتها ليلتقيا فيها يوم الأحد إذ كانت مُتلهِّفةً على معرفة شخصه الحقيقي بعيدًا عن عمله الشرطي.
كان يُراودها بعض الخوف من أن يخيب أملها. ذلك أنَّ شُرطيًّا بطلًا في زيِّه الرسمي ذا وجهٍ مُهندَم بإحكامٍ بين حافة الخوذة وحزام الذقن قد يكون أقل بطوليةً في ثيابٍ خاصة من اختياره، فضلًا عن ربطات العنق والأحذية.
غير أنها قد هيأت نفسها للمهانة المتمثِّلة في اكتشاف أنَّ الشخص الذي أنقذ حياتها، يمكن أيضًا أن يكون ممَّن يرتدون رابطة عنق ذات عقدة جاهزة. كانت تَشعُر بخجل شديد، ولازَمت المماشي المهجورة الخاوية في حديقة الحيوانات إلى أن وجدها رجلٌ مُهذَّب ذو مظهرٍ حسنٍ جدًّا وثيابٍ مثالية لا يُمكن انتقادها، ولا تُوحي بأنَّه صبيُّ جزَّار في وليمة احتفالية ولا سبَّاك في جنازة.
لم تكد تُريه الحيوانات الحبيسة في قفصَين بالضبط حتى تولَّى هو إرشادها وأخبرها بأشياء عن حيوانات مُفترسَة برية لم تكن تعرفها من قبل. شرح لها الفارق الدقيق بين خمسة أنواعٍ مُختلِفة من الوَشَق، وسَرَد لها حكاياتٍ مُثيرة قصيرة عن مجموعة حيوانات الغابة خطفت أنفاسها من شدة الإعجاب. وبعد ذلك كله، اصطحبها إلى آخر مكان قد يَخطر ببال المرء؛ إذ أخذها إلى الغُرَف التي تُعالج فيها الحيوانات المريضة والعرجاء حتى تستردَّ عافيتها. واتَّضح أنَّ إرسالها التذكرة إليه لم يكن ضروريًّا؛ إذ كان زميلًا في الجمعية المَلَكية. وكانت الحديقة تضم أكثر بكثيرٍ ممَّا يُمكِن مُشاهدته في يومٍ واحد.
ذهبت الفتاة معه إلى هناك مرارًا وتكرارًا، وكانت تركب معه الخيل على أراضي «هامبستيد هيث» في الساعات الأولى من الصباح. استنتجت أنَّه كان يُؤجِّر حصانه، مع أنَّه لم يكن يَمتطي الحصان نفسه على الدوام.
سألته مازحةً ذات صباح: «كم حصان لديك في حظيرة خيولك؟»
فقال بلا تردُّد «ستة» وأضاف على عَجَل: «أمارس الصيد بالخيول كثيرًا في الموسم …»
سكَت بعد ذلك إذ أدرك أنَّه قد وقَعَ في ورطة أكبر.
قالت مُتلعثمة: «لكنَّك شرطي، فردٌ من قوات الشرطة! أعني، سامِحني على وقاحتي.»
فاستدار نحوها وهو على سرجه، وكانت عيناه تتلألآن.
قال: «لديَّ قليلٌ من الأموال الخاصة المستقلة عن راتبي. فأنا لم أُصبِح شرطيًّا إلا منذ حوالي اثني عشر شهرًا فقط، وقبل ذلك كنت … لم أكن شرطيًّا!»
لم يكن لبقًا في التعبير، وقد بدا مُحرَجًا آنذاك، فغيَّرت الفتاة الموضوع، وهي تحمل في داخلها تساؤلات وسرورًا لا يُصدق.
كان تَناقُضًا منها أن تُدرك بعد ركوب الخيل معه أنَّ هذه اللقاءات فعلٌ خاطئ. أولم تكن كذلك حتى قبل ركوب الخيل؟ وهل كان الركوب مع رجلٍ قد أعلن أنه من طبقتها الاجتماعية أسوأ من الركوب مع شرطي؟ كانت تعرف أنَّ لقاءه أمر خاطئ وكانت تفعله على أيِّ حال، وهذا هو المكان الذي صار فيه الشرطي فيلو والآنسة ساندفورد يُنادي كلٌّ منهما الآخر باسمَي «فرانك» و«ماي». لم يكن هناك من شيء سرِّي في لقاءاتهما.
كان ثيودور ساندفورد رجلًا ديمقراطيًّا للغاية بالرغم من عناده. كان يَمزح مع ماي بشأن شرطيها، ويبدي تعليقاتٍ مُضجِرة على الزيارات المُختَلَسة إلى مطبخه الفخم بحثًا عن فطيرة الأرانب، ومن بين هذه الدعابات التافهة ظهرت مسألة استمرار فرانك في الشرطة. إذا كان فرانك قد اعترف بأنَّه يملك موارد مالية مُستقلة، فلماذا يظلُّ شرطيًّا سخيفًا إذن؟ تطوَّرت المسألة من مجرد دعاباتٍ وتعليقاتٍ مازحة إلى نقاشٍ شديد الجدية، ثم إلى تقديم إنذارٍ أخير كُتِب بغضبٍ شديد، وأرسِل بغضبٍ شديد، ونُدِم عليه أيضًا بغضبٍ شديد.
رَفَع ثيودور ساندفورد ناظرَيه من فوق طاولة الكتابة ناظرًا إلى ابنته بابتسامةٍ تنم عن استمتاعه.
وسألها: «إذن، فأنتِ غاضبةٌ حقًّا من شُرطيِّك، أليس كذلك؟»
غير أنَّ الأمر لم يكن مَزْحة عند الفتاة. وظلَّ وجهها جامدًا بإصرارٍ شديد.
هزَّت كتفيها الجميلتين قائلةً: «يستطيع السيد فيلو أن يفعل ما يشاء بالطبع؛ فليست لديَّ أي سُلطةٍ عليه.» لم يكن هذا صحيحًا «لكنَّ المرء يحقُّ له أن يطلب من أصدقائه …»
التمعَت دموعُ الإهانة في عينَيها، فكفَّ ساندفورد عن مزاحه. نَظَر إلى الفتاة بتدقيقٍ وقَلق. كانت أمها قد ماتت حين كانت ماي طفلة؛ لذا كان دائمًا ما يبحث عن أيِّ علامةٍ لديها على المرض الفتَّاك الذي ذهب بالمرأة التي كانت هي كل ما لديه.
قال بحنان: «يا أعزَّ ما لديَّ! يجب ألَّا تقلقي من شُرطيِّك أو تنزعجي منه؛ فأنا على يقينٍ من أنَّه سيفعل أيَّ شيء في العالم من أجلك، وإن كان نصف إنسان فحسب.» ثم قال لها بقلق: «لا تبدين بخير.»
فابتسمت. ثم قالت وهي تضع ذراعها حول رقبته: «أنا مُتعبةٌ الليلة يا أبي.»
قال لها: «أنتِ مُتعبةٌ دائمًا هذه الأيام. وهذا ما شعر به بلاك حين رآكِ منذ بضعة أيام. لقد أوصى بطبيبٍ بارع جدًّا، لديَّ عنوانه هنا في مكانٍ ما.»
هزَّت رأسها بقوة. وقالت بنبرةٍ حازمة: «لا أريد زيارة أطباء.»
«لكن …»
توسَّلت إليه وقد صارت تضحك آنذاك: «أرجوك، أرجوك! كُفَّ عن ذلك!»
سمعا قرعًا على الباب، ودَخَل أحد الخُدَّام، وأعلن قائلًا: «السيد فيلو يا سيدتي.»
نظرت الفتاة حولها بسرعة، وسألته: «أين هو؟» رأى أبوها التورُّد الذي اعتلى وجنتَيها وهزَّ رأسه بارتياب.
فقال الخادم: «إنَّه في غرفة الضيوف.»
فالتفتت إلى أبيها قائلة: «سأَنزل يا أبي.»
أومأ بالموافقة، وقال لها: «أظنُّكِ ستَجِدين أنَّه ليِّن العريكة جدًّا، بالمناسبة إنَّه رجلٌ مُهذَّب.»
فأجابت بازدراء متعالٍ: «رجلٌ مُهذَّب يا أبي! بالطبع إنَّه رجلٌ مهذب!»
فقال السيد ثيودور ساندفورد بتواضُع: «آسفٌ على أنني قُلتُ ذلك.»
كان فرانك يقرأ رسالتها — الرسالة التي جعلتْه يأتي إليها — حين دَخَلت عليه. أخذ يدها وأمسكها هُنيهة، ثم تطرَّق إلى صميم الموضوع مباشرة. كان الأمر صعبًا جدًّا؛ إذ إنها لم ترُقْ له قط مثلما راقت له في تلك الليلة.
بعض النساء مَفاتنهن نادرة الوجود وجمالهن استثنائي للغاية في جوهره حتى إنَّه يُعجِز المرء عن إيجاد وصفٍ مناسب له. كانت ماي ساندفورد واحدة من هؤلاء. ولئن كان ثمة ملمح واحد يجعل منها امرأة؛ فهو فمها بلا شك. كان ثمة شيءٌ في توازن رأسها، في طريقة تصفيف شعرها، في نقاء بشرتها وتورُّدها الشبيه بلونِ الخوخ، في وضعية كتفيها، في ليونة جسمها، في مشيتِها الخفيفة الواثقة. لقد أضفت كلٌّ من سماتها المميزة شيئًا على جمالها الكلي.
كانت ماي ساندفورد فتاةً جميلة. وكانت قبل ذلك طفلةً جميلة، ولم تمرَّ بأيِّ انتقالٍ من الجمال إلى المظهر العادي أو من الحُسن إلى الشكل الأخرق. كان يبدو كما لو أنَّ كلًّا من سنين عمرها أسهمت بنصيبٍ في خلق الأنثى المثالية.
قال لها فيلو وهو يمدُّ الرسالة إليها: «أنت لا تقصدين هذا بالطبع؟ هذا ليس رأيك؟» فحَنَت رأسها.
ثم قالت بنبرةٍ خفيضة: «أرى أنَّ ذلك سيكون أفضل؛ فأنا لا أظن أنَّ بينَنا اتفاقًا كبيرًا جدًّا في، في الأمور. لقد كُنتَ بشعًا بعض الشيء مؤخرًا يا سيد فيلو.»
اعتلى وجهه شحوبٌ شديد، وقال بهدوء: «لا أتذكَّرُ أنني كنت بشعًا جدًّا.»
أضافت بنبرةٍ منفعلة مرتجفة: «من المستحيل أن تظل شرطيًّا.» واقتربت منه ووضعت يديها على كتفيه، وقالت: «ألا ترى، فحتى أبي يَمزح ساخرًا من ذلك، وهذا فظيع. أنا متيقنةٌ من أنَّ الخُدَّام يتحدثون، وأنا لستُ متعاليةً في الواقع …»
أرجَع فرانك رأسه إلى الوراء وضحك.
وقال لها: «ألا ترَين يا عزيزتي أنني لا يُمكن أن أكون شرطيًّا إلَّا إذا كان يوجد سببٌ وجيه لذلك؟ أؤدِّي هذا العمل لأنني وعدتُ رئيسي في العمل بأنني سأُؤدِّيه.»
فقالت وهي مُتحيرةٌ جدًّا: «لكن، لكن إذا تركتَ العمل في الشرطة، فلن يكون لك رئيس.»
قال بصراحة: «لا أستطيع ترك عملي.» فكَّر لحظةً ثم هزَّ رأسه ببطء، وقال: «أنتِ تَطلُبين منِّي أن أخلف وعدي. تطلبين منِّي أن أحدِثَ ضررًا أكبر من ذلك الذي سأبطله. لن تفرضي هذا الطلب عليَّ، ولن تستطيعي ذلك.»
تراجعت قليلًا، ورفعت رأسها، وضمَّت شفتيها ضمَّة عابسة طفيفة للغاية، ثم قالت: «أفهم، لن تُنفِّذ طلبي.» مدَّت يدها وقالت: «لن أطلب منك تقديم أيِّ تضحيةٍ أخرى أبدًا.»
فأخذ يدها، وأمسكها لحظةً بإحكام، ثم أفلتها. ومن دون أيِّ كلمةٍ أخرى، غادرت الفتاة الغرفة. انتظر فرانك لحظةً لعلَّها تندم على تصرفها وتعود، لكنَّ الباب ظلَّ مُغلقًا.
فغادر المنزل وقد غمره شعور طاغٍ بالاكتئاب.