(٧) الطبيب إيسلي يلتقي رجلًا
كان الطبيب إيسلي في غرفة مكتبه يُجري فحصًا دقيقًا جدًّا بالميكروسكوب. كانت الغرفة مُظلمة إلا من الضوء الذي انبعث من مصباحٍ كهربائي قوي موجَّه نحو عاكس الجهاز. ومن الواضح أنه كان قد اكتفى بما اكتشفه على شريحة الميكروسكوب؛ إذ إنه سرعان ما أزال الشريحة الزجاجية ورماها وسط النار وأضاء الأنوار.
أخذ من فوق الطاولة قصاصةً من إحدى الصُّحُف وقرأها. أثارت تلك القصاصة اهتمامه لأنَّها كانت تتضمَّن خبرًا عن وفاة السيد أوجستس فانكس المفاجئة.
ورَد في الخبر: «كان الرجل المُتوفَّى مُنشغلًا مع الكولونيل بلاك، الخبير المالي الشهير، في مناقشة تفاصيل الدمج الجديد لبعض شركات الحديد، حين سَقَط فجأةً وفارق الحياة، قبل أن تصل إليه الإسعافات الطبية. ويُعتقَد بأنَّ الوفاة قد حدثت جراء توقف القلب.»
لم تُجرَ أيُّ تحقيقات بشأن الوفاة؛ إذ كان قلب فانكس ضعيفًا في الواقع، وكان يَتلقَّى رعاية طبية من اختصاصيٍّ كان يَكتشِف أعراض المرض من أهون داعٍ يجعله يشتبه فيها؛ وذلك لتخصُّصه في مشكلات القلب.
كانت هذه هي نهاية فانكس إذن. أومأ الطبيب رويدًا. نعم، كانت هذه نهايته. والآن؟ أخذ رسالةً من جيبه. كانت تلك الرسالة موجَّهةً إليه ومكتوبةً بخط ثيودور ساندفورد الذي كان يبدو مُنحنيًا ومتراميًا بعشوائية.
كان إيسلي قد التقى به في بدايات المعرفة بين ساندفورد وبلاك حين كانا على وفاق؛ إذ كان الخبير المالي قد أوصى رئيس مصنع الحديد به، وكان الطبيب يعالجه من عدة أمراض. كان ساندفورد يصفه بلقب «طبيبي القادم من الضواحي».
قال ساندفورد في رسالته: «مع أنني لا أتَّفق مع صديقنا بلاك، وقد صار بيننا الآن ما صَنَع الحدَّاد، فأنا متيقنٌ من أن ذلك لن يؤثِّر في علاقتي بك، لا سيما وأنَّني أرجو منك أن تفحص ابنتي.»
تذكَّر إيسلي أنَّه رآها ذات مرَّة؛ فتاةً طويلة ذات عينين تتراقَصان بالضحك وبشرةٍ بيضاء كالحليب ووجنتَين حمراوَين كالورود.
وضع الرسالة في جيبه، ودخَل عيادته الصغيرة، ثم أغلق الباب. وحين خرج، كان يرتدي مِعطفَه الطويل ويحمل حقيبة كتف صغيرة. كان لديه من الوقت ما يفي بالكاد ليَلحق بقطارٍ متجه إلى حيِّ المال في لندن، وفي الساعة الحادية عشرة، وجد نفسه في قصر ساندفورد.
قال رئيس مصنع الحديد بابتسامةٍ وهو يُحيِّي زائره: «أنت رجلٌ غريب أيُّها الطبيب. هل تزور معظم مرضاك ليلًا؟»
فأجاب الآخر ببرود: «مرضاي الأرستقراطيون.»
قال الآخر: «يا لَتعاسة ما أصاب فانكس المسكين! كنت أتعشَّى معه منذ بضعة أسابيع. هل أخبَرك بأنَّه الْتقى في أستراليا رجلًا يعرفك؟»
مرَّ ظلٌّ من الانزعاج على وجه الآخر، وقال بفظاظة: «دعنا نتحدث عن ابنتك. ما خطبها؟»
ابتسم رئيس مصنع الحديد بإحراج. وقال: «ما من مشكلة محدَّدة، لكنَّك تعلم، يا إيسلي، أنَّها ابنتي الوحيدة، وأحيانًا أتصوَّرُ أنَّها مريضة. يقول لي طبيبي في نيوكاسل إنَّها لا تُعاني أيَّ مشكلة.»
قال إيسلي: «أفهم ذلك. أين هي؟»
اعترف الأب قائلًا: «إنَّها في المسرح. لا بُدَّ أنَّك تراني أحمق جدًّا لأنَّني أحضرتُك إلى المدينة من أجل الحديث عن صحة فتاةٍ تُوجد في المسرح، لكنَّ شيئًا ما قد أزعجها للغاية في الليلة الماضية، وقد أسعدني أن أراها اليوم تُقبِل على الحياة إقبالًا كافيًا ليجعلها تذهب إلى مسرحيةٍ فكاهية موسيقية.»
فقال الآخر: «معظم الآباء حمقى. سأنتظر حتى تأتي.» تمشَّى إلى النافذة ونَظَر إلى الخارج، ثم سأل فجأة: «لماذا تخاصمت مع بلاك؟»
عَبَس الرجل الأكبر سنًّا، وقال باقتضاب: «العمل. إنَّ بلاك يضعني في مأزق. لقد ساعدته منذ أربع سنوات …»
فقاطعه الطبيب قائلًا: «لقد ساعدك هو أيضًا.»
فقال الآخر بعناد: «ليس بقدر ما ساعدته. لقد أعطيتُه فرصته. طَرَح أسهم شركتي للبيع في طرحٍ أوَّلي وقد رَبِحت، لكنَّه رَبِح أكثر. والآن توسَّع العَمَل توسُّعًا هائلًا جدًّا لدرجة أنَّ مشاركتي فيه لن تعود عليَّ بالأرباح لا شيءَ سيُغيِّر قراري النهائي.»
قال إيسلي وهو يَمشي مرَّة أخرى نحو النافِذة: «أفهم ذلك.»
كان الطبيب يعتقد أنَّ أمثال هذا الرجل يجب أن تُكسَر شوكتهم. تُكسَر! ولم يكن لذلك سوى سبيل واحد؛ ابنته. لم يكن بوسع الطبيب أن يفعل شيئًا الليلة، وقد كان هذا واضحًا، لا شيء.
قال: «لا أظنُّ أنني سأَنتظِر ابنتك. ربما سأزورك مساء غد.»
فقال الآخر: «آسفٌ جدًّا …»
لكنَّ الطبيب أسكته قائلًا: «لا داعيَ إلى الأسف. ستجد رسوم زيارتي مُدرجةً في فاتورتي.»
ضحك رئيس مصنع الحديد وهو يوصله إلى الباب. وقال: «أنت بارع في الشئون المالية بقدر براعة صديقك تقريبًا.»
فقال الطبيب باقتضاب: «تقريبًا.»
أنزلته سيارة الأجرة التي كانت تنتظره خارج المنزل في مفترق طرق «تشارينج كروس»، واتجه مباشرةً إلى أقرب مكتب اتصالاتٍ واتصل بفندق «تيمبرانس» في «بلومزبري». كان ثمة ما يدعوه إلى أن يرغب في لقاء شخص يُدعى السيد ويلد كان يعرفه في أستراليا.
لم يجد صعوبةً في إيصال الرسالة؛ إذ كان السيد ويلد في الفندق. انتظر الطبيب على الهاتف ريثما يوصله الخادم به. وبعد وقتٍ قصير، سمع صوتًا عبر الهاتف يقول:
«أنا ويلد، هل تريدني؟»
«نعم، اسمي كول. كنتُ أعرفك في أستراليا. لديَّ رسالةٌ إليك من صديق مشترك. هل تستطيع لقائي الليلة؟»
«نعم، أين؟»
كان الطبيب إيسلي قد قرَّر مكان اللقاء سلفًا. قال: «خارج المدخل الرئيسي للمتحف البريطاني. يوجد القليلُ من الناس هناك في ذلك الوقت من الليل، وبذلك ستقلُّ احتمالية أن تتوه منِّي.»
سكت الطرف الآخر هُنيهةً، ثم قال: «جيد جدًّا، في غضون ربع ساعة؟»
«سيُناسبني ذلك تمامًا، إلى اللقاء.»
أقفل السماعة، وبعدما ترك حقيبته في غرفة الأمانات بمحطة «تشارينج كروس»، انطلق سيرًا إلى شارع «جريت راسل ستريت». لم يكن سيستقل سيارة أجرة؛ إذ كان ينبغي ألَّا يترك خلفه دليلًا من ذلك النوع. فما كان بلاك ليتقبل ذلك. ابتسم حين خَطَرت بباله تلك الفكرة. كان شارع «جريت راسل ستريت» مهجورًا، إلا من تيار مستمر من سيارات الأجرة التي تمر جيئةً وذهابًا، وبعض المشاة الذين يمرُّون من حينٍ إلى آخر. وَجَد الطبيب رجُله منتظرًا. كان طويلًا وهزيلًا بعض الشيء، وكانت تبدو في وجهه سيماء المثقَّفين المُهذَّبين.
قال الرجل وهو يتقدَّم نحو الآخر الذي توقَّف آنذاك: «الطبيب إيسلي؟»
«هذا …» وحينها سَكَت إيسلي فجأة، وقال بصرامة: «اسمي كول. ما الذي يجعلك تظن أنني إيسلي؟»
قال الآخر بهدوء: «صوتك. ومع ذلك، لا يُهمُّني ما تُسمِّي به نفسك، لقد أردتُ لقاءك.»
قال إيسلي: «وأنا أيضًا.»
سارا متجاورَين حتى وصلا إلى شارعٍ جانبي.
وحينها سأله الطبيب: «ماذا تُريد مني؟»
ضَحِك الآخر.
وقال: «أردتُ رؤيتك. إنك لا تُشبه إيسلي الذي كنت أعرفه إطلاقًا. لقد كان أنحف ولم يكن لديه لون بشرتِك نفسه، ودائمًا ما كان يُراودني ظنٌّ بأنَّ إيسلي الذي ذهب إلى البرية في أستراليا قد مات.»
قال إيسلي بشرود: «هذا مُمكن.» كان يريد أن يكسب وقتًا؛ إذ كان الشارع خاليًا. وعلى بُعد مسافةٍ قصيرة، كان ثمة مَدخلٌ يمكن أن يَرقُدَ فيه رجلٌ دون أن يُلاحظه أحدٌ حتى يأتي شُرطي.
كان يحمل في جيبه ريشةً مُشرَّبة ملفوفةً بعناية بضمادة كتَّانية وحريرٍ مدهونٍ بالزيت؛ فسحبها من جيبه خلسةً، وجرَّدها من غلافها بيديه وهي وراء ظهره.
كان الرجل الآخر في هذه الأثناء يواصل كلامه قائلًا: «الحقُّ أيها الطبيب إيسلي أنني أشعر بأنَّك مُحتال.»
واجَهَه إيسلي، وقال بصوتٍ خفيض: «إنك تُفكِّر في الأمور أكثر من اللازم، لكنني لا أستطيع تمييز هويتك، فلتُدِر وجهك ناحية الضوء.»
أطاعه الشاب، ولم تكد تمرُّ ثانية حتى رَفَع الطبيب الريشة بسرعةٍ كلمح البصر.
قَبَضت يدٌ فولاذية على معصمه، وظَهَر رجلان آخران كما لو أنَّ الأرض انشقَّت عنهما. وضُغِط على وجهه بشيءٍ ناعم ذي رائحة مُثيرة للغثيان كانت تخنقُه. حاول المقاومة باهتياجٍ جنوني، لكنَّ الأفضلية العددية كانت ضده بفارقٍ كبير. دوى بعد ذلك صوت صافرة شُرطيٍّ وسَقَط على الأرض.
استفاق ليجد شرطيًّا منحنيًا تجاهه من فوقه. تحسَّس رأسه بيده في تصرُّفٍ غريزي.
سأله الشرطي: «أيُؤلمُك يا سيدي؟»
«لا.» حاول النهوض بصعوبةٍ حتى وقف مترنِّحًا، وسأل الشرطي: «هل قبضتم على الرجال؟»
«لا يا سيدي، لقد هربوا. كلُّ ما استطعنا فعله أننا اكتشفناهم بينما كانوا يُسقِطُونك، لكن ليحفظك الرب يا سيدي، يبدو كأنَّ الأرض انشقَّت وابتلعتْهم.»
نَظَر حوله بحثًا عن الريشة، لكنَّها قد اختفت. وببعض التردُّد، ذكر اسمه وعنوانه للشرطي الذي استدعى له سيارة أُجرة.
سأله الشرطي: «أمُتيقِّنٌ من أنَّك لم تفقد شيئًا يا سيدي؟»
قال إيسلي بانزعاج: «لا شيء. لا شيء. أصغِ إليَّ أيها الشرطي، لا تُبلِغ أحدًا بما حدث.» دَس جنيهًا في يد الشرطي خلسةً، وأضاف: «أريد ألَّا يصل الأمر إلى الصُّحُف.»
أعاد الشرطي الجنيه، وقال: «أنا آسفٌ يا سيدي، لا أستطيع أخذ ذلك حتى وإن كنتُ أريده.» نَظَر حوله بسرعة وقال بصوت خفيض: «معي هنا رجل فاضل من مقرِّ «سكوتلانديارد»، وهو أحد المفوضين المُساعِدين.»
فاتَّبع إيسلي اتجاه ناظِري الشرطي، ليجد رجلًا واقفًا في ظلِّ الجدار.
قال الشرطي الذي كان شابًّا شديد الثَّرثرة على نحو فاحش: «إنَّه أوَّل من رآك.»
سار إيسلي نحو الرجل الواقف في الظل مُستجيبًا لدافعٍ داخلي لم يستطع تحديده.
وقال له: «إنني مدين لك بخالص امتناني. وأرجو فقط أن تُتِم صنيعك بكتمان هذه المسألة؛ فأنا أكره رؤية هذا الأمر مذكورًا في الصُّحُف.»
فقال ذلك المجهول: «أتصوَّر بالفعل أنَّك تكره ذلك.» كان يَرتدي ثياب المناسبات الرسمية، وكان الوهج الأحمر لسيجاره يُخفِي من وجهه أكثر ممَّا يُظهِر. «لكنَّ هذه المسألة، أيُّها الطبيب إيسلي، من نوعية المسائل التي يجب أن تَسمح لنا فيها بالحرية الكاملة في التصرُّف.»
فسأله الطبيب بارتياب: «كيف تعرف اسمي؟» ابتسم الآخر في الظلام وأشاح بوجهه مبتعدًا.
قال إيسلي: «مهلًا!» خطا خطوةً واسعة نحوه وحدَّق إلى وجهه، ثم أضاف: «أعتقد أنني أعرف صوتك.»
قال الآخر: «هذا مُمكن.» ودَفَعه بعيدًا برفقٍ لكن بإحكام؛ فشَهَق إيسلي. لم يكن الطبيب نفسه ضعيفًا لكنَّ هذا الرجل كان لدَيه ذراع كالفولاذ.
تدخَّل الشرطي وقال لإيسلي بقلق: «أظنُّ الأفضل أن ترحل يا سيدي.» ذلك أنه لم يكن يرغب في إغضاب شخصيةٍ عامَّة من الواضح أنها تتمتَّع بنفوذ ولا إغضاب رئيسه؛ ذاك المفوض الغامض الذي كان يظهر ويَختفي في أقسامٍ شُرطية مختلفة والذي خلَّف وراءه قدرًا لا يُحصى من الضحايا بين مختلف أفراد الشرطة.
قال الطبيب: «سأرحل، لكنِّي أودُّ معرفة اسم هذا الرجل.»
فقال الرجل الغريب: «هذا لا يُمكن أن يكون من شأنك.» وهزَّ إيسلي كتفَيه. كان إيسلي مُضطرًّا إلى أن يقنع بذلك؛ فاستقلَّ سيارة الأجرة عائدًا إلى منزله الكائن في حي «فورست هيل» وهو مُنهمِك في التفكير. من هؤلاء الثلاثة الذين اعتدوا عليه يا تُرى وما هذا الشيء الذي كان معهم؟ ومن ذاك الرجل الذي كان واقفًا في الظل؟ أيُمكن أن يكون أولئك الذين اعتدوا عليه متواطئين مع الشرطة؟
وَصَل إلى المنزل دون أن يَقترب قيد أنملة من إجابةٍ عن هذه الأسئلة. فَتَح الباب الموصد ودخل. لم يكن أحدٌ في المنزل سواه هو وتلك المرأة العجوز في الطابق العلوي. كانت مواعيد خروجه من المنزل ورجوعه إليه متقلبة جدًّا لدرجة أنَّه أرسى نظامًا أتاح له حرية تحرُّك مثاليةً للغاية.
توصَّل إلى قرارٍ بضرورة وضع نهايةٍ للطبيب إيسلي. يجب أن يَختفي إيسلي من لندن. ولم يكن يحتاج إلى إخبار بلاك بذلك، فهو سيعرف حتمًا. قرَّر أن يُسوِّي مسألة رئيس مصنع الحديد وابنته ثم يضع النهاية بعد ذلك.
فتح باب غرفة مكتبه الموصَد، ودخل وأضاء الأنوار. وجد رسالة على منضدة الكتابة، رسالة موضوعة في ظرفٍ رمادي رقيق؛ فأخذه وتفحَّصه. رأى أنَّه قد سُلِّم باليد وكان يحمل اسمه مكتوبًا بخطٍّ يدوي مُحكَم. نَظَر إلى منضدة الكتابة، وانتفض إلى الوراء فجأة؛ إذ وجد أنَّ الرسالة قد كُتِبَت في الغرفة ونُشِّفَت على الورق النشَّاف!
لم يكن يوجد شكٌّ إطلاقًا في ذلك؛ إذ كان الورق النشَّاف موضوعًا على المنضدة وكان من الواضح أنه قد استُخدِم حديثًا في ذلك اليوم، وكان الخط اليدوي السميك يبدو باتجاهه العكسي من ظَهرِ الظرف. نَظَر إلى الظرف مجددًا.
لقد أفلتَّ الليلة، ولديك سبعة أيام فقط لتُهيِّئ نفسك للمصير الذي ينتظرك.
غاص في كرسيه محطمًا بما عرفه للتو. لقد كانوا «رجال العدالة الأربعة»، وقَد أفلَت منهم. رجال العدالة! دَفَن وجهه بين يديه وحاول أن يُفكر. لقد أمهلوه سبعة أيام. يُمكن فعل الكثير في سبعة أيام. لقد عاش ذُعرَ الموت وكان على بُعدِ لحظاتٍ منه، وهو ذاك الذي أرسل الكثيرين من قبل إلى مصيرهم المَحتوم دون أدنى شعورٍ بالندم أو وخْز الضمير. أما هذه المرة، فهو نفسه مَن يواجه الموت! أمسك بحُلقومه وأخذ يُحدِّق إلى كلِّ أنحاء الغرفة. إيسلي المُسمِّم — الخبير المتخصِّص في قبض الأرواح — الرجل الذي أعاد إحياء فن آل «مديتشي» المفقود وخَدَع الشرطة. سبعة أيام! حسنًا، سيُسوِّي مسألة صاحب مصنع الحديد. لقد كان ذلك ضروريًّا لبلاك.
بدأ يتَّخذ استعداداتٍ محمومة للمستقبل. لم تكن توجد أوراق ليُتلفَها. دخل العيادة وأفرغ ثلاث زجاجات في الحوض. أمَّا الرابعة فقد كان يُريدها؛ فالرابعة، تلك الزجاجة الخضراء الصغيرة ذات السدادة الزجاجية، كانت مُفيدةً لبلاك؛ لذا وضَعَها في جيبه.
ترك المياه تَنساب من الصنبور لتُزيل كل آثار المادة المُخدِّرة التي سَكَبها، ثم هشَّم الزجاجات ورماها في سلَّة النفايات.
صعد إلى غرفته في الطابق العلوي لكنَّ النوم جافى عينيه. أوصد الباب بالمفتاح وأسند كُرسيًّا إليه. فتَّش داخل الخزانة وتحت السرير وهو يمسك بمسدس في يده، ثم وضع المسدس تحت وسادته وحاول النوم.
طَلَع عليه صباح اليوم التالي وهو مُنهَكٌ ومُتوعِّك، لكنَّه مع ذلك تأنَّق وتزيَّن بعنايةٍ كالمعتاد. وفي الموعد المُحدَّد ظُهرًا، عرَّف نفسه إلى الخادم في «هامبستيد» فأوصله إلى غرفة الجلوس. كانت الفتاة وحدها حين دخل. وقد لاحَظ باستحسانٍ أنَّها كانت شديدة الجمال.
كان يعرف بالفطرة أنَّ ماي ساندفورد لم تكن تحمل أيَّ مودة تجاهه. رأى الغيمة التي خيَّمت على وجهها الجميل وهو يقترب منها، وقد استمتع بذلك على طريقته الباردة.
قالت: «أبي في الخارج.»
قال إيسلي: «هذا جيد، يمكننا التحدث قليلًا ريثما يعود.» وقَعَد من تلقاء نفسه دون دعوة.
قالت: «يَجدر بي أن أخبرك الآن، أيها الطبيب إيسلي، أنَّ مَخاوف أبي بشأني ليس لها أيُّ أساس.»
دَخَل صاحب مصنع الحديد حينئذٍ وصافَح الطبيب بحرارة، ثم سأله: «حسنًا، كيف تبدو حالتها في رأيك؟»
فقال الآخر: «المظاهر لا تُخبر المرء بشيء.» لم تكن هذه اللحظة المناسبة لاستخدام الريشة؛ فقد كان عليه أن يفعل أشياء أخرى، ولم تكن الريشة هي السبيل إلى تحقيقِها. ظل يتحدَّث لبعض الوقت ثم نهض، وقال لها: «سأبعث إليكِ بدواء.» فارتسمت على وجهها تعابير تهكُّمٍ جاف. فقال بلمسة الحقد التي كانت من السمات التي يتَّصف بها: «لا داعيَ إلى القلق من أن تتناوليه.»
سأله ساندفورد: «هل تستطيع المجيء لتناول العشاء معنا يوم الثلاثاء؟»
فكَّر إيسلي قليلًا. كان هذا اليوم هو السبت؛ أي إنَّ الأيام السبعة كان سيَنقضي منها ثلاثة أيام بحلول يوم الثلاثاء، وقد يطرأ أيُّ شيء جديد في هذه الأثناء، ثم قال: «حسنًا، سوف آتي.»
رحل واستقلَّ سيارة أجرة إلى بعض غرف الإيجار بالقرب من سدِّ التايمز؛ فقد كان لدَيه هناك غرفةٌ مفيدة للغاية.