(٨) صدمة للكولونيل بلاك
كان لدى السيد ساندفورد موعدٌ مع الكولونيل بلاك. وكان ذلك هو اللقاء الأخير قبل فضِّ الشراكة بينهما.
كان حيُّ المال يعجُّ بالشائعات. وانتشر كلامٌ هامس بأنَّ أمور الخبير المالي ليسَت على ما يرام؛ وأنَّ اقتراح الدمج الذين كان يُعوِّل عليه لم يُقبل. جلس بلاك إلى مكتبِه عصر ذلك اليوم يلهو وهو شارد الذهن بأحد سكاكين الورق. كان أشد شحوبًا من المعتاد، وكانت اليد التي تُمسِك السكِّين ترتعش بعصبية. نَظَر إلى ساعة يده. كان هذا وقت مجيء ساندفورد. ضَغَط بلاك جرسًا في جانب مكتبه، فدخل إليه موظف.
سأله: «هل وصل السيد ساندفورد؟»
فقال الرجل: «وصل للتو يا سيدي.»
«أدخِله.»
تبادل الرجلان التحية الرسمية، وأشار بلاك إلى كرسيٍّ، قال باقتضاب: «اقعد يا ساندفورد. والآن، ما موقفنا بالضبط؟»
قال الآخر بصرامة وإصرار: «كما هو.»
«لن تُشاركَ في مُخطَّطي؟»
قال الآخر: «كلا، لن أفعل.»
نقَر الكولونيل بلاك على المكتب بسكينِه، ونَظَر إليه ساندفورد. بدا بلاك أكبر سنًّا مما كان عليه حين رآه آخر مرة؛ فقد كان وجهه الأصفر مُشقَّقًا ومجعَّدًا.
قال فجأة: «إنَّ هذا سيجلب عليَّ الخراب. لديَّ دائنون لا حصر لهم. وإذا تمَّ هذا الدمج، فسيستقرُّ وضعي. معي أناسٌ كُثُر أيضًا في ذلك — آيكي ترامبر — هل تعرف السير آيزاك؟ إنَّه صديق — امم — إيرل فيرلوند.»
غير أنَّ الرجل الأكبر سنًّا لم يتأثر بذلك، قال: «إن كنتَ في مأزق، فهذا خطؤك. لقد تَوليتَ مهمةً أكبر من إمكانياتك، والأدهى من ذلك أنَّك تعامَلت مع الكثير جدًّا من الأمور على أنها من المسلَّمات.»
رَفَع الرجل القاعد إلى المكتب رأسه نحو زائره ناظرًا إليه من أسفل حاجبَيه المستقيمَين، وقال: «من السهل عليك أن تقعد هناك وتُخبرني بما ينبغي فعله.» وأوحى تهدُّج صوته إلى الآخر بشيءٍ من الشعور القوي الذي كان يُخفيه. «لا أريد نصيحةً ولا عِظَة، بل أريد مالًا. شاركني في مخططي ووافِق على الدمج، وإلَّا …»
فكرَّر رئيس مصنع الحديد بهدوء قائلًا: «وإلَّا …»
قال بلاك متجهمًا: «أنا لا أُهدِّدك، بل أُحذِّرك. أنت تخاطر بأكثر ممَّا تعرف أنك تُخاطر به.»
قال ساندفورد: «سأخوض المخاطرة إذن.» قام بعد ذلك من كرسيه وقال: «هل لديك شيءٌ آخر تودُّ قوله؟»
«لا شيء.»
«إذن سأُودِّعُك.»
أغلَق الباب خلفه بضربةٍ عنيفة، وظلَّ بلاك بلا حراك. ظل جالسًا هناك حتى حلَّ الظلام، ولم يكن يفعل شيئًا سوى الخربشة بلا هدف على الورق النشَّاف. كانت السماء قد أوشكت على الإظلام حين عاد بسيارة الأجرة إلى الشقة التي كان يَسكُنها في شارع «فكتوريا ستريت» وفتح الباب ثم دخلها.
قال له الرجل الذي أتاه مسرعًا ليُساعدَه في خلع المعطف: «ثمة رجلٌ ينتظرك يا سيدي.»
«أيُّ نوع من الرجال؟»
«لا أعرف بالضبط يا سيدي، لكنِّي أعتقد أنَّه مُحقِّق.»
«محقق؟» وجد يدَيه ترتعشان ولعن حماقته. وقف مُتحيِّرًا وسط الصالة لكنَّه تمكَّن في غضون دقيقة من السيطرة على مخاوِفِه، وأدار مقبض الباب.
قام رجلٌ ليُقابلَه. وشعر بلاك بأنَّه قد التقاه من قبل. كان ذلك أحد تلك المشاعر التي يَصعُب شرحها. سأله قائلًا: «أردت لقائي؟»
فقال الرجل بنبرة احترام في صوته: «نعم يا سيدي. أتيتُ لطرحِ بعض الاستفسارات.»
كاد بلاك أن يسأله عمَّا إذا كان ضابطَ شرطة، لكنَّه بطريقةٍ ما، لم يتحلَّ بالشجاعة الكافية لصياغة الكلمات. وكان تكبُّد عناء ذلك غير ضروريٍّ، مثلما ثبت لاحقًا؛ إذ إنَّ كلمات الرجل التالية قد أوضحت مهمَّته.
تحدَّث قائلًا: «لقد كلَّفتني شركةٌ من المحامين باكتشاف مكانِ وجود الطبيب إيسلي.»
فنَظَر بلاك إليه بإمعان، وقال: «من المفترض ألَّا تجد صعوبةً في ذلك. فاسم الطبيب واردٌ في سجل الهواتف والعناوين.»
قال الرجل: «هذا صحيح، لكنِّي واجهتُ صعوبةً كبيرة في إيجاده مع أنني بحثتُ عنه كثيرًا.» وأوضح قائلًا: «الحق أنني كنت مُخطئًا حين قُلتُ إنني أريد معرفة مكانه، بل أريد إثبات صحة هُويَّته.»
قال الخبير المالي: «لا أفهمك.»
فقال الرجل: «حسنًا، لا أعرف كيف أصوغ قصدي بالضبط. ما دُمت تَعرف الطبيب إيسلي، فستتذكر أنَّه مكَثَ في أستراليا بضع سنوات.»
قال بلاك: «هذا صحيح، لقد عُدنا معًا.»
«وقد مكثتُما هناك بضع سنوات، أليس كذلك يا سيدي؟»
«بلى، مكثنا هناك عددًا من السنوات، لكنَّنا لم نكن معًا طوال تلك الفترة.»
قال الرجل: «أفهم. أعتقد أنكما قد سافرتُما معًا، أليس كذلك؟»
أجاب الآخر بحدة: «لا، سافرنا في فترتَين مختلفتَين.»
«هل رأيته مؤخرًا؟»
«كلا، لم أرَه، وإن كنت أبعث له مرارًا بالرسائل بشأن مسائل مختلفة.» كان بلاك يُحاول قدر المستطاع ألَّا يفقد صبره؛ إذ كان عليه ألا يسمح لهذا الرجل برؤية مدى انزعاجه الكبير من هذه الأسئلة.
دوَّن الرجل شيئًا في دفتر ملاحظاته، وأغلقه ووضعه في جيبه، ثم سأله بهدوء: «أيُدهشُك أن تَعرف أنَّ الطبيب إيسلي الحقيقي الذي سافَرَ إلى أستراليا قد مات هناك؟»
أمسَكَت أصابع بلاك بحافة الطاولة وتمالَك توازنه.
قال: «لم أكن أعرف ذلك.» وقال حين انتهى الرجل من أسئلته: «أهذه هي كلُّ الأسئلة التي كنت تودُّ طرحَها؟»
قال المحقق: «أظنُّ أنَّ ذلك سيكفي يا سيدي.»
فسأله الكولونيل: «هل لي أن أسألك عمَّن وكَّلك لإجراء هذا التحقيق؟»
«لا يحقُّ لي الإفصاح عن ذلك.»
بعد رحيله، ظلَّ بلاك يمشي في الشقة منهمكًا في تفكيرٍ عميق.
أنزَل من على الرف دليلَ سفرٍ وخرائط للقارة من إصدار «بيديكر»، ورَسَم بالقلم الرصاص على ورقة خطة لتقاعُده. لقد كان رفضُ ساندفورد للتفاوض معه هو النكبة القصوى.
عَبَر الغرفة متجهًا إلى الخزنة التي كانت موجودة في رُكنها وفتحها. كان دُرجها الداخلي يحوي ثلاث رزمٍ متساوية من الأوراق النقدية. أخرجها ووضعها على الطاولة. كانت أوراقًا نقدية من إصدار بنك فرنسا، وكانت كل ورقةٍ منها بألف فرانك.
كان من الأفضل له ألَّا يُجازف؛ لذا فقد وضع الرزم في جيب مِعطفه الداخلي. إذا فشلت كل الحيل وضاقت به السُّبُل، فستكون هذه النقود طريقه إلى الحرية. أمَّا بخصوص إيسلي، فقَد ابتسم حين خَطر بباله؛ إذ كان يَجب أن يختفي بأيِّ حالٍ من الأحوال. غادر شقته واستقلَّ سيارة أجرة اتجه بها غربًا إلى حيِّ المال. كان ثمة رجلان يَتبعانه، لكنَّه لم يُدرك ذلك.
كان بلاك يَتباهى بأنَّ مؤسسته لا تحفظ أيَّ دفاتر ولا تحتفظ بأيِّ سجلات، وقد تجلَّت هذه الحقيقة في الليلة التي زارَه فيها «الأربعة» بلا دعوة. ذلك أنَّ بحثَهم المنهجي عن الأدلة، التي كانوا يعتزمون استخدامها ضده في محكمة مُعترف بها، لم يكشف عن أيِّ أثَرٍ لأدلة مكتوبةٍ موثَّقة يُمكِن استخدامها. أما الحقيقة، فهي أنَّ بلاك كان يَحتفظ بمجموعةٍ مكتملة الأركان من الدفاتر، لكنه كتبها بشفرةٍ من ابتكاره لم يُدوَّن مفتاحها على أيِّ ورقةٍ قَط، ولم يكن يَفهمها أحد سواه.
وفي مساء اليوم الذي زاره فيه المحقِّق، كان منشغلًا بإبعاد حتى تلك الدفاتر عن متناول «الأربعة». وقد كان لديه سببٌ وجيه يدعو إلى هذا القلق؛ فقد زاد نشاط الأربعة مؤخرًا زيادة كبيرة، وكانوا يرون أنَّه من الملائم تحدِّي الكولونيل بلاك مرَّة أخرى. ظلَّ مشغولًا من الساعة التاسعة إلى الساعة الحادية عشرة في تمزيق رسائل تبدو خاليةً من أيِّ جُرم وإحراقها. وحين دقَّت عقارب الساعة مُعلنةً بلوغ الحادية عشرة، نَظَر إلى ساعة يده وتيقن من الوقت؛ إذ كان لديه عملٌ مُهمٌّ جدًّا في تلك الليلة.
بعث برسالةٍ إلى السير آيزاك ترامبر يطلب فيها لقاءه في تلك الليلة؛ إذ كان يحتاج إلى كلِّ صديق وكلِّ نفوذ وكلِّ جزءٍ بسيط من المساعدة يُمكِن أن يناله.