الفصل الأول

١

في هاته الساعة من النهار حين تبدأ الموجودات ترجع لصوابها، ويقطع الصمت المطلق الذي يحكم على قرى الفلاحين طول الليل أذانُ المؤذن وصوتُ الدِّيَكة ويقظة الحيوانات جميعًا من راحتها، وحين تتلاشى الظلمة ويظهر الصباح رويدًا رويدًا من وراء الحجب — في هاته الساعة كانت زينب تتمطَّى في مرقدها، وترسل في الجو الساكن الهادئ تنهدات القائم من نومه. وعن جانبيها أختها وأخوها ما يزالان نائمين. فانسحبت هي من بينهما. وبعيون ما يزال فيها أثر النوم نظرت لكل ما حولها. ولم يدعها نسيم الصباح تترك مكانها، بل استندت إلى الوسادة وجاهدت أن تنظر لعلها ترى ما في صحن الدار فلم تجد شيئًا. وأدارت رأسها فإذا باب الغرفة موصد، ولا صوت حولها إلا ما يتنادى به رسل الإصلاح من أطراف القرية.

بقيت في مكانها هنيهة ساكنة لا تبدي حراكًا. ثم فردت ذراعيها من جديد، وأرسلت في الهواء تنهداتها، وتركت نفسها تذهب في أحلام يحييها النسيم، حتى أحست بالباب تفتحه أمها راجعة من أولى أدوار «الملية».١ هنالك التفتت إلى أختها تهزّها لتستيقظ. لكن الصغيرة كانت في نوم عميق فلم تنتبه، وتقلبت كأن بها ضيقًا ممن يقلقها في مضجعها.. وأخيرًا نادتها أمها: يا زينب..!

– نعم..

ولم تزد على هذا الجواب كلمة. وبعد أن استيقظت أختها التفتت إلى أخيها وأيقظته. وحدقت نحو الشرق فإذا الأفق متورد، والشمس في لونها القاني والسماء قد خلعت قميص الليل. هنالك قامت فأوقدت نارًا ولدنت فوقها رغيفًا لكل منهم، ولم تنس أمها وأباها.

دخل أبوها راجعًا من الجامع، وقد قرأ الورد وصلى الفجر، وما كاد يتخطى عتبة الدار حتى نادى: «يا محمد»، وسأله إن كان قد استيقظ بعدُ، وإن كان قد أعدّ عمله.

جلست العائلة جميعًا حول «المشنّة» وأكل كل منهم رغيفه «بحصوة» ملح. ثم قام الرجل وابنه إلى عملهما.

أما زينب فانتظرت مع أختها أن يمر بهما إبراهيم، ليذهبوا جميعًا إلى مزرعة السيد محمود لتنقية القطن. وقد كان في أملهم جميعًا أن ينتهوا اليوم من بر الترعة الغربي، أو كما يسميه كاتب المالك «نمرة» ٢٠ لينتقلوا في الغد إلى «نمرة» ١٤.

نزلتا حين رأتا إبراهيم ومن معه مقبلين. وتهادى الكل «صباح الخير»، ثم خرجوا من الحارة إلى سكة البلد، ثم منها إلى سكة الوسط، وهكذا كانوا عند «نمرة» ٢٠ ساعة مرور وابور الصبح. ولم يتمهلوا أن أخذ كل منهم خطه على وجه الترتيب الذي كانوا عليه أمس. فلما لم تجد خضرة القطعة سعدة بجوارها التفتت لزينب عن يمينها تسألها عنها، وهزت هذه الأخيرة أكتافها.

ارتفعت الشمس حين نقوا خطين، وأرسلت بشعاعها تغمر هاته الشجيرات التي ما تزال في مبتدأ حياتها، ومع ذلك يعنى بها الفلاح والمالك أكثر من عنايتهما بأبنائهما. واصطفوا للوجه الثالث بعد أن فصلهم عن الأولين مصرف، فلم ينس إبراهيم أن ينبههم إلى أن هذه الجهة أغلت من سابقتها، وتستحق لذلك عناية أكبر، وأنذرهم أنه سيدقق في مراقبتهم، ومن وجد وراءه شيئًا أوراه شغله.

•••

جاء الكاتب ساعة العصر يقيد الأسماء، فقيد حماره، ونزل وسط الغيط ليرى الأنفار بنفسه، وأراد بعضهم أن يحضر إليه ليسأله بعض دراهم، فعبس لهم وقطب حاجبيه. وبقي كذلك حتى انتهى من شأنه، ثم أخبرهم أخيرًا أن لا دفع قبل يوم السوق.

وفي ليلة السوق كان الكاتب في غرفته، ومعه ولد يبلغ الثانية عشرة من عمره يعينه على عمله، وأمامهما مكتب من الخشب الأبيض قد وضعت عليه الدفاتر. وقام مصباح ضئيل النور — «لمضة» خمس شمعات — يزيد نورَه ضعفًا ما على زجاجته من التراب. وعن جانب دواة بمقلمتها النحاسية، وعن الآخر زجاجة صغيرة ملأى لنصفها بالحبر. وأحاط بالمكتب جماعة من العمال أمسك «التملية» منهم دفاترهم بيدهم، وانحنى الآخرون يسألون عن عدد أيام شغلهم، وعلى شباك الغرفة وقف أولاد وبنات وشبان يعلوهم الصمت ساعة، ثم يتكلمون جميعًا بين أسنانهم، يظهرون حنقهم على هذا الكاتب الذي يضايقهم ساعة أخرى. وبعد أن طال بهم الوقوف صدر قرار بأن الدفع سيكون في السوق.

هنالك عم الاستياء وصرت تسمع من جوانب شتى: واللي مش رايح السوق؟

وتكررت هذه الكلمة وسواها من مثلها. ثم بلغ الاستياء أن صمم بعض العمال على الذهاب إلى المالك نفسه لتقديم شكواهم إليه. وفي تلك اللحظة مر أحد أقاربه المحبوبين عند العمال، ومن لهم بعض الجرأة عليه، فأحاطوا به، وجعل كل يشرح له عذره، فيرضي خاطرهم بكلمات تسرّهم ولكنها لا تفيدهم شيئًا.

انصرف الأكثرون منهم مقتنعين أنهم في صباح الغد سيقبضون، وآخرون رجعوا إلى الكاتب يسألونه عن قيمة ما لهم، فإذا لخليل أبو جبر ستة أيام، أي ثمانية عشر قرشًا. أما عطية أبو فرج فقد أمضى أكثر أيام أسبوعه مريضًا، فخرج منه بستة قروش، وهو يعول امرأة وبنتًا صغيرة، ويساعد أمًّا له دقتها الأيام، ولم يبق لها من أبنائها من يعينها سواه. بالرغم من الخلق المرقوع الذي يلبس هو وبقية أفراد عائلته فلم يكن من سبيل لغير هذا ما دام الأجر على ما هو عليه من ضعف. وإنه ليحمد الله على كل حال، وعلى أن جاموسته لم تمت كما حصل لجاره مبروك أبو سعيد، فتضطره لأن يبقى في المصيبة شطرًا من عمره.

في الصباح حضر الكثيرون منهم من جديد إلى الكاتب. ومن جديد عبس في وجههم قائلًا أن ليس معه «فكة». وبالرغم من إلحاح بعضهم وإقرار الآخرين عملهم فقد خرج المالك وهم لا يزالون يناكفون الشيخ علي، والشيخ علي لا يسمع كلامهم. فذهب منهم من يشكو للسيد محمود أمره، وإن كان يعلم أن السيد يعيرهم في الغالب أذنًا صماء. ولكنه في هذه المرة نادى كاتبه، وأخذ بنفسه أمر إرضاء هؤلاء المساكين الذين بشّت وجوههم، وافترت بالسرور ثغورهم، وجعلوا كلما رأوا الكاتب خارجًا من عند السيد ينظرون إليه ويتغامزون. وأنسى الشيخ علي أمرهم ما هو فيه من كرب، إذ أخذ عليه سيده غلطة في الحساب، فهو يعنفه من أجلها. وأخيرًا صرف العمال بعد أن صرف لهم أجورهم، وذهب الكثيرون منهم وهم أشد ما يكونون فرحًا، خصوصًا وأنهم رأوا الكاتب صغيرًا أمامهم.

ذهب الكثيرون منهم إلى السوق. ولقد كان هناك أبو زينب منتظرًا أن يرى الكاتب فيأخذ منه أجر أبنائه. ولم يبطئ الشيخ علي، بل ما لبث أن تلقى أوامر السيد حتى ذهب هو الآخر للسوق، وصرف لهؤلاء الآخرين استحقاقهم بعد أن حصل على «الفكة».

•••

تقضت أيام بعد ذلك وزينب تذهب لنقاوة القطن تحت رياسة إبراهيم، حتى إذا جاء وقت الحصاد انتقلت هي وأختها وأخذ الرياسة عليهم حسين أبو سعيد. فكانتا تذهبان هما والعمال تحت جنح الليل الأمين وينامون في الغيط، تكلؤهم السماء حتى منتصف الليل، ثم يقومون وقد أعطت الرطوبة عيدان الغلّة شيئًا من اللين بحيث لا تتقصَّف تحت كل يد لامسة، فيجيئون بشراشرهم على هذه المزرعة الواسعة.

في هاته الليالي الساهرة، هاته الليالي البديعة يموج في جوّها نسيم الصيف البليل، وتتلألأ في سمائها الكواكب اللامعة، يقوم جماعة الفلاحين فيعتاضون بها عما يناله المترفون من أسفارهم إلى أجمل بقاع الأرض، وعن دُثُرهم الناعمة يستعيضون القمر الساهر يكلؤهم بحراسته. وفي جوف الظلمة الصامت الأمين يرسلون بآمالهم وأمانيهم، ويحمل هواؤها الحلو أغانيهم على جناحه، ويملأ بها ما بين السموات والأرض.

في هاته الليالي تجد الكواعبُ من بُنَيَّات الفلاحين مسرحَ آمالهن، وتجد القوية المتفوقة منهن السبيل إلى الظهور حيث تسبق الآخرين وتضطرهم بذلك للإسراع وراءها — حتى هذه الطوائف الفقيرة أحوج الناس إلى التعاون، تعمل المنافسة في نفوسهم وتسوقهم بذلك للجدّ والعمل، ولكنها الطبيعة تريد أن تستعبد الإنسان وتستغله، لتزيد الكون حركة وسيرًا، فتعمي على الفرد، وتسحره عن نفسه، وتدفعه لإتمام غرضها. فالواحد مهما عمل، ومهما جاهدت المدنية لإظهار شخصه، مسخر للجماعة يخدمها، مسوق لذلك بالرغم منه. وهو مهما كانت نواياه أنانية يعمل غير شاعر لخير الجميع. أليس من خيره أن يغير نواياه؟

وقد أبدعت الطبيعة في زينب وأعطتها بذلك تاجًا معترفًا به من كل صويحباتها. فإذا ساقك الحظ أيام الصيف، وخرجت في ليل غاب بدره، وتألقت نجومه فخففت من سواد الليل، وإن لم تقدر على تبديد ظلمته، أو كنت أسعد حظًا واتخذك القمر رفيقًا، فأدلجت بين تلك المسطوحات الزراعية الكبيرة. لم يكن لك بعد نقطة معينة إلا أن تسير في طريق لا تعرف سببًا لسيرك فيه، وتندفع مجذوبًا بقوة لا قبل لك على مقاومتها، ويسبق رأسك قدمك، ويسوقك موقفك وذلك الجاذب وهواء الليل الجميل إلى أن تهمهم بين أسنانك، أو تنادي آهة المستحسن الطرب، أو تدعو الليل يجيبك صداه، ولا تزداد في كل ذلك إلا اتباعًا لقائدك المحبوب. ثم تصل إلى نقطة تقف عندها، ولا تطاوعك قدمك إلى أية ناحية أردت تحريكها، وتمد عنقك وتسترجعه، يستخفك الجمال ويلعب بقلبك الهوى، وتروح تائهًا عن كل ما حولك. ثم يرتفع ذلك الصوت الذي جذبك إلى موقفك ثانية، فتصيخ له بأذنك، وتصغي بكليتك، فإذا زينب تحدو والعاملات من بعد ذلك يجبنها.. تلك موسيقى الصيف في ليله البديع، ترسل في أذن الخليقة النائمة نغمة الهوى، وتبعث في قلوب العاملين العزاء عن ليلهم الساهر. وهل هذا الصوت الذي تردّده الظلمة الصامتة إلا مهيج في النفس أجمل ما يعزيها عن كل مشقة؟!

فإن أنت تابعت سيرك، واتبعت الصوت حتى صرت على مقربة منه، رأيت في البحر اللجيّ من شعاع حائر في السماء الأطفال والفتيات وقد انثنوا فقبضوا بشمالهم على سيقان القمح النائم بعضه فوق بعض كأنه نشوان طرب بتلك العوامل الكثيرة التي تبعث إلى قلب المحزون ما يستخفه ويستهويه. وباليمنى على شراشرهم — تلك نصف الدائرة الحديدية التي وعت عهد فرعون وتسللت مع الزمان إلى عصرنا الحاضر.

وتصل عند العمال فإذا زينب بين الجمع في الطليعة، وقد انسدل إلى جانبها جناحان من العاملات، وكلهن في جدهن وعملهن يرددن حداءها بعد أن حمله الهواء على موجاته ونادى به الليل الصامت في كل الأنحاء، والقمر قد انحدر إلى المغيب ينظر إليها نظرة الصبّ قد ناله الشحوب فهو ذاهل في نشوته. وأحاطت بذلك غيطان القطن الأخضر الذي ما يزال طفلًا.

ها هي ذي زينب في تلك السن ترنو إليها الطبيعة وما عليها بعين العاشق، فتغض طرفها حياء، وترفع جفونها قليلًا قليلًا لترى مبلغ دلها على ذلك الهائم، ثم تخفضها من جديد، وقد أخذت مما حولها ما ملأ قلبها سرورًا، وأضاف إلى جمالها جمالًا ورقة، فزاد الوجود غرامًا بها وزادها به تعلقًا ووجدًا. وهكذا كلما اجتلى أحدهما من صاحبه نظرة ذهبت منه إلى أعماق النفس فانطبع الكل في قلب الفتاة، وتوجت الفتاة حياة الوجود المحيط بها. فهل قنع كل منهما بحظه ورضي نصيبه؟!

أما الوجود فقانع راض أشيب، علمه تعاقب الدهور أن الاسترسال في تحديد الغاية بخطوط الخيال جري إلى حيرة اللا نهاية، وأن كسب الحاضر حتى يحضر المستقبل أوفر الربح. وأما الفتاة فهي في سعادتها حيرى تائهة، وفي حيرتها سعيدة فرحة. أحست في نفسها بمكانتها، ولكنها تريد أن تختص من الكل العظيم غير المحدود روحًا إنسانية تختلط مع روحها، ونفسًا تسيل مع نفسها، ثم يظل الباقي وبينها وبينه من الصداقة ما يزيد في حظهما من السعادة. ذلك كل حلمها وأملها وإن لم تستعجل به الزمان، ولا خطر ببالها أن في طاقة الحوادث أن تمنع تحقيقه.

فإذا ما تنفس الصبح، وطلعت الشمس وبعثت بنورها على البسيطة، وتلألأ الطلّ تحت أشعتها، ثم بلغ به الإعجاب بنفسه أن لم يرض بمقامه السفلي، وطار يطلب السماء، فترك عيدان القمح ترجع إليها صلابتها — تعاون العمال جميعًا على جمع ما حصدوا وأعدوه أحمالًا، وانتظر بعضهم الجمل الذي ينقلها إلى الجرن، في حين يرجع الآخرون أدراجهم إلى دورهم، فيقضون نهارًا قليلًا نومه مشتغلين بتجريد بهائمهم التي تنتظر أيام الحرث القريبة. وهناك على شواطئ الغدران والترع يقضون ساعات نيامًا تحت الشجر تعوضهم من كدّهم لعمل الليل المقبل.

وتقضت أيام الحصاد هي الأخرى، وانتقلوا لعمل جديد. واستعاضوا بذلك مكان الليل المقمر ونسيمه العذب وآماله وأحلامه نهار الصيف وشمسه المحرقة.. ولكنهم ما كانوا ليحسوا بذلك أو ليألموا له وقد تعودوه كما تعوده آباؤهم من قبلهم. تعودوه من يوم مولدهم، فانتقل إليهم بالوراثة وبالوسط. وتعودوا ذلك الرق الدائم ينحنون لسلطانه من غير شكوى ومن غير أن يدخل إلى نفوسهم قلقًا. يعملون دائمًا ومن غير ملال، ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم زاهرة ناضرة، ثم يقطف ثمرتها سيد مالك كم فكر في أن يبيع قطنه بأغلى ثمن، ويؤجر أرضه بأرفع قيمة، وفي الوقت عينه يستغل الفلاح نظير قوته الحقير، ولم يدر بخاطر السيد يومًا أن يمد له يد المعونة، أو أن يرفعه من درك الرق الذي يعيش فيه. وكأنه ما علم أن هذا المجموع العامل يكون أكثر نفعًا كلما زادت أمامه أسباب المعيشة وتوافرت عنده دواعي الطمع في أن يحيا حياة إنسانية.

لكن السيد المالك لا يهمه شيء من ذلك. وهو الآخر يعيش كما عاش آباؤه، يحافظ على القديم، ولا يفكر في أن يغير من عادات سلفه شيئًا. وإذا حدّثك عن الماضي حدّثك عنه باحترام وتبجيل آسفًا أن انتقل أجر النفر الشغال أيام الشتاء من قرش إلى قرشين، وتمنى عودة ذلك الزمن زمن البساطة والرخص، لا لأنه يشكو مما يثقل عاتقه في الحاضر من الواجبات — فإنه يرى الحاضر أحسن كثيرًا من هذه الجهة — ولكن لتسقط الأجور إلى مستواها الأول، فيكون هو بذلك أوفر ربحًا، ويبقى العامل والفلاح لذلك في ظلمته وفي رقه وشقائه.

٢

للسيد محمود رب هاته الضياع عائلة طويلة عريضة، خلفها المرحوم والده الذي توفي عن أربع زوجات غير اثنتين ماتتا في طريق حياته. وبالرغم من الكثيرين جدًا من أولاده الذين كانوا يموتون قبل السادسة من عمرهم — وهم خمسة وعشرون فيما يذكر السيد محمود — فقد بقى له يوم مماته اثنا عشر ولدًا من ذكور وإناث. ولهذا كانوا يتفاوتون في السن ما بين خمسين سنة لأكبرهم وثلاث لطفل لا يزال في حضن أمه الشابة. وورثوا جميعًا شيئًا غير كثير. لكن السيد محمود، باعتباره أكبر إخوته الذكور، كان قد جمع من كده وبمعونة والده ثروة غير قليلة، وأصبح هو وارث اسم العائلة، وطبعًا الوصيّ على إخوته القصر. وقد كان من أطيب الناس قلبًا، وأصفاهم سريرة، وأحبهم لإخوته، وأحناهم على الصغار منهم. فمع ما هو مجسم في نفوس الإخوة من زوجات مختلفات من عدم ثقة بعضهم ببعض، ومع ما تزرعه أمهاتهم في نفوسهم من معنى الانفصال، فقد كان هذا الرجل يعامل إخوته الصغار معاملة الأبناء. ولعل ذلك جاء فوق طيبة خلقه من وصية أبيه له وهو على سرير موته بصوت واجف وعبرة تنهمل بالرغم منه من مآقيه الفانية ومن تلك العيون التي كانت تودع في نظراتها الأخيرة عالمنا وما عليه: وصيتك إخوتك يا محمود. هم أولادك.

أما أبناء السيد نفسه فهم أبناء زوجة واحدة ويبلغون الثمانية عددًا: أربعة بنين وأربع بنات. ولقد عني السيد بهم جميعًا وأرسل للتعليم من أبنائه كل من تحتمل سنه ذلك. أما من جهة التربية فقد كان أقرب إلى تركهم لنفوسهم. ولم يكن هو نفسه يدري سبب ذلك. ولا يمكننا أن نعلل هذا الترك من جانبه بسبب مفهوم. الرجل رجل طيب كغيره، وكان من المعقول جدًا أن يضع أبناءه تحت مراقبة ضيقة كما هي عادة أمثاله، أو على الأقل أن يجعلهم في حضوره مثال الصمت والسكون كمقتضيات الأدب المصري. صحيح أنه ظاهر الجد إلى أقصى الحدود ساعة حضورهم، ولكنه لم يكن من الرهبوت بالمبلغ الذي عليه أمثاله. ولهذا السبب من جهة، ولأنه من الأعيان الأغنياء المصريين من جهة أخرى، لم نقدر على القول بأن تركه الحرية لأولاده نتيجة نظرية في التربية رآها، أو لأنه من أنصار سبنسر في وجوب جعل الطفل معلم نفسه بقدر الممكن، فلا يتعرض له فيما يعمل إلا عند تحقق الخطر الجسيم منه.

لذلك كنت ترى الكثيرين منهم يقضون أيام مسامحاتهم السنوية في الغيطان، وكثيرًا ما يبيتون هناك ليالي الحصاد مسرورين بهواء الليل وغناء العاملات، أو إلى جانب «تابوت» يزِنّ من غير انقطاع. لكن حامدًا أكبرهم لم يكن بهذه الطباع. بل كان شديد الميل إلى البقاء بالبلد، وفي دار الضيافة مع الناس. والسبب في ذلك راجع إلى تربيته الأولى حين كان والده متفرغًا له، جاعلًا إياه شغله، متخذًا منه ألعوبة يقلب فيها كما يشاء. يسرّ بها أحيانًا فيغدق عليها من رضاه ومن نفسه، ويلاطف ذلك الطفل الذي يحبه من كل قلبه، والذي يحس به جزءًا من نفسه. ويغضب أخرى فيضربه من غير رحمة لولا أن تتدخل جدته وتؤنب ابنها على عمله.

حين بلغ حامد الخامسة من عمره كان طفلًا كثير الدلال، كثير البكاء، موضع الإعزاز من جميع من في الدار. وبالرغم من هذه السن كنت كثيرًا ما تراه محمولًا على أكتاف النساء أو على أعناق الرجال، وكانت أحب الساعات لنفسه الساعات التي يقضيها لعبًا مع ابنة عمه عزيزة حين كانت تجيء إلى القرية مع أمها. ومع أنه أكبر منها بسنتين في العمر فقد كان ظاهر التودد في معاملته إياها؛ لذلك لم تبطئ جماعة المحيطات بهما من النسوان أن يجعلن كلًا منهما عروس صاحبه.

ذهب به أبوه بعد ذلك للكتاب ثم المدرسة. ومرت السنون وهو دائمًا موضع الحب من أهله الذين سرّوا بنجابته ونجاحه. وبقي دائمًا على عادته من المكث بين جدران البلد في حين كان أعمامه وإخوته يجوبون المزارع. وإذا صادف أن خرج مرة مع أبيه لم يكن يدري أين هو ولا ما يملكون.

•••

في ضحى يوم من تلك الأيام المحرقة حين كانت زينب تشتغل مع مثيلاتها بنقاوة القطن خرج حامد مع إخوته إلى المزارع. فلما وصلوا إلى العمال كان حضوره موضع غرابة عند أكثرهم من الذين لم يروه من قبل. أما إخوته فتدفعهم سنهم الصغيرة للنشاط وتوحي إليهم بحب السلطة؛ ولذلك كنت لا تراهم يأنفون أن يشاركوا هؤلاء الذين يكدون لقوتهم سويعات من الزمان، ثم يرجعون وقد سال جبينهم عرقًا يحتمون في ظل بعض الأشجار أو يجلسون مستندين إلى جذوعها، ولا يكاد يجفّ عرقهم حتى يرجع الواحد منهم، وقبل أن يصل إلى العمال يناديهم بأنهم كسالى وأنهم لا يشتغلون. فإذا كان عندهم أحسّ بشيء في نفسه يمنعه من الإقدام على العمل من جديد، وكأنه يخاف أن يتعب مرة أخرى فلا يقوم بعمله مصداقًا لقوله وندائه.

أما حامد فقد بقي يتصفح الوجوه ويلقي من حين لآخر سؤالًا يستفهم به من إبراهيم رئيس العمل عما عنده. فلما مضت ساعة على ذلك لم يحتمل البقاء تحت حرّ الشمس، فالتجأ إلى ظلال الأشجار وبقي مع أخ له يتحدثان.

ثم قام أخوه وبقي وحده، فبعث بنظره إلى ما حوله وإلى هؤلاء العمال على مقربة منه غارقين في النور والنار منكبين على العمل. فإذا رفع أحدهم رأسه ناداه إبراهيم أو أحد من «الأفندية» إخوة حامد وأعمامه. وفي لحظة تاهوا عن باله، وانفرد هو يناجي نفسه، ويذكر الأمس القريب حين سافرت عزيزة من القرية بعد أن قضت فيها أيامًا. وبعد أن جلسا مرارًا يتحدثان ومعها أخوها وعمة حامد وكلهم فرح مسرور. ذكر ذلك الأمس وكأنها لم تزل باقية في نفسه كلمة النساء اللاتي جعلن منهما عروسين من أيام طفولتهما، فنما معه الإحساس بأنه سيملك يومًا هاته الفتاة، فيجب أن يحبها. وفي هذا الوسط المصري وبمثل تلك التربية التي نشأ حامد في أحضانها لا يتسنّى للشاب أن يصل إلى صورة من حقيقة الحياة، بل هو يعيش في خيال غير محدود، يخلق لنفسه منه السعادة والألم، ويصور على ما يشاء الحاضر والمستقبل، ويستند كثير من الشبان على هذا الخيال في أعمالهم، ويصبغون الأشياء الخارجية بلونه الذي يكذب غالبًا في الواقع. وبالرغم من أن الحس يكذب تصورهم فإن سلطان خيالهم عليهم قوي لدرجة يتغلب معها على حواسهم، ويجعلهم لا يعتقدون ما يرون، أو يفسد حكمهم وتقديرهم لما هو أمامهم. فإذا كانت عزيزة شديدة النحول فذلك لدقة في قوامها، وإذا كانت شاحبة اللون فهي أشبه بالقمر الشاحب، ومهما تكن قليلة الجمال فإنها أمام حامد في جمال الزهرة، وإذا كانت نفسها خِلْوًا من المعرفة فتلك طهارة ملاك الحب.. وبهذا الخيال الذي يهيمون وراءه يعتقدون أنهم خلقوا لأنفسهم سعادة المستقبل الذي هو على ما صوّروا العالم الجميل المملوء بالمسرات والأفراح، والذي يجلس الواحد منهم فيه مع صاحبته التي يحبها حبًّا حلالًا، لأنها زوجه، فينظران معًا لنجوم الليل، ويستمعان صامتين لأصواته.

فإذا جاءتهم الحياة الجدّ، واضطرهم العمل للنزول عن معظم أوهامهم، دخل اليأس نفوسهم مكان الآمال القديمة الطويلة العريضة.

أما عزيزة فقد علّمها أبواها القراءة والكتابة إلى أن بلغت العاشرة من عمرها، حينذاك بعثوا بها إلى معلمة تعلمها الخياطة والتطريز، وبقيت معها سنتين. ثم انقطعت عن ذلك كله، ولبست «حبرتها»، وانقطعت بذلك عن مقابلة الأكثرين من معارفها. وابتدأت حوالي الرابعة عشرة تقرأ روايات كانت تقع تحت يدها. ومع ما كانت تعاني في ذلك من الصعوبة فإن قَصَص الحب حلو ومحبَّب لنفس كل شاب وفتاة. وليتها كانت تقرأ شيئًا حسنًا من أقاصيص الحب، فإن ذلك مع الأسف معدوم. فوق هذا فكل كلام غير اعترافات المحب لحبيبته وغير خلواتهما، وكل ما خرج عن مجرد القصص البسيطة، لم يكن يسترعي نظرها إن لم يضايقها. ولقد كانت ضعيفة الجسم من أيام طفولتها. وليست الحياة الساكنة التي تعيش بداعية قوة أو صحة. لذلك بقي هذا الضعف عندها. وما كادت تختبئ في الدار حتى ابتدأ لونها يزداد ذبولًا وجسمها نحولًا. ولا يمر عام حتى تحس بحاجة شديدة لتجديد الهواء واستعادة صحتها التي تذهب مدة الشتاء فريسة رطوبة بيتهم الواسع الذي يعيشون فيه، والذي كان من أسوأ الأشياء أثرًا عليها بما يزيدها ضعفًا على ضعف.

لكن الطبيعة العادلة تعلم أن ذلك ليس ذنبها ولا ذنب مثيلاتها. فإذا أصبحت هي من المخدرات بعثت إلى نفس واحد من أقاربها وبني عمها الذين كانوا يلاطفونها أيام صغرها خيالًا محبوبًا منها، وجعلته دائم الذكر لها.

بعث حامد بأحلامه وخيالاته، وصور لنفسه عزيزة على ما يشاء. وبقي كذلك حتى آذن الظهر أن يزول وجاء وقت المقيل، ولم يبق للعمال إلا أن «يطلعوا بالوش» الذي معهم. فلما انتهوا منه جاءوا جميعًا تحت الأشجار، وفرد كل منهم منديله. وفي الوقت عينه وصل من البلد غداء حامد وإخوته تحمله خادمتهم فجلسوا جميعًا وتناولوه في لحظة.

ثم آن لوقت المقيل أن ينقضي، وقام الأولاد والبنات إلى عملهم، وقام وراءهم إخوة حامد، وبقي هو وحده من جديد، فمال إلى ظل الشجرة ونام. وبعد ساعة مر قطار العصر فأزعجه من نومه، فذهب هو الآخر يرى ما يدور في الغيط. ولقد كانت لإبراهيم عليه دالة، لأنه كان معه أيام المكتب، فلم يكن بينهما من القطيعة ما بين حامد ومعظم العمال من أهل البلد وممن يسرحون إلى مزارعهم. لذلك كان إبراهيم يجيب حامدًا عما يسأله ببساطة وعلى ثغره ابتسامة دائمة.

ولما رأى الأولاد من حامد ذلك، وأنه ليس متكبرًا لدرجة أنْ لا أحدَ يستطيع محادثته، حسب بعضهم أن من أسباب التفوق على أقرانه أن يحادثه، لكن حامدًا ردّه إلى عمله بأن لم يجبه بشيء على حديثه. فانبرى شخص آخر ظن نفسه أقدر على قول يستلفت النظر، فخاب ظنه، وسمع من أحد الأفندية ما لا يرضيه.

وتصفح حامد وجوه الموجودين واحدًا بعد آخر، فأخذ بعينه جمال زينب، ولم يستطع أن يمنع نفسه عن السؤال عمن هي وهل تحضر غالب الوقت إلى الغيط؟

وانقضى ذلك النهار، وانصرف الكل إلى دورهم. وما لبث حامد حين صار بين أهله أن نسي كل ما كان فيه. وتعاقبت بعد ذلك الأيام، وتعاقب معها العمل، وما كان لأحد من العمال أن يشكو حرّ الشمس أو لظى القيظ. هم يسيرون دائمًا بخطىً ثابتة وأقدام قوية، لهم اليوم من الصبر والاحتمال ما كان لأجدادهم في العصور الفائتة: ذلك الجلد الذي يبتدئ مع القدم ويسري في الزمان من فلاح فرعون إلى فلاح إسماعيل، وإلى فلاح اليوم، والذي يجود على هاته الطائفة التعيسة بشيء من السعادة في الحياة، ويجعلها أمام تلك اللا نهاية من الفقر تحتمل مضض الأيام، وعلى وجهها الناشف ابتسامة القانع.

figure
أحست به يمد يده يطوق بها خصرها ويجذبها نحوه.

طابت لحامد المزارع حين رأى ما فيها من جمال؛ فالنبات والشجر والغدران والهواء الحر والعاملات القويات، جعلته يتردد عليها كل يوم أصيل النهار. ونسي عزيزة شيئًا فشيئًا، وصار من سروره الخاص أن يرجع مع العمال جنبًا لجنب. ويزيده سرورًا ما يجد في ذلك من الحرية والتحلل من القيود الثقيلة الباردة، قيود العادة. كما أن ما ارتكست فيه بنات طبقته من الحجاب يجعل كل شاب في سنه، سن الحياة والحرية، يبغي عند غيرهن ما تدفع إليه الطبيعة من حنين الرجل للمرأة، ومن ألفة الذكر للأنثى، ليجد كل في صاحبه ما يكمل عليه ناقص حياته. والواقع أن نصيب حامد من الميل البريء إلى جهة الفلاحات العاملات خير جدًّا من نصيب غيره الذين يندفعون لتضحية إحساساتهم وأنفسهم وأموالهم إرضاء لبغيّ أو جريًا وراء الشهوات. وإذا كنا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء الشبان بأنهم أخطأوا، لأن ما عملوا ليس من ذنبهم وإنما هو ذنب مجتمعهم المصري المبقي على عادة الحجاب، فإنا لا نستطيع أن نحسد حامدًا إلا أنه بلغ من الشر أقله.

وأخيرًا وقد اعتاد العمال واعتادوه جعل معظم حديثه ومسيره ساعة رجوعه طورًا مع إبراهيم وأحيانًا إلى جانب زينب. وقد أوحت له ببساطتها عن جمال نفسي لا يقل عن جمالها الجسمي. فكان إذا نظر لعيونها النُّجل قد تحصنت وراء أهدابها البديعة التنسيق رأى كأنها تشفّ عن عالم مملوء بالحب والرغبة. وإذا بصر بها وهي تسير بخطاها الثابتة نَمَّ له ثوبها عن جسمها الخصب، وزاد عنده في هذا الاعتقاد ما كان يجده في يديها من النعومة بالرغم من أنها تعمل بهما.

واستحكمت في نفسه عادة الذهاب إلى المزارع، وأخذت بنفسه زينب حتى لم يكن ليذر يومًا الذهاب إلى حيث تكون. وكأنما ذاقت هي الأخرى السرور بمجيئه، فلم تكن لتنقطع يومًا عن العمل، بل كانت تفضله على أعمال البناء في البلد بالرغم من أنها محببة لنفوس بنات الفلاحين جميعًا. والواقع أن حامدًا كان معها غاية في الرقة كما هي عادة كل شاب يتقرّب من فتاة يجدها جميلة. وأيًّا كانت طبقتها فجمالها يشفع لها. ورقّة الشاب وتودّده يسبيان الفتاة عن نفسها، ويجعلان منها أسيرة له. ما بالك بأثر هذه الرقة عليها إذا لم تكن تعودتها من قبل، ولا عرف أحد سوى حامد أن يقول لها كلمات تنم عن عطف وهوى. لكنها كانت دائمًا تنظر له كما ينظر الفلاح العامل للسيد المالك؛ أي نظر الاستسلام والضعف، وفي الوقت عينه نظر التخوف والحذر.

وبينما العمال راجعون من مزرعة بعيدة — وقد سارت زينب إلى جانب حامد وجعلت تحدثه حديثها المعتاد، وهو سعيد تائه في لذته بسماعها، وتائه في تلك الساعة بعد غروب الشمس حين الأشياء أشباح لا تكاد تتميز — أحست به يمدّ يده يطوّق بها خصرها ويجذبها نحوه، فتركت نفسها له لحظة حتى إذا أحست بشفتيه تقابلان شفتيها، وشعرت بكل ما في قبلته من الحرارة، انبرمت مرة واحدة مبتعدة عنه، ثم مالت برأسها نحوه، وقالت:

– أختي تشوفنا وبعدين تروح تقول لأبويه..!

لكن حامدًا أحسّ بقشعريرة تسري في كل جسمه، كانت أولًا قشعريرة الرغبة، ثم انقلبت مرة واحدة قشعريرة العظمة والترفع. ولقد خيل إليه كأن الماضي الطويل المملوء بالعقائد القومية والعادات يتجمّع كله ليسقط بحمله على رأسه. وصعدت إلى وجهه حمرة الخجل، وابتعد عن صاحبته بعض الشيء، وراح في خيالات مبهمة، ولم يعد يعلم إن كانت زينب ساكتة أو هي تتكلم.

فلما ترك العمال عند مدخل البلد ذهب إلى دار الضيافة، فشرب قهوة مع الموجودين، ونسي بذلك ما كان منه.

أما زينب فقد أحدثت هذه القبلة في نفسها سرورًا، وجاءت لها بأحلام شتى شغلتها عن حديث حامد طول الطريق. ومهما تكن هاته النفوس الفلّاحة تهتزّ عند ذكر كلمة العِرْض، فإن النفس الإنسانية وما رُكِّب فيها بالفطرة من حب تخليد النوع أقوى كثيرًا من العقائد العامة، ما دام عملها لم يخرج بعد إلى الظهور يكون موضع حكم الناس عليه. فما دام الواحد مع نفسه يحدثها، وينظر في آمالها ورغائبها، فهي تطلب دائمًا ما تدفعها الطبيعة لطلبه؛ تطلب الطعام ساعة الجوع والماء ساعة العطش وهَلُمَّ جرَّا. فإذا جاءت اللحظة التي يقضي لها الواحد فيها رغائبه رجع إلى تقدير آخر غير تقديره الخاص، فلم يبح لنفسه إلا ما يسمح له به الوسط الذي يعيش فيه؛ ولهذا كان الإنسان في نفاق دائم يزيد مقداره وينقص بمقدار الحرية التي يهبها الوسط لإقناع غاياته وأغراضه.

لم ينقطع حامد عن الذهاب إلى المزارع، ولا انقطع عن محادثة زينب والرجوع إلى جانبها. غير أنه كان أحفظ في حديثه وأقلّ كلامًا وهي لم تجد في عمل حامد إلا ما يدعو لقربها منه وقربه منها. فكانت أقل رفعًا للكلفة في الحديث، وإن لم يسمح لها حياؤها الشديد وما يوحي إليها جمالها من الأنفة أن تنزل لما يسرع بعض مثيلاتها إلى النزول إليه متى وجدت من مثل حامد سميعًا لما تقول. وسمح لنفسه بعد ذلك أن يقبلها مرة ومرة من غير أن يهزّه إحساس ما، وهو يقول في نفسه: «أليس طبيعيًّا أن يقبل شاب ابنة أعجبه جمالها»؟!

٣

جاء الخريف، وجاء معه على آخر أيام المسامحة السنوية، وسافر حامد مع إخوته، ودخل مع الأيام في عمله، وشغل به عن كل ما سواه. وجعل ذكر القرية وما فيها ومن فيها يدخل تحت ستار من النسيان، إلا أن يثيره ساعة بعض القادمين من ناحيتها، فيسأل حامد عما فيها وعن مجمل حالها.. فهل بقي لزينب شيء من الذكر عنده؟ وهل أحست زينب من بعده بمعنى الفراق؟ أو أن الحاضر شغلها عن الساعات الماضية؟

ما كان أشبههما كل واحد بصاحبه! غطَّى النسيان على تلك الأيام، وأصبح كلٌ مشتغلًا بنفسه وبعمله وبما يحيط به. فإذا ما خلا حامد بنفسه وجاءت فرصة ذكر فيها الريف وجماله، ارتسمت أمامه المزارع بكلها، وغدرانها الساكنة تشق الأراضي الواسعة، ويقوم عن جانبيها الشجر بكسائه الأخضر البديع، والآلات مشتتة هنا وهناك تدور فتبعث في الهواء نغمتها الحزينة الشاكية، ويعلو ذلك سماء صافية مهيضة بنور الشمس الساطع. فإذا ما جاء المغرب وانتشر الليل تلألأت النجوم في علوّها، وسَرَى النسيم الرقيق فأرسل للخليقة الهادئة أسعد الأحلام. وأحيانًا يذكر زينب ومن معها.

أما هي فاستمرت في طريق حياتها، تمر من كل يوم لغده، فتجد بينهما من الشبه؛ إنهما يسيلان هادئين يقطعان في عمر الوجود العتيق، ويحملانها وأحلامها ليسلماها إلى ما بعدهما. وهي تنتظر بآمالها القديمة أن تتحقق. والزمان ينساب أمام عينيها، وهي ترنو إلى المستقبل بأملها، والمستقبل يأتي كذلك فيمر بالخليقة فيزيدها قدمًا.

جاء الخريف على كل ذي ساق، ولم يبق إلا النبت الأخضر يغطي وجه البسيطة وقد انكشف لمقدم الشتاء. ومزارع البرسيم تذهب أمام البصر إلى اللا نهاية. وأقفرت الأرض من بني آدم، جماعة العمال وأصبحت مرعى للنعم التي شاركتهم أيام نصبهم. وها هي ذي ترتاح أن جادت عليهم الطبيعة ببعض الراحة، فتراها في رعيها وكأنها في شهور عيدها ترفع رأسها ما بين آونة وأخرى، ثم تزعق فتملأ أذن الطبيعة الصامتة. ويجيبها من الجو جماعة الطير من قطاة أو قمرية تصبّ من علوّها أغاريد الشتاء، وتصدح بصوتها الرخيم الهادئ فتملأ أذن الطبيعة بما يذهب روعها ويرد إليها هدأتها. ثم على مرمى النظر ترى عشًّا من الحطب الناشف أبيض لا غبرة عليه قد غسله المطر والريح. وفي تلك الفتحة الضيقة التي يسمونها بابه تلمح أردية سوداء لا حراك بها، فإذا اقتربت رأيت نارًا موقدة قد غطاها التراب، وحولها ومن تحت تلك الدفافي تطل وجوه الفلاحين السمراء وهم يتحدّثون إلى جانب ذلك القليل من الحرارة، وقد اتخذوا عشهم درءًا من تيار الهواء الشديد في ذلك الفصل من السنة. ثم ما بين ساعة وساعة يقوم صغير من بينهم ليرى أمر هاته الدواب الراتعة في مرعاها. وإذا أرسلت بنظرك على طول الطريق رأيته خاليًا إلا ساعات من النهار يسرح فيها الشغالة أو يرجعون. وما سوى ذلك فقلّ أن تدوس السكة قدم.

•••

قبيل الغروب في يوم من أيام ديسمبر، تلك الأيام الباردة التي يلفح البرد فيها الوجوه، ويسمع الواحد صرير أسنان صاحبه، كان يسير على الطريق بين هاته المزارع شخصان منصرفان إلى البلد، وكانا يتحدثان عما ينويان عمله بالليل:

– أما أنا فرايح دار عمي سعيد أحضر «الفكة»، ونسقف ونشوف مصطفى وبنت أم السعد وهما بيرقصوا.

– لكن يا أخي هو العرس وقتيه؟ أدي الكتاب مكتوب من سنتين وما حدش عارف حيفرحوا امته؟

– سمعت أنه بعد العيد بجمعتين. والعيد أهو فاضل عليه ثلاثة أيام. يعني فاضل على العرس حسبة عشرين يوم.

ذهبا إلى «الفكة» كما ذهب كثير غيرهم، وبقي الكل يتردّدون عليها. ولما جاء حامد ليقضي أيام العيد بين إخوته وأهله، وسمع بالفكة وما فيها من التطبيل والتصفيق والرقص، استخفته نفسه أن يذهب إليها. فصحب صديقًا له وسارا يتضاحكان سلفًا في انتظار ما سيريهما هذا الليل العجيب.

جعلا يتغلغلان بين أزقة القرية حتى كانا عند الجامع يقوم بهدوئه وسكونه يذكّر بالموت وما بعده. ترنّ فيه الأصوات مسبّحة مقدّسة ساعات الصلاة، ذاكرة ما وراء هذه الدنيا الفانية حيث الناس دائمو اللهو مقيمون على الفتك والجنون، ولكنهما بقيا كما كان يضحكان ناسيين في شبابهما الساعة الرهيبة التي تنتظرهما كما تنتظر سواهما. وكل همهما أن يصلا إلى دار عمي سعيد، ليريا ضجّة السرور وضوضاء الأفراح، ويسمعا الضحكات العالية يرسلها أولاد الفلاحين، فترن في الهواء تحكي فراغ بالهم وسذاجة نفوسهم.

دخل حامد مع صديقه. وما عتم أن عدى عتبة الدار حتى رأى أمامه جماعة من الفلاحين لا يكاد يكون وسط دائرتهم فتاة واحدة، بل كلهم من الشبان. أما من أردن من الفتيات أن يكنّ على مقربة فقد بقين حول هذا الجمع غير المنتظم يضم بين جنبيه الواقف والجالس والمتكلم والصامت واليقظ ومن تتلاعب برأسه رسل النوم، ويضيء على الكل مصباح ضئيل النور هو وحده الحزين في هذه الدار الراقصة في سرورها، المنتظرة يوم الفرح الأكبر تستعد له يومًا بعد يوم. ويرسل هذا الحزين بأشعته الحمراء على هاته الوجوه التي عمل فيها الشقاء والشمس وبرد الشتاء، فهجرتها النعومة وإن بقيت لها بشاشتها.

ولقد غطى على أصوات المتكلمين، فلا يميزها مميز، صوتُ «الدربكة» أمسكها بيده من يتقن النقر عليها. وامتدت عيون اليقظى إلى الراقصين وسط حلقتهم.

لما رأى حامد هؤلاء العمال تذكّر أيام الصيف، وجعل ينادي من بينهم جماعة الفتيان والفتيات الذين عرف وقتئذ، فيسألهم عن حالهم وما صار إليه أمرهم. ويخبرونه جميعًا أنهم يشتغلون كما كانوا من قبل، ولا يكاد يتركهم حتى يرجعوا إلى إخوانهم وينسوا حامدًا وكل ما يسأل عنه، ويعطوا أنفسهم لهذا السرور الجم تنهل منه: تلك فرصة لا ينبغي إضاعتها و«ساعة الحظ متتعوضش»..!

وفيما هو يتصفّح الوجوه وجد أخت زينب واقفة مستندة إلى الحائط تكلم جارة لها، فسلم عليها وسألها عن أختها. ولكنها لا تعلم إن كانت فوق السطح تتفرج من الدرابزين كعادتها كل ليلة، أو هي قد راحت إلى الدار. فصعد على أمل أن يراها ويسلم عليها. وارتقى السلم بعد أن اخترق هذه الجموع التي لم تترك في المكان شبر فضاء. فلما كان عند الدرابزين فوق السطح الممتد عليه رواق الليل الحالك الظلمة وجد زينب جالسة وحدها، فأخذ مكانًا إلى جانبها، ونبهها بحركة لطيفة لوجوده، لكنه دهش لهذه الوحدة التي وضعت الفتاة فيها نفسها تاركة الدار والضجّة والضحك، لتبقى منفردة تحت رحمة الشتاء. لذلك لم يزدد دهشة أن رآها حين التفتت إليه بادية الذهول ثابتة العين. وبعد لحظة سألها: ازيك يا زينب..!

ولكن زينب كانت في تيهاء حتى لم تستطع تمييز ما يقوله لها حامد، فحولت نحوه عينيها، وأجابته بنظرة تحوي من الرقة والألم ما ذهب إلى أعماق نفسه. ولو لم يكن ما في المكان من ظلمة ليل الشتاء آخر الشهر لذابت لهذه النظرة نفس الوجود. لكن الحلكة السائدة لم تبق من ثالث يحس مع حامد بما حوته النظرة الأليمة!

وازيك يا زينب..

كرّر حامد سؤاله، وأخذ يدها بين يديه، وقبلها على صدغها قبلة أخوية. الواقع أنه أحسّ كأن الفتاة المسكينة تعاني ألمًا نفسيًّا لا يعزيها عنه أحد، فأخذته الرحمة بها. وتقبلت زينب منه ذلك بقنوع وشكر نمّت عنه نظراتها. فلما رآها كذلك زاد عطفًا عليها، فجذبها وجعل يلاطفها، وهي قد تاهت عن نفسها، ونسيت الماضي والحاضر، واستسلمت للطفه ورقته، وتركت نفسها مستندة عليه. لكنها لم تلبث أن عَرَتْها قشعريرة حين ذكرت أن قلبها ليس بيدها. وفي لحظة غطَّت عيونها النُّجل سحابة من الدمع، تنم عما عراها من الحزن وتعبّر عن عظيم تقديرها لحامد.

تمر علينا ساعات وقلبنا ملك غيرنا، ولكن لثالث على أنفسنا من السلطان ما نودّ لو أعطيناه كل حياتنا، فيحزننا الإحساس أنها ليست لنا، وأن أيامنا على الأرض وما تكنه من سعادة وألم وحزن وفرح انتقلت من حوزة يدنا وأصبحت في حيازة غيرنا — في تلك الساعات ونحن ننظر لهذا الثالث تَعْرونا قشعريرة حين نحس بالعجز دون كل شيء نريد أن نهبه إياه.

•••

مدّ الظلام رواقه على الوجود العظيم، فلم يكن يبدّد قوته إلا تلك المصابيح الضعيفة ترسل أشعتها الذهبية في دائرة ضيقة مما حولها، فتظهر كأنها جرح دام في جسم ذلك الجان، أو هي سلاح الفلاح لم يتغيّر بالقرون يمتشقه كلما خذلته السماء واحتجب عنه نورها. في ذلك الليل حكم بسلطانه القاهر على الموجودات، فخضعت لجبروته، وعنت لحكمه، وتساوت أمام سطوته الحزون والوهاد — نظراتٌ كانت تخترق ظلماته كلها الحيرة خالطها الأسى، ويريد أحد هذين الصامتين — وقد علاهما الذهول — أن يستطلع ما في نفس صاحبه، والآخر في جماله يحوي من الغيب ما يقف أمامه صاحبه حيران عاجزًا. في مثل هذا الموقف لم يكن لحامد إلا أن يقطع سكوتهما الطويل بالسؤال عما خلفت الليالي مما غاب عنه. حينذاك تنهدت الفتاة تنهد الرضا، إذ علمت أن في الوجود نفسًا تهتم لها، ثم قالت إنها مسرورة، وأنْ لا شيء قد جاءت به الأيام. ورجع الصمت الأول، حوّل مل منهما نظره إلى جهة الراقصين والضاحكين.

انساب الوقت هادئًا وكلٌّ منهما يحس بالسعادة في وجوده إلى جنب الثاني.. ثم نادى بحامد صاحبه الذي جاء معه، فودع زينب وقام. ونزل السلم بالسكون الذي امتلأت به نفسه، فلما صار وسط الدار ووسط الضجة والتصفيق ووسط السرور المجنون أحس بقلبه يهتز، وأحس بتلك القداسة التي كانت تشتمل كل وجوده حين لفّه الليل وهو إلى جوار زينب في ردائها كأنها تتطاير، ويحتل مكانه هذا السرور الجم الذي يحيط به. وما لبث إذ صار على الطريق من جديد أن راجعته ابتسامته، وصار يضحك هو وصاحبه، ومرّا راجعين بالجامع القائم وسط ظلمة الليل منذرًا بالموت والآخرة.

جاء أخو عزيزة بآخر قطار ليمضي هو الآخر أيام العيد بالبلد، فلما رآه حامد أسرع إليه، وسلم عليه، وجلس معه ومع إخوانه، وبقوا في سهرتهم طويلًا ما بين حديث ولعب ورق وطاولة. وأخيرًا خرجوا ليسمعوا الفقيه القارئ يسمع آي الذكر ويرتلها ترتيلًا حسنًا.

ثم افترقوا، وذهب كل إلى داره يريدون أن يجدوا ساعة من الراحة قبل موعد السحر. فلما خلا حامد إلى نفسه واضطجع في سريره ذكر ما رأى في ليلته، وهذا السرور العميم الذي يمرح فيه الفلاحون ومن حولهم من البنات وزينب. ثم زينب وحدها وهي جالسة إلى جانبه صامتة لا تتكلم. ثم ذكر أخا عزيزة وسمرهم. وبمناسبته ذكر عزيزة. وهكذا جاء إلى رأسه بخيال أشياء كثيرة اختلط بعضها ببعض، وكادت تتوه كلها عن باله مرة واحدة.

لكن شأن هذه الخيالات أن يأخذ المهم منها شكلا معينًا يتجسم به في الذاكرة، ويغطي بذلك على ما سواه. لذلك بقيت تتصفّى واحدة بعد أخرى صورُ الراقصين والضاحكين، وتدخل جميعًا في حيّز النسيان، وبقيت ظاهرةً صورةُ زينب جالسة أمام الدرابزين صامتة، كأنها تمثال من النحاس لا تكاد تنطق بكلمة. ولقد أخذ حامدًا العجب! ما عساه أن يكون أصابها؟ وجعل يسائل نفسه يودّ لو يقف على سبب لهذه الحال. وأخيرًا هزّ كتفه قائلا: «وأنا مالي؟!»

وأراد أن يسكت كل صوت في نفسه. ثم ما لبث أن عاودته هذه الصورة، ارتكزت أمام عينه مجسمة، وتصوّر كأنها تنظر له نظرة استرحام. والواقع أن زينب لما قامت بعد انتهاء «الفكة» ونادتها أختها، جلست كذلك تفكر في حامد وفي تلطفه في السؤال عنها، وأحست بهزة ميل نحوه — ربما كان صحيحًا أن في النفوس الإنسانية قسمًا إلهيًّا مطلعًا على ما لا تدركه الحواس، هو الذي يهدينا في آمالنا وميولنا ويرسم لنا طريق الحياة!

تصور كأنها تنظر له نظرة استرحام، فامتلأ قلبه بالرحمة والعطف على ذلك الخيال الجميل المحبوب، وودّ لو يسأله عن سبب أساه. لقد عرفها ضاحكة السن مستبشرة، فماذا أصابها حتى جعلها أمام هاته الضجة المرحة تفكر وهي الملكة على كل المحيطات بها فيما يؤسي ويحزن؟ هل أصاب أهلها ما كدرها؟.. لكن ماذا عساه يصيبهم وهم فقراء بالأمس، فقراء اليوم، فقراء إلى الأبد؟.. أم أن أحدًا قدم لها إساءة انكمشت لها تلك الليلة؟.. أم ماذا..؟

وبقي في أحلامه حتى جاء من ناداه لطعام السحر. وما كاد ينتهي منه حتى رجع إلى غرفته ورجع إلى أحلامه. لكنها انهالت عليه هذه المرة بقوة لم يقدر أمامها على البقاء بل تقهقر خائفًا. وكلما ذكر أنه كان على الطعام مع أخي عزيزة شعر بهزة غريبة. وأخيرًا أراحه النوم من عنائه.

لكنه ما إن استيقظ في الصباح حتى عاودته أفكار المساء، ففضل الخروج إلى المزارع، لعله يجد فيها ما يلهيه عن همومه. وانكشفت المزارع أمام نظره تغطي أرضها خضرة البرسيم أو بعض الحبوب من تلك النباتات المملوءة مع لينها حياة، فإذا مر عليها الهواء نامت تحت سلطانه متضامّة بعضها إلى بعض، يتماوج سطحها السندسي فتذهب موجاته إلى اللا نهاية، وتضيع أمام النظر قبل خط الأفق إن لم تسقط على مجاوراتها من الجرداء. ولم يذهب بعيدًا حتى رأى دخانًا هناك قريبًا من حلة من حلل الأدرة. فقصده معتقدًا أن جماعة من الفلاحين قد أوقدوا نارًا اتقاء برد ذلك اليوم العبوس، وليعزيهم منظرها عن بقية هذا النهار الأخير من أيام الصوم.

فلما كان عندهم وجد واحدًا من أعمامه معهم، وإذا هم يقلون ذرة على النار التي أمامهم. فبلغ به العجب منهم أن بهت أمام ما يعملون. ولكنهم كانوا جميعًا يضحكون مسرورين. وكل منهم يقلب كوزًا على النار بدقة وعناية. وكأنهم يحسبون هذا اليوم الأخير — يوم عيد الشباب كما يسمونه — غير واجب الصوم: أما عمه فتناول كوزًا ناضجًا جميلًا وقدّمه له باسمًا.

لم يستطع حامد أن يشاهد هؤلاء الأشخاص، وفي الوقت عينه لم يقدر على أكثر من أن وجّه لهم نظرة احتقار على تبجّحهم. لو أنهم استتروا لهان ما يعملون. لكنهم يخرجون على الجماعة من غير حساب لإحساس أحد، ويجرؤ عمه على أن يقدم لحامد هذا الكوز وهو يعلم أنه صائم، وكأنه بعمله يريد أن يظهر مبلغ تهاونه بهذا الفرض الذي يؤديه أهله جميعًا من سنين ماضية.

تركهم وسار تحيط به خضرة المزارع من كل جانب، فلما وصل إلى شاطئ الغدير ووجده خاليًا جافًّا ينتظر التطهير، وقف فحدق إليه مدة، ثم رفع رأسه، فإذا السحب تنقشع واحدة بعد الأخرى، وتظهر الشمس خلال ذلك لحظة تبعث فيها بأشعتها على الأرض فتغيّر من عبوسها. ثم تختفي ثانية ويرجع للجو قتامته، وتدخل الموجودات في ذلك الحزن المستسلم الذي هي فيه من الصباح. ويتكرر هذا المنظر، ويتلهَّى به حامد عن همومه.

ثم رجع أدراجه وقد زال النهار، فوجد إخوته وأخا عزيزة يلعبون الطاولة، فجلس يتفرج عليهم، فسئم ذلك بعد قليل، وقام إلى غرفته، فقابلته أخته في الطريق وفي يدها أوراق ناولته إياها، فإذا هي معايدات له من بعض أصدقائه. ولما أتم قراءتها سأل أخته: هل جاءتها معايدات باسمها هي من صديقاتها؟

ولقد حرّضه على ذلك السؤال ما رآه عليها من الجذل، وما حفظت في يدها من البطاقات. كذلك غرامها الخاص بمكاتبته هو حين غيابه وبمكاتبة صديقاتها كلما وجدت لذلك فرصة، وعلمه بأنها تريد أن تريه ما في يدها كما هو شأنها في كثير من الأحوال. فناولته ثلاث بطاقات فضّها فوجد إحداها من عزيزته، والأخريين من فتاتين كانتا مع أخته في المدرسة، فأمسك بطاقة عزيزة في يده، وأطال النظر إليها وللقليل المكتوب فيها، وعَلَتْه رعشة كان في وسع أخته أن تتبيّنها لو أنها أقدر على الملاحظة مما كانت. وحدّث نفسه أن يأخذ هذه البطاقة لنفسه ويضعها تذكرة بين أوراقه، ولكن تمسّك أخته بها وتشدّدها في طلبها وحرصها على ألا ينقص من معايداتها واحدة جعلته يردّها إليها آسفًا.

فلما خلا إلى نفسه في غرفته جعل يستعيد أمانيه القديمة الماضية، وودّ من كل قلبه لو أن عزيزة جاءت مع أخيها لتمضية أيام العيد في البلد. لكنها لم تجيء بل بقيت هناك مع أهلها في مدينتهم الصغيرة، وبقيت بعيدة عنه وهي تعلم ما في قلبه من الشوق لها.

وطالت به هذه الآمال التي تجيء إلى رءوس الشبان في أول شبابهم، وراح في أحلام لذيذة صوّر لنفسه فيها كل ما يشاء، ورتب الحياة التي سيكون فيها مع عزيزة دائمًا جنبًا لجنب، ولم ينبهه منها إلا ما أحس به من الحركة الكثيرة في صحن الدار الذي تطل نافذة غرفته عليه، حينذاك نظر إلى الغرب أمامه، فإذا الشمس تنحدر إلى مغيبها كأنها تحسّ مع هذا العالم الجائع فهي تريد أن تسعده بالقضاء على الساعة الأخيرة من رمضان. ولم يلبث إلا لحظة حتى دق بابه من ناداه للطعام، فإذا أهله جميعًا ما بين ناظر إلى الغرب يحدّد عينيه يريد أن يتحقّق من اختفاء النهار، وآخر ممسك ساعته بيده ينظر إليها من لحظة للحظة نظرة ملأى بالقلق، وثالث مسبل عينيه كأنما يريد أن ينسى هذا الوقت الباقي. ورابع يحدق إلى السقف وأعلى الجدران كأنه يجد جديدًا في هذه الأشياء التي رآها من قبل مرات لا عدد لها، وصغيرين لا ترتفع أعينهما عن المائدة وما عليها من الأطباق اللذيذة والحلوى يسيل لها لعابهما.

أخذ مكانه بين الجالسين. وما هي إلا لحظة حتى اعتلى وسط الصمت الأخرس الذي حكم على القرية صوت المؤذن مبشرًا برجوع الحرية للناس، فابتسمت له الثغور، ونمّت الصدور عن تنهّد طويل يشعر بالرضا والسرور.

•••

غدًا يوم العيد يتزاور فيه الناس ويتبادلون فيه التحيات المعتادة، ويتغير شكل الوجود، فيخرج من صمته وحزنه إلى فرح وضجة، وتبسم ثغور الفلاحين الذين يملأون طرق قريتهم رائحين جائين يصافحون كل من قابلوا، ويرجون له سنة طيبة وعمرًا طويلًا، ويدخلون بيوت أقاربهم وأصدقائهم يشاركونهم في ذلك الجذل العام، ويضحكون معهم عن نفس طيبة راضية بالحياة. وينساب على الطرقات ما بين حين وآخر نساء وفتيات يحملن على رءوسهن عيد أخواتهن وقريباتهن، وهن في جلابيبهن الحمراء أو سترنها بثوب أسود ينمّ عنها، وتتبع الواحدة الأخرى أو تسير إلى جانبها، وكلهن يتهادين في مشيتهن، ويتحادثن وعليهن علامات السرور، فإذا قابلن سربًا من أمثالهن تواقفن للتهنئة بالعيد، ولكنهن دائمًا ضنينات أن يرسلن في هواء ذلك اليوم الفرح رنين ضحكاتهن خيفة أن يقال خليعات.

figure
قام مع جماعة من أصحابه يطوف البلد الصغير.

انتبه حامد مبكرًا وصلّى العيد. ثم بعد أن قابل الناس ممن جاءوا يهنئونه ما بين راج له عمرًا طويلًا وعجائز القوم ضاحكات يردن له عرسًا في حضنه العام القابل، قام مع جماعة من أصحابه يطوف البلد الصغير من أدناه إلى أقصاه يشارك أهله في عيدهم. وكلما مر بقوم حيّاهم وصافحوه جميعًا وتبادلوا معًا الكلمات المعتادة، أو نزل عندهم وشرب قهوة ثم تركهم إلى غيرهم. وإن مرت به بعض تلك الأسراب لم ينس أن يقول لهن: «كل سنة وانتو طيبين يا بنات»، ويستمر في سيره إن لم يناد بعضهن باسمها ويسألها عن شأنها، فترد عليه كسيرة الطرف قد سترت وجهها بشاشها الرقيق، بكلمات قليلة تلقيها وهي سائرة في نظامها.

مرت زينب في أحد هاته الأسراب، فنظر لها حامد ولم يخاطبها بشيء. ولكن وجودها بين فتيات كلهن من عائلة واحدة هي الغريبة عنها جذب نظره ونظر بعض أصدقائه الذي لم يصبر أن قال: إن شاء الله يا زينب يودّوا عرسك السنة الجاية.

فلم يغير ذلك من جد الفتاة شيئًا، بل انسابت مع صويحباتها تنظر أمامها بعيون ثابتة يلمع حدقها الأسود تحت قوس حواجبها الجميلة. ولكن حامدًا الذي لم يعلم من أمر زينب شيئًا، والذي يريد أن يقف على كل شيء، لم يسكت أن سأل صاحبه: وزينب حاتتجوز؟

– بيقولوا إن عمي خليل عايز يخطبها لابنه حسن، وأظن ده صحيح. وإن كنت عايز الحق ده من بختها.

ولم يستمروا في الكلام، فقد مروا بجماعة حيّوهم وجلسوا ليشربوا القهوة معهم. جلسوا جميعًا على حصير مفروش على مصطبة قليلة الارتفاع عن الأرض جللها شعاع الشمس التي طلعت ذلك اليوم تزيد الوجوه جمالا وفرحًا، وينطرح ضوءُها على هدوم الفلاحين البيضاء ادخروها لعيدهم يخرجون فيها من الرق والأسى والنصب الدائم ساعات معدودة من الزمان. وبعد أن أخذوا حظهم من مجلسهم قاموا يكملون دورتهم ليرجعوا إلى بيتهم ساعة النزول، يستريحون قبل أن يجيء العصر، فيجيء معه بزيارات جديدة.

سر حامد بيومه كله حيث رجع إلى حريته بعد قيود أيام الصوم، ورجع بذلك إلى حياته المرتبة المعتادة، ينام الليل ويقوم النهار. وسر كذلك أن عرف أن زينب ستصل قريبًا إلى هناء لا يدركه أمثالها إلا قليلا. وما دامت هذه الطائفة لا يهمها أكثر من السعة النسبية فإن ما ستناله زينب منها فوق ما تتمنى. وكأنه نسي أنه ما دام في النفس الإنسانية ميول وأهواء، وما دام بين الرجل والمرأة هاته العاطفة الأنانية التي يسمونها الحب، فليس ببعيد أن نكون أشقياء وسط السعة!

٤

كان لإبراهيم من المكانة في نفوس من يعرفونه، ومن الأثر الحسن وما هو معروف عنه من الجد ما قربه من السيد محمود وإخوته وأبنائه، وجعله عندهم محبوبًا يرعونه ويقدّمونه على غيره. ونال بذلك ثقة المالك فلم يك عمل إلا أعطاه قياده، وترك له فيه من الحرية ما يجعله أشد احتفاظًا به. فبالرغم مما كان يعامل به الأولاد والبنات من اللطف والحسنى، وما كان يمضيه من الوقت في الضحك والمزاح معهم، لم يكن يرضى بالزمن يضيع هدرًا، وقد أسلم له المالك مفتاحه، بل كان يحرض من معه ويساعدهم إن أحوجت الحال مساعدة، ويدخل معهم في العمل أحيانًا ليكون لهم مثلا. فإذا دعا الأمر ولم يكن بد ظهر على وجهه الهادئ الساكن من أثر القطوب ما لا يحبه جماعة العمال.

وكانت زينب تجد من السعادة في كلام حامد ومحادثاته ما يدخل إلى قلبها الهناء الجم. لكن تلك الحاجة عندها لشخص تعطيه نفسها — ذلك الحب التائه بين الناس وعوامل الخليقة والذي يريد أن يستريح ويريح معه روحها الثائرة بلقيا روح أخرى تختص بها وتهبها حياتها — كانت أبعد الأشياء عن حامد وعن التفكير فيه، فإذا مر بخاطرها في ساعات هيامها كان كأي غريب عن روحها لا يثير من نفسها أقل التفات. وكأن النفس تطمح دائمًا في بحثها عن محبوبها إلى شخص يعدلها في المكانة، لتجد من الحرية معه ما يضمن لها سعادتها، أو كأنه ذلك الحنين بين أضلعنا إلى النصف الذي نفصل عنا في الأزل يوم خرجت حواء من ضلع آدم يجعلنا ننظر إلى بني طبقتنا وطائفتنا دائمًا كأنهم إخوان، وبينهم وبيننا من الرابطة ما لا نعرفه قبل الطبقات الأخرى، فنحن لهم وهم لنا، وبين قلوبهم وقلوبنا من أواصر الود ما يدفعنا نحوهم، فمنهم نطلب الصديق والشريك والمحب والزوج؛ لأنهم قبل غيرهم موضع حبنا وثقتنا.

لذلك كان من بين جماعة العمال أمثالها ذلك المحب الذي تريد زينب، وفي صفوفهم كانت تريد أن تقع عليه. ولقد بدأت تحس من زمان أنها عثرت على صاحبها في إبراهيم الذي تراه كل يوم، والذي كان يلحظها من بين جميع العاملات بعين طيبة، لأنها أجملهن وأكثرهن جدًّا وأولاهن في العمل إتقانًا. وصارت إذا ما رأته في الصباح وألقى عليها «صباح الخير» في ابتسامته شعرت بسعادة تحتل وجودها، وبهزة تصيبها من رأسها إلى أخمص قدمها. لكن سرعان ما كانت تفرّ منه وتذهب إلى أبعد الخطوط عنه، وكأنها في اللحظة التي تريد أن ترتمي بين يديه أشدّ الناس خوفًا منه وحذرًا من الوقوع تحت حكمه.

وكل يوم يمر يقر نفس زينب على ذلك الحب الوليد، ويجعلها إذا نظرت إلى إبراهيم لم تحدق إليه تحديقنا إلى جميل يعجبنا، ولكنها تغضّ جفونها لترى في أعماق قلبها الصورة المرسومة منه — لترى ذلك الخيال الذي خلقته لنفسها، فتهيم به وتهمّ لترمي بنفسها بين أحضانه. ولكن ذلك الحياء الطبيعي في نفوس الأنثى يوقفها ويصدها عن غرضها.

تجلس أحيانًا وحدها تناجي قلبها بسعادتها الجديدة، ثم تسائل نفسها: أهو حقًّا إبراهيم صاحب ذلك الخيال عندها؟ أهو ملاك الهناء الذي يرفرف بأجنحته فوقها.. إذا كان..

وامتلأ وجودها به، ولم تعد تفكر في أحد سواه. فلم تك ساعة إلا شغل قلبها، وتمثل أمام عينيها وهو يرنو لها باسمًا يفتح أحضانه يريد أن يضمها إليه، فيعلو الدم إلى خدودها، وتستحي من نفسها أمام خيالاتها. ثم تحس بهزّة تسري إلى كل وجودها، وينقلب تورّد وجهها احمرارًا شديدًا، وتدفعها رغبة فظيعة للذهاب إليه وضمه لأحضانها وامتلاكه كله، وتنسى إذ ذاك كل ما حولها وكل ما سوى إبراهيم.. فإذا ما كانت في المزارع تشتغل تحت إمرته أمضت وقتها ساكتة صامتة تجدّ في عملها منتظرة ساعة الغداء حين تجلس وإياه والآخرين تحت ظل الشجر يتكلمون جميعًا من غير كلفة، وترفع نحوه نظراتها من حين لحين، ثم تلقي بها إلى الأرض لترجع إلى عالم أحلامها.

فلما كان في بعض الأيام — وقد عيل صبرها ولم تستطع الاستمرار على كتمان ما في نفسها — صممت على أن تفتح لإبراهيم قلبها حالما تراه وحده. وترقبت الفرصة حتى إذا كانت الظهيرة ولم يبق على كل إلا أن ينتهي من الخط الذي في يده ليخرجوا لمقيلهم، أسرعت هي جهدها وفرغت منه قبلهم جميعًا، وراحت مسرعة نحو إبراهيم الذي ابتعد عن العمال لبعض أمره، ولكنها كانت تحسّ لكل خطوة تقترب بها منه بحياء شديد يداخلها ويدفعها القهقري حتى لم تعد تدري أتسير إليه أم تعرج إلى مكان آخر.

ثم أحست برعشة تستولي عليها، ولم تعد ترى ما أمامها، وتلون الجو بالألوان السبعة، ودارت بها الأرض، فوقفت مكانها، وجعلت تلتفت يمينًا ويسارًا فلا ترى شيئًا. وأخيرًا — وقد راجعها صوابها — رأت إبراهيم قائمًا من بين العمال الجالسين تحت الشجرة مقبلًا عليها وقد تبعته أختها، فلما كان عندها وسألها عما أصابها رأى من مآقيها دمعة تنحدر على خدودها، فأخذها من يدها وسار إلى جهة الغدير وأشار إلى أختها أن ترجع، وبقيا كل إلى جانب صاحبه صامتًا. فلما كانا إلى جانب الماء سألها من جديد: ماذا أصابها؟ ومن جديد تحدرت دمعة من مآقيها، وكاد يغمى عليها لولا أن أسرع بالماء فوضع يديها فيه. ثم قال:

– عايزة إيه يا زينب؟ … كل اللي عايزاه أنا أعمله.

والعمال هناك لا يعلمون ماذا حل بزينب، ويطيعون أمر إبراهيم أن يبقوا في أماكنهم، وقد استولى عليهم القلق وطال بهم الانتظار. وكلما همت أخت زينب بالقيام أجلسها الباقون. وقطعًا للوقت جعلوا يحضرون طعامهم ويضعونه كعادتهم بعضه إلى جانب بعض، ليتناولوه معًا جميعًا محقّقين في ذلك أكمل معاني الاشتراكية.

ثابت زينب إلى نفسها بعض الشيء. ولكنها لم تكن تلبث حين ترى إبراهيم أن تنتابها رعشة تردّها إلى غيبوبتها. فأمسكها هو بين يديه، وأسندها لكتفه، ورش من ماء الغدير على وجهها، وجعل يحدق بعينيه إلى عينيها المغمضتين. وأخيرًا وكأنها قائمة من حلم طويل فتحتهما، فرأت عيني صاحبها الناظر لها وكله الحنان والعطف، فلم تتمالك أن طوقت عنقه بذراعيها، فضمها هو الآخر، وغاب رشدها ثانيًا، وبقيا كذلك حتى سمع إبراهيم من يناديه من بين أصحابه الذين ملّوا انتظاره، فنبه صاحبته ما استطاع، وقام بها حتى وصل إليهم، وأجلسها إلى جانب شجرة، فالتف الأولاد حولها. غير أن الوقت محدود، والعمل لا يحب إمهالًا، فناداهم هو أن يتركوها إلى طعامهم: فرجعوا وبقيت أختها إلى جانبها.

أما زينب فقد أخذتها سِنَة استغرقت مدة ما تناول الآخرون طعامهم، ثم قامت هادئة، وراجعها الروع فطعمت بعض الشيء مع أختها، ثم قامت مع بقية العمال إلى العمل ولا يزال فؤادها مشتتًا، ترسل بنظراتها إلى خضرة الزرع وتسير في عملها سيرًا آليًّا.

من هذا اليوم خرجت زينب من خيالاتها الأولى المطلقة، ورجعت نفسها من جولاتها الواسعة، وأصبحت ترى في إبراهيم كل آمالها وكل جمال الوجود. لم يبق أمامها شمس ولا قمر ولا كواكب ولا مزروعات تنظر إليها وتناجيها، ولكن بقي إبراهيم، تجده وترى صورته في كل هذه الأشياء. فإذا ما رأته هو جاءها حياء المرأة الطبيعي، فأسبلت عينيها، وتمتعت في نفسها بلذة أشبه شيء بالسكر، لذة تتخدر معها الأعصاب، فلا يهتم الإنسان لما حوله ويبقى مستسلمًا لسرور لا يقدر على تكييفه، وتكون كبرى أمانيه أن يظل كذلك طول حياته.

أما إبراهيم فقد أحس من ساعة أن أمسكها بيده ذاهبًا إلى الغدير، ثم أسندها إليه بجوار الماء كأن رعشة تسري منها إليه. فلما شاهدها حين ذهولها، وناجاه وجهها الجميل وقد ذبل لونه لما أصابها، لم يستطع حين طوقت عنقه بيدها إلا أن يضمها إليه شاعرًا مع ذلك بأكبر لذة شعر بها في حياته. وكلما رآها بعد ذلك تمثل السعادة منتظرة إلى جوارها، وإنما ينالها إذا هو حل في ذلك الجوار.

•••

في هذه الأيام ابتدأت زينب تسمع ما يقال عن أمر تزويجها من حسن، فلم تحفل بما سمعت.. إن الهناء الذي يحيط بها ويفيض عنها لا يدع لها وقتًا أن تفكر في شيء آخر غير إبراهيم. هي اليوم في أسعد أيامها، تسعدها الموجودات كلها، وترنو إليها الطبيعة الناضرة بعين العاشق. سماؤها صافية تتلألأ فيها نجوم الأمل، وأحلامها مملوءة لذة وسرورًا.. وجدت في كل شيء جمالًا أحبته وأحبها، تنتقل من الليل إلى النهار، ومن النهار إلى الليل، وكلها الهناء بمرأى إبراهيم أو بذكراه، وتنتظر الغد باسمة لمقدمه، ويفتح كل منهما ذراعيه يريد أن يضم صاحبه إلى أحضانه. ولكن للغد منافسًا من بعده يدفعه إلى الماضي ويأخذ هذا الآخر حظه ثم ينقضي. وزينب تضحك لكلها، وكلها تضحك لزينب، ولا شيء يستطيع أن ينقص من مقدار سعادتها وسرورها.

سمعت ما يقال عن تزويجها من حسن، والخريف يسلم الوجود للشتاء، والليل يقص من أطراف النهار، والعالم كله مستسلم ساكن، وقد انتهت أيام العمل الدائم، وجاء الوقت الذي يسمح للفلاح فيه أن يرجع لنفسه يمتعها بتلك الراحة، ويشغل بآماله المحدودة شيئًا من وقته: يفكر الصغير في جلابيبه، والشاب في عرسه، ويمتع الأب نظره بمن حوله من بنيه وقد تجمعوا بعد أن كانوا مشتتين على حصيرة الصيف، فلم تحفل زينب بما سمعت، بل استسلمت بكلها للعاطفة القوية التي امتلكت فؤادها. وهل كان الحب يقبل إلى جانبه شريكًا أو منافسًا؟ أو أنه لا يهبنا من السعادة ما ننسى معه كل شيء غير المحبوب الجميل؟

وجعلت أيام الشتاء القصيرة تطوى وتنشر، وأحس الناس أن قد ابتدأ النهار يأخذ من الليل بحقه المهضوم كأنما عجز عن احتمال استبداده، فثارت ثائرته شأن كل موجود يطمع في الحياة شريفًا. ثم ابتدأت الحركة في المزارع من جديد فقام الفلاح لخدمة القطن، ونادى بدوابه من مراتعها وإن لم يحرمها عليها، وحرث البرسيم، فانقلبت أمامه الأرض ظهرًا لبطن، وجعلت بقايا ذلك النبت الأخضر الزاهي مما لم يقض عليه القضاء الأخير تتطلع للشمس مكتئبة كاسفة، ويذوي لونها كل يوم، وتنحدر الحياة منها كل ساعة حتى تسودّ أسى ولا تكاد تنتظر «الوش» الثاني للمحراث، بل تموت دونه وكلها الحزن أن ترى ما حولها من بنات جنسها أبقاها الزارع للحصاد والربّة، وليأخذ منها تقاويه بعد أن تهرم ويأتي عليها المشيب. وانتهى بذلك وجود اللا نهايات الواسعة من وجه الأرض الأخضر بزروع الشتاء وعَرِيَت الجرداء كاشرة كأن بها همًّا من عريها، أو كأنها حانقة على هذا الإنسان الذي يدوس جمالها سعيًا وراء الدرهم يأتيه من أطراف الكون المتنائية، لكن كشرتها لا تبرح أن تزول وتمتد على وجهها قنايات القطن ومصاطبه ثم يتخللها ماء الحياة، وفي أيام تظهر على سطحها الترابي وريقات النبت الجديد، فتتهلل وجوه الملاك والمستأجرين، ويضحك معهم الكون أو منهم. تلك عملية تحدث كل سنة كلما جاء أوانها، ابتدأت قبل أن نعرف الوجود، وسنتركه ونذرها معه.

يتهلل وجه الفلاح لمطلع القطن لأنه يرى فيه القدير على كل شيء، وحلال كل عقدة.. منه يأتيه قرشه فيعمل ما يشاء، ويتم من شأن نفسه وعائلته ما يريد. وكم من معضلة تسير الأيام وهي واقفة تنتظر بيع القطن. كذلك كم من نابتة تبدأ حياتها مع النبات وتنمو وتكبر وتقوى معه ثم يحين جناها متى حان أن يعطي ذلك الشجر جناه. وقل أن يثبت على الوجود أمر يريد أن يقوم بذاته ويقف بعيدًا عن سلطان هذا المستبد القاهر فوق عباده من سكان مصر.

سمعت زينب من جديد ما يقال عن زواجها بحسن. سمعته الآن من أهلها والقريبين منها. وكأن هذا النبأ قد بقي مختفيًا طول الشتاء حيث لا خصب ولا نماء، فلما قدم الربيع استعاد حياته وظهر وانتشر في الهواء. ومهما يكن من تناسيها إياه في وحدتها، ومن ذكرها الدائم لإبراهيم، ومن تشعشع الحب في نفسها، فلقد كان يملك عليها ساعات يدس فيها سمومه ويفسد عليها طعمها. ثم لا تلبث أن تروح بأحلامها إلى جو مملوء بالحب يسرح فيه خيالها كما يحلو له. وتسير إذ ذاك بين المزارع فرحة بكل ما حولها من جمال الوجود، وتهيم بالنبات البديع والأشجار الكبيرة قد اتخذها الطير سكنًا، فهو يقف على فروعها المورقة هادئًا مطمئنًّا، ويصب من رفعته أغاريده الحلوة كلها الهيام والحب. حينذاك يخيّل إلى زينب في سعادتها أن الخليقة إنما وجدت لتطير مع ملاك الحب على جناحيه، وكأنها ما عملت أن يد الإنسان قد غيّرت بالقرون ما أبدعت يد الخالق.

وبقيت في هاته الأحلام اللذيذة حتى أزعجها عنها تكرار ما يقال وسماعها إياه كل يوم ومن كل الناس، فداخلها الأسى، وأصبح ذكر إبراهيم يضيف مع مخاوفه آلامًا إلى آلامها. ولازمها الوجل، ولم تجد ما تحتمي به إلا الوحدة، لكن الوحدة أشد عذابًا للمحزون وتحيي فيه كل جروحه.

وانطلقت في أيام إلى أسى قاتل، وكاد يبلغ منها اليأس، وتطاولت أمامها الساعات السود حتى أصبحت لا ترى إلا مطرقة الرأس كأن قد فقدت أعز عزيز تحب.

فلما كانت في بعض الأيام، وقد سئمت الناس وحديثهم ووجوههم وكل شيء فيهم، وتاقت للوحدة والابتعاد عنهم وعن شرورهم وسموم جمعيتهم، خرجت بعد الظهر هائمة على وجهها تريد الانفراد في أية مزرعة كائنة ما كانت، فلم يبق لها بين بني آدم أنيس.

وقابلتها الحقول لأول ما خرجت قد نما فوقها القطن ولا يزال شجره صغيرًا ضئيلًا، والأرض مكشوفة قد كستها شمس الربيع ترسل شعاعها وسط الجو الساكن الهادئ، والسماء زرقاء صافية يلمع على سطحها العظيم النور الممتد على الوجود. وعلى مرامي النظر تقوم الأشجار تحف بالمزارع وقد ابتدأت ريح الأصيل تهز أوراقها. فسلكت بينها سكة مدقوقة تركها النور بيضاء سمراء. ولم تك إلا سويعة حتى ابتدأ كل ما يحيط بها تدخله الحياة ويستفيق من غفوة الظهيرة. وابتدأ يقطع صمت الجو الأخرس جماعة الطير تفرّ من فروع الشجر بعد مقيلها وتصدح بنغماتها العذبة، فتضيف إلى الحياة الوليدة معنى السرور والبهجة، ويحمل الهواء أغاريدها يوقظ بها الخليقة النائمة المحرورة. وهكذا تنبعث الحياة في أجزاء الكون وتسري السعادة في جميعه؛ أرضه، وسمائه، وشجره، وطيره، وهوائه، ولا يبقى تحت السماء مما تحيط به دائرة الأفق بائس محزون إلا قلب تلك السائرة في وحدتها.

figure
وبعثت بخيالاتها في وسط تلك الوحدة.

واتخذت مقعدها إلى ظل جميزة كبيرة استندت عليها، وبعثت بخيالاتها في وسط تلك الوحدة، وهذا الصمت لا يشوبه إلا حفيف الريح بأوراق الشجر، وقد انسحب الماء إلى جانبها مصقولة صفحته ويحدث فيه الهواء موجات صغيرة تتتابع واحدتها وراء الأخرى، ثم تنساب مع التيار حتى تتلاشى أو تموت بين الأعشاب النامية على جرف الترعة. ومن ساعة لساعة يسقط من أعلى الشجرة عصفور يصفر في الجو حتى يقع على مقربة منها فينط ما شاء ثم يطير إلى البر الثاني أو يعتلي الشجرة من جديد.

جلست في مكانها زمنًا ليس بالقصير، وذهبت بأحلامها إلى مستقبل لمست بيدها سواده: أحلام داهمة لا تفسير لها حلّت من نفسها مكان العقيدة لا تعرف لها معنى ولا سببًا، ولكنها تؤمن بها ولا يداخلها فيها الشك ولا الريب. تؤمن بالسوء تحمله معها الأيام الآتية إيمانها بالنار وعذابها، وكأنما دار ذلك الزوج الذي يريدون لها قبر تحتله زبانية الجحيم، وكلهم ينتظرها بعيون براقة يقدها خط من النار ذات اللهب.

•••

في تلك الساعة المملوءة بالحزن والألم رفعت زينب رأسها إلى السماء كأنما تريد أن تشكو إلى عدالتها ظلم الكون والإنسانية، أو تبرأ إلى الله من جمعيتها الغاشمة التي تريدها على ما لا تحب. حتى أبوها الذي كانت تعتقده رجل الخير والصلاح يلوح عليه أنه يبتسم لهذه الإشاعة المنكودة. رفعت طرفها وعيناها ممتلئتان بالدمع، وقلبها يجف، وبدنها يرتعد، فإذا الشمس غشتها سحب المغرب بعثت على ما حولها حمرة قانية وهي تنحدر إلى مغيبها كما تنحدر إليه كل يوم تنذرها بإمساء الوقت ووجوب الرجوع إلى الدار. فقامت، وبيد سائبة خائرة نفضت ثوبها الأسود الذي انسدل عليها مستقيمًا من كتفها إلى كعبها. فبينما هي تهمّ بالانصراف إذا بوقع حوافر مسرعة تدل على أن الراكب يستحث مطيته قد أحس هو الآخر بمساء الوقت. ولم تكن إلا لحظة حتى تبينته السيد محمود رب هذه الضياع الواسعة يمر بها ليرى ما عمل الزمان بأقطانه وأقطان مستأجريه. فلما رآها وحيدة منفردة في هذا المكان تريث في سيره، وألقى عليها تحية المساء، ردتها مكلفة نفسها إخفاء كل أثر يظهر عليها، ثم سألها عن حالها، فأجابت طبعًا أنه طيب. وهكذا سار الحديث يجر بعضه بعضًا. وما بين حين وحين يضحك لها المالك المتصرف في أرزاق أهل القرية وأقواتهم، فينسيها ذلك كله بعض أحزانها التي أثقلت صدرها. وسارا يقطعان الطريق يأنس كل واحد منهما بصاحبه. وبعد حديث طويل سألها: ولا اشتغلتيش النهارده؟

فأجابت: «لا».

هذا سؤال يوجه إليها في أي يوم لا تشتغل فيه أجيرة عند بعض الناس، ويجاب عنه بكل بساطة: «كنت بجرد الجاموسة»، أو «كنا بنطحن»، أو بمثل هذه الأجوبة حسبما يلائم فصل السنة. ولكنه جاء في هذا اليوم فلم يجد جوابًا من هذا الجنس، وكل ما استطاعت أن ترويه هي كلمة «مفيش»، كأنها أخذت ذلك اليوم للراحة من العمل، فأمضته فيما يصحّ أن يسمى لا شيء مما يمضي فيه الإنسان أيام راحته.

بلغا منتصف الطريق، فانكشف أمامهما الوجود الذي كانت تحجبه الأشجار، ولمحا القرية من بعيد وقد تدثرت بضباب أخريات النهار، وعلى السكك القريبة منها سلك ملضوم من الفلاحين والدواب رجالًا ونساءً وأطفالًا وجواميس وبقرًا وحميرًا. ووراء هاته القافلة من أهل القرية وفي ختامها قطيع من الغنم قد زحم السكة يسير بغير انتظام، وتجري حذاءه في المزارع الكلاب الحارسة. والأفق أمام الجميع يضيع تحته كل من وصله من الراجعين إلى دورهم، أما طريقهما فكانت خلاء ليس فيها سواهما صامتة لا يسمع عليها ركز إلا حديثهما. فلما دار الحديث رجع إلى الزرع وشأنه والقطن وخفه، فسألها من جديد: والقطن طيب السنادي؟

وأجابت: «نعم». ولكن تجربته التي جاءته بها السنين وعيونه الحادة الضيقة تحت حواجبه الثقال وما رأت مما تحدث الأيام من الغِيرَ في كرها جعلته أقرب للتحرز من أن يضحك فرحًا. ثم قال: من يدري ما يجيء به الغد؟

كم يخفي الغد القريب تكاد تلمسه اليد من العظيمات! وكم يكنّ في ساعاته المعدودة من السعادة والنحس والهناء والشقاء والبأساء والنعماء! كل ذلك مسدول عليه ثوب الليل. إنه ليخفي في طياته الدنيا والآخرة. ينتظره الإنسان آملًا فيه خيرًا أو متوجسًا منه خيفة أو منتظرًا أمرًا، أو هو يعدّه كسابقه، فإذا هو يضمر له الويلات ويقدم عليه بالدواهي.

في الغد الموت والحياة والجنة والنار. فيه الحروب تشيب من هولها الإنسانية وتسيل فيها دماء الأبرياء وما أجرموا ولا أرادوها. وفيه السلام يسحب أردانه على الوجود فينعم به الأحرار.

في الغد اليأس والرجاء والأمل والقنوط. فيه تلك الدولة العظيمة يحار أمامها الذهن، ويقصر دونها الخيال، ويقف أمامها الحلم عاجزًا: دولة المجهول لا تحكم منها على فتيل ولا تقدر من أمرها على شيء. فيه العدم والوجود والكل ولا شيء!

لذلك الغد يحسب هذا الرجل حسابه وينتظره وما بعده، وهو دائمًا أسير المستقبل، ولقد علاه الصمت حينما ذكر الغد وما قد يجيء به وكأنما دارت في نفسه ذكرى السنين المنصرمة وما كان في بعضها من الندوات والدودة وآفات الزرع، وفي الأخرى من نضارة ثم ارتفاع السعر وهبوطه، فتحيا بذلك أحلام وتنخسف ظنون. وفي تلك البرهة الصامتة تميزت دقات حوافر الحصان المنتظمة وهو يهز رأسه مع كل واحدة منها، وقد أرخى له راكبه اللجام إلا قليلًا. ومن حين لحين ينفخ أو يضرب برجله الأرض والفتاة تسير وراءه إلى جانب الطريق، وقد كادت تنسى ما كان في نفسها.. ثم قال المالك: خير أن ننتظر النتيجة..

•••

وانتقل بموضوع الحديث إلى كلام آخر، ثم إلى غيره وغيره، حتى إذا اقتربا من القرية بعد أن قطعا ذلك الطريق الذي كان مزحومًا بقافلة الفلاحين وأمسى خلاء افترقا، فذهب هو من بين المزارع يريد أن يصل إلى الدوار، وسلكت هي سكة ضيقة قامت على جانبيها تلال صغيرة. ولما بلغت البلد قابلتها فتاة من أترابها تبادلت معها مساء الخير، ثم أخرى وثالثة، ودخلت بذلك بين الدور القليلة الارتفاع وهي تهدي كل من قابلها هاته التحية ويهديها إياها، إلا جماعة جلسوا ومن بينهم لابس طربوش وجلابية الكِشمير فوقها بالطو، وآخر معمم على طاقية مزهرة وعليه هو الآخر جلابية من الصوف مفتوح صدرها ينم عن صديري أزراره من الحرير، ومن بينهما طاولة مقفلة تدل على أنهما كانا يلعبان حتى الظلام، وجلس حولهما جماعة من أمثالهما، والكل فوق شريط من الحصير ممدود أمام باب مفتوح يرى منه الإنسان قاعة كأنها خالية فيها بعض صناديق من الخشب يضيئها مصباح ضئيل النور في فانوس قد علا التراب ألواحه الزجاجية فبان الضوء من ورائها أحمر يكاد يختنق. تلك دكان جديدة فتحت منذ شهر من الزمان تحتوي — على مظهرها المتواضع — كل شيء من أصناف العطارة والقماش. وقد رأى صاحبها من أجل أن يقدم خدمة للناس الذوق من أهل بلده أن يجيء فيها بما يلزمهم من معدات اللعب. وكما أعدّ لهم ولغيرهم فيها بعض الحلوى والمرطبات فعنده كذلك ما يلزمهم من المناديل والشرابات، كل ذلك مصفوف على رفوفها المختفية أو موضوع في هاته الصناديق.

مرت بهم ثم صعدت مع الطريق العامر بالمارة حتى انعطفت إلى حارتها. وبعد تحية أهدتها لامرأة واقفة على باب الطاحون التي هناك وخطوات معدودة وصلَت إلى باب دارها، فتبادلت أولًا «مساء الخير» مع جارتها في الدار المقابلة، ثم فتحت ذلك الباب القليل الارتفاع قد نقشه القدم بظهور عروق الخشب وغور ما بينها، والضبة تلمع لكثرة ما مرّ عليها من الأيدي، ودخلت صحن الدار المكشوف للسماء، وأصبحت بذلك بين أهلها.

مقابل باب الشارع قاعة هي كل ما في البيت من نوعها، وعن يسارها فرن صغير جاء تحت حنية السلم الذي يصعد إلى السطح لا انحناء فيه، ويصل به الإنسان إلى غرفة من الطوف، إلى جانبها صندوق من الطوف أيضًا يخزنون فيه ما عندهم من القمح أو الشعير أو الذرة التي على كيزانها، وأمامها بقية سطح القاعة مكشوف ينامون فوقه أيام الصيف حين لا يكون عندهم حصاد في المزارع.

تناولت طعام العشاء مع أهلها، وبقيت معهم حتى إذا حلكت ظلمة الليل وفرغ الناس من صلاة العشاء ولم يبق إلا أن يناموا تمطت إلى جانب أختها وأخيها على حصير قديم، وفردت عليهم جميعًا فوطة من القطن، ونام أبوها إلى الجانب الآخر من القاعة، ولم يكن بأسرع من أن ذهبوا جميعًا في نعاسهم إلا هي، فقد بقيت في وسط تلك الظلمة تفتح عيونها وتقفلها وتستعيد أمام ذاكرتها المتعبة حوادث النهار، كما تجيء بخيالات الأيام القديمة الماضية فينساب في سواد القاعة وجوه كثيرة مختلفة تسبب لها حزنًا وفرحًا، وسرورًا وألمًا. ويتعاقب ذلك سريعًا، فتنتقل من اليأس إلى الأمل، ومن الرجاء إلى القنوط في كل نبضة من نبضات قلبها. أليس أبوها النائم إلى جنبها ممن يرجون أن يكمل شقاؤها؟ فأين مزية العيش؟ وأي معنى للحياة بعد هذا؟.. أوَلا يصح أن تكذب الإشاعة ويصبح الغد بشيرًا بعد أن كان في مصبحه بالأمس ناعق السوء؟.. كلا!.. ما الغد بخير من الأمس، وما تلك إلا علالة اليائس يريد أن يسلي بها حزنه.. وليكن ذلك، وليشأ أبوها وكل الناس، أفليس في قولها: لا أريد — ما يحسم كل مشكل؟

إنها لا تريد؛ وفي ذلك الكفاية.

هي لا توافق على ما يطلبون منها، وقولها هو القول الأخير. هل في الزواج إجبار وإرغام؟!

في تلك الساعة تصورت نفسها وهي ترفض ورأسها في السماء، ويد الله ويد الحكومة مع يدها فوق قوة هؤلاء المتحكمين، ثم خذلان جماعة العريس ورجوعهم على أعقابهم، فتعلو الجمع الذي يجيء معهم سحابة الهم، ويسكت الوجود، ويقف الهواء، وتنزل من السماء تغطي البسيطة كسف الليل، ثم ينسى الكون نفسه ساعة من زمان يذهل فيها الناس والأشياء.. وبعد ذلك يطلع القمر وتتحرك الريح ويهب العالم من سباته فتبعث عليه زهور الحقول عطرها الطيب يملأ الجو ما بين الأرض والسماء، وتسري السعادة إلى كل الوجود، فترسم على الثغور ابتسامتها الطيبة الذيذة. ولكن.. أبوها! أبوها! أفلا يغطي وجهه خجلًا إن عقّته ابنته التي أحب طول حياته؟ وعبرة أمها أفلا تنهمل أمام الحاضرات من نساء البلد ويتقطع قلبها أن تكون ابنتها مثل الشذوذ والخروج عن أمر أبيها؟. ويلاه من موقفها ساعتئذ وهي ما بين قائلة: «عيب يا زينب.. عيب يا ختي»! وشامتة في تلك العائلة الناعمة في فقرها، وناظرة لها بعين الازدراء والإهانة. وهل تحتمل ذلك وقتئذ، وما عرفته من قبل، ولا استطاع أن يواجهها به أحد؟!..

وإن قبلت فماذا؟ تعسها الكبير وشقاؤها الدائم. لكن لم؟ ألم تزوج غيرها من قبل راضية أو غاضبة حتى انقضت أيام الصغرنة والخلاف مع زوجها اتفقا وصارا أحلى من العسل، وانتفى من بينهما كل نزاع وشقاق، وقام كل منهما بدوره في الحياة يشتغل هو في الغيط نهاره، وتعمل هي ما من شأنه أن يعمل في الدار، وترضع الأولاد متى كان لهما أولاد، وتذهب له بالفطوره كل نهار، وتعاونه في عمله كلما احتاج الأمر إلى معونة. وتنصرم هكذا الأيام والشهور والسنون وينقضي العمر؟ فما حزنها هذا الذي تمنت معه الموت؟

وما أجدر «حسن» في الحقيقة بحبها! أليس هو ذلك الفتى الطيب النفس الجادّ في عمله، الممدوح بين إخوانه، المحبوب من كل الناس لما هو عليه من جمال العشرة، وما يلوح عليه من مخايل الشهامة، وأنه بقامته المتوسطة ولونه الشديد السمرة وعيونه الحادة الغائرة لأشبه الناس بشجعان الزمن القديم عنترة وأبي زيد. بل إن من يراه ويرى تشيعه للهلالية حتى لتحمله ربابة الشاعر على الجنون بهؤلاء الغزاة الأبطال، وتمنى رجوع عهدهم عهد العزة والتجوال تحت حمى السيف، وتفضيله ذلك على ما مهر فيه بالوراثة عن آبائه وأجداده من الحرث والزرع والسقي وتعهد الأرض — ليظنه من أبناء أولئك الغابرين أجدر به أن يغزو ويفتح. لكن وا أسفاه! فقد قضي عليه بالأسر والأشغال الشاقة، وما تلك المهنة التي يعيش منها ملايين من بني وطنه إلا أشغال شاقة أخرى: بها الأسير المستعبد من الحر العزيز وتلك الخطى البطيئة يقضي فيها الفلاح طول نهاره وراء ثوره تحت حر الشمس يلفح الهجير وجهه ولا يتأفف، يصبّ الله عليه النار من أعلى السماء فيلقاها صامتًا صاغرًا يروح ويرجع، ويرجع ويروح، وراء محراثه، أو يحني ظهره الساعات الطويلة في نكش الأرض، أو يسوخ إلى أفخاذه في تلويحها، ويعمل غدًا ما عمله اليوم، وبعد غد ما يعمله في الغد، وإن انتقل فمن شقاء إلى شقاء. ويرجع في المساء — إن رجع — إلى بيته مهدود القوى منهوكًا لاغبًا، فيطعم زقومًا وعلقمًا، ثم يرتمي على مهاد ليس أقل خشونة من الأرض التي تنام عليها الدواب، وقلّ أن يجد دثاره، ويحيط به في قاعته الضيقة عن يمينه ويساره وفوق رأسه وتحت رجليه الكثيرون من نتاجه وأهله، ومن فوقهم سقف منخفض تكاد تصل إليه أيديهم وهم نيام إلى أن تفرج عنهم أيام الصيف، فتنبذهم قاعتهم بالعراء. هل هذا كله إلا ذلة شر ذلة؟ ولكنه في ذلك ككل إخوته العمال على ظهر البسيطة. والمصيبة إن تعم تهن. وتقادم العهد يعطي الفاسد طعمًا تألفه الأجيال أبًا عن جد، ويكسو الكذب رداء الحق، والخضوع والخنوع لباس الطاعة والطيبة.

ذلك حسن فما ذنبه عندها؟

لم يكن له بالأمس ذنب. لكنه اليوم — وهو يريد أن يعجل بنزعها من يدي إبراهيم، ويدس بذلك السم في حياتها — هو أبغض الناس إلى نفسها.. نعم، هو أبغضهم اليوم إليها.. إنها الآن تكرهه من كل قلبها، ولا تريد أن ترى وجهه.. ألأن أباه غني ينغص على الناس حياتهم؟!.. كلا لا حياة إلا في أحضان إبراهيم.

نعم، في أحضان إبراهيم السعادة.. سعادة لا حدود لها..

وارتسم في خيال الفتاة النائمة فوق الحصير الناشف خيال عالم لذيذ مملوء بأحلام السعادة والهناء. وسرت مع الخيط الأبيض من نور الأمل الذي بعث إلى قلبها يد طيبة ناعمة أغمضت جفونها وحملتها وآمالها وآلامها إلى عالم السكون والنوم.

٥

في تلك الأيام التي تلاعبت فيها الحوادث بزينب ما شاءت، كانت عائلة حسن هادئة ساكنة تقطع في طريق الحياة المعتاد، وليس من بينها إلا قانع مستسلم للقضاء. فإذا جاء أمر زواج ابنه في الكلام قال عمي خليل وهو هادئ النفس مرتاح البال: إن شاء الله، إن شاء الله.. لما نبيع القطن يحلها ربنا.

ثم سكت أو حول الكلام إلى حديث غير هذا.

يقول تلك الكلمة بهدوء وسكون، فيحني حسن رأسه إلى الأرض أمام شيبة أبيه المهيبة ورأسه الكبير قد ابيض شعره، وذقنه الطويل يلمس صدره المفتوح يزينه نصيبه من الشعر الأبيض كذلك، وعمامته على طاقية من صنع ابنته تقوم فوق جبهة مفتوحة خطت عليها الأيام عدة خطوط غائرة ظاهرة، وحواجبه الثقال قد كاد يختفي لونها الذهبي الأصفر تحت غطاء المشيب تسقط قليلًا فوق عيونه الغائرة الزرقاء، وشنبه المقصوص تحت أنفه القصير الحاد يغطي شفاهه الرقيقة. وكأن من يرى ذلك الوجه العجوز يحسب فيه شيئًا من الدم الغربي. ثم يحمل ذلك كله عنقه الغليظ القصير قام فوق قفص قويّ عاش كل هذا العمر وقابل الصعاب والمظالم، وما مرض يومًا ولا عرف الألم، ثم ينم عن بطنه الكبير وسيقانه القصيرة المكسوّة خير كساء بشعرها؛ ولكنه مع ذلك كله لم يكن بحيث يسمى سمينًا، فإن تماسك أعصابه وقوتها وظهور عضلاته التي لا تزال شديدة لا يروعها شيء — جعله هذا كله أقرب للرجل الربعة القصير منه للسمين الغليظ. ومع أنه مستور الحال معدود في بلده من الناس الطيبين، فقد جعلته سنه يثبت على ملبسه وزيه القديم، فيقدم بذلك خير مثل لفلاح إسماعيل والأقدمين. وكل ما هان عليه أن يتنازل عنه هو أن يستعيض عن ثوب القطن ثوبًا من البفتة، وإن كان زعبوطه هو الزعبوط لا يعرف ابنه أيان يبتدئ تاريخه.

يحني حسن رأسه أمام أبيه فيجد من أمه الجالسة في ثوبها الأسود، عليها شاشها الأسود، ناشفة طويلة شديدة السمرة، يجد منها مؤمّنة على زوجها، منتظرة تلك الأشهر الباقية على أخريات الخريف أن تنقضي فتفرح بابنها ويأتيها في الدار من يقوم بأعبائها ويريحها من عنائها ويلتزم كل أمرها.

في تلك الدار غير حسن وأبويه أخوان وأختان وخادم عندهم له مع العائلة زمن طويل يسمح له أن يكون كبعض أفرادها. ولكن البنات كن صغيرات لم يعرفن بعد عمل البيت الذي وقع كله على أكتاف أمهما بعد أن زوّجت بنتها الكبرى منذ سنتين. وذلك بالطبع مما يزيد رغبتها في زواج ابنها الذي أصبح في السابعة عشرة من عمره، فتجد من امرأته من يريحها من رياسة عائلة طويلة عريضة كعائلتهم، وحتى تستريح من طلب مساعدات جاراتها الفقيرات فيما يشق عليها من الأمر، ومن تضطر بعامل المجاملة والحاجة أن تمدهن بشيء من عندها. أضف إلى ذلك أمانيها لابنها وآمالها في أن ترى أولاده وما تدخر لهم في نفسها من المعزة. كل تلك العوامل حركت عندها ما جعلها تسعى جهدها لإتمام هذه المسألة.

وكم من مرة فيما مضى كانت تتحيّن الفرص لتجد مناسبة تخاطب بها زوجها في هذا الأمر. لكنه كان يحسب الولد لم ينضج بعد، كما أن مسألة الفلوس لم تكن على ما يجب؛ إذ دفع كل ما كان عنده من النقود الحاضرة في خمسة فدادين اشتراها. ولا شيء أكره على نفسه من أن يستدين فيتحمل رذائل الدائنين ومطالباتهم. ثم إذا حصل للقطن شيء — لا سمح الله — عاملوه بما لا يحب وديروا عليه المبلغ بفايظ كبير، أوَلا يرى بعينيه الشيخ عامر وليس بين بيتيهما إلا خطوات كيف تراكمت عليه الديون من سنة لسنة حتى حار لا يدري ماذا يفعل، واختلط عليه أمره فصار ينقل الرهينة من بنك لبنك، أو يجر من الخواجات بفايظ خمسة عشر وعشرين في شهر أغسطس ليسدد في ديسمبر. وعلى أبو عمر الذي لم يبق له من عمل إلا تسلّم المحاضر وتحضير الشهود ورفع دعاوى زور على الفلاحين يطالبهم بإيجار سددوه، ألم يكن من قبل مستريحًا مستورًا ولم يفضحه إلا الدين. فخير له هو أن ينتظر حتى لا يكون زواج ابنه سبب خراب داره، وليكون مقدم العروسة مقدم خير.

غير أن امرأته لم تكن لتقنع بهاته الحجج أو تسمع لقوله، بل لقد أجابته حين عيل صبرها من محاولاته ومماطلاته: وإذا كنت اشتريت خمس فدادين، بيع فدان من أرض داير البلد ما دام خايف من الدين.

ولكن فكرة بيع أرضه التي يزرعها منذ سنين والتي ورثها عن أبيه لم تكن مما يرزق عنده.

ولئن كان كلام زوجته المتتابع يومًا بعد يوم قد كاد يقنعه بوجوب تزويج ابنه حتى يجد من حفدته سلوانًا على الشيخوخة إلا أن خوفه الشديد من أن يقع في يد أولئك المفترسين الذين لا يخشون الله ولا يرأفون بالناس ولا يعرفون لهم دينًا سوى الكسب من دم المحتاجين وحبه لأرض أبيه لم يجعل المسألة من المسائل السهلة التي يكفي لحلها الإجابة البسيطة. بل ذلك أمر يحتاج إلى التبصر والاحتراس وأن يأخذ الإنسان باله عند كل خطوة يتقدمها. لذلك كان قليل الكلام ما استطاع كلما فتحت له زوجته باب هذه الحكاية المعقدة، وإن كان ضميره غير مرتاح وكأنه يسمع في نفسه صوتًا ينادي مع هاته الدائبة في طلبها: إن ما تقوله زوجك حق عليك أن تجيبها إليه.

ولكن كيف يجيبها إليه؟ إن المغامرة من غير روية أكثر ما تنتج الخطأ الذي يأخذ زمنًا كبيرًا لإصلاحه، بل ربما أدى إلى شر لا يصلح أبدًا. وإذن فالخير أن نتوقى أن يكون ما نسعى له اليوم — وكلنا أمل أن يتحقق — مجلبة أسف وألم إن رجوناه وارتكبناه. وليس الإقدام، إن سقناه إلى لجج لا نعرف قرارها، إلا بالغًا مبلغ الجهل مؤديًا إلى الهلكة والفناء. دار ذلك في نفس خليل وهو على سطح داره والشمس تطوح للغروب، وقد ظهر القمر الكامل قبل اختفائها، والسماء رائقة هادئة صبغتها الشمس بلهبها، وقد غطت الوجود وكأنما يزداد سمكها من حين لحين، أو كأنما يضم إليها المساء ما فوقها من الطباق. والهواء في تلك الساعة بليل يحمل معه رطوبة الليل حتى ليحس بها خليل على صدره العريان. هو ذلك النسيم الذي ينسينا شجوننا ومخاوفنا ليحملنا معه إلى السرور ويذهب بنا إلى عوالم كبيرة تسرح فيها خيالاتنا وأحلامنا كما تشتهي، ونجد كل ما نريد ويتحقق أمامنا كل ما نطلب، إلى عالم بابه طاقة القدر فيه كل ما شئت حاضر موجود.

فلم يستطع خليل أن يقاومه ليبقى في مخاوفه وأوهامه، بل انتقل معه ليحسب في جانب الخير مثل ما قدر في جانب الشر، وليرجو قدر ما خاف ويستقبل في نفسه امرأة ابنه استقبالًا حسنًا. ثم أبناؤها الصغار أولاد حسن ما أحلاهم حين يملأون الدار بضجتهم وضحكهم، وقد تفرغت لهم جدتهم بما حملته عنها أمهم من الأعمال، فيصبحون ملائك المكان والعزاء عن كل ما يجيء به الزمن!

وجد ذلك العجوز من اللذة في هاته الأحلام ما ذكره الصبا وخفّ لها قلبه الذي أثقلته الأيام بأحمالها، وارتسمت على وجهه علامات السرور والرضا. فلما جاءته زوجته — وقد انحدرت الشمس واحتجب نصفها، ولم يبق إلا لحظة حتى تجر معها إلى الخفاء بقية ما في النهار، وترسم على جبين الأفق سبيكة الشفق — لم يمهلها أن سألها عما إذا كان حسن قد رجع من عمله؟ فأجابت إنه انحدر إلى الجامع لصلاة المغرب. فقام خليل وكأنما كان — قد تاه في أحلامه عن فريضته، ولم تكن إلا خطوات حتى وصل إلى المسجد والناس يصطفون وراء الإمام، وأكثرهم من الراجعين بعد أن قضوا نهارهم سعيًا وكدًّا ولغوبًا. وإلى جانب المنبر عن ناحيتيه وقف شيوخ القرية ممن جاوزوا السبعين، ولم يبق لهم من عمل إلا أن يقضوا بقية حياتهم عبادة وتسبيحًا، تراهم يحضرون إلى بيت الله والليل أسود قاتم، فينير لهم ذلك المكان الفسيح فانوس أو اثنان فيهما مصابيح ضئيلة ضعيفة النور، ثم يقرأون الورد، فيرسلون في تلك الساعة النائمة ألذ ساعات الليل ضجتهم وجلبتهم. حتى إذا بدأ الصبح يتنفس هدأت الأصوات وسكت الوجود وساد القرية سكون عميق لا يقطعه إلا نباح الكلاب أو عواؤها أحيانًا. ثم يشق عباب الجو ويملأ الفضاء دعاء المؤذن ونداؤه الطويل يضيف إلى آخره: «الصلاة خير من النوم»، ويكررها بصوت جهوري عال يمده مدًّا، فلا يدع حركة من حركات هاته الكلمات الأربع إلا قلبها في حنجرته على وجوهها المختلفة. فإذا انقضت صلاة الصبح رجع الكل إلى بيوتهم، فمنهم من أكل فيها لقمة وانصرف إلى الغيط، وآخرون يستكملون حقهم من النوم يبقون فيه حتى ضحوة النهار. ومن بعدها يرجع هؤلاء المسنون إلى الجامع يتمطون فيه أو يقعدون يستعيدون حوادث الماضي وظلم إسماعيل، أو يتحدّثون عما في قريتهم من حاضر الأمر. فإذا ما توسطت الشمس كبد السماء وآن وقت الفريضة أدوها، ولم يكن بأسرع من أن يأخذ كل منهم مكانه الذي اعتاد كل يوم وينام نومًا عميقًا يذهب فيه أغلبها إلى الغطيط المزعج. ويتنبهون لصلاة العصر ثم من بعدها منهم من يذهب إلى الزرع يرى ما فعل الله به، ومنهم من ينتظر نسيم المغرب الجميل في المسجد. وعلى هذا النمط يقضي هؤلاء الشيوخ حياتهم هادئة تسيل مع الزمان لا يفكرون في شيء ولا أمل لهم إلا أن يغفر الله لهم ويتقبل صلواتهم ودعاءهم.

دخل خليل وأخذ مكانه الذي تعوده والإمام يرفع أصابعه إزاء أذنيه وينادى: «الله أكبر»، فترتفع من ورائه أصوات المؤمنين تنادي هذا النداء بغير انتظام. فمنها العالي الرفيع حتى ليكون مزعجًا، ومن يردد الكلمة مرتين أو ثلاثًا كأنه لا يتحقق من قبول الأولى فيشفعها بالثانية، ومنهم من يقطع الكلمة الأولى من وسطها ثم يبدؤها من جديد، وآخرون يخطفونها خطفًا، كل ذلك بلا ترتيب ولا نظام، بل هو مجموع أصوات مشوشة لا تملأ هذا الفضاء المهيب الهادئ إلا ساعات الجماعات، ولما رأى الإمام أن قد هدأت الضجة ابتدأ الفاتحة يرتلها، وإن كان يتعجل في القراءة حتى إذا كان في نهايتها، إذا صوت جاء من ناحية الحنفيات: «إن الله مع الصابرين» وتبعه رجل يجري وسط المسجد مكشوف الذراعين، فغطاهما بأكمامه حتى إذا استوى مع الصف ارتفع صوته بعد أن سكن الكل ينبّه الإمام أن قد صار معهم. ولكنه ما أتم نداءه حتى جاءت «إن الله مع الصابرين» أخرى استوقفت الجمع لحظة من الزمان. ثم وسط تلك الظلمة التي تدخل الجامع من كل نوافذه فتذر حيطانه وأعمدته البيضاء ملتفة في رداء من الشك يزداد رويدًا رويدًا، انحنت أقواس هؤلاء العابدين ركعًا حتى ليحسبهم الناظر من بعد كأنهم خيالات تموج وسط مساكن الجن، أو هم ملائك مقربون لفتهم السماء ببردها. والليل يسقط من سقف المعبد العالي فينزل بالمصلين على جباههم سجدًا حتى ليكادوا يستوون بالأرض خضوعًا وخشية. ولا تأتي عليهم الركعة الثانية حتى يكادوا يختفون عن عين الرقيب. وفي سكوتهم تهمس شفاههم بالدعوات يحملهـا الليل على جناحه فيصعد بها إلى السماء ثم يرجع فيوحي إلى الإمام أن قد سمع الله لمن حمده، فيلقاها الجمع وقلوبهم ملأى من خشية الله، أو هم يحلمون بما سيشترونه من أسواق الخميس، أو يعدون في سرهم الأيام التي اشتغلوها في الأسبوع المنصرم وهم ينتظرون بفارغ الصبر أن ينتهوا من واجبهم الديني ليذهبوا إلى كاتب المالك يحاسبونه على اليوم الذي يريد أن يأكله عليهم. ولا يكاد إمامهم يسمعهم السلام وينتظر لهم من الله الرحمة حتى ينفلتوا لإتمام حسابهم، ولا يبعد أن يوجد الكاتب من بينهم فيأخذوه سوقًا إلى مكتبه ليظهر لهم من بين دفاتره حقّهم، وما لهم، وما عليهم.

•••

صلى خليل معهم ودعا الله أن يوفقه للخير فيما فيه يفكر. ثم لما انتهى انصرف راجعًا على عقبه فإذا ابنه قد سبقه إلى الدار، وهناك أخذوا عشاءهم معًا والرجل مشغول البال حائر الفكر لا يقرر في نفسه أمرًا ولا يجزم بشيء، تدفعه العوامل المتخالفة المتضادة فلا يثبت أمامها، ولا يميل إلى جانب منها، ولا ينهزم دونها. ويزيد في أحلامه وخيالاته النسيم العليل يسري ساكنًا هادئًا يبعث إلى الكون الغارق في اللجة العظيمة من أشعة البدر سرورًا وانتعاشًا، ولكنه ما عتم أن صلى العشاء وجاء موعد النوم حتى رأى نفسه مضطرًّا لأن يترك كل شيء ليذهب إلى مرقده ينتظر فيه الفجر الذي يزعجه منه، وانتهى بذلك هذا الحلم الجميل المخيف الذي أتى عليه النسيان حتى ذكرته امرأته به من جديد.

لم يكن في هذه المرة فيما كان فيه من قبل من الشك، بل سألها عمن تراها تصلح أن تكون زوجًا لحسن. وأثار هذا السؤال اختلافًا آخر في الاختيار بين أن تكون فتاة من أمثالهم في البلد جماعة ذوي غنى وثروة، أو ما يفضله خليل من ابنة حلال تعرف كيف تقوم بأمر ابنه وبيته ويقدرون عليها فلا تعمل عليهم كل يوم غارة وتقيم لهم مأتمًا وتغضب كل شهر وتذهب إلى أهلها. وما كان ذلك الخلاف بالذي يأتي عليه حديث ساعة أو يوم، فإنه إن تكن الأم قد أعدت في نفسها من تريدها عروسًا لحسن فإنها لم تر من حسن السياسة أن تطلع زوجها على ذلك لأول وهلة، وخصوصًا أنها رأت من كلامه ما زعزع اعتقادها فيمن اختارت من قبل، وكأنها اقتنعت بصحة ما يقول، فأرادت أن تصل إلى من توافقها هي وتوافق ابنها وتوافق خليلًا زوجها.

أما حسن فلم يكن له في هذه المدة من كلام ولا حديث في الموضوع مع أبيه، وإن كانت أمه تعلم من دخائل نفسه ما يسهل على الولد أن يخبر به أمه، وإن كان يستحيل أن يطلع عليه أباه. إنه لا يرفض الزواج، بل هو يريده ولكنه لا يعرف أكثر من أيهما أي فتاة يخطب.

بعد ذلك بأيام كان في غيطهم المجاور لغيط السيد محمود العامر يوم ذاك بالعاملات، ويتولى الرياسة إبراهيم كعادته. فنادى حسنًا ساعة الظهيرة، وقد انتهى الكل من غدائهـم، أن يأتي فيلعب معه «طرد طاب»٢ في المدة القصيرة الباقية من مقيلهم جميعًا في تلك الأيام الجميلة التي تأتي بعد أكتوبر حين يعتدل الجو أو يميل قليلًا نحو الرطوبة، وتبتدئ حياة الفلاح تبشره بمقدم راحته الشتوية، وحين الأشجار العظيمة يتساقط بعض ورقها بعد أن أدّى واجبه من كسوتها، وإن كانت لا تضن بظلها على من أراده. وأجاب حسن الدعوة، ونقشوا «سيجتهم»، وأخذ كل منهم معه ولدين من العمال، والتف الباقون حولهم، وأكثرهم كواعب قد أينع عليهن الصبا وكساهن الشباب ذلك الجمال الذي لا يضن به على أحد حتى ولا غير الجميل، وأخذت زينب مقعدها من بينهن إلى جانب صديقات لها وأتراب، وهي لا تكاد ترفع عينها عن إبراهيم. ولم تكن إلا لحظات حتى انتهت كل حركة، وصمت كل صوت، وآن أن يبتدئ اللاعبون طردهم. وإذ ذاك مسك حسن «الطاب» في يده، وبعد الفاتحة المعروفة تبادلها مع إبراهيم: «اذكر على — ذكرناه — وإبليس — لعناه — وجدنا وجدكم — رحمناه — يا أرحم الراحمين يا الله»، سمع صوت الطابات تنفرد على الأرض وما بين حين وآخر يصيح صغير من اللاعبين: الفوز — إنعاز — آه اثنين — الفوز يا طاب. الله. ولكن طقته الثانية لا تكون بأسعد حظًّا من الطقة الأولى، فيسلمه إلى جاره آسفًا. والجلوس حولهم سكوت ينظرون بعيون ثابتة. وما هي إلا دقيقة أو نحوها حتى ابتدأ الطرفان يفوزان، وهذا يجيء بستة خضراء، والآخر بمثلها بيضاء، ثم أخذ العريفان يعدان كل لعبة: داره وواحد اثنين. وواحد اثنين ثلاثة يشيل ده … وتني. أيوه. في رأسها من قلة ناسها.. ختيمك. آه لبن يا ولد. وانت. إوعه يا طاب.. لاه بقيت بلعبة واحدة. وعند كل تفويزة تبدو على ثغور المتفرجين ابتسامة خفيفة تذهب رويدًا رويدًا حتى تزول وتعروهم هزة انتعاش تدور فيهم كلهم كأنها رعشة كهرباء، ثم يرجعون إلى حالهم الأولى التي تقرب من الذهول أو الغفلة. ثم انتهوا من طردهم وقد حجب الشمس تعرض الغمام في الجو، ودخل الوجود بذلك في شيء من الظلمة والعبوس. ولم تكن إلا لحظات بعدها حتى سمعوا دويًّا جاء من بعيد تألفه آذانهم على ما فيه من الإزعاج كما تألف أغاريد الطير الشجية تملأ الكون رنينًا وكأنها تدق على أوتار الهواء، وكما تألف خرير الماء الهادئ الدائم أو صوت الضفدع في ليل الصيف يحيي الظلام كلما سكت حداء العاملات — جاء ذلك الدويّ إلى آذانهم، فمنهم من التفت إلى اتجاهه وحدد نحوه نظره، ومنهم من تمطّى فاردًا يديه إلى آخرهما نافخًا الهواء بتثاؤبه متأوهًا من مقدم وابور العصر الذي مر بهم وهم ينظرون إليه يرجّ الأرض تحته، وينفخ في الجو سحبه تعلو فوق مدخنته التي تخرق الهواء، ثم تتمايل مع الريح وتنساب أجزاؤها ساقطة حتى تتلاشى. وانتهى بذلك مقيلهم ورجعوا إلى عملهم بالصبر القديم الموروث حتى أنقذهم منه أن احمر قرص الشمس مائلًا إلى مغيبه منذرًا أن لم يبق إلا قليل حتى يودع الأرض للصباح، وتضاءل النور أمام مقتبل الليل، وأمسى الرجوع إلى أوكارهم لا محيض عنه، وبذلك عفا الله، أو كما يقول أحيانًا خوليهم لهم «عوافي يا أولاد». وتنادى إبراهيم وحسن من جديد ليرجعا معًا، وانساق أمامهم أو تبعهم أولئك العمال والعاملات، وكلهم يجدّ في المسير ويتحدثون معًا، فتفلت ما بين حين وآن ضحكة من الفتيات ينفرط عقدها في مشهد النهار الزائل، وتسيل مع الهواء، ويعقبها صداها لا يكاد يسمع، وكأنه رنين القرص البعيد لامسته البسيطة أو احتك بفروع الشجر، ولم يكن الصاحبان ليشاركا الباقين في ضحكهم، بل لتراهم وهم يهمسون وعلى وجوههم السمراء شيء من أثر الجد، فيصل إلى نفسك أنهم يتكلمون في أمر ذي بال (وهنا أستسمح نفسي وأستسمح قارئي أن أذكر حكاية قولهم كما قالوا): والواقع أنهم من أول خطوة اتخذوها في طريقهم أحسوا أنهم سيقولون اليوم غير ما تعودوا أن يحكوه معًا. فبعد كلام وحديث قال إبراهيم: أيوه يا أخي.

قال انت بدك تتجوز؟

– ليه؟ وإيش عرفك؟. يعنى يا أخي شايف البنات اللي بدهم يجوزوا..

– أهم ياخويه بالرمية.. يعني إللي قدامنا دول مش عجبينك وإلا لازم تعمل لي أنت راخر أبو علي تجيب لك واحدة تغضب الصبح والمغرب.

وصحيح أنه قد كان ممن أمامهما أكثر من ثلاث يصلحن زوجات من خيرة الزوجات الفلاحات. بل لقد شاركهن في الطريق من الراجعات إلى دورهن أخريات من بنات الناس الطيبين كن يعملن في مزارعهن، فقدمن أمام حسن مجموعة من عرائس جميلات يصح الاختيار من بينهن. لكن ذلك المشهد أظهر له كذلك فساد قولهم إن بنات العائلات الكبيرة سريعات الغضب والركون إلى الاحتماء بأهلهن؛ إذ جاءت أمامه هؤلاء القادمات بذكرى أمثالهن، كن أحسن الزوجات، وأكثرهن وفاء، وأحفظهن ذمة، وأرعاهن عهدًا. فما دام لا يرمي بنظره إلى من هي أغنى منه، أو في درجة غير درجته، فهو واجد من بنات أقرانه خير من تصلح له زوجًا، وأكثر من حفظهن الذمام ورعايتهـن العهد، هن قد ربين يعرفن قيمة المال، وما يجب من حسن القيام عليه والتصرف في شأنه، ويفقن في ذلك بكثير الفقيرات اللاتي لا يعرفن ما توازي الأرض، ولا ذُقْنَ في حياتهن لذة نجاح عملهن، وإنما هن بنات ساعتهن يجرين وراء أجرها، أنتج عملهن فيها أم لم ينتج.

ثم بعد برهة سكتا فيها، قال حسن: «ياخويه بكره يحلها ربنا».

بتلك الإشارة من إبراهيم حصل في نفس صاحبه شيء من معنى وجوب الاختيار، وأصبح يرى أن عليه أن ينتقي من بين هاتيك الكثيرات أمامه من تعجبه، وبعث إلى نفسه اليقين بحريته في ذلك ما يعلمه من يسر حالهم، غير أنه كما يقولون «حيرة تحيره»، وما كان في حياته السابقة كلها يفضل فتاة معينة تنقذه من موقفه هذا الذي يريد فيه شريكة يظن حين يعقد عليها أنه يأخذها شريكة العمر وأم بنيه وبناته الكثيرين على ما يأمل هو ويأمل أهله. ولقد رأى فيمن أمامه هؤلاء القادمات من مزارعهن مثل ما هو راجع من غيط أبيه أشبه به مركزًا ويسر حال، ورأى من الأخريات القوية السمحة والجميلة الرزينة، وزينب فوق هذا وذاك.

ثم ابتدأا حديثًا آخر يقطعان به بقية الطريق، وكلهم مسرعون يشقون عباب الظلام النازل يختفي تحته كل لون، ولا تميز العين من كل الموجودات التي تأخذ صبغته إلا ما كان أبيض ناصعًا، فلما بلغوا السكة النازلة إلى الجامع انفتل الصديقان إليه: حسن في سمرته وحدته، وإبراهيم في رشاقته وخفته، ويكادان يوقنان أن الإمام قد سبقهما. وتفرق الآخرون كل اتخذ طريق داره بعد أن تهادوا التحية جميعًا. والبنات تظهرهن غدفهن السوداء حزانى آسفات على شبابهن الغض يقضينه في الأرض وتنقيتها، وإن بعثت ابتسامتهن إلى الظن أنهن قانعات أو شبه قانعات. وانبعثن جميعًا وابتعدن عن النظر قليلًا في أرديتهن السوداء وكأنهن خيالات تموج في لجة الليل الوليد حتى يختفين ما بين الجدران فيتسللن في الأزقة إلى أوكارهن يقضين فيها ليلًا هادئًا نائمًا.

•••

وأدّى حسن صلاته منفردًا هو وصاحبه، وأتماها في لحظة أو أقل، ثم خرج مسرعًا إلى بيته، فلما كان في بعض الطريق إذا أبوه مع صاحب له اسمه سلامة، على مصطبة أمام دور هذا الأخير. فسلم عليهما، وتريث في سيره، إذ علم أن ليس هناك ما يدعوه للعجلة في اللحاق بأهله. أما هذان العجوزان اللذان أكل عليهما الدهر ولم يشرب بعد، فكانا أول من خرج من المسجد بعد الصلاة، وجلسا يقصان معًا قصص أمثالهما، ويبدي كل منهما رأيه فيما يمر أمامهما: ثور اشتراه الحاج علي من سوق الخميس ودفع فيه اثنين وعشرين جنيهًا ظناه مع جودته وقوته في الشغل غاليًا، وبنت تزوج بها عوض مشعل من البندر رأيا في مشيتها من اللكاعة ما حكما به على نساء البندر أنهن لكليعات.. فلما مرت بهما العاملات قافلات إلى دورهن لم يقل خليل شيئًا حتى بادره صاحبه قائلًا: وآدي عرايس بلدنا.

ثم بعد برهة قال: من حق يا خليل أنت بدك تجوز حسن؟!..

فأجابه خليل بصوت هادئ: والله يا سلامة بدي لكن مش عارف أجوزه مين؟ ابني ياخويه ما بيحبش البنات اللي كلهم دوشة ويعملوا لهم الصبح غارة والمغرب قتله ويا معجل ما يغضبوا، وأهي حيره يا سلامة ياخويه.

فقال له صاحبه بصوت ملآن أدعى ما يكون للثقة به والاطمئنان إليه: يالله ياخويه بلا كلام … انت اللي محير روحك من غير حيره.. طيب ولما مش عجبينك دول ما غيرهم كتير. أقول لك أنا على واحدة من اللي فاتوا دول وواحدة والله عليها كلام.. زينب ما لها؟.. حق أوع تقول حاجة.

غير أن خليلًا كان يخشى ألا تقبل زوجته لحسن إلا فتاة من أقرانهم في البلدة، وهو يحسب لذلك حسابًا كبيرًا، لأنه يعرف أن البيت الذي لا ترتاح فيه الأم وامرأة ابنها يبقى معكرًا صفاؤه متنازعًا بين المرأتين، مركز شقاء دائم بين الآباء والأبناء. وأما إن هي رضيت فإنه يقبل على العين والرأس زينب عروسًا لابنه، بل إنه ليعد بذلك نفسه سعيدًا.

وما كاد يطلع سلامة على هاته المخاوف حتى قال له هذا الأخير: طيب ياخويه.. روح جوزه بنت علي أبو عمر خلي عيشتكو تصبح شكل من أولها لآخرها.. ويعني الفلاح منا عمره يرضى.

وأخبر خليل زوجته بكل هذا الحديث. وما كانت تعلم عن زينب إلا كل خير. غير أن مطمعها كان أبعد من أن يقع على ابنة عائلة فقيرة تشتغل طول عمرها أجيرة عند أصحاب الأطيان. فلم يرقها اختيار زوجها، ورأى هو ذلك من وجهها، فقال في نفسه: صدق سلامة، وعمر الفلاح ما يرضى. ثم أراد أن يعرف ما ليس يرضيها من هذا الاختيار وما رأيها هي؟ ولكنها لم تبد رأيًا.

جاء حسن بعد ذلك فأخبرته فيما بينهما بما يقوله أبوه، ولم يحر هو الآخر جوابًا ولا أعطى عن نفسه قولًا.

غير أن تلك الأحاديث وهاته الأقوال لم تبق في صدور أصحابها لا تتعداها، بل انتقلت إلى الخارج بشكل أوضح وأكثر إثباتًا وتقريرًا من الواقع. إذ مع أنهم لم يقطعوا في الأمر بإثبات ولا بنفي، وبالرغم مما تجده الأم في هذا الاختيار من عدم توفيق زوجها إلى ما تحب، فقد جاءت إلى الآذان كأن قد تم كل شيء، واتفق الأبوان وابنهما فيما بينهم على أخذ تلك العروس لحسن، ووصلت إلى زينب بهذا الشكل، فأحدثت عندها ما أسلفنا من قبل ذكره حتى جاءها الأمل بعد يأسها القاتل.

وفي الأيام التي تلاعبت فيها الحوادث بزينب ما شاءت كانت عائلة حسن هادئة ساكنة تقطع طريق الحياة المعتاد وليس من بينها إلا قانع مستسلم للقضاء. وقل أن يرد فيما بينهم أمر زواج حسن إذ أصبح الآن يظن أنه وصل إلى شيء، والأم تقلب في نفسها كلما عاودتها الذكرى صور بعض بنات الناس الطيبين من أهل البلد، فلا تجد من بينهن خيرًا من زينب، ولا من تعدلها. والابن في عمله قل أن يرد هذا الأمر على باله، وإن جاء إلى نفسه. جاء معه أن من ورائه من يفكر فيه، أو أمل له بعض الآمال، ثم ما أسرع ما ينساها!

وعلى هذا ظلوا جميعًا.. ثم جاء الصيف.

٦

جاء الصيف وهدأت الإشاعة، وإن هي إلا ككل مولود على الأرض يحدث ضجة ساعة مبتداه، ثم يصبح شيئًا عاديًّا تراه العين أو تسمع به الأذن فلا تأخذها له لفتة ولا تعيره اهتمامًا. وجاء مع الصيف أدوار الريّ مما يفسد على الفلاح نظام حياته ويجعله يعيش بين أهله مدة البطالة، فإذا جاء الدور لزم العمل ليل نهار يدأب فيه ويجدّ، ولا يجد سبيلًا أن ينفّس عن نفسه بعض الشيء، ويشاركه في ذلك دوابّه حتى تتولاها اللغوب وينالها أكبر الكرب.

جاء الصيف للفلاح بالعمل، ولغيره بأيام الراحة والرياضة. ولم يكد يتنفس عنه الربيع حتى جاء القرية حامد وإخوته بعد أشهر قضوها بين الأوراق والحيطان قَلّ أن يصل نظرهم إلى خط الأفق، أو يتمتعوا يومًا بمشهد مشرق الشمس أو مغربها. تلك أشهر عانوا فيها الصعاب يعدّون أيامها على أصابعهم عدًّا، وينتظرون آخرها وهم أشوق ما يكونون إليه، ويريدون أن يأتي اليوم الذي يرجعون فيه من العاصمة الكبيرة ذات العظمة والجلال إلى بلدهم الصغير. وكأنهم في تلك الليلة الأخيرة، وقد أتموا امتحاناتهم، وربطوا عفشهم، ورسم السرور على ثغورهم الباسمة آية الرضا، يهاجرون إلى أشرف بقاع الأرض حيث السعادة والهناء المقيم.. وما نزلوا قريتهم حتى أظهروا ما أعدّوه لإجازتهم من كرات ولازماتها؟ ثم بعض أشياء صغيرة لا يستغنون عنها في أول أيامهم يهدونها إلى إخوانهم الصغار الذين يأتون عليها في يوم أو بعض يوم، أو هم يختصون بها أنفسهم ولا يكونون عليها أشد حرصًا.

في تلك الليلة الأخيرة يملأ الفرح صدورهم ولا يعرفون أطال الليل أم قصر. ومن بينهم صغير يحلم بمرأى أخيه الأصغر منه فارقه من عام بعد أن عاش معه كل أيام حياته، كما يتشوّق أن يجلس إلى جانب أمه بعد غَيْبَةٍ ما كان أطولها عليه! فيحدق إليها ليرى في ذلك الوجه الذي ينمّ عن الحنان والعطف ما عهده من قبل أن يُقْضَى عليه بفراقها، وكبير اعتاد الغربة وضربت بينه وبين أهله السنون الطوال حجابًا من النسيان يندفع السرور إلى نفسه، فلا يعرف له سببًا، ويحس معه بشيء من الوحشة لمغادرة البلد الذي قضى فيه أكثر أيام حياته. لا يرد على باله خيال أمه ولا ذكرى عائلته، وإن كان لأخيه الصغير الذي لا تزال تحفه عناية الطفولة الدائمة في النفس ما قد يفسر له معنى السرور الذي أحس به.

•••

جلس حامد بعد أن تفرق إخوته إلى مضاجعهم وكلهم ينتظر الصباح. جلس لينظر إلى غرفته نظرة وداع قبل أن يقوم إلى مرقده، فأحاطت عينه بكل ما فيها، واتكأ بيده على مكتبه وسط ذلك الصمت، ورنا نحو مكتبته وما تحويه من بديع الكتب. ثم جاء إلى خياله صورة الليلة القادمة وهو جالس إلى جنب دولاب قلَّ ما يحويه، وأمامه مكتب أجرد لا ورقة عليه. أو يأتي إلى سريره بعد قضاء سهرته مع أهل البلد يقرأون الجرائد التي لا تجيء عمرها بجديد، بل تكرر اليوم ما قالته بالأمس أو منذ شهر أو سنة من الزمان، وستكرره غدًا وإلى ما لا نهاية، ويصفقون استحسانًا للكاتب البارع الذي يعرف كيف يغير كل يوم مواضع ألفاظه، وليست وظيفته إلا أن يزجي إلى العقول ما في رأسه من أربع كلمات أو خمس يذيلها بتافه الحوادث التي ينفخ فيها ليظهرها عظيمة حتى يصل يومًا ما إلى تعميم ما يعتقد من واجبه أنه يعممه.

ذكر حامد ذلك في غرفته في تلك الساعة الهادئة من الليل، فكاد يأسى على فراق مصر. ولكن هوّن عليه أن ذكر إلى جانب ذلك هذه المزارع الواسعة على خطوتين من البلد يسرح فيها ببصره، ويذهب بخياله إلى غايات لا يحيط بها في غرفته هذه، والليالي الساهرة يقضيها في الغيطان، يرقب البدر في سماء الصيف الصافية وتألق النجوم إلى جانبه، في تلك اللجة تضيع أمام العين ولا أفق لها، وسكون الليل يقطعه نقيق الضفدع وصفير الصرصور أو زنّ التابوت يسكت كل تلك العجماوات الناطقة، وتسعده سلامية الفلاح الساهر في عمله ترنّ في الوجود، ويحملها هواء الليل يهيج لها الكون طربًا. وذكر ذلك كله فتعزَّى عن غرفته ومكتبه.

لكنه ما لبث أن سمع في نفسه صوتًا يناجيه:

… صحيح. كل ذلك جميل وفيه عزاء. ولكن أليس هناك عزاء أكبر في مرأى أمي وأبي والجلوس إليهما والحديث معهما؟ فهل يبلغ بي العقوق أن أنساهما حين أذكر الليل وروعته والفلاح وقيثارته؟ هل تدفعني الأنانية أن أسمع صفير أصوات الظلمة قبل أن أسمع صوت أمي في تحية استقبالي؟ يارب غفرانك وعفوك.. ألا يعدو وجودي معهم كتبي ومكتبتي؟ أوَلا أجد عزاء فيهم لأفر إلى الطبيعة وسلوانها؟ ما الطبيعة وجمالها؟ وما الكون وحركته إذا خلا ذلك من قلب يحب الإنسان ويحس معه؟! فإن وجد هذا القلب أفلا يكون هو صاحب الذكرى الدائمة، والصورة المطبوعة في الصدر؟

اللهم تعلم ما عن قصد أجرمت! أنت تعلم مقدار حبي لأمي وأبي، فاعف اللهم عن زلتي! ألا هل يبلغ النأي أن ينسينا من نحب؟ وهل تقضي الأيام على عواطفنا حتى لا نكاد نحس بها؟ نعم هي تلك السنين الطوال التي قضيت بعيدًا عنهم أدخلت إلى نفسي الأثرة والأنانية.

والواقع أن الغربة والبعد عنهم هو الذي جعله ينسى الدار وما فيها. وما شأنك بإنسان صرف الشطر الأكبر من حياته بين خلان المدرسة، ويرجع أيام الصيف فلا يجد في البلد إلا جمودًا وسكونًا؟.. أقوام لا تبين عليهم علامات الارتباط، ولا يظهر من شكلهم أنهم يعيشون معًا، بل كل في ناحية يفكر وحده ويجلس منفردًا إلا إذا ساقته الضرورة ساعات الطعام للوجود مع أهله، وهنالك يعلو الجميع سكوت كأنهم في مأتم بين أهل الميت ومحبيه. حينذاك يحس أن بينه وبين رفقة المدرسة من الود وعدم التكلف ما ليس بينه وبين أهله. وليس عجبًا أن ينتج التفريق ما أنتج في نفس حامد، ويدع القلب أشد شوقًا للطبيعة وذكرًا لآثارها التي تصحبه حيث حل وأينما كان منه لجماعة كل صلة بينه وبينهم في تلك الأيام التي يبدأ القلب فيها يتفتح ليعرف الوجود أنهم يقدمون له ماديات العيش، وبشكل لا يظهر له فيه منهم أثر …

وأصبحوا جميعًا في بلدهم الصغير المحبوب يحيط بهم أفقه، ويمرحون أحرارًا تحت شمسه الشديدة وسمائه الصافية. والمزارع يقوم عليها القطن قد ظهر وسواسه يبسم بشيرًا بما يكنّ من اللوز ويغطي اللا نهايات الواسعة تنطبق الأرض والسماء دونها، أو هي حصيد لم يبق عليها إلا بقايا ناشفة من جذور الغلال تلوحها الشمس طول النهار فتساعد بشقوقها الواسعة تقدح حرورًا كأنها عين الشيطان، حر الصيف الشديد، وإن لم يكن لها على لياليه الساهرة الرائعة من سلطان.

فلما تنسم حامد ريح القرية، وقد انتقل فجأة من ضجة العاصمة إلى هدأة الريف وسكونه، ومن العمل المستمر بين الأوراق والكراسات والكتب إلى الفراغ يشغله ما بين نوم وحديث مع بعض إخوانه في ذكرى المدرسة، شعر بما في هاته الحياة الجديدة المتشابهة — ينطبق كل يوم فيها على ما بعده وعلى ما قبله — من المضايقة، إلا أن يخلق الإنسان لنفسه شيئًا من لا شيء، وواجبات يؤديها لتنويع طعم العيش.

غير أن كل شيء يكسب بالزمان حقًّا في الوجود، والعادة تذهب عن النفس الاشمئزاز مما يدعو إلى اشمئزازها لأول ما تلقاه، والفراغ على ثقله لمن لم يعوده يصبح لذيذًا في أيام معدودة، ويسمح للإنسان بالراحة والتمتع بإرسال خيالاته وأحلامه إلى ما لا حدود له. هنالك يختص بعالم عظيم لا يزحمه فيه أحد، ولا يجد فيه منافسًا، بل يسرح ويمرح كما يحلو له، وكما يصور له هواه، فلا يجد إلا هواء معطرًا أو سماء صافية وأماني تتحقق أيًّا ما تكن. وهيهات لمن دخل هذا العالم الجميل أن يلاقيه إلا السعادات والمسرات.

ذلك كان شأن حامد: خرج من تلك الأيام التي كان يجد نفسه فيها مسوقًا إلى خلق عمل يعمله تجنبًا للملال، ودخل جنة الخيال والحلم. يقضي نهاره على أي شكل يكون، فإذا تطوحت الشمس نحو مغربها ترك البلد إلى المزارع، وبعث حوله إلى الأفق أحلى الأماني. يسير الهوينا غير قاصد مكانًا، ويتخذ من الطرق ما يقابله، فينساب بتلك الخطوة الثقيلة الهادئة بين الغيطان، لا يعرف موضع قدمه ولا يئوب إلى نفسه إلا حين يزعجه بعض المارة بتحيات متكررة.

وعلى هاته المزارع التي تمتد على جانبيه وتمدّ له في أحلامه، كان كثيرًا ما يرى جماعة من العمال أو العاملات الذين عرف من قبل فيهديهم تحياته، وقد يقف معهم قليلًا. فلما كان في بعض الأيام إذا إبراهيم كعادته على رأس عصابة يخفون القطن. فذهب إليهم ووقف معهم، وجعل يسأل كلًا منهم عن حاله، ومن بينهم صغير باش الوجه طلق المحيا ذلق اللسان خفيف الروح جاء من عمله يشارك حامدًا وإبراهيم الحديث، فسأله حامد عن أخته فاطمة ولمَ لا تحضر إلى الخف، ولكن الصغير لم يلبث أن سمع ذلك حتى ضحك ملء أشداقه وأجابه أنها تزوجت في بلدة غير بلدهم. وأخيرًا أمره إبراهيم أن يذهب إلى عمله، واستحث الجميع، ورجع إلي حامد يجيبه عما يسأل عنه.

بجوار هذا الصغير كانت تشتغل أخت زينب، فسألها حامد عنها، وعلم أنها اليوم قد ذهبت لتطحن. ثم سأل من بعد أخريات عن أنفسهن وأخواتهن؛ وبقي معهن حتى ابتدأت السماء يتغير لونها. هنالك تركهم وسار في طريقه يفكر في أمرهم وفيما عساه يكون مصيرهم. ثم جاء إلى نفسه ذكر زينب، وارتسم أمامه خيالها الجميل، وعيناها الناعستان، وقوامها تحت ثياب العاملة البسيطة. لكن تلك الشهور الطوال لم يرها فيها واعتقاده القديم أن لن يقدر على أن يحبها جعل نفسه بدل أن تهتاج وتأخذها الرعدة تحس لتلك الذكرى العذبة بنشوة تدخل إلى قلب حامد، وسرور يخالط وجوده وينسيه ذلك العالم الذي حوله، وتمثل أمام ناظره أيام الصيف القديمة وتلك الساعات يرجعان فيها والليل يلقي على النهار سدوله ويرفرف على الوجود بجناحه، وهما صامتان ساكتان، يشعر كل واحد بالسعادة تفيض عنه وتلفّه في ثوبها مع صاحبه.

والأيام تتعاقب، وتعاوده الذكرى كلما وجد الخلوة وسط صمت الطبيعة. ويزيده تعاقبها ذكرًا للحوادث والكلمات والحركات والأماكن، ولكن أثبتها في نفسه أثرًا وأعلقها بخاطره ذكرى ذلك اليوم الذي شعر فيه بأنه مفارقها عن قريب، وأنه لم يبق إلا أيام معدودات حتى يهجر القرية.

•••

كان ذلك أول الخريف والبنات في قفولهن يتحدثن عن الجلاليب التي أعددن أو يعددن لجمع القطن، ويحكين حكايات عن هاته الأيام الجميلة التي مضت حين كن يشتغلن باليومية ويتسلين بالغناء عن تعب العمل، فترتفع أصواتهن العالية المرتبة يحيط بها ضوء الشمس، ثم تنتشر في الهواء، وتهتزّ أشجار القطن المتوجة بثمرها الناضج الناصع البياض يعطي المزرعة الواسعة معنى المشيب، وكأنها في اهتزازها قد أثار هذا الصوت شجنها فطربت وبعث إليها وهي في منتهى حياتها سرورًا لم تعرفه من قبل.

كان ذلك أول الخريف، والوجود يسلم إلى الماضي أيام النشوة الفرح، ويأخذ عدته لصمت الشتاء. وحامد يرسل على الأراضي وإلى الناس نظرات الوداع، ويسير جنبًا لجنب مع زينب، وقد تحركت نفسه وارتاع جنانه، وثارت كل حواسه أن ذكر فراقه القريب لتلك الأماكن المقدسة، وتلك الطبيعة وبناتها، ولم يملك لسانه أن يقول: وأنا مسافر بعد أسبوع..!

وتلا ذلك نظرة تجلت فيها كل إحساساته وما يجيش بصدره، أرسل بها إلى الفتاة التي لم تجب بكلمة، بل أسبلت عيونها وكلها الأسى والحزن لذلك الفراق العاجل. وكأنما أحست بهذا اليوم القريب حين تصبح كغيرها من الفتيات ولا حامد إلى جنبها. وحامد يفتش في ذاكرته عن شيء لا يدري ما هو، وتكاد نفسه تفيض من غير سبب يعلمه، ويقرب من زينب حتى يزحمها على سعة الطريق، ثم يتباعدان، وتظهر عليه علامات القلق كأنه ينتظر أمرًا، وساعة المغرب تبعث بالظلام يغطي الكون، فلا يزيده إلا قلقًا.

فلما انعطفا إلى طريق القرية — وقد سبقا الآخرين وخلا بهما المكان — مالا إلى مرتفع من الأرض مختف فجلسا فوقه. وبعد برهة أمسك حامد بيد زينب، ثم ضم أصابعها ضمًا شديدًا. ولكنها بدل أن تتألم أو تتأوه أو تسحب يدها طوت هي الأخرى أصابعها على يده وضمتها. وحينذاك مال برأسه نحوها وفي شبه الظلمة المحيطة بهما وضع قبلة على خدها، فما إن أحست بها حتى عرتها الرعدة، وتلفتت يمينًا وشمالًا. فلم يفهم حامد من هذا شيئًا، وجذبها نحوه فطوقها بذراعيه، وجعل يقبلها في صدغها وخدها وعنقها وعلى القليل الظاهر من شعرها. والبنت كأنما أصابتها جِنَّة قد أستسلمت إليه، وتضمه من حين لحين وتقبله. ثم وضعت فمها على فمه، وأسبلت عينيها وكاد يغيب رشدها. وأحس حامد في تخدره كأنما يرشف من لسانها الشهد المذاب. وفي هاته الضمة الكبرى تاه رشدهما، وبقيا كذلك حينًا من الزمن. وما كادت تفترق شفاههما حتى ضمها إليه، وألصق جسمها بجسمه، وصدرها قام فوقه نهداها المتّقدان يرتعشان من قوة النار الكامنة في كل وجودها، والدم قد علا إلى أصداغها تركها في يد حامد تائهة لا تعي.

ذكر حامد ذلك في وحدته ثم سأل نفسه: هل عند الأيام من الجود أن تسمح له بمثل هذه الساعة من جديد؟ وخُيِّل إليه أن يذهب لوقته فيبحث عن زينب ويجدها أينما تكن. ولو علم ما شغل بالها اليوم، وما تكن من الحب لإبراهيم، لعرف ما بينه وبينها الآن من حجاب. وهل حجاب أقوى من الحب ينسي صاحبه الأشياء والناس إلا محبوبه وما في القلب من ذكرى هذا المحبوب. لكن حامدًا لا يعلم شيئًا مما في قلبها، وكل ما يعتقده حائلًا بينهما أنها ستتزوج عما قريب بحسن. لولا أنه يحترم هاته الصلات الشرعية بين الجنسين لكان أول همه أن يصل إلى قلب تلك الفتاة ليختص به نفسه. وأي إنسان يزهدها وقد حوت في بديع خلقها أبدع ما جادت به يد الخالق؟!

٧

جاءت عزيزة إلى القرية كعادتها كل عام. هذه أيام صيف يهجر الناس فيها المدن. وإذا كانت ستجد مكان الحيطان حيطانًا فعلى كل حال في الانتقال تغيير هواء، كما أنها تخرج في بعض الليالي المقمرة مع أهل البيت يخفرهن رجال من أهلهن. فلما علم حامد بمجيئها ترك التفكير في كل شيء سوى أن يذهب إليها، فيسلم عليها، ويجلس إلى جانبها يسألها عن حالها.. ما أحلى هاته البنيّة أيام كانت صغيرة خفيفة سريعة الحركة كثيرة الضحك، أيام كانا يلعبان معًا منفردين فلا يسألان عما يفعلان!

ومع يسر الوسيلة له كان يحسّ دائمًا كأن عليه ألف رقيب، وكأن الناس جميعًا مطّلعون على خفايا ما في نفسه وكل ما يكنّه صدره، ويجول في فؤاده، فيتردّد دون الذهاب ولا يقدر عليه. لكنه أحسّ أخيرًا بدافع شديد لم يستطع مغالبته يحثه على إطراح كل ذلك من وراء ظهره والإقدام إلى حيث مَلاكه الذي أعطاه من الخيالات والصور، ورسم له أمام نفسه تمثال الشباب والحب، وإن كان لم ير صاحبته من أربع سنين مضت، أي من يوم كانت تُؤمن على حياتها ووجودها، ثم نزل أهلها عن الثقة بها، وظنوا في صعودها للكمال والجمال سعيًا نحو الشيطان وغوايته.

لم يرها من ذلك اليوم البعيد. ولكنها دون شك ككل الفتيات اللائي يرى تحت الشمس، متى جلست على عرش الشباب أخذت بأسباب الجمال، وكملت في كل شيء، وظهرت أمام العين زينةً للناظرين.

ولم تطل مدة تردّده. فلما كان أصيل اليوم الثاني ليوم حضورها أخذ بعضه وسار حتى وصل إلى باب منزلها وقلبه يَجِفُ، وفؤاده يرتعد، وقد جاشت نفسه. ودخل فإذا هي بين أقاربها وأقاربه. وقاموا جميعًا فسلّموا عليه، وقبّلته كبيراتهم ما بين عينيه، ثم تقدم ليسلم عليها، وجلس على مقعد إلى جانبهم، ورجع القوم جميعًا إلى حديثهم. وفيما بين ساعة وأخرى تسأله واحدة من القاعدات عن حاله وكيف هو؟ ولمَ لا يتردّد عليهم؟ ويجيب بالأجوبة المعتادة المحفوظة. ثم يسكت ولا يأخذ في الحديث بنصيب، ويلقي ببصره إلى الأرض إلا أن يرفعه أحيانًا فيجيله في الحجرة التي هم فيها. ومع ما كانوا يصلون إليه في حديثهم من الضحك العالي على بعض حكايات يقولها أحدهم، فإنه لم يزد على الابتسام. وفي تلك اللحظة التي يعلو فيها الفرح الوجوه كان يرسل النظرات إلى تلك التي شاركته بخيالها في أحلامه زمنًا ليس بالقصير، وشغلت من حياته موضع آمال كبار، يريد أن يرى ذلك الوجه الذي عرفه صغيرًا وقد استكمل خلقه، ويجتلي من ذلك الثغر الجميل ابتسامته، ثم يرجع إلى نفسه يسائلها عن إحساس الفتاة نحوه فلا يشكّ لحظة في أنها شريكته، وأنها تحبه كما يحبها.

وكأنما خشي أن يطَّلع أحد على ما في نفسه، فلم يُطِلْ مدة مكثه، واستأذن للانصراف. وبالرغم مما طلبه إليه القوم ليبقى معهم تمسك برأيه، وزعم أن عنده موعدًا لا بد أن يوفيه. وما كان في تلك اللحظة أكثر ارتياحًا وطمأنينة! بل لقد خُيِّل إليه أن عيونًا ترقبه من سقف المكان وتطّلع على خبايا فؤاده، وأنْ لم يبق إلا قليل حتى ينفضح مكنون سره، ويبين للجميع ما دعاه للتعجيل بفراقهم. وخرج من بينهم وهو لا يملك دقات قلبه ولا اضطراب نفسه، وولّى هاربًا من الناس إلى حديقة قريبة ارتمى تحت شجرة من أشجارها إلى جانب المَمْشَى، وقد سال الماء في قناة عن يمينه. وتمر مع التيار ما بين حين وآخر ورقة من أوراق الشجر الذابل، أو ضفدع انساب مع الماء عائمًا. وبعد مدة مكثها ذاهلًا تائه الرشد ابتدأ يقذف إلى الماء بحصى رفيع وجده إلى جانبه. وما بين هنيهة وهنيهة يسكت ويستعيد قواه. فلما عاوده هدوءُه، وراجعه التفكير في الحياة وشأنها، وتلك الفتاة وهي تنظر إليه خفية، كما كان ينظر إليها خفية، انتقل إلى أحلام السعادة التي تحيط بالمحبين، وبكل من يخالط الحب نفسه ولو مجونًا. انتقل لتقدير حساب المستقبل السعيد وهو إلى جانبها وحده، وهي في حيرتها قد جاءته لموعد ينتظرها فيه.. ثم الحديث الذي يدور بينهما وهو أحلى من الشهد يقدر كلماته تقديرًا، وهما في زاوية من الكون هادئة لا حركة فيها إلا أن ينعشها الهواء البليل بهبوبه، والطير بشجيّ نغماته، وتبعث عليها الطبيعة آثار النعمة والسرور، ويغرقان في ذلك إلى الأبد. ما أحلى تلك الساعات وأهنأها على قلبه، ولكأنه يلمسها بيده ويراها تتحقق!

•••

ولما كان اليوم الثاني، وعاوده التفكير في الذهاب ليراها، خشي أن يعدّ عليه من معها ذلك، ويلاحظوا تكرار زيارته، فأراد أن يغالب نفسه ويقف دون إرادته، لكن محاولته ذهبت هباء، ومغالبته لم تُجدِ نفعًا، وانحنى أمام إحساسه. وفي مثل الساعة التي ذهب لأمسه ذهب فيها ذلك اليوم الثاني، ووجد الأشخاص هم هم لم يزد عليهم أحد، ويحكون حكاياتهم على طريقة الأمس. أما هو فأحس في ذلك اليوم كأن نفسه تثور، وحواسه كلها تأخذها الرعدة، حتى كادت تبدو عليه علامات القلق، فلم يتمهل أن انصرف بحجة أكثر وَهْنًا من حجته بالأمس. وخرج هائمًا إلى المزارع يسير على غير انتظام، فيتمهّل أحيانًا حتى يكاد يقف في مسيره، ثم يسرع، ثم يتمهل وكأنه يريد أن يرجع على أعقابه. وتوترت أعصابه، وكان يقطب حاجبيه ما بين حين وحين … ليت شعري أي شيء عرا ذلك الإنسان الهادئ حتى يقيم نفسه ويقعدها، ويرسل به إلى حدود الجنون؟ وأي قضاء من السماء حلّ به من أجل جرمه الذي قارف في إسلام نفسه للحب؟ وهل إرسالنا النفس تتمتع بأول عاطفة شريفة في الحياة يجر عليها الويلات؟ أو ماذا عساه يكون قد أصاب حامدًا حتى جعله يكاد يهذي؟

وانساب المسكين بين المزارع ينهبها نهبًا حتى جاء إلى شط الترعة، وهناك أخذ مقعده في ظل توتة كبيرة، وجلس كأنّ به مسًّا من الجنّ، يسأل نفسه: هل في المستطاع إخراج تلك الفتاة من بين هؤلاء المحيطين بها، ليجلس إليها جنبًا لجنب، ولتحدثه، وليضمّها إليه، ولتكون ملكه؟

ومكث بقية النهار في حساباته هذه، ثم قضى كل ليلته لا ينام إلا غِرارًا. وما كادت تهتك يد الصبح ستار الليل حتى نبا به مضجعه، وصاحبه القلق، فانحدر إلى الجامع، وما عهده به في تلك الساعة التي عرفها ساعة هجود وهمود. وانساب وسط ظلمات يتسلّل فيها النور كما يتسلّل الأمل إلى قلب اليائس، والسماء لم تميز بعد قد «بهت» عليها حجاب الليل الهزيم، والنجوم تتقلّص واحدة بعد الأخرى، والسكوت الأخرس يحكم على الوجود، فلا تسمع هسيسًا إلا أن يقطعه من حين لآخر صوت الدِّيَكة تتجاوب من جوانب القرية، ثم أذان المؤذن بالفجر يشقّ عباب الجو إلى السموات. ولما صلى حامد ركعتيه مع الجماعة خرج إلى جهة المزارع التي لا تزال خالية من كل حيّ، وهواء تلك الساعة خالطته الرطوبة يزيد في نشاطه، وكل شيء يخرج قليلًا قليلًا من دثار الخفاء، والأفق يتجلّى عند مرمَى النظر، فتنكشف أمام العين المزروعات بعد أن أخذت نصيبها من الطَّل. ثم احمرت السماء إلى المشرق، وطلعت الشمس تلامس الأرض وتحيّي الموجودات تحية الصباح، ثم تعلو وترتفع، وينقلب لون القرص الأحمر الهادئ الباسم في مطلعه، ويرسل بأشعته فتتلألأ تحتها قطع الطَّلّ على أوراق الشجيرات والحشائش النابتة على المروى، فتطوق المزرعة الهائلة بقلادة تزينها، وحامد بين هاته الموجودات يمشي مفكرًا يطرق أحيانًا ويتطلع إلى ما حوله أحيانًا أخرى.

ثم ابتدأ الفلاحون يفدون إلى عملهم فرادى، كل ييمّم نحو مزرعته الصغيرة التي يملك، ورثها عن أبيه عن جده، أو جاد بها الحظ وأعطته إياها المصادفة التي لا ينتظر، ومعه بقرته أو جاموسته، أو هو قد اكتفى بفأسه، فإذا مرّ بحامد ألقى عليه تحية الصباح، ثم استمرّ في سيره مندهشًا.. ما شأن هذا الإنسان هنا في تلك الساعة من النهار؟

وحامد يفكر كيف يتسنَّى له أن يكون إلى جانب عزيزة وليس عليهما من رقيب، وأن يبثها ما في نفسه ليسمع منها أنها تحبه؟

يريد أن يسمع تلك الكلمة من فمها، فهل لذلك من سبيل؟

واستولى ذلك على كل جوارحه، وملك كل عواطفه حتى جعله ينظر لأهله المحيطين بها نظرة الغضاضة. وما كان ليقدر على إطلاع غيره على حبه، وهو يعلم ما تكنه النفس المصرية لذلك الإحساس من الضحك منه والاستهزاء به، تلك النفس القاسية التي تنظر لكل جمال في الوجود أو الإحساس به ساخرة، لأنها لا تفهم منه شيئًا، وتحسب أن الحياة الجدّ هي التي يقضيها صاحبها بين العمل والتسبيح، وكأن الوجود لم يك إلا طاحونًا نقطع فيه أعمارنا لاهثين لغوبًا ونصبًا، مغمضين أعيننا عن كل حسن، واجبنا أن نرضَى بحظنا، ونقنع بما يقدَّم لنا بعد كل علفة من العلف، وإلا كان جزاؤنا ما يصيبنا من سخط الناس علينا، وانهيالهم بما لا يقلّ عن سياط السائق إيلامًا ووَخْزًا. أو كأن النفس الإنسانية من الخِسّة والميل للشر بحيث يجب الوقوف أمام كل إراداتها ومعارضتها في أغراضها وتقييدها بما قيدتنا به العادات العتيقة البالية، وكأن الحواس لا تتطلع إلا للنقائص. فالعين لا تنظر إلا لتنتهك الحرمات، والأذن لا تسمع إلا لتمهد السبيل إلى أخس الإحساسات. ألا إن الحياة الحق هي التي يعرف فيها صاحبها أن الوجود إنما خلق ليسعد بعضه بعضًا، وإن في قرارة النفس وفي أعماق حَبَّة القلب إحساسًا دقيقًا إن قتلناه قتلنا معه الحياة، وخرجنا إلى عالم خسيس كله المادة والسعي وراءها والخضوع لسلطان أصحابها، وإن نحن أطعناه واتبعناه أسلمنا إلى السعادة نمرح في جوها، وعرفنا من طريقه المروءة والشجاعة والحرية والإخلاص.. ذلك الإحساس هو: الحب!

وأخذت حامد الرعدة، وكاد يستولي عليه الذهول، وكأنه قد تاه عن الوجود المحيط، ونسي الشمس التي تعتلي متن السماء سريعًا سريعًا، وتزداد حرارتها ما بين لحظة ولحظة، والمارة من السارحين الذين يؤمُّون مزارعهم متزايدين يسيرون جماعات أحيانًا، وأحيانًا أفرادًا. وكثر تتابعهم حتى أقلقوه من موقفه بسلامهم وتحياتهم، فلم يجد بدًا من الرجوع إلى الدار حتى يتخلص من مضايقاتهم وإزعاجهم، وليخلوَ إلى نفسه في غرفته. لكنه ما وصل إليها حتى كان من فيها أيقاظًا جميعًا، وقد أخذوا أماكنهم للإفطار، فنادوه، وأخذ مكانه من بينهم. وما كان ذلك ليقطع أحلامه ومخاوفه، فما كنت تسمع إلا جرس الملاعق أو رنين الأكواب. والكل على ما بينهم من الأطفال الذين لم يبلغوا التاسعة من عمرهم سكوت كأن في بال كل ما يشغله ويستدعي أعمق تفكيره. فإن بدرت من أحدهم كلمة أو إشارة تستدعي الضحك ابتسم له من جاوره أو من قابله، فينظر له ثالث مقطبًا كأنما ينبهه لهفوته التي ارتكب مما لا يجوز لمثله أن يقترف، وإن سأل أحدهم عن شيء أجيب بكلمة أو كلمتين وقنع بهما. لذلك بقي حامد من بينهم يفكر صامتًا، ويأخذ طعامه ببطء حتى كان ينسى نفسه أحيانًا فيظل ساكتًا مدة يرجع إليه بعدها صوابه ويعود إلى نفسه. وما كان ليلحظ ذلك عليه أحد ممن حوله، حتى أفرغهم فؤادًا من مظاهر الجد والتفكير فيما فيه حامد.

قضى حامد طول نهاره قلقًا يحدّث نفسه عما يعمل، وهل يذهب في مثل موعده ليرى صاحبته؟ لكـن ما كان يحس به من الغضاضة للمحيطين بها جعل الفكرة لا تروقه لأول ما عرضها على نفسه. وعاود الكرة يبحث عن الوسيلة التي ينفرد فيها بتلك التي ملكت عنانه ليناجيها خاشعًا، ويلثم يدها، ويضرع إليها.. ألا يكون سعيدًا في تلك الساعة؟ أوَلا يكون سلطان الوجود؟ بل ألا يكون أسعد إذا جلس إلى جانبها وطوّق عنقهـا بيده، ووضع رأسها على صدره، ثم قَبَّل جبينها وثغرها، وهي ترنو له بعيون ناعسة، وتبسم عن بال مرتاح وقلب سعيد، ثم تجيبه أنها تحبه كلما قال لها إنني أحبك، وأعبدك؟ إن تلك اللحظات التي تمر سراعًا لتعدل الحياة، وتبعث السعادة تملأ بها جوانح أشقى الناس وأتعسهم، وإنها لحامد كل ما يريد، وما أحلاها ساعة يتجلى فيها ملاكه دون رقيب!

وذهب بأحلامه إلى أقصى حدود السعادة، وتصور تلك الجنان يمرح فيها إلى جانب صاحبته، وتعلوهما سماوات من ذهب، ويسيران فوق أرض مفروشة بالورد، وتظلّلهما أغصان الشجر يصدح الطير عليها بنغماته الشجية، فيبعث فيما يحيط بهما روح النشوة والطرب.

لكن الوقت الذي ينبهه دائمًا إلى أن الساعة حانت ليراها كان يقطع عليه طريق هاته الأحلام ويزعجه عن خيالاته. ولم يجد بدًّا من الإذعان لذلك الداعي المجدّ في دعوته لا يملّ، فقام نحو دارها، لكنه ما كاد يخطو خطوة حتى عاوده التردّد، وقامت في نفسه الموانع ما بين إباء أن يراها مع من هي بينهم، وغضاضة يحملها لهؤلاء الآخرين، وخجل من تكرار زياراته. فإذا راجع السير عَرَتْه هزّة من رأسه إلى أخمصه، ووقف أكثر حيرة وترددًا من ذي قبل.

والوقت يسير دائمًا، والنهار قد انحدرت شمسه لم يبق منه إلا قليل، وحامد مكروب لا يدري ماذا يعمل.

وأخيرًا صمّم عزمه وسار وعلى جبينه شيء من أثر القطوب، حتى بلغ الدار، فإذا هي على غير ما يعهد تموج بمن فيها، وكلهم من إخوانه التلاميذ وذوي قرابته من الشبان؛ ذاك أن أخا عزيزة قد جاء ليقضي مدة مسامحته كذلك بعيدًا عن ضجة المدن وضوضائها في هدأة الريف وصمته، وليمتّع نفسه بالفضاء الواسع يمتدّ أمام النظر، تزينه الجداول والترع، وتطوّق جيده آفاق تنضّدها الأشجار اتخذها الطير سكنًا، والشمس في عنفوانها تحيّي النهار قبل أن يأخذ الليل حظّه من الحياة، ولا تغيب إلا لتدع للناس ليلًا ساهرًا عاملًا يحمل هواؤه أصوات الطبيعة وصوت الإنسان إلى آذان الوجود يهيج بها في نفسه ذكرى السعادة. فأقبل حامد على صديقه القديم وتعانقا، ثم جلس معه يتحدّثون جميعًا في شئونهم وأحوالهم وأيام الدرس وحكايات المدرسين — عادة كل أخوين من طائفة المتعلمين يتقابلان بعد فراق طويل. وابتدأ الظلام يقدم عليهم، والموجودون ينصرفون واحدًا بعد الآخر. ولما جاء دور حامد ألحّ عليه صاحبه أن يبقى للعشاء معه، وقَبِل حامد الدعوة، وقضيا معًا شطرًا كبيرًا من الليل يحدّث كل صاحبه في أمره وشأنه، ولا يأخذهما ملل أو يأتي عليهما ضيق من مجلسهما. حتى إذا أمست الساعة لم يبق لحامد بدّ من أن ينصرف إلى بيته، وما رأى عزيزة ولا سمع حديثها، غير أنه لم يكن يفكر في هذا حتى وصل إلى غرفته وأخذ مضجعه. هنالك بدأت تعاوده أفكاره وأحلامه، ولكن الوقت الممسي لم يجعل أمدها طويلًا، بل أتى عليها، وحمل صاحبها إلى نوم عميق هادئ.

وتتابعت الأيام، وكان يذهب كل يوم لصاحبه، ويرى عزيزة تحادث أخاها أحيانًا، فلا يجسر على مخاطبتها بأكثر من التحية المعتادة، وكان قد قنع من حظه بذلك وبما ظَّنه من أنها ليست أهدأ بالًا منه.

وكيف لا تكون هي الأخرى مشتغلة النفس مشتّتة البال، وهي في تلك السن الزاهرة، سنّ الشباب والنضارة، تلك السن التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يمنع عن نفسه خواطر الحب وهواجس العشق. بعد أن أسلمته إليها سنون كره من جرائها التفكير فيما دون هذا الإحساس من خواطر الشهوات ولذائذ المادة، تلك السن التي يرق فيها الشعور ويتفتّح القلب يريد أن يضمّ إليه كل جمال في الكون، وتحسّ النفس بالحاجة إلى نفس أخرى، حاجة مطلقة يكون العيش دونها آلامًا وشقاء، والحياة حملًا ثقيلًا يريد صاحبها التخلص منها؟!

غير أن قلبها الحبيس دائمًا، ونظرها الذي لا يجتلي السماء إلا من نوافذ الدار، وسمعها الذي لم يذق شَجْوَ الأغاريد وإن لم يغب عنه نوح الحمام، ووجودها كله الذي يحسّ بالجمال العظيم في الكون كأن بينهما وحيًا ونجوى، ثم لا يقدر على استطلاعه وتذوّق ساعات الوحدة والخلوة كل ذلك شتّت نفسها وبعث فؤادها في تيهاء لا يعثر فيها بسعادة ولا بشقاء، وإن أحس بالراحة والرضا إلا أن تزعجه نار الحب تأجّج بين ضلوعها، فتبعثها تجوب تلك التيهاء من جديد، ثم تعاودها هدأتها، وهكذا هي بين حيطانها الأربعة أشد حيرة من الدمعة في عين المحزون، تجد السلوان في أحلامها للمستقبل البعيد، وأمانيها لأيام الزواج السعيدة، وتصور في نفسها الزوج الذي تهبه قلبها من اليوم، ثم تهم تبحث عن شخص ذلك الزوج العزيز المحبوب وترجع إما فارغة اليد ينغِّص الأسى أحلامها أو راضية إن عثرت بمن عرفته أو سمعت به.

وحامد من بين هؤلاء الأشخاص الذين تعرف، فكان يرد إلى خاطرها أحيانًا، وتجد فيه موضع أحلام وآمال كبار تقضي فيها ساعتها، ولكنه لم يكن المنفرد بتلك النفس الدائمة التنقل لا تستقرّ على حال. وتعرض أمامها كل يوم صور أشخاص ممن عرفت في الماضي، أو من سمعت عنه من غيرها أنه رجل الجمال والشهامة. لذلك لم تكن نظرات حامد لها تلك النظرات التي تذهب للقلب وتدخل أعماق النفس فتصادف هواها. وما كان تخفيضها جفنها إلا حياء مما عند كل فتاة. وإن تك قد أحست نحوه بشيء أثناء تلك المدة القصيرة فما هو ببالغ إلا قليلًا إلى جنب ما يحس هو به نحوها.

والأيام تسير، ونفس كلٍّ تجد من المشاغل ما تقضي فيه نهارها، وحامد يكثر التردد إلى المزارع وإلى بيت صاحبه ليراه ويفكر في أمر ذلك الحب الذي خالط فؤاده، وامتلأت به جوانحه، تفكيرًا يذهب به إلى ثورة اليأس، ثم يعاوده الرجاء، ويحسب في الإمكان انتزاع فتاته من خدرها، وبثّ ما يكنّه لها من الوَجْد، وما بّرح به من الهوى، وينتظر سماع اعترافها بأنها تحبه، ويمرحان بذلك معًا في جوّ السعادة.. ويذهب بأحلامه إلى عالم خيالي جميل لذيذ يتمتّع فيه بما حرمه من عالم الواقع. فإذا رجع إلى الوجود لمس الحقائق القاسية وأحس بآلام الحرمان، حتى يكاد يصل إلى الجمود والنظر إلى العالم كله بعين الخائف الحذر.

وقابل زينب في عملها مع صويحباتها، وهن يغنين مسرورات، وهي صامتة ساكتة، فراعه أمرها، لكن ما تتقلب عليه نفسه وما يدور في رأسه كفى ليشغله عنها، غير أن الأيام القديمة وذكراها، وذلك الجمال الصامت بين متحركات الحياة، أحدث عنده هزةً ضَعُف عن مقاومتها، وجاءت بذكرى الحوادث الماضية. وفي كل يوم يرى فيه زينب ويلقي عليها تحيته كان لا يستطيع أن يمنع نفسه من التفكير في شأنها وما يحزنها.

وقضى على هذا النحو كل المدة التي أقامتها صاحبته في الريف، وهو يتلمس أثرها من بعيد، ويذهب إلى حيث تكون، يمتع نفسه بنظرتها أو يجتلي ابتسامتها. وما كان ليقنع بهذا، ولكنه لم يكن ليصل إلى أكثر منه، حتى أسلمته أيامه الأخيرة إلى شيء من الرجوع إلى هدأته وامتلاك حواسه، والنظر إلى عزيزة بشيء من اليأس أن يقدر يومًا على مفاتحتها بأمر الحب، أو محادثتها فيما يدور بين المحبين من لذيذ الحديث. ورجع بذلك يأنس بإخوته وأهله، ويصرف عن نفسه ما حملته من قبل من الآلام والآمال، فإذا عاودته الذكرى في ساعات خلوته قنع منها بلذتها، وتنسم عبيرها، ثم انتقل بعدها إلى زينب وشأنها، ثم إلى المستقبل البعيد وما يرجوه فيه من السعادات، أو ترك نفسه يلعب بها الهواء الجميل، وحواسه تتمتّع بما يحيط بها من نعم الوجود وآثاره. وهكذا دخل في نوع من إهمال كل ما حوله وعدم الاهتمام به والسير كما يسير غيره، وإن كان قلبه الكليم بهاته الأيام الطويلة ينزع إلى عصيانه أحيانًا، وتأخذه الثورة ويتولاه الهياج، يريد من الوجود من يضمه إليه ويشاركه كل حياته.

وليالي الصيف الساهرة — يقضيها الفلاح يلفّ في طنبور أو يسوق ساقيته ويتعهد سقي القطن أو ريّ الشراقي — تعزّي حامدًا عن كثير من همه، فيخرج والقمر حائر في لجة السماء، وخياله أشد حيرة في لجج الماء، والتلال تمتدّ مع العين حتى يضيع النظر في لجة الليل، ولا يجيء منها إلا على قليل، والنجوم منثورة تحيط بالبدر، ويرقبها الفلاح ليقيس عليها وقته، وينتظر مطلعها واحدة بعد الأخرى، فإذا هو رأى نجمة الصبح ترنّح كأنه طرب لمقدم الفجر يصلِّيه شاكرًا أنعم ربه، ثم يرجع إلى عمله طول النهار إلا ساعات يسرقها ليغمض فيها عينه.

وفي أيام ظهر نبات الذرة الجديدة بذلك اللون الأخضر الباسم، ولم يبق من الأرض جرداء إلا القليل الذي أبقاه الفلاح للبرسيم السواد، ولبست الطبيعة بذلك لباس زينتها، وأخذت زخرفها، وابتدأ الفلاح يحسّ نسيم السرور يجيء إلى نفسه، وانتهت الليالي الكثيرة الضجة والجلبة، ليالي الري، وصار يقنع من السهر بالقليل يسقي فيه القطن، كما ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الإدارة والبطالة وذلك الترتيب الذي يقصم ظهره، وينظر للماء الطامي «الأحمر» نظرة الرضا والقنوع، ويعدّ ما بقي على أيام الراحة عدًا.

وبعدها ابتدأ خفّ الذرة يفرح له الفلاح وتبدأ به الدواب ربيعها، والعمال والعاملات قد خرجوا من أيام الحرث والتلقيط تحت حر الشمس ومواساة الأرض مواساة الطفل خيفة أن «تطلع» وذهب منهم من ذهب إلى «الطفي والسقي» وآخرون إلى الخف، وانتقلوا بذلك عن عناء إلى عناء، وإن كان هذا الآخر بما يحيط به من أسباب السرور أحبَّ للنفس وأكثر عندها قبولًا.

وزينب تنتقل مع المنتقلين، وعليها سيما السكون والسكوت، والأيام تقصّ من عمر الصيف ونهاره الطويل، وكل شيء على الأرض ينمو سريعًا، وحامد قد غرق بعد سفر صاحبته في أفكار شتى، وآمال لا آخر لها، وأحلام يسعد بها ساعة ويشقى بها أخرى، وإن وجد في إخوانه وفي الكون البديع بما عليه عزاءً وسلوانًا.

٨

كان حسن منذ علم بما أعدّ له أبوه في نفسه من أمر زواجه أشغل من أمه بالًا، يبحث هو أيضًا عن فتاة من بنات أمثالهم الناس الطيبين. ولئن كان عمله المتواصل ليل نهار في المزارع يشغله عن التفكير الطويل في هاته المسألة، إلا أن أيام الصيف الحارة ولياليه الرائعة البديعة لا تتثنى عن إيقاظ عوامل الحياة في النفس وتنبيهها إلى ما يلازم طبيعة الإنسان وما يجول في خاطره دائمًا من التعلّق بموجود ذي جمال يجد فيه عزاء عن آلام الحياة ومشقاتها، ويخلد معه نفسه ونوعه.

وكانت زينب إذا راجعها أمر ذلك الخبر قابلته بصبر، وأمّلت أن يكون في الغد ما يفرّج همها أو يزيل كربتها.. أو لعل الأيام التي فجعتها بعد هناءتها وأشقتها بعد سعادتها، تردّ لها ما حرمتها إياه، ويعود لها من الصفاء ما يلذّ معه طعم العيش.

وحامد كثير الذكر لصاحبته إن وجد الوحدة والخلوة، قانع بالإخوان كلما اجتمع بهم، يشتدّ به الهيام أحيانًا فيحمله إلى الفضاء في الساعات الصامتة حين يتنفّس الصبح وتطلع الشمس تتهادى من مرقدها، ثم يعاوده السلوان فيه أيامًا.

وكل شيء ينمو سريعًا، ولم تكن إلا أيام معدودات حتى أصبحت الأرض كلها إلا قليلًا مغطاة بالقطن والذرة، وكلاهما عال يكـاد يختفي السائر بين أشجاره وعيدانه.

وكلما تقدّم الصيف في أيامه تقدّمت هاته المزروعات في نضجها، وأحسّ الفلاح بالسرور يدخل إلى نفسه، وإن كان منهم من يرى في ذلك ما يزيد همه، ويكثر من شجنه، حين يفكر في الوسيلة التي يدفع بها قسط الدين الذي عليه، فيجد الحال غير ما يحب، ويرى أن كل يوم يمر يقرّب أجل المحضرين وزياراتهم اليومية الثقيلة، ويحضر في رأسه الطرق التي يجيء منها بالنقود. فإما أن يحتال على زوجه فيرهن أرضها على دين جديد يقترضه، أو يبيع من فدادينها القليلة ما يسدّ منه قسطه، أو يلجأ إلى بيع منقولاته ومنقولاتها، أو هو يخرج عن دائرة بيته ليضايق من له علاقة به من الفلاحين والمزارعين ليبتزّ منهم ما يستطيع أن يحصل عليه مهما قل.. وإلى جانب هؤلاء جماعة القانعين من العيش بأقل من الكفاف، الفرحين لقدوم مياه النيل تملأ الترع فتتهادى بها بين ما ينمو على جرفها من الحشائش وما يقوم على جانبها من الزرع، والسرور ملء صدور هؤلاء القوم الذين لا يتكلّفون من أجل سقي مزارعهم إلا أن يرفعوا صمام فتحات الراحة فينساب الماء يغطي الأرض المشتاقة له بما يحمله من الثروة التي أرسلتها البلاد القاصية. ثم يقف ذلك القانع إلى جانب الطريق الساعات الطويلة متكئًا على فأسه، يلقى الشمس دون أن يعبأ بها، وتتحرك الأكوان وهو رابض مكانه، ثابت لا يتحوّل إلا أن يدير الماء من فردة لفردة، ومن مكسر لمكسر، حتى إذا صلبت الشمس في وسط السماء مال إلى ظل شجرة وأخذ غداءه تحتها، ثم تمطّى في غفوة ما أقصر أمدها! ويقضي بعد الظهر مثل ما قضى قبله.

جاء الخريف، وأصبح جني القطن موضع حديث الملاك والعمال والنساء والرجال وكل سكان هاته البلاد. ولم يك إلا أيام حتى أصبحت المزارع تموج بالجمّاعين، وأكثرهم أطفال لا يزيدون على العاشرة من عمرهم، ولا يكادون يظهرون من خطوطهم، ويحكم الصمت عليهم جميعًا، كل يريد أن يجني أكثر ما يمكن، أو يغنون أحيانًا في المزارع التي يشتغلون فيها باليومية. وسط هذه المزارع وبين هؤلاء العمال تجد زينب في كل برج تجنيه ساعة تدنيها من زواجها، وتودّ لو ترتمي بين أحضان إبراهيم فتبوح له بمكنون حبها.

ولقد عيل صبرها، ولم يبق عندها من قوة للسكوت أمام قلب يكاد ينفطر. إن في مرأى إبراهيم الذي ترى كل ساعة وعند كل لفتاتها ما يرسل إليها قشعريرة تأخذ بكل جسمها وتتوه معها عن عملها. فإذا جاءت إلى نفسها من جديد ذكرى الزواج الذي يشيعون انقبض صدرها، وهان عليها أن تصرخ مستنجدة هذا الواقف إلى جانبها.

وإبراهيم ليس أقل منها اشتغالًا، يجاهد ما استطاع لحكم نفسه، ويعمل لكتم كل ما يجول فيها، وإن غض بصره كلما مرت به، وأخيرًا عزم على مفاتحتها بحبه متى استطاع الخلوة بها، فلم يعد في قوس صبره هو الآخر منزع.

ولكنه يعلم أن حسنًا سيتزوجها عما قريب، وحسن صديقه وأخوه، فماذا عساه يعمل؟ لو أن في وسعه أن يأخذها لما فضل على ذلك شيئًا، ولكنه يخسر حسنًا في الوقت الذي يخسر فيه زينب. لو أنه ذهب إلى أبيها ليخطبها فهل يرضى هذا الأخير وهو يعلم ما أعدّه الحظ الطيب لابنته؟ وإن أراد أن يحافظ على المظاهر وأغلى له مهرها أفلا يساوي ذلك ردّه ورفضه؟ ولكن لِمَ؟ ألا يستطيع من أجلها أن يحصل على كل مهر مطلوب؟ هل على زينب من غالية في الوجود؟ ألا إنه ليعمل من أجلها كل شيء ويأتي بكل ما يطلبه أبوها.. إنه يبيع جاموستهم، ثم يقترض ما يقوم بسداده من مرتبه في عام أو عامين.. إنه يعمل كل شيء آخر غير هذا.. إنه يسرق إن أحوجت الحال.

نعم، لا بد أن يذهب إلى أبيها ويطلبها منه!.. يا كرم السماء. كم تكون الحياة إلى جوارها لذيذة طيبة! وكم يكون العيش ناعمًا! وكلما جلست إلى جانبه في دارهم وتحادثا في أمر الأرض التي يستأجرها من السيد محمود ويزرعها هو وهي أفلا يكونان مسرورين معًا أكبر السرور، سعيدين أكبر السعادة؟

أصبح الغيط شقين؛ فالذي جمعت غلته غبرة قد اسود وجهه، أما الآخر فبقي تتوّج هامته الكبيرة أبراجه البيضاء الناصعة.

وانحدرت الشمس إلى المغرب، وعفا الله، وجعل كل يجاهد في تحميل ما جمع. فلما انتهوا انفلتت زينب وسط المزارع لبعض شأنها، وراح إبراهيم للمصلّى يقضي فريضة العصر قبل فواتها، وسيقت الدواب يحيط بها الجمع الكبير، وكل يسير إلى جانب ما جنى.

ولما رجعت هي ورأت إبراهيم جالسًا وحده عرتها حيرة في أمرها ولم تجد سبيلًا لتنفيذ ما شغلها طول النهار. ثم قام راجعًا وسار إلى جانبها وكلاهما ثائر النفس، والبدر الشاحب في السماء يتبعهما في سيرهما، وكأنه يتسمّع على نفسيهما ويريهما في نحوله ما تصل إليه حال المحبين، أو هو يرنو إليهما بطرف مريض يصل ما بين قلبيهما، وغطاء السماء يزداد كثافة من حين لحين، فيزدهي القمر وتبين الكائنات في شعاعه وجميعها عاشقة، عمل الحب في وجودها وغيَّر من لونها.

وصلا إلى مصلّى على الطريق، فسألها إبراهيم أن تنتظره حتى يخطف ركعات المغرب. فلما اختتمها طلب إليها إن شاءت أن تجلس قليلًا حتى يستريحا، فأجابت طلبه بعد شيء من التردد، ولكنهما كانا أكثر صمتًا وأشدّ قلقًا من قبل.

وبعد برهة عاودته فيها الرعشة مرات تجاسر فأمسك بيديها. وفوق هاته البقعة الطاهرة المحرمة وتحت عين الله وعين البدر قال لها لأول مرة:

– أحبك يا زينب..

… كل ما في الأرض والسماء من سعادة لا يبلغ ذرّة مما تفيض به نفسها هاته الساعة. إن القمر والكواكب والموجودات كلها في عرس كبير، وذلك النسيم العذب الساري في الجو يحمل معه الهناءة. هل تستطيع زينب أن تتكلم الآن؟ وهل يسعدها لسانها؟ كلا! كلا! لقد غلب عليها الفرح فهي واجمة حيرى ثابتة في مكانها ترنو لإبراهيم ولكل ما حولها. ثم بحركة لم يفهمها ارتمت نحوه مسلمة نفسها بين يديه ملقية برأسها، فضمها هو إليه، وراح ذاهلًا بتلك النشوة التي يوحي بها جسمها، ولكنها لم تك إلا لحظة حتى عاودتها هزّة شديدة، وجاهدت نفسها تريد الخلاص منه والفرار من وجهه والهيام على وجهها لا تدري إلى أين!! وإبراهيم كمن أسقط في يده؛ خانته قواه، فنظر إليها نظرة المستعطف اليائس ولم ينطق بكلمة بل وَجَم ساكتًا، وكاد يغشى عليه. فلما وقفت تريد الذهاب لم تطعها قدماها بل ألقت هي الأخرى نظراتها عليه، وبقيت كذلك لا تدري أهي سكرى بهنائها أم أذهلها الأسف عن كل شيء؟ وصاحبها جاثٍ تحت قدميها رافع رأسه إليها لم يستطع أن يكرر من جديد اعترافه لها أنه يحبها.

وأخيرًا، وقد أمسى الوقت، واتشح الأفق بوشاحه الأسود، وراحت المزروعات هامدة مستريحة، يوحي إليها النسيم ألذّ الأحلام، قام فسار وسارت إلى جانبه حتى إذا كانا على مقربة من البلد، وآن لهما أن يفترقا، أخذ يدها فقبلها ثم تركها ولم ينبس واحد منهما ببنت شفة.

وذهبت بعد ذلك توًّا إلى الدار، فأخذت عشاءها، وطلعت فوق السطح أمام الغرفة، وجلست وحدها وهي لا تستطيع أن تقدر مبلغ سعادتها. ثم صعد أخوها وأختها، وجلس الصغير إلى جانبها، ومال برأسه فوضعها على ركبتها، وبقيت هي سارحة تحدق إلى القمر حتى راح الصغير في نومه. وجاء أبوها بعد صلاة العشاء، ونقلوا الولد إلى الغرفة، وناموا جميعًا كعادتهم. ولكن زينب لا يحالف النوم عينيها، ولا تستطيع البقاء في مرقدها. فبقيت متيقظة لم تطعم النوم إلا قليلًا من الليل، وتعاودها فكرة أن تقوم فتذهب إلى حيث إبراهيم، لتجلس إلى جانبه، وليضمها إليه كما ضمها ساعة رجوعها.

كانت لذيذة تلك الساعة الملائكية الجميلة، وكم تودّ لو تستعيدها! ولكن أبويها النائمين إلى جهة الباب توقظهما أقل حركة.

وأخيرًا جاءها النوم، وتيقظت في غدها مبكرة كعادتها، وذهبت للجمع وهي تسرع، تودّ لو ترى إبراهيم فتقف تنظر إليه طول نهارها، ولكنها ما إن كانت بين أخواتها حتى راجعها حياؤها القديم، وصارت تخالسه النظرات، فإذا وقعت عينها على عينه عرتها قشعريرة، وودت لو ساخت في الأرض أو تاهت بين الأشجار. فلما كان المغرب ترك هو ما جمعت ليحمله آخر القطن. ولكن المطايا لم تكفِ وبقي معها ينتظر أن ترجع إليهما مطية تحمله، فلما انفردا جلس إلى جانب المروى وأجلسها إلى جنبه حتى إذا استوت قال:

– فاكره يا زينب لما كنا في الغيط اللي جار أبويا خليل ودختي انتي ساعة الغدا ورحت أرش على وشّك ميه؟

فاحمر وجهها ساعة ذكرها أول أيام حبها، ورمت ببصرها إلى الأرض، وأمسكت بيدها عودًا تنكت به التراب أمامها. لكنه أخذ بيديه يديها كما فعل بالأمس ثم قال: من نهارها أنا أحبك!

فتنهدت ولم تحر جوابًا.

هيه.. من ذلك اليوم الذي أحبته، هو يشاركها في حبها وهي لا تعلم.. كم يأتي كل يوم جديد بسعادة يهديها إياها! ولمَ لم يبح لها إبراهيم بحبه من ذلك اليوم، وتركها تعاني ما عانته؟ فلما رآها ساكتة كأنها خجلة كرر من جديد: من نهارها أنا أحبك..

فقالت هي من بعده: ومن نهارها أنا أحبك..!

فصرخ الفتى، وضمها إليه، وبقي كل منهما تاركًا نفسه لصاحبه غارقين في لجة من السعادة لا شاطئ لها. ثم جلسا حتى رجع الغلام والمطية، وسارا جنبًا لجنب وتواعدا للملتقى بعد العشاء.

وبعد العشاء انسحبت من بين أهلها بحجة أن لها في الخارج أمرًا تريد قضاءه، وخرجت عن البلد حتى إذا كانت في أول طريق الترعة وجدت إبراهيم ينتظرها. ولما رآها مقبلة مشى نحوها، وأخذ يدها وقبلها، ثم رنا إليها بعين قانعة عذبة كأنما يريد أن يقول لها: ها أنت ذي من جديد.

وبين المزارع الواسعة يترنّح فوقها نور القمر في سماواته، سارا الهوينا يخاصر كل منهما صاحبه، وينظران بعيون حيرى في لجج الفضاء، وقد طوقت ثغريهما ابتسامة راضية، وفاضت عنهما السعادة لا يقدرانها، وشعرا بهناءة لم يقطعاها بحديث بل تركا أنفسهما تطير في ذلك العالم الحلو سكرى بلذته، والكون حولهما ساكن إلا من أحلام الطبيعة يوحي بها الصرصار والضفدع، والليل شيبه الغرام أرسل بذوائبه البيضاء على المسطوحات الهائلة، والبدر صديقهما الحميم يسير معهما، أو حاسدًا زينب يتبع خطاها ويتأثرها بنظرات الحانق سقط في يده.

… أين أنت يا قمر السماء من جمال زينب ولم أعرك لفتة وهي إلى جانبي؟ إن في تلك النظرات التي تبعث هي بها إليك لسحر الشباب الذي فقدته أنت من قرون القرون، وتلك الابتسامة السعيدة التي تطوق ثغرها تهزأ بخطوط المشيب البادية على وجهك. ولكن أحلامه قطعها قول زينب يا سلام! القمر حلو.

– إنت أحلى يا زينب.

وطوق خصرها بذراعه وقبلها في جبهتها، ثم في صدغها، ومن جديد نظر معها إلى القمر.

ولكن تلك القبلات أثارت من نفسها شجونًا فلم تتمالك أن رمت برأسها على كتف صاحبها الذي أحسّ بعد برهة بشديد الخفقان الذي أصابها فاستدار برأسه إليها وقبل صدغها ثم سألها: ما لك يا زينب؟

وزينب تبكي ولا تجيب بكلمة. فأمسك بيدها وسألها من جديد فأجابته في بكائها: بعد شوية أيام مش حانشوف بعض … أجوز أنا وأروح دار جوزي، والساعة دي متنعادشي.

وتنهدت من قلب كليم، ثم استندت إلى المصلّى وراءها، ومسحت دموعها، وبقيا هكذا صامتين بقية الليلة.

وبعد أيام تقابلا، فأحست بالهناءة كلها، وسارت تجد في كل نظرة من نظرات إبراهيم أكبر السعادة.

وبقيا بعد ذلك يسترقان الساعات فيتحدثان ويتعانقان، وقد أحست أنها ستفارقه عاجلًا وإلى الأبد تريد أن تفنى في شخصه قبل أن يغتصبها منه مغتصب.

•••

وأسرعت الأيام، وانتهى موسم جمع القطن، وارتفعت الأسعار، فباع خليل من عنده ما حصل به المال. ثم أخذ أصحابه وانحدروا جميعًا يريد أن يخطب زينب إلى أبيها زوجًا لحسن. انحدروا ثمانية والشمس قد تقلص ظلها، والسماء تلتحف رداء الليل، والنور يهجر الوجود إلى وجود آخر بعيد، والأصوات تخرس ليحل محلها السكوت والصمت، وبلغوا الدار الحقيرة، والرجل كأنه على موعد منهم، أو كأنه جاءه الوحي بخبرهم، فلم يكادوا يطرقون بابه حتى فرشت لهم امرأته الحصير، وأعدت لهم القهوة، أو هي تلك العادة قد خالطت نفس هؤلاء الريفيين من إكرام كل وافد والترحيب بكل من يحلّ ناديهم وإحسان لقياه يجعلهم دون تكلف ولا عناء يبالغون ما استطاعوا في تحية من ينزل بهم.

وجلس الرجل من بينهم محتفيًا بهم مظهرًا مقدار سروره بتشريفهم ومؤانستهم وأنهم نوروا داره، وظلوا يتهادون التحيات حتى دارت عليهم القهوة، وصاروا جميعًاوكأن بينهم رابطة ودّ وإخلاص. هنالك قال خليل: والله طالبين القرب منك يا بو محمد.

– يا تلتميت مرحبة يا بو حسن.. واحنا قد المقام.

– الله يحفظك.

– ويعني إحنا حدانا حد يستحق الجواز؟

– والله بدنا زينب لحسن.

– إحنا والله ما نعزّ عليك حاجة يا خليل … لكن انت عارف البنت صغيرة من ناحية، وهي اللي بتقضيلنا الحاجة من ناحية … كمان يا خويه سنتين والا ثلاثة لما تكبر هي وتكون أختها بقيت لايجة للشغل.

هنالك انبرى من بين القوم رجل ذو وجاهة، عريض الصدر، عظيم الهيئة، هو شيخ البلد وقال: حاكم انت يا بو محمد! … صغيرة إيه يا خويه … عمرنا بنجوز البنات وهم أصغر منها … والله إني جوزت ديك السنة بنت أبو سميه ده. أبو عامر لعلي أبو إبراهيم وهي أصغر خالص من زينب.. يا راجل بلا كلام.

ثم تلاه آخر يظهر عليه أنه من الأعيان، وقال موجهًا الكلام لشيخ البلد: ومنتاش فاكر يا مصطفى بنت مسعودة لما جوزناها؟ حقه والله كانت يا عيني قد.. قد إيه.. مافيش خالص، شوية وكبرت وبقت عال.. لكن زينب باسم الله ما شاء الله كبيرة وحلوة ولوحدها تقوم بعيلة (ثم وجه الكلام لأبي الفتاة) صغيرة إيه يا راجل ماتقولش الكلام ده.

وأخذ المأذون الكلام من بعده فقال: المسائل دي بتعاديل الله.. ما دام القسمة تدل وربنا يريد العَدَل والله ما يبقى أحسن منها. حقه يا خوانا تفتكروش من خمستاشر سنة في عزبة سعد الدين لما جوزنا خضره أم إبراهيم لحسنين مقلد. قعدوا أهلها يقولوا معرف إيه ومدري إيه، وكانت يام رايحة تقوم ليلتها قتله، وكتبنا الكتاب والذي منه، وجابوا أولاد.. ربنا يكتر بسم الله ما شاء الله أحسن من كده مايبقاش.

وتكلم من بعده آخر وخامس وسادس وأبو محمد قد علته سحابة الهم، وعاودت نفسه الإحساسات المختلفة. لا يعرف ما هي ولا يقدر على فهمها، كلا، ولا يعلم سببًا لذلك الذي داخله من الأسى … وعلاه صمت عميق بين محادثات هؤلاء المترافعين أمامه، فهو يسمعهم ولا يقدر ما يقولون.. والليل جنّ أو كاد، والمصباح الذي يضيء لهم يلعب به الهواء الساكن الهادئ، وزينب تسمعهم من أعلى السطح ويكاد يتوه رشدها ويضيع صوابها، وأمها إلى جانبها قلقة تنتظر آخر هذا الحديث الذي طالما حادثت زوجها في أمره من قبل، وكانت قد عرفت أنه يود تحقيقه. لكن الساعة التي يجد الإنسان نفسه فيها مقدمًا على اقتحام خطوة يفتح بها السبيل لإتمام ما تمنى من زمان بعيد، لها من الرهبة والمهابة ما يبعث إلى النفس الهم والحيرة، فإذا هو اقتحمها وأصبح في طريقه لم يعد يبالي إلا بأن يصل إلى غايته.

هي تلك الساعة بعثت إلى العائلة السعيدة في فقرها ما أرسل إلى نفوسهم جميعًا ذلك الصمت الذي علاهم، ولم يبق من متكلم من بينهم. وظلمة الليل تهبط فتزيد صمت الكون ويمسي الوجود كله تائهًا في آماله ومخاوفه.

وزينب كاد يتيه رشدها؛ تفكر في إبراهيم الذي كانت معه من ساعة من الزمان، وفي الأيام المقبلة ما عساه يكون أمرها فيها. هل في هاته الليلة يقضى على سعادتها، ويرجع إليها الشقاء الدائم الذي كانت تتوقع من قبل؟ وهل هؤلاء الذين حضروا يريدون جميعًا — وليس منهم من يحسّ بجريمته — أن يقضوا على حظها في الوجود ويجعلوا بقية أيامها آلامًا وأحزانًا؟

وإبراهيم في بيته، عرف ما يدور الساعة في دار صاحبته، فأخذه الضيق، وركبه الهم، واستولى عليه اليأس، وتولاه الأسى، وبقي محزونًا مكمودًا ينعي في نفسه نفسه.

وأبو الفتاة قد انتهى القوم بإقناعه وكاد يقبل، وابتدأوا بذلك يقدرون المهر، وانقسموا بعضهم على بعض في التقدير، ثم تراضوا جميعًا ولم يبق إلا كتب الكتاب، وأن يروح لذلك من يجيء من زينب بتوكيل أبيها في عقد زواجها.

ها هو ذا الأب قد تصرف في يد ابنته برأيه وباعها مساومة، وبقي أن تجيز هي عمل شخص أعطته الطبيعة من السلطان أنه أبوها، فهل تقدر الفتاة من بعد ذلك على ردّ ما عمل؟ هل ترضى هي بفعلته هاته وقد عدتها من قبل باب نحسها وشقائها، وتعطيه عن طيب نفس ذلك التوكيل الذي يطلب أو هي واقفة دون ذلك؟

عرفت زينب أنْ سيطلب توكيلها، فكأنما سقطت عليها هموم السماوات، واستولت عليها الأحزان من أعماق الأرضين، وأصبح ذلك السواد النازل من علو مصائب هابطة وأهوالًا وشقاء، أو كأنما يرسل النسيم إلى قلبها بسهام الويل والتعس، بدل أن يحيي منها أملًا يقضي عليه أبوها ووافقته في قضائه أمها.

لكن القوم لم يكتبوا الكتاب في ذلك اليوم بل اكتفوا بقراءة الفاتحة وأجّلوا إتمام العقد لشهر من الزمان.

•••

مضى شهر من الزمان كانت زينب فيه إما تسمع ما تكرره لها أمها من الكلام، أو هي بين يدي إبراهيم تذرف الدمع، فيضمها إليه وقلبه ينفطر حزنًا، ويقبل صدغها فيجد في تلك القبلات ما يزيد في وجده وأساه. وكل يوم يمر يزيد ما بنفسيهما حتى لتفكر من جديد أن تهب كل وجودها له لينجوَا معًا إلى حيث لا يعلم الناس: إلى مجاهل قاصية يقضيان فيها حياة عاملة كحياتها اليوم، وتخلص بذلك من عذابها الأليم. ليأخذها إبراهيم حيث يشاء فهي لا تريد غيره.

فإذا هي خلت إلى نفسها تقطّعت نياط قلبها أسى، وداخلها اليأس، وتحدّرت دموعها، ثم تراها أمهـا فتلومها على ما هي فيه وتعمل لعزائها، ولكن أنَّى لها أن تتعزّى؟ إنها لتود أن تخرج هائمة على وجهها تتقاذفها الأكوان وتتناولها يد القدر، فإنها مهما تكن قاسية في معاملة الفقير فهي ألين من يد أبويها وأحنى عليها منهما. وهل هي واجدة إلا شقاء بشقاء، ونصبًا بنصب؟!

ويضمها إبراهيم لصدره كلما جلست إليه، ثم يجاهد هو الآخر لعزائها فلا تجد في ذلك إلا تشديدًا لآلامها وإحلالًا لليأس موضع كل رجاء من قلبها، وكادت تذهب بها أحزانها إلى الجنون، وتخرجها من بين الناس إلى حيث لا يعلم بأمرها أحد.. بل لقد همت بذلك أكثر من مرة فتنفرد في المزارع طول نهارها تنتقل من غيط إلى غيط وتجلس كلما أثقلها الهم، ثم يثور كل وجودها فلا تستطيع إلا أن تهيم، فإذا أمسى الوقت وتطوحت الشمس داميًا قرصها إلي الغيابات النائية، والتهب الغرب بحمرة الشفق، لم تستطع إلا أن ترجع إلى تلك الدار التي ضمتها كل أيامها ثم تريد أن تقذف بها عما قريب.

ترجع فتجد أهلها وعليهم أثر الرضا والسرور، فإذا انفردت بها أمها لم تَنِ عن أن تعيب عليها ذلك الذي تراها فيه من الوحشة وإظهار الأسى، وتحكي لها حكايات من زوّجهن أبوهن وهن لا يعلمن من أمر ذلك بشيء، وكيف أصبحن من بعد زواجهن سعيدات، وأن الأب ليس إلا باحثًا عن خير ولده موفقًا بما عنده من المعرفة إلى ما يبغي!

•••

مضى شهر من الزمان، وجاء خليل وحسن والمأذون وأصحابهم. وجلسوا جميعًا بين تحيات أبي محمد وإكراماته. كذلك كان عند زينب وأمها جارات من أصحابهن جئن يشاركن العائلة في سرورها. وهل بعد كل هاته الضجة القائمة يبقى لزينب من كلام؟ لذلك لم تجب بكلمة ما حين جاء القوم يطلبون توكيلها أباها في عقد زواجها، بل بقيت صامتة لا تنطق بكلمة ولا تنبس بحرف … ثم كان أن أخذتها نفسها فلم تقدر أن تمنع دموعها التي سالت على خدها.. واستبطأ الأب رسوله فنادى به واحد ممن حوله، ولما علموا أنها تبكي قال المأذون، وهو يهز رأسه وعمامته الكبيرة: حيث إنها دموع باردة فهي دموع الفرح!

ثم بالصيغة التي يحفظها عن ظهر قلبه، والدعوات التي يتلوها في مثل موقفه، وضع يد العروس في يد وكيل عرسه واستتلاهما من بعده الكلمات التي تزوج.

وفي مساء الغد انتقلت زينب من دار أبيها، وأصبحت فردًا من أفراد عائلة زوجها حسن، بعد أن ذرفت دمعات الوداع للدار التي قضت فيها أيام صباها وآمالها.

١  تحويل الماء من الترعة.
٢  إحدى الألعاب الريفية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤