جريمتا شارع مورج
ما غنَّته السيرينات، أو الاسم الذي اتخذه أخيل لنفسه عندما اختبأ بين النساء؛ هذه الأسئلة رغم كونها محيرة، فإنها ليستْ بعيدةً عن التَّخمين.
إن السمات العقلية التي يُنظَر لها على أنها تحليليةٌ نادرًا ما تتعرَّض إلى التحليل في حد ذاتها؛ فنحن نُقَدِّر ما تؤدِّي إليه فقط، ونحن ننظر لها، بين أمور أخرى، من حيث إنها تمثِّل لمالكها دائمًا، عندما يمتلِكُها بشكلٍ زائد، مصدرًا لأقصى مُتعةٍ مُفعَمة بالحيَويَّة. وكما يتفاخر الرجل القوي بقدرته الجسدية مستمتعًا بالتمارين حين يدفع عضَلاته للعمل، فإن المحلِّل يستمتع بالنشاط الفكري لحلِّ المشكلات. إنه يستمد المُتعة من الانشغال حتى بأقل الأمور أهمية التي تدفع موهبتَه للعمل. إنه مغرَم بالأحاجي والألغاز والرموز؛ عارضًا في كل حلٍّ يقدمه قدرًا من الفطنة والذكاء يبدو لإدراك عامة الناس خارقًا للطَّبيعة. وفي الواقع تمتلك النتائجُ التي يتوصل إليها باستخدام جوهر وروح المنهجية المظهرَ الكامل للحدس.
من المحتمل أن دراسة الرياضيات تقوي بشكل كبير من مَلَكة حلِّ المشكلات، خاصةً عن طريق أكبر فروعها الذي سُمِّي — ظلمًا وبناءً على عملياته الرَّجعية فحسب — بالتحليل، كما لو كان هو الأفضل بلا منازع؛ غير أن الحساب يختلف عن التحليل. على سبيل المثال، فإن لاعب الشطرنج يقوم بأحدهما دون بذل مجهود في الآخر؛ ومن ثَمَّ فإن لعبة الشطرنج يُساء فهمها بشكل كبير بسبب آثارها على العقل. أنا هنا لا أكتب أطروحة علمية، بل أمهد لقصَّة عجيبةٍ نوعًا ما عن طريق ملاحظات عشوائية بشكل كبير؛ لذا سأستغل الفرصة للتأكيد أن القوى الكبرى للتفكير التأملي منوط بها قطعًا وبشكل أكبر فائدة، لعبة الداما البسيطة بدلًا من التسلية المعقَّدة للشطرنج. في هذه الأخيرة، حيث يكون لقطع اللعب حركات مختلفة وغريبة، بقيم متنوعة ومختلفة، يُخلَط بين ما هو معقَّد فقط (وهو خطأ ليس بنادر الحدوث) وما هو عميق. هنا يأتي دور شحذ الانتباه بشكل كبير؛ فإذا ضعف الانتباه للحظة، يُرتكب سهو يؤدي لخسارة أو هزيمة. الحركات الممكنة ليست متنوعة فقط بل معقَّدة، وتتضاعف فُرص حدوث مثل هذا السهو، وفي تسع حالات من عشر، يفوز اللاعب الأكثر تركيزًا وليس الأكثر ذكاءً. على النقيض، في لعبة الداما، حيث الحركات محدَّدة وقليلة التنوع، فإن احتمالات السهو قليلة، ويبقى الانتباه غير مكرَّس بالكامل مقارنة بالشطرنج، ويكون أي تقدم يُحرزه الطرفان من نصيب الأكثر ذكاءً. لنتحدث بصورة أقل تجريدًا، دعونا نفترض أن قطع لعبة الداما قد تقلصت ليصبح عددها أربعًا فقط مما، بالطبع، لن يدع مجالًا للسهو. من الواضح أن الفوز هنا يمكن تحقيقه (وهنا يتساوى اللاعبان بشكل تامٍّ) فقط عن طريق حركة مختارة بعناية، ويكون هذا نتيجة لبذل جهد كبير في التفكير. في حالة عدم وجود المصادر المعتادة يضع المحلِّل نفسَه في موضع خصمه ويتوحد معه، ويرى — وهذا يحدث بشكل متكرر — بنظرةٍ واحدةٍ الطرقَ والأساليب الفردية (التي أحيانًا ما تكون بسيطة على نحو مضحك) التي ربما توقعه في الخطأ، أو تدفعه للقيام بحساب خاطئ.
عُرِفت لعبة الهويست منذ زمن طويل بأثرها على ما يسمَّى القوة الحسابية؛ ومن المعروف أن أصحاب أفضل العقول يستمتعون بها بلا حدود بشكل واضح، بينما يتحاشون الشطرنج كلعبة تافهة. ولا شك في أنه لا يوجد شيء في الطبيعة نفسها يرهق مَلَكَة التحليل بشكل كبير. ربما لا يتعدَّى أفضل لاعب شطرنج في العالم المسيحي كونَه أفضلَ لاعب في الشطرنج فقط، لكنَّ الكفاءة في لعب الهويست تدلُّ على القُدرة على تحقيق النجاح في مهام أكثر أهمية تتصارع فيها العقول معًا. وأقصد بكلمة الكفاءة هنا الكمالَ في اللعبة الذي يتضمَّن إدراك كل الأسباب التي يمكنها منح التفوق الشرعي. هذه الأسباب ليست متنوعة فقط، بل متعددة الأشكال، وتكمن عادة في خبايا التفكير التي يتعذر فهمها بواسطة الفهم المعتاد. المراقبة عن كثب تعني التذكر بوضوح، وإلى هذا الحد، فإن لاعب الشطرنج صاحب التركيز سيُبلي بلاءً حسنًا في لعب الهويست، في حين أن قواعد هويل (القائمة في حد ذاتها على آليات اللعبة) مفهومة بشكل شامل وكافٍ؛ لذا فإن امتلاك ذاكرة قوية واتباع القواعد هما نقطتان يُنظَر لهما عامةً بوصفهما جوهرَ اللعب الجيد. لكن مهارة المحلل تكمُن في أمورٍ تتخطَّى القواعد البحتة؛ فالمحلل يجمع في صمت مجموعة من الملاحظات والاستنتاجات، وربما يفعل رفقاؤه هذا كذلك، لكن الفرق في المعلومات التي حصل عليها لا يكمن بشكل كبير في صحة الاستنتاجات بقدر ما يكمن في جودة الملاحظات. تكمن المعرفة الضرورية فيما يُلاحَظ. لا يقيِّد لاعبنا نفسه مطلقًا، ولا يرفض — بسبب أن اللعبة هي هدفه — أيَّ استنتاجات من أشياء خارج نطاق اللعبة. يفحص اللاعب سيماء شريكه مقارنًا إياها بحرصٍ بسيماء كل خصم من خصومه. ويأخذ في اعتباره أسلوب ترتيب البطاقات في كل يد، وغالبًا ما يُحصي الأوراقَ الرابحة والأوراق الرئيسية ورقة ورقة من خلال نظرات حامليها لها. يلاحظ كل تغيُّر في ملامح الوجه مع تقدم اللعب جامعًا قدرًا من الأفكار بسبب التغيرات في تعبيرات اليقين أو المفاجأة أو النصر أو الغمِّ التي تعلو الوجوه، ويستطيع الحُكْم من طريقة التحضير لخدعةٍ ما إذا كان الشخص الذي ينفِّذها يمكنه القيام بأخرى من خلال أوراق اللعِب. يدرك ما يُلعَب من خلال التمويه والطريقة التي تُرمَى بها الورقة على الطاولة؛ كلمة عابرة أو غير مقصودة؛ الإسقاط أو الدوران العارض لورقة؛ وما يصاحب هذا من توتر أو لا مبالاة فيما يخص التَّغطية أو الإخفاء وإحصاء الخِدع بترتيب أعدادها؛ والإحراج أو التردد أو اللهفة أو الخوف، كل هذا يضيف لإدراكه الحدسي الظاهر دلالات إلى الحالة الواقعية الراهنة. وبعد لعب دورتين أو ثلاث، يكون اللاعب قد أدرك بشكل كامل محتويات كل يد؛ ومن ذلك الحين فصاعدًا يلقي بأوراقه على الطاولة بهدف محدد بدقة مطلقة، كما لو كان باقي الحاضرين قد كشفوا بطاقاتهم.
يجب عدم الخلط بين قوة التحليل وتوفُّر البراعة؛ لأنه في الوقت الذي يكون فيه المحلل بالضرورة حاذقًا، فإن الحاذق غالبًا ما يكون غير قادر على التحليل بشكل لافتٍ للنظر. غالبًا ما كانت قوة الاستنتاج أو التجميع — التي يظهر من خلالها عادةً مدى العبقرية، والتي نسبها علماء فِراسة الدماغ (وأعتقد أن هذا خطأ) لعضو منفصل من الجسد مفترضِين أنها مَلَكَة فطرية — تظهر لدى أولئك الذين يقترب فكرهم من البلاهة والحُمق بشكل أو بآخر، بحيث جذبت الانتباه العام بين الكُتَّاب عن السلوكيات الأخلاقية. هناك بالتأكيد فارق بين البراعة والقدرة التحليلية أكبر بكثير من الفارق بين الوهم والخيال، لكنهما متشابهان بشكل تامٍّ. وفي الواقع، سنجد أن البارع دائمًا كثير الأوهام، وصاحب الخيال الحقيقي لا يكون إلا تحليليًّا.
ستتكشَّف القصة التالية للقارئ في ضوء ما سبق من افتراضات.
أثناء إقامتي في باريس خلال ربيع عام …١٨م وجزء من صيفه، تعرَّفت على السيد سي أوجست دوبان. كان ذلك الشاب من عائلة شهيرةٍ ولامعة، لكن أدَّت مجموعة من الأحداث المؤسفة إلى تحوله إلى درجة من الفقر استسلمت لها قوة شخصيته، وتوقف عن الخروج إلى العالم أو الاهتمام باستعادَة ثروته. ومن لطف دائنيه تبقَّى لديه جزء صغير من إرثه، واعتمادًا على الدخل القادم من هذا الإرث استطاع، بتدبير صارم، الحصول على ضروريات الحياة دون شغل باله بالرفاهيات الزائدة. بالطبع كانت الكتب هي وسليةَ الرفاهية الوحيدة في حياته، ولم يكن الحصول عليها في باريس أمرًا صعبًا.
كان لقاؤنا الأول في مكتبة مجهولة في شارع مونمارتر، حيث تصادَف أن جَمَعَنا بَحْثُنا معًا عن نفس الكِتاب النادر جدًّا والاستثنائيِّ جدًّا. التَقينا بعد ذلك مرةً تلوَ الأخرى. كنت مهتمًّا جدًّا بتاريخِ عائلتِه الصغيرة، الذي سرَده لي بالتَّفصيل بكلِّ صراحة يتميز بها أي فرنسي حينما تكون ذاتُه هي محورَ الحديث. كذلك كنتُ مذهولًا من المدى الواسع لقراءته، وقبل كل شيء، شعرت بروحي تشتعل داخلي بسببِ حَماسه الشديد وخصوبةِ خياله وحيويته. ببحثي وقتذاك في باريس عن الأشياء التي أريدُها شعرت بأن صحبة مثل هذا الرجل ستكون كَنزًا لا يقدَّر بثمَن، وكشفت له عن هذا الشعور بكُلِّ صَراحة. في نهاية الأمر توصَّلنا إلى أنه يجِب علينا الإقامة معًا أثناء فترة بقائي في باريس، وبما أنَّ ظروفي المعيشية كانت أقل إحراجًا من ظروفه، سُمِح لي بأن أكون مسئولًا — بأسلوب يناسب الكآبة الغريبة لحد ما التي تُميِّز مزاجنا المشترك — عن استئجار وتأثيث قصر قديم وغريب المنظر على وشك التداعي في منطقة مهجورة ومنعزلة من حي فوبورج سان جيرمان، هُجِر منذ زمن طويل بسبب خُرافات لم نبحَث فيها.
لو علم الناس من حولنا بروتين حياتنا اليومي لكانوا نعتونا بالمجنونَين، لكن ربما مجنونَان لا يضرَّان أحدًا. كانت عزلة كلينا أمرًا مثاليًّا. لم نستقبل أيَّ زوار. بالطبع حافظنا على موقع عزلتنا سرًّا عن زملائي السابقين، كما كانت قد مرت سنوات طويلة على معرفة دوبان بأحد في باريس. كنَّا نُوجَد فقط داخل أنفسنا.
كان صديقي يمتلك ولعًا غريبًا (بماذا يمكنني تسميته غير ذلك؟) بالليل لذاته؛ وانغمست في هذا السلوك الغريب، كسلوكياته الغريبة الأخرى، رويدًا رويدًا تاركًا نفسي رهن نزواته الجامحة باستسلام تامٍّ. كان الظلام المقدَّس لا يسكن المنزل دائمًا، لكننا كنَّا قادرَين على صُنعه. في مطلع الفجر من الصباح كنَّا نغلق مصاريع المنزل البالية ونشعل شمعتَين رفيعتَين ذواتَي رائحة قوية، حيث لم تكونا تصدرانِ سوى أشعة خافتة ومثيرة للرهبة. بمساعدة هاتَين الشمعتَين شغلنا روحَينا بعالم الأحلام؛ بالقراءة أو الكتابة أو الحديث معًا حتى تنبِّهنا الساعة إلى حلول الظلام الحقيقي. بعد ذلك نتجول في الطرقات وقد تأبطت ذراعه مستمرَّين في مناقشة موضوعات النهار، أو نجول في كل مكان حتى ساعةٍ متأخرة باحثَين — وسط الأضواء المبهرة والظلال للمدينة المزدحمة — عن المتعة العقلية اللانهائية التي يمكننا الحصول عليها بالملاحظة الصَّامتة لما يدور حولنا.
في مثل تلك الأوقات لم أستطع منعَ نفسي من ملاحظة قدرة تحليلية عجيبة لدى دوبان (رغم أنني كنت متوقعًا امتلاكَه لها بسبب مثاليَّته الشديدة) والإعجاب بها. كما بدا كذلك أنه يستمتع بممارسة هذا بكلِّ لهفة — إن لم يكن من خلال عرض تلك القدرة على وجه الدقَّة — ولم يتردَّد في الاعتراف بالاستمتاع المستمد بالتالي من هذا. كان يُسِرُّ لي بتباهيه، مصدرًا ضحكةً خافتةً، أنَّ مكنونات صدور معظم الرجال بالنسبة له تبدو مكشوفة. وكان عادةً ما يتبع هذه التأكيدات بإثباتات مباشرة ومذهلة جدًّا عن معرفته الشخصية جدًّا بما يُخفيه صدري. كان تصرفه في هذه الحالات يتميَّز بالتجرد والبرود، وكانت عيناه خاليتَين من أي تعبير، بينما يتحوَّل صوته، والذي عادة ما يكون عميقًا، إلى صوت حادٍّ يبدو كما لو كان غاضبًا لولا التعمد والوضوح التامُّ للنطق. بملاحظته في هذه الحالات المزاجية، غالبًا ما كنت أجيل فكري بفلسفة الثنائية القديمة، وتسلَّيت بتخيل وجود نسخة مزدوجة من دوبان، المبدع وحلَّال المشكلات.
دعونا لا نفترض مما قلته للتَّوِّ أنني أسرد تفاصيل أيِّ أمر غامض، أو أكتب أيَّ عمل رومانسيٍّ. ما وصفته عن هذا الفرنسي كان مجرد نتيجة ذكاء هائج، أو مريض، ربما. لكنَّ مثالًا عن طبيعة ملاحظاته في الفترات التي نتحدث عنها سيوصل الفكرة بأفضل طريقةٍ ممكنة.
ذات ليلة كنَّا نتجول في طريق ترابي طويل في مُحيط القصر الملكي. لم يتفوَّه كلانا بأي كلمة لمدة ربع ساعة على الأقل بسبب انشغالنا — كما يظهر علينا — بالتفكير. وفجأة، قال دوبان:
«إنه شخص ضئيل الحجم، هذا حقيقي، وسيكون مفيدًا بشكل أكبر في مسرح المنوعات.»
رددت على نحو عفويٍّ: «لا شكَّ في هذا.» ولم ألاحظْ في البداية — بسبب استغراقي في التفكير — الطريقة غير المعتادة التي اقتحم بها دوبان أفكاري. وبعد لحظة استجمعت ذاتي وأصبح ذهولي شديدًا.
قلت له بجدية: «دوبان، هذا يفوق قُدرتي على الفهم. لا أتردَّد في القول بأني مندهش ويمكنني بالكاد الوثوق في حواسي. كيف أمكنك بأي حال أن تعرف أنني كنتُ أفكر في …؟» ثم توقفت عن الكلام؛ لأتأكد دون أدنى شكٍّ من مقدار معرفته ما كنتُ أفكر فيه.
ردَّ: «تفكر في شانتيلي. لماذا توقَّفت؟ كنتَ تقول لنفسك إن جسمه الضئيل لا يناسب المسرح التراجيدي.»
كان هذا بالضبط ما أفكر فيه. كان شانتيلي إسكافيًّا سابقًا يعمل في شارع سان دوني، ثم فُتِن بالمسرح وحاول أداء دور زيركسيس في مسرحية كريبيون التراجيدية، وتعرَّض للسخرية والهجاء الشديدَين على مجهوداته.
تعجبت قائلًا: «أخبرني بحقِّ السماء عن الطريقة — إن كانت ثمة طريقة — التي مكنَّتك من سبر أغوار روحي فيما يخص هذا الأمر.» في الحقيقة، كنتُ أشعر بالخوف بشكل يفوق قدرتي على التعبير.
ردَّ صديقي: «بائع الفاكهة الذي جعلك تدرك أن طول مصلح نعال الأحذية لا يجعله مناسبًا للقيام بدور زيركسيس والأدوار الأخرى من هذا النوع.»
«بائع الفاكهة! هذا عجيب! أنا لا أعرف أيَّ بائع فاكهة.»
«الرجل الذي صادفتَه أثناء دخولنا الشارع، ربما من خمس عشرة دقيقة مضت.»
تذكَّرت بالفعل أن بائعًا للفاكهة يحمل سلَّةً كبيرةً من التفاح فوق رأسه كان على وشك أن يسقطني دون قصد، عندما كنا نعبر طريق … إلى الشارع العام الذي كنا نقف فيه، لكني لم أستطع بأي حال فهم ما علاقة هذا بشانتيلي.
لم تكن هناك أي ذرة غشٍّ أو احتيال بشأن دوبان، الذي قال: «سأفسِّر لك حتى يمكنك إدراك الأمر بكل وضوح. سنعيد أولًا تتبع مسار أفكارك وتأمُّلاتك من لحظة حديثي معك، حتى مقابلتك لبائع الفاكهة الذي نقصده. الروابط الأكبر للسلسلة تسير على هذا النحو: شانتيلي ثم كوكبة أوريون ثم الدكتور نيكولس ثم الفيلسوف إبيقور ثم علم قَطْع الحجارة ثم حجارة الشارع ثم بائع الفاكهة.»
قليلون هم مَن لم يسلُّوا أنفسهم، في فترة ما من حياتهم، بإعادة تتبع الخطوات التي توصَّلت عقولهم بواسطتها إلى استنتاجات بعَينها. غالبًا ما يكون الانشغال بهذا مليئًا بما يثير الاهتمام، ويندهش مَن يحاول القيام بهذا لأوَّل مرة بالمسافة اللامتناهية وعدم الترابط بين نقطة البداية والهدَف؛ لذا كان يمكنهم تخيل مدى اندهاشي عندما سمعت ما قاله صديقي الفرنسي للتَّو ولم أستطع إلا الاعتراف بحقيقة ما قاله. استمر قائلًا:
«إذا كنتُ أتذكُّر جيدًا فقد كنَّا نتحدث عن الخيول قبل مغادرة شارع … مباشرة. كان هذا آخر موضوع ناقشناه. وأثناء عبورنا للشارع دفعك بائع فاكهة يحمل سلة تفاح كبيرة فوق رأسه، وكان يجتازنا بسرعة، لتقع فوق كومة من أحجار الرصف مجتمعة في مكان ما زال فيه الطريق قيد الإصلاح. دست بقدمك إحدى تلك القطع المتفرقة وانزلقتَ، والتوى كاحلك بشكل طفيف مما جعلك تبدو غاضبًا أو متجهمًا، وتمتمت ببعض الكلمات واستدرتَ لتنظر لكومة الصخور، ثم أكملتَ المشي في صمت. لم أكن منتبهًا بشكل كامل لما تقوم به، لكن الملاحظة أصبحت بالنسبة لي شيئًا ضروريًّا في الفترة الأخيرة.
أبقيت عينَيك مثبَّتتَين على الأرض ناظرًا بتعبير غاضب إلى الحفر والتجاويف في الرصيف (لذا عرفت أنك ما زلت تفكِّر في الأحجار) حتى وصلنا لزقاق صغير يسمَّى لامارتين كان مرصوفًا، كتجربة، بقطع قرميد متداخلة ومبرشمة بإحكام. هنا أشرق وجهك وأدركت من حركة شفاهك أنك بلا شكٍّ تمتمت بكلمة علم قَطْع الحجارة، وهو مصطلح يُسْتَخدم بشكل متكلف لوصف هذا النوع من الأرصفة. كنتُ أدرك أنه لا يمكنك التفوه بالكلمة دون التفكير في الذرات والجسيمات؛ ومن ثَمَّ التفكير في نظريات إبيقور، وبما أنني ذكرت لك — حيث لم يمرَّ وقت طويل منذ أن ناقشنا هذا الأمر — كيف أنَّ علم نشأة الكون الحديث — رغم عدم ملاحظة هذا بشكل كبير — أثبت صحة التخمينات الغامضة لذلك النبيل الإغريقي بشكل لافت للنظر، شعرت أنه لا يمكنك ألا تنظر للأعلى تجاه السديم العظيم في كوكبة نجوم أوريون، وتوقعت يقينًا أنك ستفعل هذا. نظرتَ لأعلى وكنت متأكدًا أنني تتبعت أفكارك بشكل صحيح. لكن ومن خلال النقد الشديد لشانتيلي الذي ظهر أمس في جريدة ذا ميوزيه الساخرة والذي أشار بتلميحات مشينة إلى تغيير الإسكافي لاسمه بعد العمل في المسرح، استُخدِمَت جملة لاتينية تناقشنا بشأنها وهي:
والتي تعني: «تغيُّر النطق بتغيير الحرف الأول.»
أخبرتك أن هذا يتعلق بكوكبة أوريون، والتي كانت تُكتَب فيما مضى يوريون، ومن خلال تبادل بعض النكات اللاذعة المرتبطة بهذا التفسير، كنتُ أدرك أنك لن تستطيع نسيانها؛ لذا كان من الواضح أنك لن تخفق في الربط بين أوريون وشانتيلي. أدركتُ ربطك بينهما عندما رأيت كُنْه الابتسامة التي تراقصَت على شفتَيك. فكَّرتَ في مأساة الإسكافي المسكين. حتى ذلك الحين، كانت هناك انحناءة في مشيتك، لكني الآن أراك منتصبًا بشكل كامل في مشيتك. تأكدت حينها أنك فكرت في جسم شانتيلي الضئيل. عند تلك النقطة، قاطعت تدفق أفكارك لأشير إلى أنه في الواقع كان شخصًا ضئيلًا جدًّا، وأنه — شانتيلي — يناسب مسرح المنوعات بشكل أكبر.»
لم يمرَّ وقت طويل بعد هذا الحديث حتى كنا نطالع نسخة المساء من «مجلة المحاكم» عندما لفت هذا المقال انتباهنا، حيث كان يقول:
«جريمتان غريبتان. في حوالي الساعة الثالثة من هذا الصباح، استيقظ سكان حي سان روش على سلسلة من الصرخات المروِّعة الصادرة على ما يبدو من الدور الرابع في أحد بيوت شارع مورج والمعروف بأنه لا يسكنه سوى السيدة ليسبانيه وابنتها الآنسة كاميل. بعد مرور بعض الوقت ومحاولة فاشلة لدخول المنزل، كُسِرت البوابة باستخدام عتلة ودخل ثمانية أو عشرة من الجيران يصحبهم شرطيان. كانت الصرخات قد توقفت، لكن أثناء صعود الجيران أول مجموعة من السلالم، سُمِعت أصوات خشنة منخرطة في نزاع محتدِم وبدا أنها آتية من الجزء الأعلى من المنزل. بوصول الجيران للدور الثاني من المنزل، توقفت هذه الأصوات أيضًا وساد هدوء تامٌّ. تفرق أفراد المجموعة واندفعوا من غرفة إلى أخرى. عند وصولهم إلى الغرفة الخلفية الكبيرة في الدور الرابع (والتي كان بابها مغلقًا بالمفتاح من الداخل لكنه فُتِح عنوة)، وجدوا مشهدًا صعق جميع الحاضرين بالذهول أكثر من الرعب.
كانت الشقة في أسوأ فوضى ممكنة؛ الأثاث مكسور ومتناثر في جميع الاتجاهات. كان هناك هيكل سرير وحيد ونُزِع منه الفراش ورُمِي في منتصف الغرفة. فوق أحد الكراسي، كانت هناك موسى ملطخة بالدماء. وفوق الموقد، كان هناك كذلك خصلتان أو ثلاث طويلة وسميكة من شعر بشري رمادي ملطخ بالدماء، ويبدو أنها نُزِعت من الجذور. على الأرضية، كانت هناك أربع عملات ذهبية، وقرط من حجر التوباز الكريم، وثلاث ملاعق فضية كبيرة، وثلاث أخرى صغيرة من مَعْدِن خليط من القصدير والإثمد ذي لون أبيض، وحقيبتان تحويان حوالي أربعة آلاف فرنك ذهبي. كان من الواضح أن أدراج إحدى المناضد، التي كانت تقف في أحد أركان الغرفة، قد نُهِبت رغم أنه كان لا يزال بداخلها الكثير من المتعلقات. اكتُشفت خزانة حديدية صغيرة تحت الفراش (وليس تحت هيكل السرير). كانت مفتوحة وما زال المفتاح في بابها. كانت فارغة إلا من بعض الخطابات القديمة وأوراق أخرى غير ذات أهمية كبيرة.
لم يكن هناك أي آثار تشير إلى السيدة ليسبانيه، لكن لوحظ وجود كمية غير معتادة من السناج في المستوقد مما أدَّى إلى البحث داخل المدخنة — وما سيلي من الفظيع سرده — ليخرجوا منها جثة الابنة التي اتجه رأسها للأسفل، والتي كانت قد دُفِعت بالقوة لأعلى داخل الفتحة الضيقة للمدخنة لمسافة كبيرة. كانت الجثة دافئة تمامًا، وبعد فحصها، لوحظ وجود العديد من السحجات التي حدثت بلا شكٍّ بسبب العنف الذي دُفِعت بواسطته لأعلى داخل المدخنة والذي بُذِل لتحريرها منها. كان يعلو الوجه العديد من الخدوش البالغة، بينما كانت هناك رضوض داكنة على الرقبة وآثار عميقة لأظافر، كما لو كانت المتوفاة قد خُنِقت حتى الموت.
بعد فحص شامل لكل جزء من المنزل، لكن دون اكتشاف المزيد، اتجهت مجموعة الجيران إلى فناء صغير مرصوف في خلفية المنزل حيث كانت تقبع جثة السيدة العجوز، وقد قطع حلقها بالكامل حتى إن محاولة رفع جثتها قد أدت إلى سقوط رأسها. كان الرأس والجسد قد مُثِّلَ بهما على نحو مخيف، حتى إن الأول كان لا يحتفظُ إلا بأقل القليل من المظهر البشري.
ونعتقدُ أنه حتى الآن لا يوجَد أدنى دليلٍ لحلِّ هذا اللغز المرعب.»
أما صحف اليوم التالي فقد حوت التفاصيل الإضافية التالية:
«مأساة شارع مورج. استُجوب العديد من الأشخاص فيما يتعلق بهذا الشأن المروِّع والاستثنائي لأقصى درجةٍ ممكنة» (لم تكن كلمة شأن قد اكتسبت بعد في فرنسا نفس القدر الكبير من الأهمية الذي لدينا). تضيف الصحف: «لكن لم يُتَوَصَّل لأيِّ شيء يكشف غموض هذا الأمر. نسرد فيما يلي كل ما كشفته الشهادات الأساسية».
تقول بولين دوبورج، التي تعمل غسَّالة ملابس، إنها كانت تعرف المتوفَّاتَين لمدة ثلاث سنوات، حيث كانت تغسل لهما الملابس خلال هذه المدة. كانت العلاقة بين المرأة وابنتها تبدو على ما يرام حيث كانتا حنونتَين جدًّا إحداهما تُجاه الأخرى. كما كانتا تدفعان لها بسخاء. لم تستطع دوبورج التحدث بشأن أسلوب معيشتهما أو مواردهما المالية. كانت تعتقد أن السيدة ليسبانيه تكسب عيشها من التنبؤ بالمستقبل، وشاعَ أنها تدخر بعض المال. لم تكن دوبورج ترى أي أشخاص في المنزل عندما كانت تُستَدعى لغسل الملابس أو أخذها للمنزل، كما أنها متأكدة أنه لا يوجد خادمة لدى المرأتَين. لم يبدُ أن هناك أيَّ أثاث في أيِّ جزء من المبنى إلا في الدور الرابع.
أما بيير مورو، تاجر التبغ، فيقول إنه اعتاد بيع كميات صغيرة من التبغ والنشوق للسيدة ليسبانيه طيلة أربع سنوات تقريبًا. وُلِد مورو في الحي وعاش دائمًا فيه. كانت المتوفاتان تعيشان في المنزل الذي وُجِدت فيه الجثتان لأكثر من ست سنوات. كان يشغل المنزل فيما مضى تاجر مجوهرات يؤجر الغرف العليا لأشخاص عديدين بأجر قليل. كانت السيدة ليسبانيه صاحبة المنزل وكانت غاضبة بسبب سوء استغلال الرجل له وانتقلت للعيش فيه بنفسها رافضة تأجير أي قسم منه. كانت السيدة العجوز ذات سلوك طفولي. شهد الرجل أنه رأى الابنة خمس مرات أو ستًّا خلال السنوات الستة. وكانت الأم وابنتها تعيشان حياة ميسورة، حيث يُقال إنهما كانتا تمتلكان المال. سمع الرجل من الجيران أن السيدة ليسبانيه كانت تكسب العيش بالعمل عرَّافةً، لكنه لم يصدق هذا. كما أنه لم يرَ أيَّ شخص يدخل المنزل سوى السيدة العجوز وابنتها، وأحد الحمَّالين مرة أو مرتين، وطبيب ثمانيَ مرات أو عشرًا.
كما أدلى العديد من الجيران بشهادات مشابهة. لم يأتِ ذكر أي شخص كان يتردَّد على المنزل. لم يكن من المعروف إذا كان هناك أي أقارب أحياء للسيدة ليسبانيه وابنتها. كانت مصاريع نوافذ المنزل الأمامية نادرًا ما تُفتَح، أما تلك التي في المؤخرة فكانت دائمًا مغلقة فيما عدا مصراع النافذة الخلفية الكبرى في الطابق الرابع. كان المنزل بشكل عامٍّ في حالة جيدة، وليس قديمًا جدًّا.
يقول إيزيدور موزيت، شرطي دَرَك، إنه استُدعي إلى المنزل في حوالي الثالثة صباحًا، ووجد نحو عشرين أو ثلاثين شخصًا عند بوابة المنزل يُحاولون الدُّخول. في النهاية نجحوا في فتحِها بالقوة، باستخدام حربة، وليس عتلة. لم يواجهوا صعوبة في فتحها بالقوة؛ بسبب أنها كانت مزدوجة أو قابلة للطي، ولم تكن مثبتة بالمسامير من أعلى أو أسفل. استمرت الصرخات حتى كُسِرت البوابة ثم توقفت فجأة. بدت الصرخات صادرة من شخص — أو أشخاص — في حالة ألم شديد وكانت مرتفعة وطويلة وليست قصيرة وسريعة. قاد أحد الشهود المجموعة لأعلى. بمجرد وصولهم لأول دور، سمعوا صوتَين منخرطَين في نزاعٍ غاضب وصارخ؛ الأول كان صوتًا أجشَّ والآخر أكثر حدة، حيث كان صوتًا غريبًا للغاية. أمكنه التعرف على بعض كلمات من الصوت الأول حيث كان لشخص فرنسي. ما كان أكيدًا هو أنه ليس صوتَ امرأة. كما أمكنه تمييز كلمتي «مقدس» و«شيطان». كان الصوت الحاد لشخص أجنبي. لم يكن من الممكن التأكد إن كان صوتَ رجل أم امرأة. كما لم يمكنه التعرف على ما قاله، لكنه يعتقد أنه كان يتحدث الإسبانية. وصف هذا الشاهد حالة الغرفة والجثتَين كما وصفناهم أمس.
قال أحد الجيران، يُدعى هنري دوفال ويعمل صائغ فضة، إنه كان أحد أفراد المجموعة التي دخلت المنزل في المرة الأولى. تدعم شهادته شهادة موزيت بشكل عام. بمجرد دخول المجموعة بالقوة، أعادوا إغلاق الباب لإبقاء حشود الناس في الخارج، والذين كانوا قد تجمَّعوا بسرعة كبيرة رغم الوقت المتأخر. يعتقد الشاهد أن الصوت الحاد كان لشخص إيطالي فقد كان متأكدًا من أنه ليس فرنسيًّا. لم يستطع التأكُّد إن كان صوت رجل؛ فربما كان صوت امرأة. لم يكن على معرفة جيدة بالإيطالية، ولم يستطع تمييز الكلمات لكنه كان مقتنعًا من خلال طريقة الحديث بأن المتحدث كان إيطاليًّا. كان الشاهد يعرف السيدة ليسبانيه وابنتها وتحدث معهما بشكل متكرر، وكان متأكدًا أن الصوت الحاد لم يكن صوت أيٍّ من المتوفاتَين.
أما … أودينهايمر، صاحب مطعم، فتطوع للشهادة. استجوبه مترجم بسبب عدم تحدثه للفرنسية. هو في الأساس من أمستردام. كان أودينهايمر مارًّا بالمنزل أثناء صدور الصرخات التي استمرت لمدة من الوقت ربما عشر دقائق. كانت صرخات طويلة ومرتفعة، شنيعة وفاجعة للغاية. كان أودينهايمر من المجموعة التي دخلت المبنى، وكان يؤيد شهادة الرجل السابق في كل شيء فيما عدا أمرًا واحدًا؛ فقد كان متأكِّدًا أن الصوت الحاد كان صوت رجل فرنسي. لم يمكنه التعرف على الكلمات المنطوقة حيث كانت سريعة وصاخبة — وغير منتظمة — ونُطِقت بخوف وغضب واضحَين. كان الصوت خشِنًا، لم يكن حادًّا بقدر ما كان خشنًا. لا يمكن وصفُه بالصوت الحاد. ردد الصوت الأجش كلمتَي «مُقدس» و«شيطان» ونطق مرة بكلمة «يا إلهي».
ثمة شاهد آخر، يُدعى جول مينيو، يعمل مصرفيًّا في شركة مينيو وولده في شارع ديلوران، وهو الابن الأكبر لمينيو. كانت السيدة ليسبانيه تمتلك بعض الأملاك، وفتحت حسابًا في البنك الذي كان يعمل به في ربيع عام … (قبل ثماني سنوات). كانت تودع مبالغ صغيرة بشكلٍ متكرر. لم تودع أيَّ مبالغ حتى قبل موتها بثلاثة أيام، حيث سحبت بشكل شخصي مبلغ ٤٠٠٠ فرنك. دُفِع المبلغ بالذهب، وذهب به موظف من البنك إلى المنزل.
يقول الشاهد أدولف لو بون، الذي يعمل موظفًا في مينيو وولده، إنه في اليوم الذي نتحدث بصدده في حوالي الظهيرة اصطحب السيدة ليسبانيه إلى مسكنها، ومعه الأربعة الآلاف فرنك مقسمة على حقيبتَين. عندما فُتِح باب المنزل، ظهرت الآنسة ليسبانيه وأخذت حقيبة من يدِه بينما حملت السيدة العجوز الحقيبة الأخرى. انحنى الرجل محيِّيًا إياهما ثم رحَل. لم يرَ أيَّ شخص في الشارع في ذلك الوقت. كان شارعًا فرعيًّا ومهجورًا للغاية.
يقول وليام بيرد، خيَّاط، إنه كان أحد أفراد المجموعة التي دخلت المنزل. كان وليام إنجليزيًّا ويعيش في باريس منذ عامين، وهو من أوائل من صعِدوا السلالم، كما سمع الصوتَين المتنازعَين. كان الصوت الأجشُّ لرجل فرنسي، أمكن وليام تمييز بعض الكلمات لكنه لا يتذكر أيًّا منها الآن. سمع كلمتَي «مقدس» و«يا إلهي» بوضوح. كان هناك صوت في تلك اللحظة يبدو كما لو كان هناك العديد من الأشخاص المتصارعين، حيث كان صوت خدش وصراع. كان الصوت الحادُّ عاليًا جدًّا، أعلى من الصوت الأجشِّ. كان وليام متأكدًا أن الصَّوت ليس صوت رجل إنجليزي، بدا أنه صوت يتحدث الألمانية، ربما كان صوت امرأة. وهو لا يفهم الألمانية.
بعد استدعائهم، قال أربعة من الشهود الذين ذكروا أعلاه إن باب الغرفة التي وُجِدت فيها جثة الآنسة ليسبانيه كان مغلقًا من الداخل عندما وصلت المجموعة إليها. كان كل شيء في صمت تامٍّ ولا يوجد أنين أو ضوضاء من أيِّ نوع. لم يُرَ أي شخص بعد أن فُتِح الباب بالقوة. كانت النوافذ، في كلا الغرفتَين الأمامية والخلفية، موصدة ومُحكمة الإغلاق من الداخل. كان هناك باب بين الغرفتَين وكان مغلقًا لكنه لم يكن موصَدًا بالمفتاح. وكان الباب المؤدِّي من الغرفة الأمامية إلى الممرِّ مغلقًا بمفتاح من الداخل. كان هناك غرفة صغيرة في مقدمة المنزل في الدور الرابع في بداية الممرِّ، وكانت مفتوحة حيث كان الباب مفتوحًا بشكل جزئي. كانت الغرفة مليئة بالأَسِرَّة القديمة والصناديق وما إلى ذلك والتي نُقِلَت وفُحِصت بحرص. لم يكن هناك بوصة في أيِّ جزءٍ من المنزل لم تُفحَص جيدًا، واستُخدمت المكانس الطويلة لفحص المدخنة صعودًا وهبوطًا. المنزل مكونٌ من أربعة طوابق وبه عُلِّيَّات. وثمَّةَ باب سحري في السقف مثبَّتًا بالمسامير جيدًا، ويبدو أنه لم يُفتَح منذ زمن طويل. تختلف المدة الزمنية بين سماع الصوتَين المتنازعَين وكسر الباب حسب أقوال الشهود. البعض يقول إنها كانت قصيرة كثلاث دقائق فقط، والبعض يقول إنها وصلت لخمس دقائق. كما فُتِح الباب بصعوبة.
يقول ألفونزو جارثيو، الذي يعمل حانوتيًّا، إنه يسكن في شارع مورج، وهو من إسبانيا في الأساس. كان ألفونزو أحد أفراد المجموعة التي اقتحمت المنزل، لكنه لم يصعد للأعلى. كان يشعر بالتوتر وكان قلقًا من عواقب الانفعال. سمع الصوتَين المتنازعَين؛ كان الصوت الأجشُّ لرجل فرنسي، ولم يستطع تمييز ما يقول، وكان الصوت الحادُّ لرجل إنجليزي وكان متأكدًا من هذا. لا يفهم ألونزو اللغة الإنجليزية لكنه يميزها من طريقة الحديث.
«يقول ألبرتو مونتاني، صانع الحلوى، إنه كان ضمن أول من صعدوا السلالم، وقد سمع الصوتَين موضع النقاش. كان الصوت الأجشُّ لرجل فرنسي. ميَّز مونتاني بعض الكلمات، وبدا المتحدث كما لو كان يعترض على شيء ما. لم يمكنه تمييز كلمات الصوت الحاد؛ يظن أنه صوت شخص يتحدث الروسية. يدعم مونتاني الشهادة العامة. هو شخص إيطالي، ولم يتحدث مع شخص روسي من قبل.
شهد العديد من الشهود الذين اسْتُدعُوا بأن المداخن في جميع غرف الدور الرابع كانت ضيقة جدًّا بحيث يتعذر أن يمر منها جسد بشريٌّ. كانت المكانس عبارة عن فرش أسطوانية يستخدمها منظفو المداخن. مُرِّرَت تلك المكانس صعودًا وهبوطًا في كل مداخن المنزل. لا يوجد أي ممرٍّ خلفي يمكن الهبوط من خلاله أثناء صعود مجموعة البحث لسلالم المنزل. كانت جثة الآنسة ليسبانيه محشورة بقوة لدرجة أن إنزالها احتاج إلى أربعة أو خمسة أفراد لإنزالها.
يقول بول دوما، طبيب، إنه استُدعِي لفحص الجثتَين عند الفجر. كانت الجثتان موضوعتَين على غطاء هيكل السرير في الغرفة التي وُجِدت فيها الآنسة ليسبانيه. كانت جثة الفتاة يعلوها الكثير من الرضوض والكشوط. كان حشر الجثة في المدخنة مسئولًا بما فيه الكفاية عن هذا المظهر. كان حلقها تعلوه السحجات الشديدة، وكانت هناك عدة خدوش عميقة تحت الذقن مباشرة بجانب مجموعة من البقع الزرقاء التي كان من الواضح أنها موضع ضغط أصابع. كان الوجه حائل اللون بشكل مخيف، والعينان بارزتَين. واللسان مقضومًا بشكل جزئي على طوله. واكتُشِفَت رَضَّة ضخمة أسفل البطن أنتجها كما يبدو الضغط بالركبة. في رأي السيد دوما، خُنِقَت الآنسة ليسبانيه حتى الموت بواسطة شخص أو أشخاص مجهولين. أما جثة الأم فكانت مشوهة بشكل مروِّع؛ كل عظام الذراع اليمنى والساق اليمنى مهشمة تقريبًا، وعظمة الساق اليسرى مقسمة إلى شظيات صغيرة، وكذلك ضلوع الجانب الأيسر. كان الجسد بالكامل مليئًا بالرضوض، ولونه متغيرًا بشدة. لم تكن هناك طريقة ممكنة لمعرفة كيفية حدوث الإصابات؛ مضرب خشبي ثقيل أو قضيب حديدي عريض أو كرسي … أي سلاح ثقيل وضخم وغير حاد يمكنه إحداث مثل هذه الإصابات إذا استخدمه شخص قويٌّ جدًّا. لا يمكن أن تتسبب أي امرأة في إحداث هذه الإصابات بأي سلاح. كان رأس المتوفاة، كما رأى الشهود، منفصلًا تمامًا عن الجسد ومهشمًا بشكل كبير. ومن الواضح أن الحلق قُطِع بآلة حادَّة جدًّا، ربما بموسى حلاقة.
استُدعِيَ ألكسندر إيتيان، جرَّاح، بصحبة السيد دوما لفحص الجثتَين، وقد دعم شهادة دوما وآراءه.
لم يُتَوَصَّل لأيِّ شيء آخر ذي أهمية رغم فحص شهادة المزيد من الأفراد. كانت جريمة قتل غامضة للغاية وتفاصيلها في غاية التعقيد، ولم تُرتَكَب جرائم مثلها من قبل في باريس؛ إذا كانت هذه جريمة قتل من الأساس. كانت الشرطة في حالة ارتباك شديد؛ فحَدَثٌ بهذه الطبيعة كان غير معتاد. ورغم ذلك، لم يكن هناك أثر لأيِّ دليل واضح.»
قالت النسخة المسائية من الصحيفة: إن القدر الأكبر من الإثارة استمر في حي سان روش، وإنه أعيد فحص المبنى المقصود بحرص، وأُجريت فحوص جديدة لشهادات الشهود، لكن لم يؤدِّ أيٌّ من هذا إلى أيِّ جديد. غير أن الملحق ذكر أنه قُبض على أدولف لو بون وأُودع السجن رغم أنه لم يظهر أي ما يدينه بخلاف الحقائق التي ذكرت بالتفصيل سابقًا.
بدا دوبان مهتمًّا بشكل خاص بتطورات هذه القضية، أو على الأقل هذا ما استنتجته من أسلوبه عندما لم يصدر أيَّ تعليقات. لكن بعد إعلان القبض على لو بون، سألني عن رأيي فيما يخص جريمتَي القتل.
لم يسعني إلا الاتفاق مع كل من في باريس على أن هاتَين الجريمتَين سرٌّ غامض غير قابل للحلِّ. لم أرَ أيَّ وسيلة يمكن بها تعقُّب القاتل.
قال دوبان: «يجب علينا عدم الحكم على وسيلة ارتكاب الجريمة بهذا الفحص السطحيِّ. وشرطة باريس، التي يُشَاد بذكائها، لا تتمتَّع بما هو أكثر من هذا؛ فهم لا يمتلكون أيَّ منهجية في إجراءاتهم بخلاف المنهج اللحظي. إنهم يستعرضون عددًا كبيرًا من الإجراءات لكنها، في أغلب الأحوال، لا تكون مناسبة للأهداف المطروحة، كما لو كنَّا سنعلم ما في عقل السيد جوردان الذي يطلب روب الحمام ليسمع الموسيقى بشكل أفضل. النتائج التي يتوصلون إليها تكون مفاجئة عادة، لكنهم يصلون إليها في أغلب الأحوال بقدر بسيط من النشاط والاجتهاد. عندما لا تجدي هذه السمات، فإن خططهم تفشل. على سبيل المثال كان فيدوك رجلًا مثابرًا ذا قدرة جيدة على التخمين، لكن دون فكر مثقف، كان يقع في الخطأ بشكل مستمر بسبب الحدَّة الشديدة لبحثه. كان يعيق رؤيته بالتركيز الشديد على الهدف. ربما يرى نقطة أو اثنتَين بوضوح استثنائي، لكن أثناء هذا يفقد بالضرورة رؤيته للمسألة ككل؛ لذا فإنه ثمة شيء ما يسمى بالمبالغة في التعمق. الحقيقة لا تتميز دائمًا بالعمق. في الواقع، وفيما يخص المعرفة الأكثر أهمية، فإني أعتقد أنها تكون ظاهرية بشكل ثابت. يكمن العمق في الطرق التي نبحث بها عنها وليست في المكان الذي تقع فيه، أساليب هذا النوع من الأخطاء ومصادره مجسدة جيدًا في التأمل في الأجرام السماوية؛ فالنظر للنجم بشكل عابر، بشكل مائل وغير مباشر، وبتوجيه الجزء الخارجي من القرنية تجاهه (وهو الجزء الأكثر عرضة للآثار الضعيفة للضوء من الجزء الداخلي) يؤدِّي لرؤيته بوضوح، وتقدير بريقه بأفضل شكل ممكن، وهو بريق يصبح باهتًا بشكل يتناسب مع مقدار توجيه رؤيتنا كاملة تجاهه. في الحقيقة، إن قدرًا أكبر من أشعة الشمس يقع على العين في الوضع الأخير، لكن في الأول، هناك قدرة أكثر دقة على الإدراك. باستخدام التفكير العميق الذي لا داعي له، فنحن نربك ونوهن الفكر، ومن المحتمل أن يؤدي التمعن في كوكب الزهرة بشكل مستمر أو مركز أو مباشر للغاية إلى اختفائه من السماء.
أما بالنسبة لهاتَين الجريمتَين، فدعنا نقم ببعض الفحوصات الخاصة بنا قبل أن نكوِّن رأيًا يخصهما. سيمدنا التحقيق بالتسلية.» كان استخدام كلمة «تسلية» في رأيي أمرًا غريبًا لكني لم أعلِّق. أكمل دوبان: «هذا إلى جانب أن لو بون أسدى لي خدمة ذات يوم أدين له بها. سنذهب ونرى المكان بأنفسنا. أنا أعرف ﺟ… مأمور الشرطة، ولن نواجه صعوبة في الحصول على الإذن الضروري.»
حصلنا على الإذن، وانطلقنا فورًا إلى شارع مورج، كان أحدَ الشوارع العامَّة البائسة الواقعة بين شارعي ريشيليوه وسان روش. وصلنا الشارع في وقت متأخر من الظهيرة وكان الحيُّ يقع على مسافة بعيدة من الحيِّ الذي كنا نسكن فيه. وجدنا المنزل فورًا حيث كان العديد من الأشخاص لا يزالون يُحدِّقون في مصاريع النوافذ المغلقة في فضول دون هدف محدد من الجانب الآخر من الطريق. كان منزلًا باريسيًّا عاديًّا ذا بوابة، وكان هناك كوخ مراقبة لامع على أحد جانبَيها به نافذة ذات لوح متحرك مما يوحي بأنه مأوى للبواب. قبل دخول المنزل مشينا في الشارع ثم انعطفنا داخل زقاق لننعطف مرة أخرى ونمر بالجُزء الخلفي من المبنى؛ بينما كان دوبان في الوقت نفسِه يفحص الحيَّ بالكامل، وكذلك المنزل، بانتباه دقيق للتفاصيل لم أرَ له هدفًا محتملًا.
بإعادة تتبع خطواتنا، رجعنا إلى مقدمة المنزل ودقَقْنا الجرس وأظهرنا أوراق اعتمادنا ليسمح لنا ممثلو الشرطة بالدخول. صعدنا السلالم إلى حيث الغرفة التي عُثِر فيها على جثة الآنسة ليسبانيه وحيث ما زالت الجثتان مستلقيتَين. كانت حالة الفوضى في الغرفة لم تتغير كما هي العادة. لم أرَ شيئًا خلاف ما ذُكِر في جريدة المحاكم. كان دوبان يدقِّق فحص كل شيء ولم يستثنِ جثتَي الضحيتَين. ثم ذهبنا إلى الغرف الأخرى وإلى الساحة حيث كان شرطي يرافقنا خلال كل هذا. انشغلنا بالفحص حتى حلَّ الظلام لنعلن رحيلنا. أثناء رجوعنا للمنزل، دخل رفيقي للحظات مكتب إحدى الصحف اليومية.
قلتُ من قبل إن أهواء رفيقي ونزواته كانت متعددة ومتنوعة؛ وكنتُ أتقبَّلها أيًّا كانت. كان مزاجه الحالي متركِّزًا على قصر المحادثة على موضوع جريمة القتل حتى ظهر اليوم التالي. ثم سألني فجأة إذا لاحظتُ أيَّ شيء غريب في مسرح الجريمة الوحشية.
كان هناك شيء بخصوص تركيزه على كلمة غريب أثار القُشَعْريرة في جسدي دون سبب. قلتُ: «لا، لا يوجد أي شيء غريب. على الأقل، لا يوجد أكثر مما رأينا أنه ذُكِر في الجريدة.»
«أخشى أن الجريدة لم تتطرق للرعب غير المعتاد الخاص بهذا الأمر؛ لكن تجاهَلِ الآراء الفارغة الواردة بها. يبدو لي أن هذا السر الغامض وراء الجريمتَين يُعتبر غير قابل للحلِّ لنفس السبب الذي يجب أن يجعلنا ننظر لحله كأمر سهل؛ وأقصد هنا غرابة سماته. الشرطة مرتبكة بسبب غياب الدافع، ليس وراء الجريمة نفسها، بل وراء الوحشية التي ارتُكِبَت بها. كما أنها محتارة كذلك بسبب الاستحالة الظاهرية في التوفيق بين الصوتَين المتنازعَين، بالإضافة إلى حقيقة أنه لم يُكتَشَف أي شخص في الأعلى سوى جثة الآنسة ليسبانيه، وأنه لم يوجد هناك أي وسيلة للخروج دون ملاحظة المجموعة الصاعدة للسلالم. كانت الفوضى المروِّعة للغرفة وحشر الجثة وتوجيه الرأس لأسفل داخل المدخنة والتمثيل المخيف بجثة السيدة العجوز؛ كل هذه الاعتبارات، بالإضافة إلى ما ذكرته للتَّو، وأخرى لا أحتاج لذكرها، كانت كافية لشلِّ قوى الشرطة عن طريق الإرباك الكامل لذكاء عملاء الحكومة، والذي يُشَاد به. لقد وقعوا في الخطأ الشديد والشائع المتمثل في الخلط بين ما هو غير معتاد وما هو غامض. لكن المنطق يتحسس طريقه أثناء بحثه عن الحقيقة بواسطة هذه الانحرافات عما هو معتاد. وفي مثل التحقيقات التي نحن بصدد واحد منها، يجب ألا يُطرَح كثيرًا السؤال «ماذا حدث؟» بقدر طرح السؤال «ماذا حدث لم يحدث من قبل؟» في الواقع، إن الوسيلة التي سأتوصل بها، أو توصلت بها، لحلِّ هذا السرِّ الغامض يكمن في النسبة المباشرة لاستحالة حلِّه ظاهريًّا في نظر الشرطة.»
حدَّقت في محدِّثي باندهاش صامت.
استمر قائلًا موجِّهًا نظره تجاه باب شقتنا: «أنا الآن في انتظار وصول شخص لا بد أنه كان متورطًا بنسبة ما في الجريمتَين رغم أنه ليس مرتكبها. من المحتمل أنه بريء من ارتكاب أسوأ جزء في الجريمتَين. آمل أن أكون مصيبًا في افتراضي لأنني سأبني عليه توقعي لقراءة اللغز بالكامل. أبحث عن هذا الرجل في هذه الغرفة كل لحظة. قد لا يصل حقًّا ولكن هناك احتمالًا أن يأتي. في حالة وصوله، سيكون من الضروري احتجازه. ها هي المسدسات وكلانا يعرف كيف يستخدمها إذا ما دعت الحاجة لهذا.»
تناولت المسدسات مدركًا بصعوبة ما أفعل أو ما أعتقد أنني سمعته، في الوقت الذي استمر فيه دوبان في الحديث كما لو كان يحدث نفسه. تحدثت سابقًا عن أسلوبه المتجرِّد في مثل هذه الأوقات. كان حديثه موجهًا إليَّ لكن صوته، ورغم أنه لم يكن مرتفعًا، كان يمتلك حدَّة كما لو كان يتحدث إلى شخص على مسافة بعيدة. أما عيناه، اللتان كانتا خاليتَين من أيِّ تعبير، فقد كانتا موجهتَين إلى الحائط.
قال: «ثبت بالدليل بشكل قاطع أن الصوتَين المتنازعَين اللذين سمعهما من صعدوا المنزل لم يصدرا من المرأتَين، وهذا يريحنا من الشكِّ الخاصِّ بما إذا كانت السيدة العجوز قد قتلت الفتاة أولًا ثم انتحرت. أتحدث عن هذه النقطة بشكل أساسي من أجل المنهج؛ لأن قوة السيدة ليسبانيه الجسدية غير مكافئة على الإطلاق للقوة المطلوبة لدفع جثة ابنتها داخل المدخنة حيث وُجِدت؛ كما أن طبيعة الجروح على جسدها هي تستبعد تمامًا فكرة الأذى الذاتي؛ لذا فإن جريمة القتل ارتكبها طرف ثالث، وكانت الأصوات الخاصة بهذا الطرف هي ما سمعها الناس في حالة نزاع. دعنا لا نلتفت الآن إلى الشهادة الكاملة التي تخص هذه الأصوات، بل لما هو غريب بشأن هذه الشهادات. هل لاحظت أي شيء غريب بشأنها؟»
لاحظت أنه في الوقت الذي وافق فيه كل الشهود على افتراض أن الصوت الأجش كان لرجل فرنسي، كان هناك الكثير من الخلاف فيما يخص الصوت الحاد، أو كما سماه أحد الأشخاص الصوت الخشن.
قال دوبان: «هذا هو الدليل نفسه، لكن الأمر لا يتعلق بغرابة الدليل. أنت لم تلاحظ شيئًا خارجًا عن المعتاد. مع ذلك كان هناك ما يُمكن ملاحظته. كما تلاحظ فإن الشهود اتفقوا بشكل كامل بشأن الصوت الأجش، وكانوا مجمعين على هذا. أما بالنسبة للصوت الحاد، فإن ما هو غريب ليس أنهم اختلفوا بشأنه، بل إنه في الوقت الذي حاول فيه إيطالي وإنجليزي وهولندي وإسباني وفرنسي وصفه، فإن كلًّا منهم وصفه بأنه صوت أجنبي. كل واحد منهم كان متأكدًا أن الصوت لا ينتمي لشخص من بلده، ولم يشبِّهه بصوت فرد من أي دولة يلم بلغتها. فالفرنسي افترض أنه صوت إسباني وربما ميَّز بعض الكلمات التي يعرفها من اللغة الإسبانية. أما الهولندي فيؤكد أنه كان صوت رجل فرنسي، لكننا نجد أنه من المذكور أنه لا يفهم الفرنسية لذا تم استجوابه بواسطة مترجم. أما الإنجليزي فيظن أنه صوت رجل ألماني وهو لا يفهم الألمانية. أما الشاهد الإسباني فمتأكد أن الصوت ينتمي لرجل إنجليزي لكنه يحكم على هذا بشكل كامل من خلال طريقة الحديث لأنه لا يمتلك أي معرفة بالإنجليزية. ويؤمن الإيطالي بأنه صوت رجل روسي لكنه لم يتحدث مع روسي من قبلُ. علاوة على ذلك، هناك فرنسي آخر يختلف مع الفرنسي الأول وواثق من أن الصوت يخصُّ إيطاليًّا، لكن وبسبب كونه غير ملم بالإيطالية، فإنه، مثل الإسباني، مقتنع من خلال طريقة الحديث أنه شخص إيطالي. الآن، لا بد أن ذلك الصوت كان غير معتاد بشكل غريب حتى تصدر بشأنه مثل هذه الشهادات، حتى إن طريقة الحديث جعلت أفرادًا من أكبر خمس دول في أوروبا لا يستطيعون تمييز أي أمر مألوف بشأنه! ستقول لي إنه ربما كان صوت شخص آسيوي أو أفريقي. باريس لا تعج بالآسيويين أو الأفريقيين، لكن — ودون إنكار الاستنتاج — سأوجه انتباهك الآن إلى ثلاث نقاط فحسب؛ أولًا الصوت الذي سمَّاه الشهود بصوت أجش بدلًا من حاد، يقول اثنان من الشهود إنه كان سريعًا وغير منتظم، ولم يذكر الشهود سماع أي كلمات — أو أصوات تشبه الكلام — يمكن تمييزها.»
استمر دوبان: «لا أدري أي انطباع تركته حتى الآن على تفكيرك، لكني لا أتردَّد في قول إن أي استنتاجات صحيحة حتى من هذا الجزء من الشهادات الخاص بالصوتَين الأجش والحاد هي في حد ذاتها كافيةٌ لتوليد شكٍّ يجب أن يؤدي لتقدم شامل في التحقيق بشأن غموض الجريمة. أقول استنتاجات صحيحة، لكنني لم أعبر عما أقصده تمامًا. كنتُ أقصد التلميح إلى الاستنتاجات الوحيدة المناسبة، وأن الشكَّ يأتي لا محالة كنتيجة وحيدة. لكني لمَّا أقل بعدُ ما هو وجه الشكِّ. أتمنى ألا تنسى أنه بالنسبة لي كان الشك إلزاميًّا بشكل كافٍ لإعطائي شكلًا محددًا، أو اتجاهًا بعينه لتحقيقاتي في الغرفة التي وقعت فيها الجريمة.
دعنا الآن ننتقل بخيالنا إلى تلك الغرفة. ما الذي سنبحث عنه أولًا؟ وسيلة هروب القتلة. لن نبالغ لو قلنا: إن كلينا لا يؤمن بالأحداث الخارقة للطبيعة؛ فالأشباح لم تقتل السيدة ليسبانيه وابنتها. مرتكبو الجريمة من لحم ودم وهربوا كما يهرب البشر. كيف إذن؟ لحسن الحظ، لا يوجد إلا أسلوب استنتاج منطقي واحد حتى الآن، ويجب أن يقودنا هذا الأسلوب لقرار حاسم. دعنا نحقق في وسائل الهروب واحدة واحدة. من الواضح أن القتلة كانوا في الغرفة التي وُجِدت فيها الآنسة ليسبانيه، أو على الأقل في الغرفة المجاورة عندما صعدت المجموعة السلالم. وهكذا يجب البحث عن مخارج في هاتين الغرفتين فقط. فتشت الشرطة جميع الأرضيات والأسطح والحوائط في كل اتجاه. لم يغفلوا عن أي منافذ سرية. لكن لعدم ثقتي في فحصهم، بحثت بشكل شخصي. لم يكن هناك كذلك أي منافذ سرية. كان كلا البابين المؤدِّيَين من الغرفتَين إلى الممر مغلقَين بإحكام وكانت المفاتيح بالداخل. دعنا نتجه إلى المداخن. على الرغم من أن هذه المداخن كانت ذات عرض معتاد بنحو ثماني أو عشر أقدام فوق الموقد، فإنها لا تستوعب على طولها جسد قطة كبيرة؛ لذا فإن استحالة الدخول على الإطلاق بالوسائل التي ذُكِرت للتَّوِّ تجعلنا لا نملك إلا النوافذ. لم يكن يمكن الهروب من نوافذ الغرفة في مقدمة المنزل دون ملاحظة الحشد في الشارع. لا بد أن القتلة هربوا إذن من خلال الغرفة الخلفية. الآن، وقد توصلنا لهذا بشكل واضح لا لبس فيه، يجب علينا، كمنطقيين، عدم رفضه بسبب الاستحالة الظاهرية لحدوثه. ما بقي أمامنا هو إثبات أن هذه الاستحالة الظاهرية في الواقع ليست مستحيلًا.
هناك نافذتان في الغرفة؛ إحداهما واضحة بالكامل ولا يعيق الأثاث الوصول إليها. الجزء الأسفل من النافذة الأخرى مخفي عن الأعين برأس هيكل السرير الثقيل والذي يلتصق بها تمامًا. وُجِدت النافذة الأولى محكمة الإغلاق من الداخل، وقاومت أقصى قدر من القوة ممن حاولوا فتحها. كان هناك ثقب كبير مصنوع في الإطار الأيسر لها عُثِر داخله على مسمار ضخمٍ جدًّا، وقد أُدخِل بشكل ملائم حتى رأسه تقريبًا. بعد فحص النافذة الأخرى، عُثِر على مسمار مشابه وقد وُضِع بالطريقة نفسها مما جعل محاولة رفع الإطار بقوة تفشل أيضًا. كانت الشرطة الآن مقتنعة تمامًا أن الهروب لم يتم من النافذتَين؛ ولذا وكجهد زائد عن المطلوب نُبذَت فكرة سحب المسامير وفتح النوافذ.
بشكل ما، كان فحصي أكثر تدقيقًا وكان هذا من أجل السبب الذي سردته للتَّوِّ؛ لأنني كنت أدرك أنه كان يجب إثبات عدم صحة أي استحالة ظاهرية على أرض الواقع.
لذا استمررت في التفكير بناء على الاستنتاجات والدلائل. لقد هرب القتلة من إحدى هاتَين النافذتَين، وبحدوث هذا، فإنهم سيكونون غير قادرين على إعادة إغلاق النوافذ من الداخل كما وجدناها. وهو ما وضع حدًّا لفحص الشرطة في هذا الجزء بسبب وضوحه. لكن الإطارات كانت مغلقة؛ لذا لا بد أنها تمتلك القدرة على إغلاق نفسها. تقدَّمتُ نحو النافذة التي لا يعيق الوصول إليها أي شيء وسحبت المسمار ببعض الصعوبة وحاولت رفع إطارها، لكنه قاوم كل مجهوداتي كما توقعت. كنت أدرك أنه لا بد من وجود زنبرك خفيٍّ في مكان ما، وعزَّز هذا فكرتي وأقنعني أن افتراضاتي صحيحةٌ على الأقل، على الرغم من الغموض المتعلق بالمسامير. بعد قليل كشف البحث الدقيق عن الزنبرك الخفي، ضغطته لكي أرفع إطار النافذة وأنا سعيد باكتشافي.
خلعتُ المسمار وظللت أنظر له بانتباه. ربما أعاد شخص ما خرج من النافذة إغلاقها، وكان الزنبرك سيعود إلى موضعه لكن لا يمكن استبدال المسمار. كان الاستنتاج واضحًا وبسيطًا وضيَّق مرة أخرى من مجال تحقيقاتي. فلا بد أن القتلة قد فروا من النافذة الأخرى. إذا افترضنا إذن أن الزنبركات في كل إطار متشابهة، كما كان محتملًا، لا بد أن هناك فرقًا بين المسامير أو على الأقل في أسلوب تثبيتها. صعدت لأقف فوق كيس الخيش الذي يغطي هيكل السرير ونظرت من فوق لوحة رأس السرير إلى النافذة الأخرى بدقة. مررت يدي لأسفل وراء اللوحة واكتشفت بالفعل الزنبرك الذي كان، كما افترضت، مشابهًا للأول وضغطته. كنت أنظر الآن إلى المسمار، كان ضخمًا مثل الآخر وكان من الواضح أنه ثُبِّت بالطريقة نفسها، حيث أُدخل حتى رأسه تقريبًا.
ستقول إنني ارتبكت، لكن إذا كنت تعتقد هذا، فلا بد أنك أسأت فهم طبيعة هذه الاستنتاجات. وباستخدام تعبير رياضي، فأنا لم أكن في «موضع خطأ». فأنا لم أفقد الرائحة على الإطلاق، ولم يكن هناك خطأ في أي حلقة من السلسلة. لقد تتبعت السر حتى النتيجة النهائية وكانت هي المسمار. لقد كان المسمار يمتلك المظهر الكامل للمسمار في النافذة الأخرى، لكن هذه لم تكن الحقيقة مطلقًا (مهما كانت تبدو حقيقة قاطعة) عندما تُقَارن بالاعتبار الذي قضى في هذه اللحظة على مفتاح حل اللغز. قلتُ لنفسي إنه لا بد أن هناك خطأً ما بشأن المسمار. لمسته ليخرج رأسه وحوالي ربع بوصة من ساقه في يدي، وظل ما تبقى من ساق المسمار في الثقب حيث كُسِر. كان الكسر قديمًا لأن حوافه كانت مغطاة بالصدأ ويبدو أنه كان نتيجة ضربة بمطرقة، والتي كانت مخبَّأة بشكل جزئي في أعلى الإطار السفلي. أرجعت الجزء من رأس المسمار بحرص إلى الفجوة التي أخذته منها ليعود ويشبه مسمارًا سليمًا حيث لا يُرَى الشرخ، ثم ضغطت الزنبرك ورفعت إطار النافذة برفق بضع بوصات لترتفع رأس المسمار معه، بينما بقي المسمار نفسه ثابتًا في محله. أغلقت النافذة ليرجع المظهر الخارجي للمسمار سليمًا بالكامل مرة أخرى.
حتى الآن، حُلَّ اللغز. لقد هرَب القاتل من خلال النافذة التي تطلُّ على السرير والتي سقطت لتنغلق من تلقاء نفسها مرة أخرى بعد خروجه (أو ربما أُغلقت عن عمد)، وأصبحت مُحكَمة الإغلاق بواسطة الزنبرك الذي خلطت الشرطة بين بقائه في مكانه وبقاء المسمار، مما يجعل أي مزيد من التحقيق أمرًا غير ضروري.
السؤال التالي يتعلق بطريقة الهبوط. حتى هذه اللحظة، كنتُ راضيًا أثناء تجوُّلي معك حول المبنى. على بعد حوالي خمس أقدام ونصف من النافذة التي نتحدث عنها، كان هناك مانع صواعق. لا يمكن لأحد الوصول إلى النافذة بواسطة هذا القَضيب فَضلًا عن الدُّخول منها. على الرغم من ذلك، لاحظتُ أن مصاريعَ الدور الرابع كانت من نوع مميَّز يسميه نجارو باريس «فيراد»، نادرًا ما يستخدم حاليًّا لكنه كان يستخدم بانتظام فيما مضى في البيوت القديمة في بوردو وليون. تشبه هذه المصاريع بابًا عاديًّا (مفردًا وليس قابلًا للطيِّ) فيما عدا الجزء السفلي الذي يمتلك شرائط متقاطعة من المعدن أو ما يشبه التعريشة المفتوحة، مما يوفر مكانًا مثاليًّا للإمساك باليدين. في الوضع الحالي، يصل عرض هذه المصاريع بالكامل إلى ثلاث أقدام ونصف. عندما رأيناها من مؤخِّرة المنزل، كانت نصف مفتوحة مما يعني أنها كانت متعامدة على الحائط بزاوية قائمة. من المحتمل أن الشرطة، وأنا كذلك، فحصنا مؤخرة المنزل، لكن، في هذه الحالة، فإن فحصهم هذه المصاريع طبقًا لعرضها (كما لا بد أن فعلوا) لم يؤدِّ لإدراك هذا العرض الكبير، أو فشلوا على أي حال في أخذه في الاعتبار المطلوب. في الحقيقة، فإنهم بمجرد اقتناعهم أنه لم يحدث أي هروب من خلال هذا الجزء من المبنى، فإنهم سيجرون هنا بطبيعة الحال فحصًا سطحيًّا جدًّا. لكن كان من الواضح بالنسبة لي أن مصراع النافذة التي تقع فوق رأس السرير يمكنه أن يصبح على بعد قدمَين من مانع الصواعق إذا تأرجح بشكل كاملٍ نحو الحائط؛ لذا كان من الواضح أيضًا، عن طريق بذل قدر غير عادي من الجهد والشجاعة، أن الدخول من خلال النافذة حدث باستخدام مانع الصواعق؛ فعن طريق قطع مسافة قدمَين ونصف (على افتراض أن المصراع الآن مفتوح على اتساعه)، ربما تمكن السارق من الإمساك جيدًا بتعريشة النافذة، ثم بتركه للمصراع والإمساك بمانع الصواعق جيدًا ووضع قدمه بإحكام قبالة الحائط ثم القفز بشجاعة، ربما تأرجح من المصراع تجاه النافذة كما لو كان يريد إغلاقه؛ وإذا تخيلنا أن النافذة كانت مفتوحة في تلك اللحظة، فربما يكون قد تأرجح قاذفًا بنفسه داخل الغرفة.
أتمنى ألا تنسى بشكل خاص أنني تحدثت عن درجة غير عادية من الجهد مطلوبة للنجاح في تحقيق مثل هذه الخطوة الخطرة والصعبة جدًّا. لكني أنوي أن أريك أولًا أنه ربما أمكن تحقيق هذا؛ وثانيًا وبشكل خاصٍّ، فإني أريد أن أجعلك تفهم جيدًا الطبيعة الاستثنائية أو الخارقة للطبيعة تقريبًا لخفة الحركة التي يمكن بها تحقيق هذا.
لا شك أنك ستقول، مستخدمًا لغة القانون، إنه لكي أبرهن على حقيقة ما أقول يجب عليَّ تقليل قدر الجهد اللازم للقيام بهذا الأمر، بدلًا من الإصرار على تقديم تقدير كامل له. ربما يكون هذا ما يتم في الممارسات القانونية، لكن ليس فيما يتعلق باستخدام المنطق؛ فهدفي النهائي هو الوصول للحقيقة فقط. إن غرضي المباشر هو دفعك للربط بين هذا المجهود غير الطبيعي الذي تحدثت عنه للتَّوِّ والصوت الحاد (أو الخشن) الغريب جدًّا وغير المنتظم الذي لم يتفق أي شاهدَين بشأن جنسيته، والذي لم يمكن تمييز أي مقاطع لفظية نطق بها.»
في تلك اللحظة، طاف بفكري تصوُّر مبهم وغير كامل عن المعنى الذي يقصده دوبان. بدا كما لو كنتُ على وشك الفهم دون امتلاك القدرة على الفهم، فالرجال يجدون أنفسهم أحيانًا على وشك تذكر شيء ما لكن في النهاية لا يقدرون على التذكر. استمر صديقي في حديثه.
«سترى أني نقلت المسألة من الحديث عن الخروج إلى الحديث عن الدخول إلى المنزل. كنتُ أقصد توصيل فكرة أن كليهما حدَث بنفس الطريقة وفي نفس المكان. دعنا الآن ننتقل إلى داخل الغرفة. لنلق نظرة عامة فيها. يُقال إن أدراج المنضدة قد نُهِبَت، رغم أن العديد من قطع الملابس بقيت فيها. الاستنتاج هنا منافٍ للعقل؛ فهو مجرد تخمين — وتخمين سخيف جدًّا — لا أكثر. كيف لنا أن نعرف أن الملابس التي وُجِدَت في الأدراج لم تكن كل ما تحويه الأدراج في الأساس؟ كانت السيدة ليسبانيه وابنتها تعيشان حياة انعزالية بشكل زائد، فلم تكونا تقابلان أي شخص وكانتا نادرًا ما تخرجان وكانتا لا تحتاجان للعديد من قطع الملابس. كانت الملابس التي وُجِدَت بجودة جيدة على الأقل مثل أي ملابس من الممكن أن تمتلكها السيدتان. إذا أخذ سارق أيًّا منها، لماذا لم يأخذ الأفضل؟ لماذا لم يأخذ كل شيء؟ باختصار، لماذا ترك أربعة آلاف فرنك من الذهب ليعيق نفسه بكومة من قماش الكتان؟ لقد تُرِك الذهب. اكتُشِف المبلغ الذي ذكره السيد مينيو، المصرفي، بالكامل تقريبًا في حقائب على الأرض؛ لذا أتمنى أن تتجاهل الفكرة الخرقاء الخاصة بالدافع، التي نشأت في تفكير الشرطة بسبب ذلك الجزء من الدليل الذي يتحدث عن إيصال مبلغ من المال إلى باب المنزل. هناك صدف تفوق في غرابتها هذه (إيصال المال وحدوث جريمة القتل خلال ثلاثة أيام في حق المستلم) بعشرات المرات تحدُث لنا جميعًا كل ساعة من حياتنا دون جذب أي قدر من الانتباه اللحظي حتى. بشكل عام، فإن الصدف هي عقبات كبيرة في طريق تلك الطبقة من المفكرين الذين لم يتعلَّموا شيئًا عن نظرية الاحتمالات، وهي النظرية التي يدين لها أعظم غايات البحث الإنساني بأكثر النتائج روعة. في الوضع الراهن، إذا كان الذهب قد اختفى، فإن حقيقة إيصاله قبل ثلاثة أيام كانت ستمثل شيئًا أكثر من مجرد صدفة؛ كانت ستدعم فكرة الدافع. لكن في ظل الظروف الحقيقية للقضية، إذا افترضنا أن الذهب هو الدافع وراء هذه الجريمة، يجب علينا أيضًا تخيُّل أن مرتكبها أحمق متردد لدرجة تركه للذهب وتخليه عن الدافع بالمرة.
بتذكر النقاط التي جذبتُ انتباهك لها للتَّوِّ بشكل ثابت — الصوت الغريب وخفة الحركة غير التقليدية والغياب المدهش والمخيف للدافع في جريمة مروِّعة بشكل خاصٍّ مثل هذه — دعنا ننظر للطريقة البشعة التي ارتُكبت بها الجريمة. هناك امرأة خُنِقت حتى الموت باليدين ثم دُفِعَت جثتها لأعلى داخل مدخنة وقد وُجِّهَ رأسها للأسفل. لا يستخدم القتلة المعتادون مثل هذه الطرق في القتل. فيما يتعلق بدفع الجثة داخل المدخنة لأعلى، يجب أن تعترف بأن هناك أمرًا شديد الغرابة؛ أمرًا مضادًّا تمامًا لأفكارنا العامة عن الفعل البشري حتى لو كان الفاعل من أكثر البشر انحرافًا. كذلك، فكِّر في مدى عظم القوة التي يمكنها دفع جثة لأعلى داخل هذا المنفذ عنوة في الوقت الذي كانت فيه قوة العديد من الأشخاص كافية بالكاد لتخرج الجثة!
الآن، انظر إلى الدلالات الأخرى التي تشير إلى استخدام أكبر قوة ممكنة. فوق الموقد، كان هناك خصلات سميكة جدًّا من شعر بشري رمادي. لقد نُزِعت هذه الخصلات من جذورها. أنت تدرك إذن القوة العظيمة المطلوبة لنزع الشعر من الرأس حتى لو كانت مجموعة من عشرين أو ثلاثين شعرة. لقد رأى كلانا خصلات الشعر التي نتحدث عنها. لقد كانت جذورها تحمل كتلًا دموية متجلطة بأجزاء من فروة الرأس في منظر شنيع ودليل أكيد على القوة الهائلة التي استُخدمت في نزع الجذور ما يصل ربما إلى نصف مليون شعرة في كل مرة. لم يكن حَلْق السيدة العجوز مقطوعًا فقط، بل فُصِل رأسها تمامًا عن جسدها وكانت الآلة المستخدمة مجرد شفرة موسى. أريدك أيضًا أن تتأمل في وحشية هذه الأفعال وقسوتها، أنا لا أتحدث عن الرضوض والسحجات على جسد السيدة ليسبانيه؛ أعلن السيد دوما ومساعده المؤهل السيد إيتيان أن هذه الرضوض حدثت نتيجة لاستخدام أداة ثقيلة، وحتى الآن هما على صواب. هذه الأداة الثقيلة من الواضح أنها حجارة رصيف من الساحة التي سقطت فيها الضحية من النافذة التي تطلُّ على السرير. وهذه الفكرة رغم بساطتها لم تخطر على بال الشرطة للسبب نفسه الذي لم يجعل فكرة عرض مصاريع النافذة تخطر على بالهم، وهو أنه بسبب وضع المسامير، لم يطرأ على ذهنهم إمكانية فتح النوافذ على الإطلاق.
الآن، بالإضافة إلى كل هذه الأشياء، إذا كنت تأملت في الفوضى غير المعتادة في الغرفة، فإننا قد وصلنا لمزج الأفكار الخاصة بخفة الحركة المدهشة، والقوة الخارقة والوحشية الغاشمة، والذبح دون دافع، والرعب الشاذ المنافي تمامًا للطبع الإنساني، والصوت الغريب على آذان رجال من أمم عديدة، والمقاطع اللفظية العصيَّة على التمييز أو غير الواضحة. إذن ما هي النتيجة التي توصلنا إليها؟ ما هو الانطباع الذي تركته على خيالك؟»
شعرت برعشة أثناء طرح دوبان للسؤال. قلتُ: «رجل مجنون ارتكب هذه الجريمة. مخبول يهذي هرب من مصحة عقلية مجاورة.»
رد دوبان: «فكرتك ليست بعيدة عن الصواب فيما يخص بعض الجوانب، لكن أصوات المجانين، حتى في أعتى نوبات الجنون، لا تشبه الصوت الغريب الذي سُمِع أثناء صعود سلم المنزل. ودائمًا ما تحوي لغة المجانين من أي دولة، رغم عدم ترابط كلماتها، مقاطعَ لفظية يمكن تمييزها. علاوة على ذلك، فإن شعر أي مجنون لا يشبه الشعر الذي أمسكه الآن في يدي. لقد حصلت على هذه الخصلة الصغيرة من الشعر من بين الأصابع المضمومة بإحكام للسيدة ليسبانيه. أخبرني ما الذي يمكنك معرفته من خلالها.»
ردَدْتُ وقد فقدت أعصابي تمامًا: «دوبان! هذا الشعر غير معتاد على الإطلاق. إنه ليس شعرًا بشريًّا.»
ردَّ قائلًا: «لم أجزم بعد بهذا، لكن، قبل أن نقرر هذا، أريدك أن تلقي نظرة عابرة على هذا الرسم التخطيطي الصغير الذي رسمته على هذه الورقة. إنه نسخة طبق الأصل مما وُصِف في جزء من الشهادات برضوض سوداء وأخاديد عميقة ناتجة عن أظافر اليدين على حلق الآنسة ليسبانيه، ووصف في شهادة أخرى (للسيدَين دوما وإيتيان) كسلسلة من البقع المُزرَقَّة الناتجة بوضوح عن الضغط بالأصابع.»
استمر في حديثه بينما يفرد الورقة على الطاولة أمامنا: «سترى أن هذا الرسم يتيح فكرة عن إمساك قوي وثابت ولا يوجد أي انزلاق واضح. لقد حافظ كل إصبع — حتى موت الضحية — على انقباض مخيف أدى لانغراسه في مكانه في الأساس. حاول الآن وضع كل أصابعك في الوقت نفسه، كلٌّ في المكان الخاص به كما تراه.»
حاولت دون جدوى.
قال: «يبدو أننا لا نقوم بالأمر بالطريقة المناسبة؛ فالورقة مفرودة على سطح مستوٍ بينما الحلق البشري أسطواني. هاك قضيبًا خشبيًّا يشبه سطحه الحلق البشري، لف الرسم حوله وحاول مرة أخرى.»
فعلت ما قاله لكن الصعوبة كانت أكثر وضوحًا من قبل. قلتُ: «هذه ليست يدٌ بشرية.»
رد دوبان: «اقرأ هذه الفقرة لكوفييه.»
كانت الفقرة تقدم سردًا تشريحيًّا بشكل دقيق وتصويري بشكل عام لقردة إنسان الغاب الضخمة الصهباء اللون التي تعيش في جزر الهند الشرقية. كانت الصفات الخاصة بالجسم العملاق، والقوة والنشاط الهائلان والوحشية الغاشمة، والميل للتقليد لهذا النوع من الثدييات؛ معروفة لدى الجميع بشكل كافٍ. لقد فهمت الأبعاد الكاملة للرعب المتعلق بجريمة القتل فورًا.
قلتُ وقد أنهيت قراءة الفقرة: «وصف الأصابع يتطابق تمامًا مع هذا الرسم. لا أرى أي حيوان قادر على صنع هذه الثلمات والأخاديد كما رسمتَها إلا إنسان الغاب من الفصيلة المذكورة. علاوة على ذلك، فإن هذه الخصلة من الشعر الأسمر المصفرِّ تطابق في طبيعتها الحيوان الذي ذكره كوفييه. لكن لا يمكنني بأي حال إدراك تفاصيل هذا السر الغامض المرعب. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك صوتان يتنازعان أحدهما كان صوت شخص فرنسي بلا ريب.»
«صحيح؛ وستتذكر كلمة نُسِبت بالإجماع تقريبًا لهذا الصوت بناء على الدليل وهي كلمة «يا إلهي». هذه الكلمة، في هذه الحالة، ميَّزها أحد الشهود بدقة وهو مونتاني، صانع الحلوى، كتعبير عن الاعتراض أو الاحتجاج؛ لذا، وبناء عليها، بنيت آمالي بشكل أساسي على الوصول إلى حل كامل للغز. كان هناك شخص فرنسي مطَّلع على حدوث الجريمة، من الممكن — بالتأكيد هو أكثر من مجرد احتمال — أنه كان بريئًا من المشاركة في المذبحة الدامية التي حدثت. ربما كان إنسان الغاب قد هرب من قبضته. ربما تتبعه حتى وصل إلى الغرفة، لكن في ظل الظروف المربكة الناتجة عن هذا، لم يكن بإمكانه القبض على القرد مرة أخرى. ما زال القرد حرًّا طليقًا. لن أواصل هذه التخمينات — لأني لا أملك الحق في أن أطلق عليها أكثر من هذا — بسبب أن مختلف الأفكار التي قامت عليها ليست بالعمق الكافي لتكون جديرة بالتقدير، ولأنني لا يمكنني التظاهر بجعلها مفهومة وواضحة لتفكير الآخرين؛ لذا نسميها تخمينات ونتحدث عنها في هذا الضوء. إذا كان الرجل الفرنسي الذي نتحدث عنه بريئًا بالفعل، كما أفترض، من هذه المذبحة، فإن هذا الإعلان الذي تركته ليلة أمس فور عودتنا إلى المنزل في مكتب صحيفة لوموند (وهي صحيفة مكرسة لأمور الشحن البحري ويسعى البحَّارة بشكل كبير لقراءتها) سيقوده إلى مسكننا.»
ناولني دوبان ورقة وقرأت فيها ما يلي:
«مقبوض عليه. في غابة بولونيا في وقت مبكِّر من صباح … (صباح يوم الجريمة)، إنسان غاب ضخم جدًّا وأصهب اللون من جزيرة بورنيو. يمكن للمالك (الذي تم التأكد من أنه بحَّار يعمل على متن سفينة مالطية) الحصول على الحيوان مرة أخرى بعد تقديم مواصفات كافية له، ودفع بعض التكاليف الناتجة عن القبض عليه والاحتفاظ به. اتصل برقم … شارع … حي فوبورج سان جيرمان، الطابق الثالث.»
سألته: «كيف أمكنك أن تعرف أن الرجل بحَّار يعمل في سفينة مالطية؟»
«لا أعرف. ولستُ متأكدًا من هذا. على الرغم من ذلك، إليك هذه القطعة الصغيرة من شريط قماشي، والتي يبدو من شكلها ومظهرها الملوث بالشحم أنها استخدمت بوضوح في ربط الشعر على هيئة واحدة من الضفائر الطويلة التي يحبها البحَّارة بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه العقدة واحدة من العقد التي لا يستطيع الكثيرون باستثناء البحَّارة صنعها ولا يستخدمها إلا سكان مالطا. لقد وجدت هذا الشريط عند قاعدة مانع الصواعق، لا يمكن أن يكون ملكًا لأيٍّ من المتوفاتَين. الآن، لو كنتُ أنا مخطئًا بعد كل هذا في استنتاجي، بسبب شريط القماش، بأن الرجل الفرنسي بحَّار يعمل في سفينة مالطية، ما زلت لم أحدث أي ضرر بقول ما قلتُه في الإعلان. إذا كنتُ مخطئًا، فلن يفترض سوى أنني أخطأت بسبب ملابسة ما لن يكلف نفسه مشقة التحقيق فيها. لكن إذا كنتُ على صواب، فسنكون قد فزنا بنقطة كبرى. بوجوده في مسرح الجريمة أثناء حدوثها — رغم براءته من ارتكابها — سيتردد الرجل الفرنسي بطبيعة الحال قبل الردِّ على الإعلان وطلب القرد الخاص به. سيقول لنفسه: أنا بريء وفقير وقردي ذو قيمة كبيرة ويمثل في حد ذاته ثروة لشخص في مثل ظروفي، لماذا يجب أن أخسره بسبب مخاوف لا معنى لها؟ ها هو في قبضتي. لقد عُثِر عليه في غابة بولونيا على مسافة كبيرة من موقع المذبحة، كيف يمكن أن يشكَّ الناس في أن وحشًا غاشمًا قام بها؟ الشرطة هي المخطئة فقد فشلت في الوصول لأصغر دليل ممكن. حتى لو تتبعوا الحيوان، فسيكون من المستحيل إثبات أنني شهدت وقوع المذبحة أو توريطي في الذنب بسبب هذا؛ فقبل كل شيء، أنا معروف. والإعلان ينص على أنني مالك الوحش. لستُ متأكدًا من مدى معرفته. إذا تجنبت كشف امتلاكي لشيء بهذه القيمة العظيمة، والمعروف امتلاكي له، فسأجعل الحيوان عرضة للشكوك على الأقل. ليس في نيتي جذب الانتباه لي أو للوحش. سأردُّ على الإعلان وأحصل على القرد وأخبِّئه حتى يهدأ الأمر.»
في تلك اللحظة، سمعنا وقع أقدام على السلالم.
قال دوبان: «كن مستعدًّا بالمسدسات، لكن لا تستخدمها أو تظهرها إلا بإشارة مني.»
كان الباب الأمامي للمنزل قد تُرِك مفتوحًا لذا دخل القادم دون أن يرن الجرس وصعد عدة درجات من السلَّم. على الرغم من ذلك، بدا أنه متردد. ثم سمعناه ينزل السلم. تحرك دوبان بسرعة تجاه الباب في الوقت الذي سمعناه فيه يعيد صعود السلم مرة أخرى. لم يتردد ثانية لكنه كان يصعد بعزم وطرق باب غرفتنا.
ردَّ دوبان بنبرة مرحة وودودة: «ادخل.»
دخل من الباب رجل من الواضح أنه بحَّار، حيث كان طويلًا ومتينًا ذا جسم مليء بالعضلات ويعلو وجهه تعبير تهور وجرأة غير منفر في المُطلق. كان وجهه قد لفحته الشمس بشكل كبير وبه شارب يغطي أكثر من نصفه. كان يحمل معه هراوة ضخمة من خشب البلوط لكنه لم يحمل أي شيء آخر كسلاح. انحنى بشكل أخرق ثم حيانا بتحية المساء بلهجة فرنسية كانت تشير بشكل ما إلى أنه من شمال فرنسا، رغم أنها كشفت بشكل كافٍ أصله الباريسي.
قال دوبان: «اجلس يا صديقي. أفترض أنك أتيت بشأن قرد إنسان الغاب. قسمًا بشرفي، أنا أحسدك بشكل كبير بسبب امتلاكك لهذا الحيوان الرائع والقيِّم جدًّا بلا شك. كم تفترض عمره؟»
سحب الرجل نفسًا عميقًا كما لو كان قد أزاح حملًا لا يُحتَمل من فوق عاتقه، ثم ردَّ بصوت واثق:
«لا أستطيع معرفة هذا لكنه لا يمكن أن يكون أكبر من أربع أو خمس سنوات. هل تمتلكه هنا؟»
«لا، لا نملك وسائل مناسبة للحفاظ عليه هنا. إنه في إسطبل خيول في شارع دوبورج المجاور لنا. يمكنك الحصول عليه في الصباح. أنت مستعد بالطبع للتعرُّف على ما يخصك؟»
«كن متأكدًا من هذا يا سيدي.»
«سيحزنني فراقه.»
«لا أنوي أن أجعلك تتحمل كل هذا العناء بلا مقابل يا سيدي. لم أكن أتوقع العثور عليه. أنا مستعد بشكل تام لدفع مكافأة مقابل العثور عليه. أي شيء يمكن القيام به.»
ردَّ دوبان: «حسنًا، كل هذا مناسب جدًّا بالتأكيد. دعني أفكر! ما الذي يجب عليَّ الحصول عليه؟ سأخبرك! مكافأتي هي أن تخبرني بكل ما تعرفه عن الجريمتَين اللتَين حدثتا في شارع مورج.»
قال دوبان جملته الأخيرة بصوت خفيض جدًّا وبهدوء شديد. وبالمثل، سار بهدوء نحو الباب وأغلقه ووضع المفتاح في جيبه. ثم أخرج مسدسًا من جيب صدره ووضعه على الطاولة بأقل قدر ممكن من الجلبة.
تغير وجه البحَّار كما لو كان يقاوم الاختناق. نهض على قدميه وقبض على الهراوة لكنه عاد ليسقط مرة أخرى على الكرسي وبدأ يرتجف بعنف وقد بدا وجهه كما لو كان على وشك الاحتضار. لم ينطق بكلمة. وأشفقت عليه من أعماق قلبي.
قال دوبان بصوت متعاطف: «أنت تخيف نفسك بلا سبب في الواقع يا صديقي؛ فنحن لا ننوي إيذاءك بأي شكل ممكن. أتعهد لك بشرف رجل نبيل فرنسي، أننا لا ننوي إيذاءك. أنا أدرك تمامًا أنك بريء من ارتكاب الجريمتَين الوحشيتَين في شارع مورج، لكن هذا لا ينفي أنك متورط بشكل ما. يجب أن تعلم مما قلتُه للتَّوِّ أنني أمتلك وسائل للحصول على معلومات تخص هذا الأمر، وسائل لم تحلم بها؛ لذا فالأمر الآن كالآتي: أنت لم تفعل شيئًا يمكنك تفاديه؛ لا يوجد أي شيء بالفعل يجعلك ملومًا. أنت غير مذنب حتى بالسرقة في الوقت الذي كان يمكنك فيه ارتكابها والإفلات من العقوبة. لا يوجد لديك ما تخفيه، وليس لديك أسباب لهذا. على الجانب الآخر، تلزمك مبادئ الشرف بأن تعترف بكل ما تعرفه. هناك رجلٌ بريء مسجون الآن، ومتهم بجريمة يمكنك الكشف عن مرتكبها الحقيقي.»
استعاد البحار حضور الذهن بشكل كبير بينما كان دوبان يتحدث، لكن الجرأة التي كانت تعلو وجهه اختفت تمامًا.
صمت هنيهة ثم قال: «ليساعدني الرب، سأخبرك بكل ما أعرفه بشأن هذا الأمر، لكني لا أتوقع أن تصدق نصف ما سأقول. سأكون مغفلًا لو كنت أعتقد هذا. مع ذلك، أنا بريء وسأعترف بكل شيء حتى لو مت نتيجة هذا.»
تمثَّل ما قاله، بشكل أساسي، فيما يلي: كان قد قام مؤخرًا بالإبحار إلى الأرخبيل الهندي. هبطت مجموعة كان هو أحد أفرادها في جزيرة بورنيو وتوغَّلوا في الجزيرة في نزهة غرضها الاستمتاع، وقام ورفيقه بأسر قرد من قردة إنسان الغاب. لكن رفيقه مات مما جعل القرد ملكه بالكامل. بعد متاعب كبرى نتجت عن وحشية وشراسة القرد أثناء رحلة العودة، نجح في النهاية في إيوائه في مسكنه الخاص في باريس حيث لن يجذب الفضول غير المرغوب فيه من الجيران، وحافظ عليه منعزلًا بعناية حتى يتعافى من جرح في قدمه حدث بسبب شظية على متن السفينة. كان هدفه في النهاية هو بيع القرد.
وبعد عودته من جلسة سمر مع البحارة ليلة حدوث الجريمة، أو صباحها بالأحرى، وجد الوحش يجلس في غرفة نومه، حيث كان قد حرَّر نفسه من خزانة مجاورة كان قد حجزه فيها بأمان حسبما ظن. كان القرد يمسك بشفرة موسى في يده ومغطى بالكامل برغوة الصابون، وكان يجلس أمام مرآة محاولًا تقليد عملية حلاقة الذقن التي لا شك أنه رأى سيده يقوم بها من خلال ثقب مفتاح الخزانة. انتاب الرجل الرعب لدى رؤيته سلاحًا خطيرًا للغاية في حوزة حيوان شرس للغاية وقادر على استخدامه بمهارة، وحار للحظات فيما يجب فعله، لكنه اعتاد على أن يهدئ الوحش حتى في أعتى نوبات هياجه بالسوط وهو ما لجأ له تلك اللحظة. فور رؤيته له اندفع القرد من فوره خارجًا من باب الغرفة هابطًا السلالم ثم خرج من نافذة كانت مفتوحة، لسوء الحظ، إلى الشارع.
تبعه البحار الفرنسي في يأس بينما كان القرد الذي ما زال يحمل الموسى في يده يتوقف من آنٍ لآخر وينظر إلى الوراء ويومئ إلى مطارده حتى شارف الأخير على الوصول إليه. لكن القرد انطلق مرة أخرى. استمرت المطاردة بهذا الشكل لفترة طويلة. كانت الشوارع هادئة إلى أبعد حدٍّ، حيث كانت الساعة الثالثة صباحًا. وأثناء مروره بزقاق خلف شارع مورج، لفت نظر القرد الهارب ضوء ينبعث من نافذة مفتوحة لغرفة مدام ليسبانيه في الدور الرابع من منزلها. لمح القرد مانع الصواعق أثناء اندفاعه نحو المنزل وتعلَّق به بخفة حركة لا تُصدَّق وأمسك بمصراع النافذة، الذي كان مفرودًا على آخره قبالة الحائط، وبواسطته، تأرجح مباشرة تجاه لوحة رأس السرير. استغرق كل هذا أقل من دقيقة. ثم ركل القرد المصراع مرة أخرى لينفتح على آخره بينما دخل الغرفة.
في ذلك الوقت، كان البحَّار مبتهجًا ومرتبكًا في الآن نفسه. كان يأمل بشكل كبير في القبض على الوحش حيث إنه يمكنه بالكاد الهروب الآن من المصيدة التي دخلها إلا بالتعلُّق بمانع الصواعق والذي يمكنه اعتراض طريقه أثناء نزوله. على الجانب الآخر، كان هناك سبب لقدر كبير من القلق بشأن ما سيُحدِثه القرد داخل المنزل. دفعت الفكرة الأخيرة الرجل للحاق بالقرد الهارب. لا يمثل تسلق مانع الصواعق مشكلة، خاصة لبحَّار، لكن بمجرد أن وصل لمستوى النافذة التي تقع على مسافة كبيرة على يساره، توقفت مسيرته وكان أقصى ما استطاع القيام به هو مد رأسه ليرى لمحة من داخل الغرفة. لكن تلك اللمحة جعلته على وشك السقوط من مكانه من فرط الرعب. وفي تلك اللحظة، بدأت الصرخات المروِّعة في تبديد صمت الليل وإيقاظ سكان شارع مورج من نومهم مفزوعين. كانت السيدة ليسبانيه وابنتها في ثياب النوم وكانتا مشغولتَين فيما يبدو في ترتيب بعض الأوراق في الصندوق الحديدي الذي ذُكِر بالفعل ودُفِع إلى منتصف الغرفة. كان الصندوق مفتوحًا ومحتوياته قد طُرِحت أرضًا. لا بد أن الضحيتَين كانتا تجلسان وظهرَاهما تجاه النافذة، وبحساب الوقت الذي انقضى بين دخول الوحش وصدور الصرخات، يبدو أنهما لم تلاحظا وجوده على الفور. يمكن أن يُنسَب صوت تحرك المصراع إلى الرياح بطبيعة الحال.
بينما كان البحَّار ينظر إلى ما يحدث داخل الغرفة، أمسك الحيوان العملاق بالسيدة ليسبانيه من شعرها (والذي كان حرًّا حيث كانت تمشطه) بينما أخذ يلوح بالموسى في وجهها مقلدًا حركات الحلاق. بقيت الابنة منبطحة وتجمدت مكانها، ثم أُغمي عليها. أدت صرخات ومقاومة المرأة العجوز (أثناء نزع القرد لشعر رأسها) إلى تغيير حالة القرد المسالمة إلى الغضب الشديد، وبحركة حازمة من ذراعه العضلية القوية، فصل رأسها تقريبًا عن جسدها؛ أدى منظر الدماء إلى تحول غضبه إلى جنون؛ فاتجه وهو يصر بأسنانه والنار تومض من عينيه، بسرعة نحو جسد الابنة وغرس مخالبه المرعبة في حلقها وظل ممسكًا به حتى لفظت أنفاسها. اتجهت نظراته الهائمة الوحشية في تلك اللحظة إلى رأس السرير حيث انعكس عليه، بشكل قابل للتمييز فورًا، وجه سيده الذي تجمَّد من الرعب. تحول غضب الوحش، الذي كان بلا شك يتذكر السوط المروِّع، إلى خوف في الحال. بإدراكه أنه يستحق العقاب، بدا راغبًا في إخفاء أفعاله الدموية وظل يتقافز في أنحاء الغرفة في حالة من الهياج المنفعل محطمًا الأثاث وراميًا به أثناء حركته، ثم جرَّ الفراش من هيكل السرير. في النهاية، حمل القرد أولًا جثة الابنة ثم دفعها لأعلى داخل المدخنة، حيث وُجِدت، ثم حمل جثة السيدة العجوز وقذفها فورًا من النافذة دون تردُّد.
بينما يقترب القرد من النافذة بحمله المشوَّه، انكمش البحَّار من الرعب ممسكًا بمانع الصواعق، ثم انزلق نازلًا وهُرِع إلى المنزل من فوره فَزِعًا من عواقب المذبحة ومتخلِّيًا بكل سعادة، خلال شعوره بالرعب، عن عبء التفكير في مصير إنسان الغاب. وكانت الكلمات التي سمعتها المجموعة الصاعدة لسلم المنزل هي تعبيرات من البحَّار الفرنسي عن الرعب والخوف مختلطة بالصخب المتوحش للقرد.
ليس لديَّ ما أضيفه. لا بد أن القرد هرب من الغرفة بواسطة مانع الصواعق قبل اقتحام المجموعة للباب فورًا. ولا بد أنه أغلق النافذة أثناء مروره من خلالها. فيما بعد، أمسك البحَّار بالقرد وباعه إلى حديقة النباتات مقابل مبلغ ضخم جدًّا. وأُطلِق سراح لو دون فورًا بعد سردنا للأحداث (وبعض التعليقات من دوبان) في مكتب رئيس الشرطة. ورغم أنه كان متعاطفًا مع صديقي، فإنه لم يستطع إخفاء ضيقه بشكل تامٍّ من الطريقة التي تمت بها الأمور، وسخر مرة أو مرتين بشأن التدخل في أمور الآخرين.
قال دوبان الذي لم يظن أنه من الضروري الردُّ على رئيس الشرطة: «دعه يتحدث. فسيريح هذا ضميره. أنا سعيد بهزيمتي له في ملعبه. مع ذلك، فإن فشله في حلِّ غموض الجريمة لا يعني أنها مسألة مثيرة للعجب كما يفترض؛ لأن صديقنا رئيس الشرطة في الحقيقة ماكر جدًّا إلى درجة تمنعه من التفكير بالعمق الكافي. فهو لا يمتلك أي خيال؛ رأس فارغ مثل صور الإلهة لافيرنا أو في أفضل الأحوال كرأس سمكة القد. لكنه شخص جيد في النهاية، ويروق لي بشكل خاصٍّ بسبب القدرة البارعة على الرياء التي اكتسب بها سمعته في البراعة والدهاء؛ وأعني هنا الطريقة التي يملكها في إنكار ما حدث، وإعطاء تفسير لشيء لم يحدث.»