بحري …
أذكر خريطة لشوارع الإسكندرية، وضعها أبي وسط جدار الصالة، تعلوها ساعة الحائط البندولية. يحدُّها من جانبَين الميناءان الشرقي والغربي، وتمتدُّ فيها الشوارع والمربعات والمستطيلات، وتتقاطع. التغيُّر — في ظني — شهدته الأحياء خارج بحري. مساحة بحري المحددة، والمحدودة، احتفظت له بطبيعته الجغرافية، غالبية الشوارع والبنايات والميادين على حالها، التغيُّرات المُهمة قليلة — كما في ميدان أبو العباس مثلًا — لكن القسمات الأساسية للحي لم تتبدل، البحر والكورنيش والجوامع والحدائق والميادين والساحات والشوارع والحواري والأزقة وغيرها، ظلَّت في مواضعها تحتفظ للحي بجغرافيته، وتستعيد ذاكرته، وإن تغيظني بنايات النفوذ والفئات المُرفهة، تفصل بين البحر والمدينة. تقصر التطلُّع إلى الأفق على أهل الحظوة، وغالبيتهم — تصور! — من الزوَّار والوافِدين، وتشكل حائطًا في وجه أبناء المدينة.
الإسكندرية …
لا أعرف ماذا كانت تعني هذه الكلمة للورنس داريل ولا فوستر ولا كفافيس، ولا لِسواهم من الشعراء والروائيين والفنانين الأجانب الذين عبَّروا عن سِني حياتهم في الإسكندرية. أثق أن مشاعرهم لم تكن حميمةً ولا أخوية. كانوا مجرد أعين راصدة، تنقل المُغاير والمدهش والمُثير، وإن تخلَّل كتاباتهم بعض المواقف الشخصية.
الفنان السكندري، ابن المدينة، أو الوطني الذي انتقل إلى الإسكندرية من مدينته القريبة، والبعيدة، لا بد أن تختلف مشاعره تمامًا. هنا وطنه.
الإسكندرية تسكنني بذكرياتٍ لا تغيب. هي جزءٌ من تكويني، من حصيلتي المعرفية وعاداتي وسلوكيات حياتي.
الإسكندرية درة مدن العالم …
التسمية ليست من عندي، لكنها التسمية التي حرص عليها معظم المؤرِّخين منذ دخلَتْ جيوش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية. يصِفها البعض بأنها أوروبية النشأة، عربية اللسان، بحرية الموقع، على أطراف الصحراء، ومدخل لأفريقيا …
ثمة الكثير من المدن التي تُسمى الإسكندرية، لكن إسكندرية مصر تظلُّ هي المدينة الأم، أولى المدن التي أمر الإسكندر المقدوني بإنشائها، وبأن يُطلَق عليها اسمه، سواء كانت المدن التالية من عندياته، أم مُحاكاة من أبناء العصور التالية لاسم المدينة الأم. أُنشئت المدينة لتكون عاصمةً لمصر، واستمرَّت عاصمة للبلاد حوالي ألف سنة.
وإذا كانت المدن — كطبيعة الأمور — تنمو بالتدريج، تكتسب ملامحها الأساسية بالحذف والإضافة والتبديل والتعديل، فإن الملمح الأهم في مدينة الإسكندرية قد ظهر واضحًا منذ بداية إنشائها. وكما يقول أميانوس ماركيلنوس (القرن الرابع الميلادي) فإن الإسكندرية لم تستكمِل زينتها تدريجيًّا مثل غيرِها من المدن، بل ازَّيَّنت — منذ إنشائها الأول — بالطرق الفسيحة. وأسهم موقع الإسكندرية في تعاظُم دورها الديني، فقد كانت مَعبرًا يربط بين المشرق العربي والمغرب العربي. يفد الساعون إلى الحج على ركائبهم، أو على الأقدام، يُقيمون في المدينة فترات، تطول أو تقصر، وربما اختاروا الإقامة فيها إلى نهاية العمر. ذلك ما فعله قطب المدينة وسلطانها المُرسي أبو العباس، وذلك ما فعله — فنيًّا — شيخٌ قدم من المغرب، وأقام في الإسكندرية، ووجد الناس في أقواله وتصرفاته ما يدعوهم إلى التتلمُذ على يدَيه.
صارت الفسطاط، ثم القاهرة — فيما بعد — هي العاصمة الأولى لمصر، لكن الإسكندرية ظلَّت هي العاصمة الثقافية للبلاد، بل إنها فاقت القاهرة في المنزلة الدينية، منزلة الفسطاط والقاهرة، نظرًا — كما يقول أصحاب الرأي — «لخصوصيتها كرباطٍ وثغر، يَحمي مصر والمشرق العربي بأسره من العدوان».
الإسكندرية ليست مدينةً واحدة. إنها عدة مدن على المُستويات التاريخية والمكانية والبشرية. إنها — تاريخيًّا — مدينة فوق مدينة. إذا نقَّبتَ في أي موضع من أرضها، فستجد أثرًا فرعونيًّا أو بطلميًّا أو قبطيًّا أو إسلاميًّا. وهي — مكانيًّا — تتمتع بكل مقومات المدينة الكوزموباليتينية، باحتضان المتوسط لها، وانتماء عمارتها إلى الحقَب التاريخية التي عاشتها، واتِّسامها بالقِيَم والعادات والتقاليد التي تعبر عن توالي تلك الحقب. وهي — بشريًّا — تحتوي مواطنيها مِمَّن قد تمتدُّ جذورهم إلى أصل المدينة، بالإضافة إلى أبناء المدن المجاورة كرشيد ودمنهور وكفر الدوار وغيرها. وأيضًا بقايا الأجانب من أروام وطلاينة وأتراك وإنجليز وفرنسيين وغيرهم. الإسكندرية مدينة تختصر مُدنًا، والعديد من الحضارات. أنت تسير في شوارع المدينة، لا تطأ مجرد شوارع وحواري وأزقة، لكنك تطأ التاريخ منذ عصورٍ سحيقة. بلغ عدد سكان الإسكندرية، في العام المائتين قبل الميلاد، مليون نسمة. كانت ثاني مدينة في العالم بعد روما. وكان أهلها يتكلَّمون العديد من اللغات، وهي — الآن — واحدة من المدن الخمسين الكبري في العالم.
•••
ثمَّة اجتهادات أنَّ الإسكندر لم يكن مؤسِّسًا للمدينة، لكنه قام بتوسيعها، وتحصينها، وتجميلها، لتُصبح ثغرًا للإمبراطورية التي كان يحلم بإقامتها. وبصرف النظر عن صحة تلك الاجتهادات أو العكس، فلعلَّه يمكن القول إن بداية الإسكندرية، المدينة التي نعرفها الآن، في قرية راقودة وجزيرة فاروس وقرى ومواضع أخرى، لكن قول الإسكندر وهو يشير إلى ما حوله: أريد أن أبني هنا عاصمة ملكي، ذلك القول كان هو البداية الفعلية لتخلق الإسكندرية ٢٠ يناير ٣٣١ق.م. صارت — فيما بعد — عاصمة البلاد، وعاصمة العالم الثقافية، وبلغت — بدمار الطبيعة — حد المحو، لكنها بُعثت من جديد — هذا هو التعبير الذي يحضرني — وزاد سكانها، ومساحتها، وتأثيرها الإيجابي في الحياة المصرية، والعالم جميعًا. بدا أن كل شيءٍ ينطلق من الإسكندرية، صارت أكبر عواصم العالم الهيليني آنذاك، فضلًا عن قيمتها المُتصدرة كملتقًى تجاري عالمي. وكما يقول تيودور الصقلي (٥٩ق.م.) فقد اعتبرها الكثير من الناس أعظم مُدن العالم، ووصفها استرابون بأنها «أكبر سوق تجارية على وجه الأرض». ورُويَ أنها نافست روما بفخامتها، وثرائها، وكثرة سكانها.
شهدت الإسكندرية — منذ إنشائها — الكثير من التجديدات والتعديلات والتوسعات، واجهت ظروفًا طبيعية وسياسية وتاريخية، لكنَّ بنيتَها ظلَّت متماسِكة. قام تخطيط المدينة على شبكةٍ من الشوارع، تتقاطع بزوايا قائمة، وفي مراعاة للأحوال الجغرافية وأحوال المناخ. اتجهت بعض الشوارع ناحية الشمال الجنوبي، بما يسهل للهواء تلطيف جو المدينة أشهر الصيف، وشوارع أخرى اتجهت ناحية الشرق/غرب لتسلم من أنواء (نوات) الشتاء، وثمة شارعان رئيسان، عظيمان، تتفرَّع منهما بقية الشوارع. وكان من معالِم الإسكندرية المُهمة فنارها الضخم (أحد عجائب الدنيا السبع)، شُيد فوق صخرة عند الحد الشرقي لجزيرة فاروس، تهتدي بضوئه السفن التي تبعد عن الميناء بأكثر من خمسين كيلو مترًا.
توالت الهزَّات الأرضية، فأحدثت في الفنار تأثيراتٍ مدمرة، حتى تحول — في عهد السلطان المملوكي قايتباي — إلى أطلالٍ متهاوية، فشُيِّدت — بأحجاره — قلعة حصينة، هي الآن شخصية رئيسة في العديد من كتاباتي الإبداعية.
•••
البحر السكندري ليس مجرد أمواجٍ وسفن وصيادين، إنه تاريخ وقصص وحكايات. تعدُّد الانتماءات الأثرية في قاع البحر السكندري يَشي بتعدُّد الحضارات. ثمة الآثار الفرعونية والرومانية والهيلينية والقبطية والعربية.
وكما أشرنا، فثمة اجتهادات تذهب إلى أن الموقع الذي شُيدت فوقه إسكندرية الإسكندر، كان يضم ثلاثة موانٍ فرعونية، بما يخالف الروايات التي أجمعت على وصل القرية راقودة وميناء فاروس (سكانهما من الصيادين الغلابة) في مدينة واحدة. كان الموقع يضم ثلاثة موانٍ فرعونية سابقة لزمن حملة الإسكندر. العالم الأثري السكندري فوزي الفخراني يرى — مستندًا إلى اكتشافات حديثة — أن المنطقة كانت تضم ١٢ قرية آهلة بالسكان. ما فعله مهندسو الإسكندر أنهم أعادوا تنظيمها، لتُصبح مدينة مؤلَّفة من ١٤ حيًّا، بالإضافة إلى أحياء جديدة لليونانيين والمقدونيين، وأحاط ذلك كله بسورٍ يحمي المدينة الوليدة من الاعتداءات الخارجية. ما أذهل المهندسين، وأذهل الشابَّ الطموح نفسه، أن إنشاء المواني الفرعونية مثَّل تحديًا لطبيعة البحر المتوسط. وكما يقول الفخراني فإن البحر يمتد من الشرق إلى الغرب، بينما الأرض تدور حول نفسها من الغرب إلي الشرق، مما يتسبَّب في تيارات بحرية في نفس اتجاه دورانها، وهي ظاهرة لا تُوجَد في البحار المُمتدَّة من الشمال إلى الجنوب، مثل البحر الأحمر. لاحظ الفراعنة أن السفن تدخل إلى ذلك المكان، تحتمي من التيارات البحرية، فاتخذوه ميناء.
•••
أسير في شوارع الإسكندرية. يلفُّني الشعور بأنها الطابق الثالث من مدينة مُوغلة في القِدَم. إسكندرية الفرعونية، إسكندرية البطلمية، إسكندرية الحالية، العربية.
يُنسَب إلى رسول الله ﷺ قوله: «مدينتان من مدائن الجنة، هما من مدائن العدو. وإنهما ستُفتحان على أُمَّتي. إحداهما من مدائن الروم يُقال لها الإسكندرية، والأخرى من مدائن الديلم يُقال لها قزوين. فمَن رابَط في إحداهما ليلةً واحدة، خرج من ذنوبه كيوم ولدتْهُ أمُّه». وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول: «الإسكندرية وعسقلان عروستان، والإسكندرية أفضلهما، وإنها لتأتي يوم القيامة تزفُّ بأهلها إلى بيت المقدس. فمن رابط بالإسكندرية أربعين يومًا، كتب الله له براءةً من النار، وأُمِّنَ من العذاب. وخيار أهلها أفضل من خيار غيرها، وشرار أهلها أفضل من شرار غيرها. وهي مدينة ذي القرنين، مكتوبة في توراة موسى، وزبور داود، والإنجيل والفرقان. موصوفة في الكتب. يعرفها أهل العلم باسم الخضراء، واسمها في الزبور والتوراة المُذهَّبة، وفي القرآن مدينة ذي القرنين. يبعث الله منها سبعين ألف شهيد. وجوههم على صورة القمر ليلة البدر. يُعطي كل واحدٍ منهم نورًا على الصراط، ويشفع كل واحدٍ منهم لسبعين ألفًا، فطوبى لمن رابط فيها». وعن نافع بن عمر أنه استمع إلى الرسول يقول: «أحب الرباط إلي الله عز وجل رباط الإسكندرية، لأنها تزفُّ على الخلائق يوم القيامة في صورة مدينةٍ نورها يتلألأ، مُكللة بالدُّر والياقوت، وذلك بفضل شهدائها».
يصف ابن جبير الإسكندرية في زيارته لها في النصف الثاني من القرن السادس الهجري: «ما شهدنا بلدًا أوسع مَسلكًا منه، ولا أعلى مبني، ولا أعتق». وهي — في وصف ابن بطوطة — الثغر المحروس، والقطر المأنوس، العجيبة الشأن، الأصيلة البنيان، وصفها الناس فأطنبوا، وصنفوا في عجائبها فأغربوا. وهي — كما وصفها سليم الأول عقب زيارته الأولى لها — «إقليم لا نظير له». ويصف ابن عبد المنعم الحميري منار الإسكندرية — قُبَيل نهاية الألف الأولى من التاريخ الميلادي: «إن من دخله، ولم يعرف مسالِكه، تاهَ فيه وضل، لأن طُرقه تؤدِّي إلى أسفله، وإلى البحر. وقد قامت جماعة من المغاربة بالدخول إلى المنار وهم راكبون خيولَهم ليرَوا ما فيه من العجائب والغرائب، فتاهوا في الممرَّات، وضلُّوا طريقهم، وفُقِد منهم عدد كبير». وقيل إن أهل الإسكندرية كانوا يُوجِّهون مرآة المنار — بطريقةٍ مُعينة — بحيث تعكس أشعة الشمس نحو سفن الأعداء، وهي على بعد عشرات الكيلو مترات من المدينة، فتحرقها!
وفي ١٨٦٦م وضع محمود باشا الفلكي أول خريطةٍ للإسكندرية القديمة، أسفل بنايات الإسكندرية الحديثة. حدَّد مواقع الأحياء والقنوات وأماكن الآثار الغارقة في الميناء الشرقي (المينا الشرقية). الإسكندرية القديمة — معابدها وأحياؤها الملكية والوطنية — تحت قاع البحر، جزء منها يمتدُّ موقع قلعة قايتباي حتى موقع السلسلة بالشاطبي.
•••
كانت قوة روما العسكرية في مواجهة مكانة الإسكندرية العلمية وثروتها المادية. والطبيعي أن تطمع روما في ثروة الإسكندرية، وأن تخشى الإسكندرية الغزو الاستعماري لروما. مع ذلك، فقد بلغت الإسكندرية من الاستقلالية في عهد الرومان، حدَّ تسميتها الإسكندرية المُلحَقة بمصر، أي القريبة من مصر، وليست المُتصلة بها.
•••
بعد أن جلت جيوش الروم عن الإسكندرية، ودخلتها قوات المسلمين، كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يقول: «أما بعد، فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها. غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بيت، بها أربعة آلاف حمَّام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة مَلهًى للملوك، واثني عشر ألف بقَّال يبيعون البقل الأخضر …»
كانت الإسكندرية هي دار العلم ومقر الحكمة — والتعبير للمقريزي — إلى أن فتحها عمرو بن العاص، واختطَّ مدينة الفسطاط، ليبدأ أهل مصر وغيرهم من العرب والعجم في سُكناها، وتُصبح «قاعدة ديار مصر ومركزها إلى وقتِنا هذا».
ومنذ قدمت جيوش الفاطمِيِّين من المغرب، وتحوُّل مصر إلى مقر خلافة لهم، توثَّقت صلة الإسكندرية — تحديدًا — بالمغرب. أصبح — منذ الفتح — ولايةً تابعة لمصر الفاطمية، فكثرت رحلات المغاربة والأندلسيين إلى مصر عامة، وإلى الإسكندرية بنحوٍ خاص. كانت المدينة طريقهم من أراضي الحجاز إليها، وكانت أعداد كبيرة منهم تُؤثِر البقاء في المدينة، تجعل منها وطنًا تُواصل فيه حياتها. وثمة عشرات الأسماء لمغاربةٍ انتسبوا إلى الإسكندرية، علماء وتجارٍ وحرفيين وقضاةٍ وغيرهم.
كانت المدينة عامرة — نسبيًّا — ربما أكثر من زماننا الحالي، بالجوامع والمساجد والزوايا والمدارس والخوانق والرُّبُط والحمامات والأسواق.
•••
ظلَّت للإسكندرية أهميتها في العصر المملوكي. كانت تُمثل أحد مراكز التجارة العابرة أو المارة بين الشرق والغرب، حيث كانت التجارة تنتقِل إلى أوروبا عن طريقَين تقليدِيَّين: الخليج العربي والبحر الأحمر. وينتهي الفريقان — بواسطة القوافل — إلى المواني المصرية أو الشامية المطلة على البحر المتوسط، لتنتقِل إلى أوروبا على سُفن إيطالية تابعة لجنوة أو البندقية. وبالطبع، فقد كانت الإسكندرية من أهمِّ المواني التي انتقلت منها تجارة الشرق إلى أوروبا. وحين انتقلت الطرق التجارية بين الشرق والغرب من مصر والشام إلى جنوب أفريقيا — بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح — أُصيبت الإسكندرية بأضرار اقتصادية هائلة، بل إن أهمية البحر المتوسط بعامة تضاءلت كثيرًا بالقياس إلى الأهمية المُتزايدة التي صارت للمثحيط الأطلسي.
ولم تسلم الإسكندرية من التأثيرات السلبية للعصر العثماني. انكمشت رُقعتها العمرانية، وبلغ عدد سكانها — في أعوام الحملة الفرنسية — (١٧٩٨–١٨٠١م) ثمانية آلاف نسمة فقط. ثم بدأت المدينة تطورًا ملموسًا منذ عام ١٨٠٧م. اتسعت مساحتها، وبدأت في استعادة ما كان لها من مكانة في البحر المتوسط. ثم تحقَّقت لها مكانة متفوقة بعد حفر ترعة المحمودية في١٨٢١م. صارت شريانًا رئيسًا للمواصلات مع بقية أنحاء مصر، ومنفذًا للتجارة مع العالَم. ثم أضاف إلى تلك المكانة مدَّ خطوط السكك الحديدية في ١٨٦٥م، وتعاظَم الدور المدني للإسكندرية بعامة، حتى أصبحت المدينة الصناعية المصرية الأولى، فضلًا عن دورها الثقافي المُتمثل في الإصدارات الصحفية والأدبية، وعشرات المُبدعين في المجالات المختلفة.
بدأت صناعة دبغ الجلود على أُسُس حديثة في الإسكندرية في ١٨٨٥م، ونمَت في النصف الأول من القرن العشرين. وعندما فكَّرت شركة باتا في إنشاء مصنعها الكبير، اختارت له منطقة القباري، قريبًا من المدابغ. أما صناعة السجاير فهي أساسية في الإسكندرية. ونصف عمَّال هذه الصناعة يُقيمون في المدينة (في ١٩٤٩م بلغ عدد المصانع بالمدينة ١٨١٦٠ مصنعًا، مجموع عدد عمالها ٩٥٥٨٧ عاملًا). وبالإضافة إلى أن سوق التُّرك تخصَّص في صُنع الأثاث، فقد كان — ذات يوم — هو خان خليلي الإسكندرية، ولكن الغلبة دانت للعطَّارين. وفي أواخر القرن الماضي، كانت نسبة الصناعة في الإسكندرية هي ٤٠٪ من الصناعة المصرية.
ولاشك أنه كان لدخول الطائرة وسيلة انتقالٍ جديدةً إلى جانب الباخرة، تأثيرُه المباشر على مكانة الإسكندرية (أعني التعبير) لم تعُد الإسكندرية هي الميناء الأول كما كان الحال منذ آلاف السنين، منذ استخدم الإنسان البحر طريقًا لأسفاره بين البلدان، بواسطة السفن. صارت الطائرة وسيلةً أهم للتنقُّل، وشُيِّد لها مكان يقصده المسافرون من مصر، والعائدون إليها، فتخلَّت الإسكندرية عن مكانتها المُستقرة، نتيجة تحوُّل مينائها — في مجال نقل الركاب بخاصة — إلي مرتبة تالية. كما تحوَّلت صادرات وواردات كثيرة من ميناء المدينة، ولم تعُد للميديا مكانتها السابقة (أُذكِّرك بأن النسخة الأولى من الأهرام صدرت في الإسكندرية)، وأدَّت حرب ١٩٥٦م، وما تبِعَها من خروج الجاليات الأجنبية، إلى تخلي الإسكندرية عن صِفتها كمدينة كوزموباليتينية، وهو ما انعكس في العديد من أعمالي الروائية والقصصية، مثل الشاطئ الآخر، زمان الوصل، أهل البحر، وغيرها.
وعلى الرغم من تعدُّد المطارات والمواني البحرية، فإن أكثر من ٩٥٪ من تجارة مصر مع الخارج تخرُج من الإسكندرية، وتدخُل منها.
•••
بلغ عدد سكان الإسكندرية — في إحصاءات علماء الحملة الفرنسية عام ١٧٩٨م — ثمانية آلاف نسمة فقط. وكانت المدينة — كما وصفها علماء الحملة — ملأى بالمناطق الخَرِبة، بينما كان عدد سكان رشيد في العام نفسه حوالي مائة ألف نسمة. وقد تناقص عدد سكان المدينة عند رحيل الحملة عن البلاد إلى ثمانية آلاف فقط، لم يكونوا جميعًا من الوطنيين، وإنما كانت هناك جاليات من المغاربة والسوريين والأروام واليهود. وفي ١٨٢٠م تمَّ حفر قناة المحمودية، فبدأ ميلاد الإسكندرية من جديد. كانت — قبل ذلك — محصورةً بين الميناءين الشرقي والغربي، ويقتصر عمل غالبية السكان على الصيد. كان النمو العمراني هو الظاهرة الأساسية بعد إنشاء ترعة المحمودية، فقد بُنيت أرصفة الميناء الغربية ما بين سنتَي ١٨٢٨م و١٨٣٣م، واقتصر نشاط المدينة البحري عليها، بينما بطل استخدام الميناء الشرقي. كما أُنشئت الترسانة البحرية، ووفَّرت قناة المحمودية للسكان مياه الشرب من النيل، وأتاحت زراعة مساحاتٍ من الحقول والحدائق على جانبي الترعة. وكما يقول كراوتشلي فمن المؤكد أن النموَّ التجاري لمصر كان سيُعوَّق ويختنق لولا قناة المحمودية وميناء الإسكندرية (التصنيع والعمران ١٠٦).
في يناير ١٨٩٠م صدر مرسوم (تعدَّل في ١٩٣٥م) بتشكيل مجلس بلدي الإسكندرية، ليضطلع بأعباء تخطيط المدينة، وتنظيمها، ورفع مستواها الإداري والمدني والصحي والاجتماعي. واللافت أنه لم ينشأ مجلس مُماثل في القاهرة إلَّا في ١٩٥١م، أي بعد إنشاء مجلس بلدية الإسكندرية بواحد وستِّين عامًا.
كانت المياه تصِل إلى ميدان المنشية، وكانت تُغطي موضع تمثال الجندي المجهول. وفي الفترة من ١٩٠٩م إلى ١٩١٢م أُنشئ كورنيش من رأس التين إلى السلسلة. وفي ١٩٣٠م بدأ استكمال الكورنيش من السلسلة إلى المُنتزة. وفي ١٩٣٣م تمَّ بناء الكورنيش، وبدأ انقلاب عمراني واجتماعي. فقد زحف السكان بمبانيهم نحو البحر بعد أن كانوا يتحاشَونه، وارتفعت أسعار الأراضي المتاخِمة للشاطئ إلى حدٍّ كبير. وبالطبع فإن البيوت على طريق الكورنيش تحمِل أرقامًا فردية وزوجية، لأن الجانب المُقابل هو البحر.
•••
ظلَّت الإسكندرية أكثر المدن المصرية استجابةً للمؤثرات التركية التي لم تزل بصماتها ظاهرة حتى الآن. أما اليهود، فقد ظلوا — إلى قيام دولة إسرائيل في ١٩٤٨م — أهم الجاليات في الإسكندرية سواء من حيث العدد، أو تميُّزهم في مجالات الصناعة وتجارة القطن. وأما اليونانيون فقد كان معظم نشاطهم يتَّجِه إلى محالِّ البقالة والحلوى والمقاهي والحانات، وشراء الأراضي الزراعية من خلال التعامُل بالربا. وبالنسبة للإيطاليين فقد كانوا يُمارسون أنشطةً تجارية وصناعية مُختلفة. وكان الدكتور مردروس — الطبيب الذي كان يسكن الطابق الأول في بيتنا — والأرمن الذين أقاموا في مصر عمومًا، من الناجين من مذابح الأتراك في بداية القرن العشرين. حتى الألمان كان لهم جالية في المدينة. وكان رودلف هيس — نائب هتلر — من مواليد الإسكندرية.
وتقول الإحصاءات إن عدد الأجانب في الإسكندرية بلغ — عام ١٩٠٧م — ٨٦٣٩٤ من مجموع سكانها البالغ ٣٥٣٨٠٧. أما إحصاءات ١٩١٧م فقد أثبتت أن تعداد سكان الإسكندرية بلغ ٤٥٠ ألف نسمة، سُدسهم من الأجانب: يونانيون وإيطاليون وإنجليز وأرمن، فضلًا عن الشوام. وبلغ عدد الأجانب في ١٩٢٧م، ٩٩٦٠٥ من مجموع عدد السكان البالغ ٥٧٣٠٦٣. وكان عدد الأجانب في الإسكندرية يمثل ٦٠٪ تقريبًا إلى عددهم في مصر كلها.
صاحَب تزايد أعداد الأوروبيين في الإسكندرية، تغيُّرٌ واضح في العادات والتقاليد وسلوكيات الحياة اليومية. انتقلت المدينة — على سبيل المثال — من التأثُّر بالعمارة التركية، إلى الأخذ بالأنساق المعمارية الأوروبية بواسطة المهندسين المِعماريين الذين استقدَمَهم محمد علي لبناء الشوارع والميادين والأسواق والبنايات التي تُشكِّل مصر التي كان يُريدها. وفي منتصف القرن التاسع عشر، كانت الإسكندرية — على حدِّ تعبير محمد عوض محمد — مدينة نصف أوروبية، تُضاهي ميادينها مثيلاتها من المدن الفرنسية. وامتدَّ التمايُز المعماري إلى الكنائس المتعددة للأقباط الأرثوذكس واليونان الأرثوذكس والموارنة والبروتستانت والروم الكاثوليك، وغيرها. لكن الإسكندرية تدين بالملامح العصرية للخديو إسماعيل، بدايةً من ترميم الأسوار القديمة، ونهايةً بإنشاء الأحياء الجديدة الراقية، مرورًا بالميناء الجديد، وعمليات التجميل والتشييد والتحديث.
•••
روايتي «الشاطئ الآخر» تتعرَّض للفترة المفصلية التي تخلَّت فيها الإسكندرية عن هويتها الكوزموباليتينية. استردَّت — بعودة آلاف الأجانب إلى البلاد التي قدموا منها — هويتها الوطنية. أدركت الأم اليونانية أن تصوُّر انتمائها المصري هو تصوُّر غير صحيح (أُذكِّرك بالمرأة الأخرى، الفرنسية، في قصتي القصيرة الأكسر) وأن العودة إلى وطنها الحقيقي هو ما ينبغي أن تفعله. أقدمَ على التصرُّفِ نفسه عشرات الألوف من أبناء الجاليات الأوروبية، وجدوا في تطورات الأحداث ما يحضُّ على فعل المُغادرة. لم يعُد في المدينة — إلا نادرًا — شخصيات مثل جوستين وكليا وبلثازار وميليسا. غابت الإسكندرية الكوزموباليتينية. حلَّت محلَّها، أو عادت، الإسكندرية الوطنية، قِوامها الصيادون والبحارة وعمال الميناء وأبناء الطبقة الوسطى، وغيرهم.
فرضت العربية نفسها لغةً وحيدة أو تكاد، في الرسائل والمُخاطبات العادية، ووجدت اللافتات المكتوبة بالعربية موضعًا بين اللافتات المكتوبة بالفرنسية والإنجليزية.
ظنِّي أنه لو أن أبي ظلَّ على قيد الحياة حتى عام ١٩٥٦م وما بعده، فإن ظروف عمله كانت ستتأثر إلى حدٍّ كبير. كانت مكتبة أبي تضمُّ كتبًا بلغاتٍ لا أفهمها. عرفت أنها الإيطالية والألمانية واليونانية والتركية، يتشكَّل عمله في الترجمة من لغةٍ إلى أخرى. ذلك ما كان يفرضه الواقع الاقتصادي آنذاك. وكان من البديهي — في اقتصار لُغة المعاملات على الفرنسية والإنجليزية — بالإضافة إلى العربية — أن يتحدَّد مجال عمل أبي بالتالي في هذا المجال الضيق.
•••
ثمة أغنيات تستثير وجداني، فيُغيِّم الدمع في عينيَّ لملائكية صوت فيروز وهي تُغني لشط الإسكندرية، وأغنية محمد قنديل عن عشق العين لأهل الإسكندرية، وهتاف علي الحجار: مدَدْ يا مُرسي … ألحق لي كرسي. أغنيات تُحرك مشاعري، تُعيدني إلى البحر والشاطئ والناس والجوامع وحلقات الذِّكر والجلوات وسوق العيد وزحام شارع الميدان ورحلات السمان والبلانسات والأمطار وتصريف المياه في جوانب الشوارع والفريسكا والذرة المشوي وصيد العصاري والجرَّافة والطرَّاحة والسنارة.
إذا كان المكان يغيب برحيلنا عنه، فإننا نستعيدُه بالحنين. أتأمَّل الأمطار — من وراء زجاج النافذة — وهي تسقط على القاهرة. ينقلني الحنين إلى الإسكندرية. أستعيد مشهد الأمطار المُتساقطة على شوارع الإسكندرية. الأغنية التي كنَّا نُردِّدها في سِنِي الطفولة: يا مطرة رخِّي رخِّي … على قرعة بنت أختي. للشتاء في الإسكندرية — ولأوقات المطر بخاصة — طبيعة مغايرة.
الأمطار تغسل الإسكندرية أشهُر الشتاء، ما بين أولى النوات وآخرها، «نيولوك» تُعِدُّه لاستقبال الصيف، ولاستقبال زوارها بخاصة.
في الشتاء، وربما منذ الخريف، تقتصِر الإسكندرية على أبنائها، يُعيدون التعرُّف إلى الأماكن التي كان يخنقها الزحام. لم تمثل الحياة على الشاطئ — أشهُر الصيف — إغراءً من أي نوع. أكتفي بالجلوس تحت المِظلة، والتطلُّع إلى الأفق.
•••
قلتُ لأبي — ذات عصر — أثناء متابعتنا لعملية صيد المياس: ماذا في الشاطئ الآخر؟
– أي شاطئ؟
– الضفة المُقابلة لهذا البحر!
– إيطاليا واليونان وفرنسا وتونس والجزائر وبلاد أخرى كثيرة تُطلُّ عليه.
– هل تختلف عن الإسكندرية؟
– لها مدن على الساحل مثل الإسكندرية، لكنها تختلف في أشياء كثيرة.
قاطَعَني قبل أن أسترسل في الأسئلة: عندما تكبر، سيُتاح لك زيارة كل تلك البلاد، وتعرف الفرق بنفسك!
الإسكندرية: البحر والبشر والأسواق والشوارع والعادات والتقاليد، نبض الكثير من اللوحات لفنانين مِصريين وعالمِيِّين، هي كذلك نبض الكثير من الأعمال الروائية والقصصية وقصائد الشعراء المُبدعين من أبنائها، ومن الوافدين إليها. فرض المكان السكندري نفسه، بطلًا، وسيدًا، ومسيطرًا. أذكر من الأدباء الأجانب الذين عاشوا في الإسكندرية، وحقَّقوا شهرة عالمية: لورنس داريل الأيرلندي، وأونجريتي الإيطالي، وأ. إم. فورستر، وكفافيس اليوناني، وفشتر السويسري، وهنري تويل الفرنسي، وغيرهم.
الإسكندرية ليست مجرد مدينةٍ ساحلية، ليست مجرَّد بحرٍ وشاطئ وميناء. إنها حياة متفردة لا تُماثلها مدينة أخرى تطلُّ على البحر، ولها شواطئها وميناؤها، أبواب مفتوحة على البحر. أنت تجد التفرُّد في عبق الروحانية، وفي احتضان البحر للمدينة بما يُشكِّل منها حدوة حصانٍ أو شِبه جزيرة، وفي المُعتقدات والعادات والسلوكيات التي تسِم مظاهر الحياة بالمُغايرة والاختلاف.