يا أولياء الله … مدد!
وُلِدتُ في بيتٍ يطلُّ على جامع. مفردات نشأتي: رفع الأذان من علي تمراز، ترامِي التسابيح من أبي العباس، تواشيح رمضان، الجلوات المارَّة أمام بيتنا، الموالد في الميادين، مواكب الطرق الصوفية ما بين ميدان الأئمة إلى جامع القائد إبراهيم، حلقات الذِّكر على رصيف البوصيري، خُطَب الشيخ عبد الحفيظ، إمام علي تمراز، صلاة الجمعة والعيدَين في ميدان الخمس فوانيس، معهد المسافرخانة الديني، سوق العيد، درس المغرب، المذاكرة في صحن جامع قطب الإسكندرية، دوران عربات العرائس في ساحة السلطان، مقامات الأولياء، وأضرحتهم، والزوايا، والمزارات …
أذكُر أني كتبتُ عن رؤيتي لمؤذِّن جامع علي تمراز، وهو يصعد السُّلم المعدني، الحلزوني، ينظر من توالي الكوات بعلوِّ المئذنة، ويلتقِط أنفاسه، حتى يبلُغ البسطة الصغيرة أعلى المئذنة. يعتدِل في وقفته، ويُحيط وجهه براحتيه، ويرفع الأذان. مشهد يتكرَّر خمس مرات في اليوم، وإن كانت رؤيتي له بالمُصادفة، عندما أكون في الحجرة المُطلَّة على الشارع الخلفي، أو في المطبخ المُلاصِق لها.
لتكرُّر المشهد، فقد صرتُ أتوقَّع التصرُّف التالي، منذ يطأ المؤذن بقدمه على أول السُّلَّم حتى يبلغ درجته الأخيرة، ويأخذ وضع التأهُّب لرفع الأذان.
ومع أن ساعة الحائط البندولية كانت تتوسَّط صالة الشقة، فإن أبي كان يتعرَّف إلى الوقت من أذان الصلوات الخمس. حتى مواعيد نزوله إلى قهوة فاروق للجلوس إلى أصدقائه، جعلَه ما بين أذان المغرب والعشاء. في موعد أذان المغرب يرتدي ثياب الخروج ثانية، ربما بعد دقائق من عودته إلى البيت، يظلُّ في القهوة حتى يتناهى أذان العشاء، فيستأذن في العودة إلى البيت، وكان أذان العصر يوقِظه من نوم القيلولة، فيتهيَّأ للتوجُّه إلى عمل بعد الظهر.
ثبت ذلك كله في ذاكرتي، صار جزءًا من تكويني المَعرفي والوجداني، نبعًا ألجأ إليه في كتاباتي.
أُطيل الوقوف على الرصيف الفاصل بين ميدان السيدة زينب ومقام رئيسة الديوان. أميل إلى الشوارع والحارات المحيطة بالمكان: شارع السد والناصرية ودرب الجماميز والدرب الجديد والسباعين وشارع قدري وبركة الفيل وحارة السقايين والمدبح وزينهم وقلعة الكبش وشارع الجاولي والصليبية وشارع خيرت وأبو الريش. عبق الروحية العطرة يَسري في الأمكنة جميعًا، كل المُقيمين من محاسيب رئيسة الديوان، يتمسَّحون قربها، ويتذكَّرون مآثِرها، يحملون الأشاير والطبول والزمور والأعلام والكاسات، يتلون القرآن، ويقرءون البخاري، والأذكار.
لا أذكر المناسبة التي أشرتُ فيها إلى الجوامع المتقارِبة في بحري، بين الجامع والآخر زاوية أو ضريح أو مقام، كأنما الحي قد جُعِل للروحانية، أو أن الروحانية قد جُعلت له، لكن المعني — في ظنِّي — صحيح تمامًا. عشتُ في أكثر من مدينة، وزرتُ مدنًا في داخل مصر وخارجها، لم أرَ مكانًا يضمُّ هذا العدد من أولياء الله: المرسي أبو العباس، البوصيري، ياقوت العرش، نصر الدين، كظمان، الست رقية، عبد الرحمن بن هرمز، علي تمراز … وأعتذر للأسماء التي ربما نسيتُها.
الولي العالي المكانة هو قطب، والقطب — غالبًا — تتبَعُه طريقة، لها أوتادُها ونقباؤها ومريدوها، ولها أعلامُها وشاراتها وأورادها. وإذا كان الأولياء في بحري كُثر، فإن الأولياء الأقطاب — مع بعض التجاوز — لا يبلغون العشرة. حدَّثني نجيب محفوظ — ذات يوم — عن الفتوات ومُساعِديهم، الفتوة هو البطل الذي يُوجِّه الضربات، بينما المُساعدون يتلقَّون الضربات التي تُوجَّهُ إليه.
•••
طالعتُ اسم قاضي البهار — لأول مرة — في أوراق أبي. عرفتُ أنه اسمٌ جدُّ قديم لعائلتنا، وتُرِك وقفًا يحصل الورثة منه على مَبالغ صغيرة قبل أن يُحَلَّ نهائيًّا، وتتحوَّل المبالِغ الصغيرة إلى ما يُحقِّق الثراء لكلِّ أبناء العائلة.
حدثني أبي عن ذلك الجد — قاضي البهار — الذي قَدِم من المغرب، فاختِير قاضيًا للبهار، مثلما اختير ابن خلدون قاضيًا، واختير علماء آخرون لمِهنٍ مختلفة، تنتسِب إلى زمانها، وإن كان أولياء الله وأقطاب الطرُق الصوفية هم الأعمق تأثرًا حتى الآن في البلاد المصرية.
شغلتني التسميةُ عمَّا عداها، كأنها تنتسِب إلى عوالم ألف ليلة وليلة، وحكايات التراث العربي، وجعلتُ الاسم بالفعل — فيما بعدُ — عنوانًا روائيًّا، وتحوَّل انشغالي في أثناء ذلك إلى محاولة قراءة تاريخ علماء المغرب في مدن مصر: متي قدموا؟ وكيف؟ ولماذا اختاروا الإقامة في هذه المدينة، أو تلك؟ وهل كانوا جميعًا من المتصوِّفة، أو أنهم وجدوا في الحقبة المصرية ما يُغريهم بالبقاء؟
وأذكر أني تناولتُ في كتابي «حكايات عن جزيرة فاروس» تاريخ العلاقات المغربية المصرية، من خلال هجرات العلماء المغاربة إلى بلادنا.
•••
إذا كان لبحري موقعه المُتميز، فهو يتصل بالبحر من جهاتٍ ثلاث، شِبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية، فإن الروحانية سِمة مهمة في فضاء الحي، عشرات الجوامع والأضرحة والمقامات والمزارات التي لا تُطالعك — ربما — في المساحة نفسها في موضعٍ آخر.
أُفسر الأمر بأنه يعود إلى فترة ازدهار دولة الأندلس الإسلامية، عشرات العلماء والنسَّاك والزهَّاد قدموا إلى الإسكندرية من بلاد المغرب، يسعَون إلى أداء فريضة الحج، يستخدمون الدواب، أو يسيرون على أقدامهم. تُطالعهم الإسكندرية فيُزمعون الإقامة فيها. يلقى ترحيبًا من أهلها، ينسِبون إلى أقواله وتصرُّفاته كرامات، يُصرون أن يُقيم بينهم، في حياته، وبعد الممات. تلك هي الحكاية التي تكرَّرت في سِيَر أبو الحسن الشاذلي والمُرسى أبو العباس والعديد من أولياء الله، تصوَّروا الإسكندرية محطة في طريقهم إلى البيت الحرام، لكن الخصائص المُميزة للمدينة وأهلها، دفعتهم إلى الإقامة فيها بعد أداء فريضة الحج. ثمة من أخلص للدعوة الدينية، ومن أنشأ طريقةً صوفية، تضخَّمت أعداد مُريدِيها — كما هو الحال في الطريقة الشاذلية ذات القطب الأكبر والأحزاب والأوراد وعشرات الألوف من المُريدين — وتوزَّعت في أماكن متقاربة: مقامات وأضرحة يقصدها الناس، يلتمِسون البركة والشفاعة والمدَد.
المظاهر الدينية ملمح يُضاف إلى الروحانية التي اكتسبها بحري بتعدُّد مساجده وأوليائه. الموالد والجلوات وحلقات الذكر وسُرادقات الإنشاد الديني وغيرها مما يُشكِّل تكوينًا في ثقافة أبناء الحي، بصرف النظر عن المستويات المعرفية والاجتماعية.
موكب العروسين لا بد أن يستأذن أبو العباس — أو السلطان كما يُسمِّيه السكندريون — بالمرور من أمام مسجدِه، عادة شحبت، أو أُلغِيَت، بعد أن تقلَّص الميدان بفعل فاعل، والموالد يشارك فيها، ويسعى إليها الألوف من الإسكندرية وخارجها، تشغي بالخيام والأعلام الملوَّنة والبيارق والأغنيات وأكشاك الختان والنذور وهتافات المجاذيب، ومآذن الحي ترفع الأذان — في الأوقات الخمسة — والتواشيح والأدعية، وثبَّتت ذاكرة الطفولة ما كانت تزخَر به الجلوات من مظاهر، بعضها يميل إلى الغرابة والشذوذ، كابتلاع النار، ووخْز الوجنات، وانبجاس الدم من الجسد بتأثير ضربات المطاوي والسيوف، والنوم على المسامير، وتلقي الأفواه رءوس الثعابين … إلخ، لكن اليقين الديني يستقرُّ في النفس، يتخلص من التأثيرات السلبية، بعد أن ينفض الوعي مظاهر الخرافة!
أفرز ذلك كله بيئة ثقافية، لها أسلوبها ومفرداتها، سواء في الطُّرق التي تنتسِب إلى أقطاب الصوفية، أو في الأذكار التي تُنشدها حلقات الذكر، أو في الإنشاد الديني، والأغنيات التي تعكس الصِّلات المُتداخلة بين الروحية والبحث عن لُقمة العيش، البحر واليابسة، الصحو الذكي والاستغراق في الغيبوبة، حتى رقصات «سيد حلال عليه» وأغنيات «السدا» والأجيال التالية من فناني الحي، تعكس الحوار الدائم بين صياد السمك ومورد رزقه، الاتفاق مع أحياء المدينة في المظهر، والاختلاف في الجوهر، يما يهب بحري خصوصيته وتفرُّده!
•••
الإسكندرية هي باب المغرب، فلا فاصل بينها وبين المغرب سوى الصحراء التي تتناثر فيها بلدان المغرب العربي. هي، في التسميات الحالية: ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب، وموريتانيا. وثمَّة روايات تاريخية تؤكد أن العنصر الوطني في الإسكندرية يعتمد — في أصوله القديمة — على الوافدين من المغرب، ربما من قبل أن يقود جوهر الصقلي حملة الفاطميين إلى الأرض المصرية.
كان العالَم الإسلامي متصلًا. من يخلِّفُ قُطرًا إلى آخَر لا يسأله أحد عن أوراقه الثبوتية، ولا من أين أتى، ولا إلى أين يتَّجه.
وكما قلتُ فإن بحري تحول — في توالي السنين — إلى مركز استقطاب للباحثين عن اليقين الديني، بداية من أداء الفرائض والسُّنَن، وانتهاءً بتلمُّس البركة والشفاعة والنصفة من الأولياء الذين تشغي بهم جوامع الحي وزواياه وأضرحتُه ومقاماته.
ربما البداية في تلك الأعوام القديمة، توالى قدوم المئات، وربما الآلاف من متصوِّفة المغرب العربي، يسعون إلى الحج، تطول الرحلة على الأقدام، أو بواسطة الركوبة المُجهَدة، يُحاولون الْتقاط الأنفاس في الإسكندرية، نية الإقامة أيامًا تمتدُّ إلى نهاية العمر. يشيدون — أو يشيد له المصريون الطيبون (أليسوا أولياء الله؟) — مساجد وزوايا، يُضاف إليها — بعد الرحيل — أضرحة ومقامات. حتى مسجد تربانة بشارع فرنسا، أنشأه المغربي إبراهيم عبده المغربي، الشهير بتربانة.
عَرَضتُ لتلك الرحلة الجميلة، القاسية، في العديد ممَّا كتبت. ثمَّة أبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المُرسي وياقوت العرش والطرطوشي وأبو حامد الغزالي وابن خلدون وابن أبي الدنيا وابن عربي وابن عطاء الله وعبد الرحمن بن هرمز وعلى تمراز وعبد الرحيم القنائي ومحمد العطار (يُنسَب إليه جامع العطارين) وغيرهم، منهم من اتخذها معبرًا إلى مدن مصر الأخرى — والقاهرة بخاصة — ومنهم من فضَّل الإقامة فيها، امتثالًا لإلحاح أبنائها الذين عبَّروا عن اعتقادهم فيه.
رحلات علماء الأندلس ومُتصوِّفتِها إلى الإسكندرية، ومنها إلى مدن مصر وقُراها، أعطت تأثيرًا دينيًّا مهمًّا في البيئة المصرية. ثمة عشرات الجوامع والمساجد والزوايا والمزارات، تتناثر في امتداد الأرض المصرية، تنتسِب إلى علماء المغرب، وعلماء الأندلس بخاصة، تُعمِّق اليقين الدِّيني، وتَسِمُ معتقدات المصريين وعاداتهم وسلوكيات حياتهم بما قد لا نجِدُه في مجتمع آخر. نحن شعب مذهبه السنة، ونُحب آل البيت بما لا يقلُّ عما يُعلنه الشيعة، ساعد على ذلك الامتزاج الجميل ما أتي به، وألَّفه، علماء الأندلس من طُرق صوفية، تتَّجِه بطقوسها إلى الذات الإلهية ابتداء، ثم إلى رسول الله، فآل بيته وصحابته والتابعين، ونؤمِن بمكاشفات الصالِحين وبركاتهم.
هذه هي شخصية الإنسان المصري بعامة، منذُ تداخلت ديانات الفراعنة بمراحل تاريخه المتوالية، حتى الفتح الإسلامي، ثم وجدت المعنى الذي يُمارس في ضوئه — حتى الآن — معتقداته الدينية.
اخترعت مخيلتي أولياء آخرين: الأنفوشي، على الراكشي في «أبو العباس» (رباعية بحري)، الشيخ المغربي في قصة «الإبانة عن واقعة كنز الشيخ المغربي»، الشيخ جابر برغوت في «ياقوت العرش»، الجزء الثاني من «رباعية بحري»، الإمام الحفناوي في «إمام آخر الزمان»، أولياء الله في روايتي «أهل البحر»: إبراهيم سيد أحمد، صبيحة الدخاخني، رافع عبيد، وغيرهم.
•••
تحدثتُ في كتابي «مصر في قصص كتابها المُعاصرين» عن اليقين الديني في حياة المصريين، وما يتَّصِل به من معتقدات وطقوس وتيارات وطرق صوفية ومساجد ومزارات. لعلِّي أُشير إلى عصا موسى وخاتم سليمان ودورهما في مقاتلة على بن أبي طالب للشيطان. يظلُّ احتدام المعركة حتى ينزل المهدي المُنتظَر من السماء على غمامة، ومعه الملائكة، فيفرُّ الشيطان، ويتبَعُه المهدي، ويصرعه برُمحه.
اخترتُ لأجزاء رباعيتي عن بحري أسماء أولياء الله: أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز. لم تقتصر الرباعية على هؤلاء المُتصوفة الكبار، اكتملت بانورامية اللوحة بشخصياتٍ مهمة أخرى في دُنيا التصوُّف: الخضر وكظمان ونصر الدين وعبد الرحمن ومنصور وعلي تمراز، وغيرهم.
وفي روايتي «أهل البحر» أوردتُ ما لم يسبِق لي تناوُله في الرباعية؛ كرامات ومكاشفات لأولياء الله، بعضها من اختراعي، وإن اتَّصل السياق. أضفتُ — على سبيل المثال — شخصية سيدي الأنفوشي. استمعتُ إلى أكثر من رواية حول الاسم، وما إذا كان لشخصيةٍ أجنبية، إيطالية على وجه التحديد، أم أنه لشخصيةٍ دينية غابت عنها الشُّهرة التي تحقَّقت لأولياء الحي الآخرين؟
التقطَتْ أُذناي — في رحلتي بالقطار من الإسكندرية إلى القاهرة — قولَ شابٍّ لأفراد أُسرته: رافقت أصدقاء إلى سيدي الأنفوشي.
ولأنه — فيما يبدو — واجَهَ استغرابًا في أعيُن أفراد الأسرة، فقد استطرد: الضريح أسفل قلعة قايتباي، أكَّد لي أصدقائي أنه لِوليِّ الله الأنفوشي!
أعرف أن صديقي الشاعر والمفكر الكبير مهدي بندق يضع زيارة أضرحة أولياء الله ومقاماتهم في موضع الخُرافة، لكنه فاجأني بموافقتِه على أن يَصحبني — بسيارته الصغيرة — إلى قلعة قايتباي: أنت تحتاجُه لأحداث روايتك، لكنك لن تجد شيئًا!
لم أجد إجابة من أي نوع عند المسئولين عن القلعة. استغربوا السؤال، فالضريح أسفل القلعة لا يضمُّ إلَّا الفراغ، ما لدَيهم من معلومات ينفي وجود موتي داخل القلعة.
أنقذَني عسكري يقف على باب الحجرة الخالية إلا من ضريحٍ يتوسط أرضيتها الترابية. روي لي حكاية الجندي الذي أعدَمَه السلطان قايتباي بتُهمة الخيانة، فلمَّا عرف براءته أمر أن يُدفَن في ضريح داخل القلعة. هذا هو ساكن الضريح، تصوَّر فيه نسوةُ الحيِّ وليًّا يَشفي من العُقم (لماذا العقم بالتحديد؟) يأتين في موعد صلاة الجمعة، يتمرَّغنَ على الأرضية الترابية، توسُّلًا بالخِلفة.
أفردتُ لسيدي الأنفوشي — صار وليًّا! — فصلًا في روايتي «أهل البحر». أفدت من حكي العسكري، وإن بدَّلتُ وحوَّرتُ بالقدْر الذي تتطلَّبه الحكاية الفنية.
•••
كيف صار أولياء الله في بحري جزءًا في حياتي؟
أبو العباس المُرسي هو — في تسمية السكندريين — سلطان الإسكندرية، نحن نقسِم به: والمُرسي، ونُغنِّي له: اقرُوا الفاتحة لابو العباس … يا اسكندرية يا أجدع ناس، وحول مقامه نطلُب النُّصفة والمدَد، ونروي عن مكاشفاته وكراماته ما قد يُخطِئه الحصر.
أول صورة في ذاكرتي عمَّال بناء يحملون قِطَع الحجارة، ويخلطون الخرسانة المسلحة. كانت تلك — كما عرفت فيما بعد — إعادة بناء الجامع في أوائل الأربعينيات. الصورة شاحبة. جذبني أبي ونحن نسير بالقُرب منها، فلم يُتَح لي أن أستكمِل أسئلتي. اتَّسعَت الصورة — فيما بعد — وتوضَّحت، ألِفتُ المئذنة والقباب والميدان الفسيح المُمتدَّ إلى البحر، والميدان الآخر المُفضي إلى السيَّالة، والصحن الهائل الذي يسع مُذاكرتنا، ومُصلَّى السيدات تدل عليه المشربية أعلى المكان، والمُقام بدائرة الزوَّار من حوله، يستغيث أصحابها، ويلتمِسون، ويتذلَّلون، يطلُبون الشفاعة والنصفة والمدد.
أما ذلك الضريح — ولعلَّه مقام — الذي يتوسط الحجرة المُستطيلة، الملاصقة لردهة الطابق الأول في مدرسة البوصيري الأولية. فقد أثار انتباهي طيلةَ العامَين، أو الثلاثة، التي أمضيتُها تلميذًا في المدرسة، قبل أن أنتقل إلى مدرسة الإسكندرية الابتدائية، ثم — بفرمانٍ أبوي صارم — إلى المدرسة الفرنسية الأميرية … ذلك الضريح شغلني في سِني البوصيري الأولية وبعدها، وتناثر هذا الانشغال في العديد من أعمالي الروائية والقصصية، فضلًا عن الكتابات التي تنتسِب إلى السيرة الذاتية.
وثمَّة ميدان الأئمة الذي اختفى بفِعل فاعل، شُيِّدت — في الساحة ما بين مقامات الأولياء وبين جامع المرسي — بنايةٌ خرسانية هائلة، شغلتها مطاعم ودكاكين حِلاقة وملابس ومناديل رأس وإيشاربات وأقمشة وأحذية وأدوات تجميل وعطور ومشغولات عاج. تبرير ما حدث هو توسعة الميدان، (توسعته بإلغائه)!
قبل أن تُرتَكب الجريمة، كنت أتنقل — متباطئًا — بين الشبابيك المعدنية التي تطل على مقام أولياء الله، أنظر منها إلى مقامات الأولياء الاثني عشر. ينفصل الهدوء والسكينة في الداخل عن الصَّخب من حولي، كأن المقامات جُزر منعزلة، لا صِلة لها بالحياة الهادرة في الميدان، الصمت السادر يعزل المبني الصغير ذا الشبابيك المعدنية عن كلِّ ما حوله.
ذلك ما كان يفعله عبد الله الكاشف في روايتي «البوصيري»، الجزء الثالث من رباعية بحري، يمضي في جولةٍ بين مساجد أولياء الله ومقاماتهم وأضرحتهم، منذ يُغادر بيته أول شارع الأباصيري من ناحية ميدان أبو العباس، يُطيل التوقُّف أمام مقامات الأولياء الاثنَي عشر، ويقرأ ما تُسعفه به ذاكرته من آيات القرآن والأدعية.
أما سيدي على الموازيني، فمدفون في ضريحٍ بداخل المسجد هو وابنه. ولعلَّ تأخُّر اكتشافي لمقام سيدي محمد شرف الدين، أو شارع رأس التين، مَبعثه ازدحام ذاكرتي البصرية بالعشرات من المقامات والأضرحة، في داخل بحري أو خارجه. تعدَّدت المزارات، فلم أفطن إلى المقام الذي احتلَّ ركنًا في جانب الشارع، إلا بعد سنواتٍ من رحيلي عن الإسكندرية.
•••
مثلت الإسكندرية حلقة اتصالٍ بين علماء الأندلس وطريق الحج إلى بيت الله الحرام. ربما مضوا إلى دول القارة الأفريقية التي بلغَتْها الفتوحات الإسلامية.
كانت «رباعية بحري»، ثم اللوحة التي تناولت فيها الشاذلي في «أهل البحر» دافعًا لا لِأقرأ ترجمة حياته فحسب، وإنما قرأتُ أقواله وأحزابه وأدعيته، وهي كثيرة، مع ملاحظة أنه لم يُقدِّم مؤلفًا كالشعراني أو ابن عطاء الله على سبيل المثال.
ولعل أهم ما يحرص عليه مريدو الشاذلية، حفظ أحزاب الشاذلي بكل ما تضمُّه من حِكَم ومواعظ وابتهالاتٍ وصلوات ودعوات. وأهم ما يَعتزُّون بأدائه حزب النصر الذي ألَّفه الشاذلي تقرُّبًا إلى الله، وهداية لمُريديه.
وقرأت أن بردة البوصيري هي أفضل المدائح النبوية، بعد قصيدة كعب بن زهير الشهيرة «بانت سعاد». كنتُ أحاول تهجيتها — وأنا صَبي — على جدران جامِعه، ثم أقبلتُ على قراءتها بعينَي الرضا، وجدتُ أنها تستحقُّ الرضا فعلًا، تستحقُّ الثناء والتقدير على المُستويَين الإيماني والفني. قرأتُ للبوصيري قصائد أُخرى تتَّجِهُ إلى مدح الرسول.
من روايات المُتصوفة أن أولياء الله يتولَّون بأنفسهم — بعد وفاتهم — خدمة مُريديهم، وأن السيد البدوي — في رواية الشعراني — كان يدعو لمولده مُريدين من العرب والعجم، وأن إعادته للأسري كانت بعض كراماته.
ولكل أولياء الله — كما يقول النقشبندي — خصوصية وهمَّة في الحياة والممات.
•••
اللافت — في حي الحُسين القاهري — كثرة اللوكاندات، يتردَّد عليها زوَّار سيد شباب أهل الجنة من أبناء الريف، أسعارها الزهيدة تجعلُها مضرب الأمثال، فأنت تُعاير صديقًا بأنه لا ينزل إلَّا في لوكاندة المشهد الحسيني، بمعني قلَّة دخول المُتردِّدين عليها.
وفي المقابل، فإن بحري يكاد يخلو من اللوكاندات. ففيما عدا فنادق شارع النصر، وأول شارع فرنسا، والشوارع القريبة، فإن أهل المدن والقُرى القادِمين إلى الإسكندرية، طلبًا لزيارة السلطان، أو صاحب البردة، أو ياقوت العرش، وغيرهم، يجدون في الخيام والأكواخ والسُّرادقات شِبه الثابتة في الشوارع الصغيرة المُتفرعة من ميدان أبو العباس — قبل أن ينقلب حاله — ملاذًا يُريحون فيه أبدانهم، ويتناولون طعامهم وشرابهم على نفقة شيوخ الطُّرق الصوفية.