غواية الإسكندر وتسونامي الدلتا
لم يكن بحث الراوي عن قبر الإسكندر، في روايتي «غواية الإسكندر»، بهدف العثور على القبر لقيمتِه التاريخية أو الأثرية، أو العثور على الكنز الذي قِيل إنه أودع في القبر، لكنه أراد أن يجد الطلسم الذي طلب الإسكندر أن يُوضَع ضمن المُتعلقات المودعة مع جثمانه، وهو طلسم يمنع اعتداء البحر على المدينة، ويحمي الإسكندرية من الغرق. ذلك ما توصلَتْ إليه أبحاث الراوي — وهو أستاذ جامعي — فانشغل بالقراءة والبحث والتنقيب، يُحاول أن يمنع تهدُّد الإسكندرية بالمصير القاسي.
لم يفقد الأستاذ الجامعي وليد صبحي إيمانه أنه سيعثر على القبر، الكنز، الطلسم، لينقذ الإسكندرية من الخطر الذي يتهدَّدها.
والحق أن بحث وليد لم يكن في الفراغ، ولا هي شطحات عالِم، فالحقائق العلمية — تؤيدها ظواهر بيئية ومناخية — تخشى ارتفاع منسوب مياه البحر في الأعوام القادمة (حدَّدها العلماء بما لا يزيد عن ٢٠ عامًا!) بحيث تبتلع الأرض مساحات هائلة من الدلتا. بل إن بعض التقديرات تتوقَّع غرق ثلث الدلتا، خلال الأعوام المائة القادمة، بعد أن يرتفع منسوب مياه البحر المتوسط مترَين.
•••
ما معنى الانبعاث الحراري؟
إنه زيادة درجة حرارة الأرض، نتيجة انبعاث الغازات الضارة التي استقرت في الغلاف الجوي، وتعمل كسطحٍ عاكس لأشعة الشمس المُرتدة من الأرض، فتمتصُّ جزءًا منها، وتؤدي إلى ظاهرة التسخين، وارتفاع درجة الحرارة.
غاز ثاني أوكسيد الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية في إحراق الفحم والبترول الذي نَستخدمه في المصانع والسيارات، ومحطات توليد الطاقة، وغيرها … هذا الغاز هو أهم الغازات المعروفة باسم غازات الاحتباس الحراري.
والحق أن تأثيرات التغيُّر المناخي أخطر من مجرد ابتلاع مياه البحر لجزر وسواحل ومدن وبلاد — ربما — بأكملِها. تمتدُّ التأثيرات فتشمل فقْد الكثير من دلتا الأنهار، وكثرة الفيضانات، والأعاصير المُدمرة، والجفاف، والاختلاف في توزيع أحزمة المطر إلى حدِّ التوقُّع بأن تنخفض إيرادات مياه النيل، نتيجةً لتغيُّر حزام الأمطار فوق حوض النهر. ونقص الإنتاج العالمي من الحبوب والإنتاج الحيواني، وانتشار الأوبئة، وموت ما لا حصر له من الكائنات الحية في أعماق الأنهار والبحار والمُحيطات، واختفاء العديد من الجزر، وتآكُل الشواطئ، فضلًا عن فقدها. بل إن الآثار السلبية قد تبلُغ حدَّ تحول الشعاب المرجانية بالبحر الأحمر إلى البياض، مما يُفقدها جاذبيتها السياحية.
من الأخطار الماثِلة كذلك، ما أعلنه وزير البيئة الإندونيسي من أن ارتفاع حرارة الأرض يُهدِّد بالغرق ألفَي جزيرة من جُزر الأرخبيل الإندونيسي قبل عام ٢٠٣٠. وزاد رئيس جمهورية جزر المالديف فأعلن أن الجُزر التي تتكون منها بلاده، قد تختفي تمامًا خلال قرنَين من الزمان بتأثير تغيُّرات المناخ.
التغيُّر المناخي إذن مَبعثه ظاهرة الاحتباس الحراري، وما يستتبعها من ذوبان طبقات الثلوج بالمناطق المُتجمدة، وارتفاع منسوب مياه البحر، بحيث تغرق الكثير من الجُزر والأراضي الساحلية، حتى إن مساحاتٍ كبيرة من الدلتا — في تقديرات العلماء — مُهدَّدة بالغرَق خلال العقود الأولى من هذا القرن.
إن درجة حرارة الأرض قد ترتفع ما بين ٣ إلى ٤ درجات في العقود القريبة القادمة، والأخطار المتوقَّعة — نتيجة لذلك — هي تراجع مخزون مياه الشرب، وزيادة الأعاصير والنوات والكوارث. أما أخطر النتائج فهي تعرُّض دلتا النيل للغرق، فضلًا عن ارتفاع مستوى ملوحة المياه في النهر، والقحط، ونشوء ظاهرة اللاجئين بسبب تغيُّر المناخ.
لقد قسمتِ الأبحاثُ العلمية شواطئ الدلتا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: شواطئ مُعرضة للخطر، بتأثير انخفاض منسوبها عن سطح البحر، ومنها ساحل بُحيرة المنزلة، ومنطقة الطرح جنوبي الإسكندرية. أما القسم الثاني — ويضمُّ الشواطئ الآمنة — فهو الشواطئ المحمية طبيعيًّا بالكثبان الرملية ما بين البرلس وبلطيم وجمصة. وأما القسم الثالث، فيشمل الشواطئ التي ترتفع ما بين ٢ إلى ٦ أمتار فوق سطح البحر، كما في رشيد وبلطيم ودمياط.
ولا شك أن ارتفاع مستوى البحر سيؤدِّي — على المدى المتوسط والبعيد — إلى تعرض مساحات متفاوتة من دلتا النيل لاحتمالات الغرق، وما يستتبع ذلك — بالطبع — من فقد مساحاتٍ ضخمة من الأراضي الزراعية والبنايات والمنشآت الصناعية والسياحية، وهجرة الملايين من السكان — في ظروفٍ قاسية للغاية — إلى الجنوب.
توقعات العلماء أن البحر — حتى عام ٢١٠٠م — (في مدى النظر) سيلتهم ١٥٪ من أراضي الدلتا التي تضم بحيرات إدكو والبرلس والمنزلة والبردويل وجنوب الإسكندرية وشمال محافظات كفر الشيخ ودمياط والدقهلية وبور سعيد والسويس، بالإضافة إلى إهدار حوالي مليون فدان من أجود أراضي الدلتا الزراعية، وتعرُّض أجزاء واسعة منها للملوحة والتصحُّر.
حتي أراضي الدلتا التي قد تنجو من الغرق، مُهددة بتسرُّب مياه البحر مما يؤدي إلى تملُّحها، وعدم صلاحيتها للزراعة بالتالي. بل إن التوقعات تُشير إلى احتمال أن يفقد نهر النيل ما بين ٣٠ إلى ٦٠٪ من موارده المادية، وهو ما يَعني خطرًا يصعب تصوُّر نتائجه.
لكي يظلَّ البحر على منسوبه، أو يقل، فثمة اقتراحات بإغلاق البحر المتوسط عن طريق جبل طارق، وإغلاق البحر الأحمر من خلال مضيق باب المندب. وقد ظلَّ الاقتراح بإقامة سدٍّ على مضيق جبل طارق قائمًا منذ عام ١٩٢٠م حتى قامت الحرب العالمية الثانية، فغاب الاقتراح في تطورات الأحداث، وبعد نشوء ظاهرة الاحتباس الحراري، أُثير الاقتراح ثانية بواسطة علماء مصريين وسويديين، لكن الاقتراح لم يجاوز — حتى الآن — إطار الأمنية!
•••
إذا كان الدكتور وليد صبحي — في غواية الإسكندر — قد واجه السخرية والاستخفاف، حتى من اللصيقين به، فإن اللامبالاة — وهي أخطر — تواجه التحذيرات المُتوالية من اقتراب خطر ابتلاع البحر للإسكندرية، ومساحات هائلة من الأرض المصرية. ولعلَّنا نذكر تحذير مسئولة دولية، هي وزيرة خارجية بريطانيا السابقة «بكيت» (مايو ٢٠٠٧) من غرق الدلتا، وتشريد الملايين من سكانها، نتيجة تغيُّر المناخ، وارتفاع منسوب المياه. والطريف — والمؤسف — أن صحفنا نشرت التحذير المنسوب إلى الوزيرة البريطانية، دون أن تُعنى حتى بالتعليق عليه.
آلاف الأطنان من الكُتَل الخرسانية، أُلقيت داخل البحر، أسفل الكورنيش الحجري، ما بين المنتزه ورأس التين، بالإضافة إلى تغذية الساحل نفسه بكمياتٍ هائلة من الرمال. الهدف المُعلن هو حماية الشواطئ من تأثيرات الأمواج — حاليًّا، وفي المستقبل — لكن النتائج أتت بعكس المأمول. ظلت ثورة البحر — في أوقات النوات — تهب تأثيراتها السلبية، بحيث فرض السؤال نفسه: ماذا لو واصل المناخ تغيُّراته، وفي مُقدمتها زيادة منسوب مياه البحر؟
لاحظ خبراء علوم البحار وبحوث الشواطئ — وهم غير مُهندسي الإنشاءات الذين وجدوا في كُتَل الخرسانة وحقن الرمال ما ينهي المشكلة — أنَّ المصدَّات والرمال فشلت في أداء دورها كحاجزٍ يحمي المدينة من تقلبات البحر، بالإضافة إلى أن تلك «الحواجز» قد أُعِدت دون دراسة، أو استشارة علمية حقيقية، فأدَّت إلى تغيُّر بيئي سلبي، قد ينتهي — إن استمر — باغتيال شواطئ الإسكندرية … والكلام للخبراء!
المشكلة الأكثر خطورة — هذا هو التعبير الذي يَحضرني — هي توقعات المستقبل، ارتفاع منسوب البحر بالقياس إلى مستوى الأرض.
وعلى الرغم من الرأي العلمي الذي يذهب إلى أن غرق الإسكندرية من قبل، يعود إلى هبوط الأرض، وليس إلى ارتفاع مستوى سطح البحر، فالخطر المتوقَّع إذن يختلف عما واجهتْه المدينة من قبل … على الرغم من ذلك الرأي، فإن الأسئلة تظلُّ قائمة: كيف نمنع الكارثة؟ كيف نحول دون اندثار الإسكندرية الثالثة، بعد أن اندثرت المدينة مرتَين من قبل؟ كيف تظلُّ الإسكندرية الثالثة على حالها، فلا تُواجِه خطر التلاشي؟!
ثمة من يرى أن إنشاء سواتر حماية على طول شواطئ الإسكندرية، دون دراسات بيئية، ينطوي على أخطار تُلغي المتوقَّع من الفوائد، المواد الأسمنتية المستخدمة في عمليات البناء لا تصلح. الأجدى أن نُنشئ حواجز غاطسة، أو مصنوعة من البلاستيك، بحيث تنكسِر حدة الموج تحت سطح البحر، ويعجز القاع — عند تحركه — من اقتحام الشاطئ، والمدينة بالتالي. أضافت الدراسة أن طابع النَّحر يختلف من مكانٍ إلى آخر، ولا بد من دراسة الأثر البيئي لها، والظروف الطبيعية للبحر، كي لا تُهدر الإمكانات والموارد.
يذهب هذا الرأي إلى أن الكُتل الخرسانية لا تُحقق نتائج إيجابية مطلقة، إنما تداخلها نتائج سلبية، أهمُّها تغيير نوعية المياه، وفي فصل الصيف بخاصة، والأجدى إعادة تغذية الشواطئ بالرمال، سواء باستخراجها من قاع البحر، أو بنقلها من مكانٍ آخر، ولكن بمواصفات خاصة.
باختصار، فإنه من الصعب أن تتحمل الخطر المرتقب حواجز الأمواج الحالية، وعلى المدي البعيد — وربما القريب — فإنها لن تُحدث تأثيرًا إيجابيًّا من أي نوع.
لقد تأجلَّت كل مشروعات الحماية والإنقاذ لعقدة مصرية قديمة، هي اختلاف وجهات النظر. ثمة لجان تابعة لوزارة الري، ووزارة الري والموارد المائية، ومحافظ الإسكندرية، وهيئة حماية الشواطئ، ومعهد علوم البحار، وأقسام الجيولوجيا والجيوفيزياء بالجامعات المصرية، وجمعية المهندسين، والجمعية المصرية للتخطيط العمراني، والمركز القومي للبحوث، ومعهد أبحاث البناء، وهيئة الاستشعار عن بعد، وهيئة الأرصاد الجوية والتغيرات المناخية، مدينة مبارك العلمية بالإسكندرية، مصلحة المساحة، هيئة الجيولوجيا المصرية، وغيرها. عبَّرت كل منها عن وجهة نظرٍ مخالفة للأخرى. وكان القرار السهل هو التوقف عن تنفيذ أي مشروع لحين التوصل إلى كلمة سواء. وبالطبع فإن الثمن يدفعه مستقبل الإسكندرية، بالأخطار التي تهدده (أذكر أنِّي ألِفتُ — لأعوام طويلة — صرف المجاري في الميناء الشرقي. لم تكن هناك اعتراضات ولا تحذيرات، فاعتبرتُ الأمر عاديًّا، ولم يكن في بالي — أُصارحك — تخوُّفات من التلوث البيئي، فما يحدُث في البحر يحدث في النهر أيضًا … وهكذا نحيا!)
تكوَّنَ العديد من اللجان لدراسة سُبل إنقاذ شواطئ الإسكندرية — والمدينة جميعًا — من الخطر. ووصف العلماء ما أنفق على عمليات الإنقاذ بواسطة تلك اللجان، بأنه حلقات في سلسلة تحويل شواطئ الإسكندرية إلى حقول تجارب، وطالب العلماء ببدائل أكثر جدوى.
كانت التغذية بالرمال، أو الحقن بالرمال — كما أشرنا — في مقدمة الحلول التي لجأتْ إليها اللجان، لكن الرمال ذابت في أمواج البحر بعد أيامٍ قليلة، وذابت بالتالي بضعة ملايين من الجنيهات أنفقت لتنفيذ ذلك الحل. وأقيمت حواجز خرسانية في الأماكن الأكثر عرضةً لاقتحام الأمواج، لكن الأمواج علَتِ الحواجز، وتخطَّتها إلى قلب الطريق، بما يَعنيه ذلك من نُذر الخطر. ثم بدأ العمل في الحواجز الغاطسة التي وصفَها الخبراء بأنها أحدث الوسائل العلمية التي استخدمتها الدول المُتقدمة.
وثمة حلٌّ بإقامة سد، ارتفاعه متران، وبطول ٦٠٠ كيلو متر، وهي المسافة ما بين مصبَّي رشيد ودمياط (المتوقَّع أن يعلو مد البحر حوالي المتر)، وأيًّا تكن المبالغ التي تُنفق على هذا السد، فإنها ستظلُّ هامشًا بالقياس إلى الخسارة الفادحة التي سيؤدي إليها غرق الدلتا. وثمة حلول أخرى، منها عدم إقامة طوابق أرضية في البنايات الجديدة، وإلغاء تلك الطوابق في البنايات القائمة بالفعل!
عمومًا فإن حماية الشواطئ لا تأتي بمجرد وضع السدود، وتعلية الأرض في مواجهة البحر. الحل يجب أن يرتبط بدراساتٍ علمية، تضع في اعتبارها العوامل الساحلية من تيارات وأمواج وحركة رسوبيات ومسح الشواطئ التي كانت قائمة قبل تنفيذ مشروعات الحماية.
وللأسف — والكلام للعلماء — فقد أدي التخبُّط في مشروعات لم تُدرَس جيدًا، إلى فقدان ٥٠٪ من شواطئ الإسكندرية، بما تحويه من خصائص جيموفولوجية. والثابت علميًّا أن منسوب المياه في الميناء الشرقي — في الأعوام الأخيرة — زاد من مترٍ واحد إلى ثلاثة أمتار. بل إن بعض الاجتهادات المُتشائمة تخشى من أن يأتي يوم — قبل التسونامي المتوسطي — يرى أبناء الإسكندرية قلعة قايتباي في قلب البحر.
ما تحتاج إليه الإسكندرية، والدلتا جميعًا — فلا تُواجه خطر الغرق والموت والاندثار — هو دراسة كل الشواطئ على ساحل الدلتا، وليس شاطئٍ بالذات، أو بضعة شواطئ. ولعلَّنا نُشير إلى إنشاء العديد من القرى السياحية، في الساحل الشمالي، حواجز أمواج لحمايتها، وهو ما أدى إلى انتقال خطر التيارات البحرية إلى مناطق أخرى، ودمَّر القرى الواقعة فيها، بل إن تغذية الميناء الشرقي بالرمال أعاق الحركة في الميناء نتيجة تآكُل الحجر الجيري، وترسُّب الرمال.