مقدمة: الجوانب المتعدِّدة لعلم النفس والأوجُه الكثيرة للأفلام
الأفلام — شأنها شأن كلِّ الفنون — مشبَّعة بالعقل البشري؛ فهي من صُنع البشر، وتُجسِّد أفعالًا بشرية، ويشاهدها جمهور من البشر. إنها شكلٌ فنيٌّ مفعم بالحيوية البالغة، يستخدم صورًا متحرِّكة أخَّاذة، وأصواتًا نابضة بالحياة، للربط بين صُنَّاع السينما والجمهور عبر شريط السيلولويد والحواس.
وبحلول منتصف السبعينيات، أصبح سكورسيزي واحدًا من شباب المُخرِجين الطموحين (إلى جانب آرثر بن، وفرانسيس فورد كوبولا، وستيفن سبيلبرج وآخرين)، الذين كانوا يُحدِثون ثورةً في هوليوود آنذاك. وفي عام ١٩٧٦م، أخرج فيلم «سائق التاكسي» (تاكسي درايفر) الذي يَدور حول سائق تاكسي مضطرب عاطفيًّا، يُدعى ترافيس بيكل، يقع في شَرَك شوارع نيويورك سيتي المُزعِجة. وقد قام الممثل روبرت دي نيرو ببطولة الفيلم، فمَنَح صراعاتِ ترافيس الداخلية النفسية واقعيَّةً رائعة.
كان «سائق التاكسي» إنجازًا رائعًا جمع بين اللغة الفجَّة، والصور المُربِكة، والتقنيات السينمائية المبتكَرة. ففي أحد المشاهد الشهيرة، تستعرض الكاميرا بلقطة تفصيلية، بطيئة الحركة ومأخوذة من أعلى، المذبحةَ الناجمة عن محاولة ترافيس الملتوية لإنقاذ مومس قاصرة (أدَّتْ دورَها جودي فوستر). واعتُبر هذا المشهد على وجه الخصوص عنيفًا للغاية، حتى إن جمعية الفيلم الأمريكي أصرَّتْ على أن يُغيِّر سكورسيزي لون الدم؛ كي لا يصنَّف الفيلم ضمن فئة «للكبار فقط».
بالرغم من أن موضوع الفيلم أقلُّ مِن أنْ يوصَف بأنه تجاري، فقد حقَّق نجاحًا مدوِّيًا وشهد إقبالًا جماهيريًّا كبيرًا. وقد انقسمتْ ردود أفعال الجمهور؛ إذ زعم بعض المشاهدين أن الفيلم ليس فقط مبهرًا على المستوى التقني، لكنه أيضًا يجسِّد رحلة تطهيرية من الغوص داخل النفس المجروحة، سواء نفوس الأشخاص أو أمريكا ذاتها. بينما رأى آخرون الفيلم على أنه استغلالي ومُضلِّل على المستوى الأخلاقي؛ فالمشهد الذي يَنظُر فيه ترافيس — وهو عاري الصدر لكنه مدجَّج بعدد كبير من المسدسات والأجربة — إلى المِرْآة ويَسأل بنبرة تهديد: «هل تُخاطبني؟» أصبح جزءًا من اللغة المتداولة.
في عام ١٩٨١م، شاهد أحد المتفرِّجين — ويُدعَى جون هينكلي الابن — الفيلم ١٥ مرة في إحدى دُور العرض المُخصَّصة للعروض القديمة. وقد أوحى له الفيلم باغتيال الرئيس ريجان كي يَجذِب اهتمام جودي فوستر التي كان هينكلي مهوُوسًا بها عاطفيًّا. باءتْ محاولةُ الاغتيال بالفَشَل، لكنَّها أسفرتْ عن إصابة ريجان بطَلْق ناري وإصابة عدد كبير من الأفراد بجروح خطيرة؛ من بينهم جيمس برادي، السكرتير الصحفي لريجان، الذي أُصيب بالشلَل بقيةَ حياته. شُخِّصت حالة هينكلي على أنها فِصام ارتيابي، وتمَّتْ تَبرِئتُه استنادًا إلى إصابته بالجنون. وقد أصبحتْ تلك الواقعة جزءًا من الجدل الثقافي حول الدفْعِ بالجنون، والحدِّ من انتشار الأسلحة، ودَوْر وسائل الإعلام في المجتمع.
وبعد مُضيِّ أكثر من ثلاثين عامًا، لا يزال النُّقَّاد وأساتذة الجامعات يستشهدون كثيرًا بفيلم «سائق التاكسي» للتدليل على أهمية أشياء كثيرة على اختلاف أنواعها؛ كالروح الثقافية للسبعينيات، وتشويه الحقيقة في الصور التي تقدِّمها وسائل الإعلام، وطبيعة التفكير الارتيابي، وهكذا.
أين علم النفس في هذه القصة؟ من الواضح أنه في كلِّ مكان. لقد امتَزَجَتِ الخلفية الشخصية لسكورسيزي المتأصِّلة في بيئة اجتماعية قاسية مع مواهبه وهواجسه الفردية. فتيمات الخطيئة، والمعاناة، والعدوانية، والخلاص تتجلَّى في أفلام مثل «سائق التاكسي»، ليس في القصة فحسب، لكن أيضًا في اختيار زوايا الكاميرا ونظام الألوان. وإدراكًا منهم بأن للفن علاقةً مع العالَم الموجود خارج دار العرض، أثنى بعض المشاهدين على الفيلم؛ إذ قدَّم تجسيدًا استبصاريًّا للجنون والعفن الثقافي، بينما وجده البعض الآخر مُزعِجًا، وعبَّروا عن قلقهم مما يبعثه من رسائل. كذلك اتخذه أحد المشاهدين العُصَابيين نموذجًا يُحتَذَى في اغتيال الرئيس. وباستطاعة المرء أن يتخيَّل بسهولة كتابًا كاملًا بعنوان «علم نفس سائق التاكسي».
لعل السؤال الأكثر كشفًا هو: ما الجانب الذي لا يتعلَّق بعلم النفس في هذه القصة؟ هناك عناصر يُمكن فصلُها عن دائرة علم النفس؛ ربما الاستخدام «التقني» للَقَطات التتبُّع أو السمات «التاريخية» لأمريكا في السبعينيات، بَيْدَ أن هذه التمييزات تنهار لو فكَّرتَ فيها أكثر مما ينبغي. ففي كل الأحوال، تشكِّل لقطات الكاميرا الأساس الذي تقوم عليه التجربة الإدراكية للجمهور. وتاريخ السبعينيات مجسَّد في شخصيات مثل ترافيس، وفنَّانين مثل سكورسيزي، وأفراد من الجمهور مثل هينكلي. فما إنْ تبدأ في البحث عنه، حتى لا يكون باستطاعتك الهرب من علم النفس في الأفلام. ربما كانت هناك طُرق أخرى للحديث عن الأفلام دون تسليط الضوء على العناصر السيكولوجية، لكنْ بصفتي متخصصًا في علم النفس، لستُ متأكدًا من السبب الذي قد يجعل أيَّ شخص يرغب في ذلك.
(١) أهداف الكتاب
ما من سبيل لتقديم خلاصة ولو موجَزة لكل الأعمال التي تناولتْ علم النفس في الأفلام في كتاب واحد. فحجم القَدْر المُتاح من دراسات وتحليلات وتعليقات هائل بحقٍّ، وجدير ليس بكتاب واحد فقط، بل بمكتبة كاملة. ففي عام ١٩١٦م، وضع واحد من أبرز علماء النفس الأوائل (ولا يزال الأكثر بروزًا في الوقت الحالي)، هوجو مونستربرج، كتابًا بعنوان «المسرحية السينمائية: دراسة سيكولوجية»، ومنذ ذلك الحين شهدت تلك الدراسة توسُّعًا مستمرًّا على مدار القرن. وكتابي هذا يُمكن النظر إليه باعتباره دليلًا إلى «المكتبة الدولية لعلم النفس والسينما» الأسطورية؛ إذ يُساعد في التعرُّف إلى أقسامها المختلفة ولَفْت الانتباه إلى بعض الأعمال الأكثر إثارةً للاهتمام.
سأسعى في هذا الكتاب إلى تغطية نطاق واسع من الحقول البحثية المتنوِّعة. وبحسب علمي، لم يحاول أيُّ كتاب آخَرَ أن يضمَّ بين دفَّتَيْه مثل هذا العدد الكبير من المقارَبات المتبايِنة. فهو يتناوَل كلَّ شيء؛ بدايةً من التحليل النفسي الفرويدي لهيتشكوك، إلى الشعبية الخارقة لأفلام بعينها، وحتى السلوك العدواني تجاه الدُّمْيَة بوبو المستوحَى من أفلام الأطفال. في ظل الوَفْرة الهائلة التي شهدتْها دراسات الأفلام، فإنها تجزَّأت إلى أقسام أكثر من ذي قَبْل؛ فمعظم الكتب الصادرة مؤخَّرًا التي تتناول قضايا متعلِّقة بعلم النفس والسينما، تُغطِّي على الأرجح فصلًا واحدًا أو فصلين اثنين من الفصول التي يحتويها هذا الكتاب. وأنا آمُل أن أُميِّز، على امتداد صفحات هذا الكتاب، بين المقارَبات المختلفة، وأن أصِفَ بدقة القضايا الأساسية، وأقدِّم أمثلة سينمائية موحية. وفي كل الحالات، لا تهدف تلك النظرة الشاملة إلى أن تكون نهائية وقطعية؛ فهي تتوخَّى، بدل ذلك، تقديم بعض المفاتيح التي تساعد في إجراء المزيد من البحث والاستقصاء.
يتوجَّه هذا الكتاب في المقام الأول إلى جمهور قُرَّاء قوامُه الطلاب وغير المتخصصين من عشَّاق السينما و/أو علم النفس. لهذا، فهو يخلو نسبيًّا من المصطلحات المتخصصة، وفي الحالات التي سأُضطرُّ فيها لاستخدام بعض المصطلحات التقنية، سأتوقَّف لتوضيحها. إن جميع التقاليد البحثية التي يناقشها هذا الكتاب تضرب بجذورها في ظواهر إنسانية جوهرية ذات صلة بالسينما، فضلًا عن كونِها مَثَارَ فضول الكثير من الناس. وتتمثَّل مُهِمَّتي في استجلاء تلك النقاط، التي تَحظَى بافتتانٍ واسع المَدَى، للجمهور العريض. والكتاب، علاوةً على ذلك، قد يكون ذا فائدة لمَن لديهم اطِّلاع جيِّد على جوانب معيَّنة من علم نفس الأفلام. فمِن خلال عَقْد صلات بين مجالات بحثية متنوِّعة، يتمُّ اقتراح مسارات بديلة للبحث قد تحمل بعض الإرشادات حتى للمتخصصين. فهدفي، في نهاية المطاف، هو مساعدة أكبر عدد ممكن من الناس على تذوُّق الأفلام معنا على نحوٍ أكثر اكتمالًا.
لقد أهَّلتْني خلفيَّتي الشخصية والمِهْنية جيدًا لهذه المهمَّة، وفوق ذلك كلِّه عشقي للسينما. فمنذ تلك الرحلات التي كنتُ أقوم بها مرتين أسبوعيًّا إلى دار العرض الكئيبة الكائنة في إحدى القواعد العسكرية الأمريكية بألمانيا التي نشأت عليها، وقعتُ في غرام السينما. وعند عودتي إلى الولايات المتحدة وأنا في العاشرة من عمري تقريبًا، اكتشفتُ أعاجيب ثورة الكَبْل المتنامية باطِّراد، والتي أتاحتْ مشاهدة عدد كبير من الأفلام. وفي سنوات مراهقتي، شكَّلت الرحلات إلى دار العرض ومحلات تأجير شرائط الفيديو جزءًا أساسيًّا من حياتي الاجتماعية وأوقات اختلائي بنفسي. وتعلَّمتُ أنْ أُحِب كلَّ أنواع الأفلام — الأمريكية والأجنبية، الجماهيرية والفنية، الجديدة والقديمة — بَيْدَ أنني شُغفتُ على نحوٍ خاص بهيتشكوك، وأفلام التشويق بوجْهٍ عامٍّ، والكوميديا الساخرة السوداء.
لقد كان هذا الشَّغَف بالسينما هو ما قادني إلى العديد من الاختيارات الدراسية عند الْتِحاقي بالكلية. وباعتباري طالبًا في جامعة ميامي (أوهايو)، اخترتُ علم النفس كتخصص رئيسي، ودراسات السينما كتخصص فرعي، فضلًا عن كتابة مقالات نقدية عن الأفلام لمجلة الكلية. وقدَّمتُ أطروحةَ بحثي عن تجربة طلاب الكلية مع مشاهد العنف في الأفلام، واستخدمتُ فيها فيلم «القطيفة الزرقاء» (بلو فيلفت) الذي كان يُعرَض وقتَها في دُور السينما، كمحفِّز أساسي.
عندما حان وقت الانخراط في الحياة العملية، انجذبتُ بطبيعة الحال إلى كليات العلوم الإنسانية. فهذه النوعية من الكليات (الصغيرة عادةً) تتَّبِع منهجًا في التعليم يتميَّز بالشمولية وتعدُّد الاختصاصات، وتسعى إلى تعليم طلابها مهارات ذهنية أساسية؛ مثل الكتابة، والتفكير النقدي، والقدرة على المشاركة في حوار عقلاني. أعملُ حاليًّا أستاذًا في قسم علم النفس بكلية هانوفر في ولاية إنديانا منذ ١٥ عامًا؛ حيث أقوم بتدريس مقرَّرات ذات منحًى إكلينيكي؛ مثل الاضطرابات السلوكية والاستشارة والعلاج النفسي، بالإضافة إلى مقرَّرات محبَّبة إليَّ مثل علم نفس الأفلام. كما أنني أُمارِس أيضًا علم النفس الإكلينيكي برخصة مزاولته.
ساعَدني العملُ بالتدريس في كلية للعلوم الإنسانية في الإعداد لكتابة هذا النص؛ فقد أمضيتُ آلاف الساعات على مقربة شديدة من الطلاب، ما بين إلقاء محاضرات لمجموعات صغيرة، ومناقشة الأفكار في حلقات دراسية، والجلوس مع الطلاب وهم يعملون في مشروعات مستقلَّة. وكثيرًا ما كنتُ أستعين بالسينما، والموسيقى، وغيرهما من الوسائل الرمزية كوسائل تعليمية. وطلابي إجمالًا أفراد أذكياءُ، لدَيْهم حبُّ استطلاع، لكنهم لا يُشارِكون أساتذتهم اللغة نفسَها على الدوام. ربما كان هذا شيئًا جيدًا؛ فعندما يقضي المرء وقتًا أطول ممَّا ينبغي بصحبة «خبراء» آخَرين، يكون من السهل أن يَتُوه بين المصطلحات والتفاصيل التقنية وينسَى الافتراضات الأساسية التي تُشكِّل قوام الميدان البحثي. ومن ناحية أخرى، يَمِيل الطلاب الجامعيون إلى طرح الأسئلة الأساسية التي لا تكون ساذجة مطلقًا، وإنما كثيرًا ما تتوجَّه إلى صُلب الموضوع. وأريد لكِتَابنا هذا أن يُركِّز بالمثل على صُلب الموضوع.
وفي المقابل، أصبح الكثير من الأكاديميين المعاصرين شديدي التخصص، لدرجة أن الباحثين كثيرًا ما يعملون في مجالات بحثية فرعية ذات أقسام فرعية، لا تسمح إلَّا بالحدِّ الأدنى من التواصُل مع الأفراد من خارج تخصُّصهم، حتى المُنتَمِين منهم إلى المجال البحثي ذاته. أما فلسفة العلوم الإنسانية المُطبَّقة على الدراسة، فتتطلَّب منهجًا تكامليًّا متعدِّد الاختصاصات. ومن هنا، يضم هذا الكتاب نطاقًا واسعًا مصمَّمًا لتغطية العديد من التقسيمات الفكرية الراهنة، ونتيجة لذلك سيكون — كما نأمل — حافزًا للقرَّاء الذين يتمتعون بانفتاح عقلي يهتمُّ بكلِّ ما يخصُّ السينما وعلم النفس.
(٢) القصة والترفيه والفن في الأفلام
- الأفلام السردية: معظم الأفلام التي سنناقشها يروي قصصًا لها بداية، ووسط، ونهاية. بعض
تلك الحكايات بسيط، وبعضها الآخر معقَّد. بعضها يروي قصصَه بطريقة
مباشرة جدًّا، بينما بعضها الآخر يستخدم تقنية الفلاش باك (مثل
«تيتانيك»)، أو الغموض المتعمَّد (دوني داركو) أو متواليات زمنية
مُربِكة (مثل «خيال رخيص» (بالب فيكشن)). ومن حين لآخَر، فإن فيلمًا
تجريبيًّا مثل «كويانيسكاتسي»، الذي يكاد أن يستغني تمامًا عن القصة
لصالح التركيز على حركات، وأشكال، وألوان مجردة، يَجِد له جمهورًا،
لكنَّ هذا أمرٌ نادر الحدوث. ومن هنا، سأفترض، بوجه عام، أن هناك شيئًا
في البِنْية السردية يَجِده الناس آسِرًا على نحو خاص.
معظم الأفلام التجارية تروي قصصًا خيالية؛ فهي لا تزعم أنها تعرض الأحداث كما وقعتْ بالفعل. وحتى تلك الأفلام التي تتناول سِيَر أشخاص وتجاهد في سبيل الدقة التاريخية، يتمُّ فهمُها بوصفها «إعادة تجسيد» لأحداث ماضية. والأفلام الوثائقية استثناء من ذلك؛ لأنها تستهدف تقديمَ بَشَر حقيقيين وأحداث حقيقية. لكن، في معظم الأحوال، تُصاغ تلك الأفلام بحيث تروي قصةً عن شخص، أو حدث، أو ظاهرة ما. فلقد تمَّ التوسُّع في أسلوب الأفلام الوثائقية بما يتجاوز البرامج الإخبارية التليفزيونية و«قناة هيستوري» لتشمل أفلامًا حقَّقت نجاحًا كبيرًا؛ مثل «فهرنهايت ٩/١١»، و«مسيرة البطاريق» (مارش أوف ذا بينجوينز)، و«في انتظار سوبرمان» (ويتنج فور سوبرمان). ورغم أن القصص الوثائقية تتمتع بسمات سيكولوجية مختلفة نوعًا ما، فإن بؤرة اهتمام هذا الكتاب هي الأفلام الروائية. والأفلام التجارية الطويلة هي، على وجه التحديد، محطُّ اهتمامي الرئيسي؛ ذلك لأن معظم الناس ليست لديهم الفرصة لمشاهدة الأفلام القصيرة أو أفلام الهواة بصفة منتظمة.7
- الأفلام السينمائية: قبل الخمسينيات، كانت جميع الأفلام تُنتَج بهدف عرضها على شاشة دار عرض لجمهور واسع، ومنذ ذلك الحِين، أصبحتِ الأفلام التي تُنتَج لكي تُعرَض في دور العرض تُوزَّع في صِيَغ مختلفة على شاشات التليفزيون، وشرائط الفيديو، وأقراص الدي في دي، وأقراص البلو راي، وأجهزة الكمبيوتر، إلخ. واليوم، هناك العديد من الأعمال السردية المرئية يتمُّ إنتاجُها من أجْل وسائط عرض أخرى غير شاشة السينما (مثل المسلسلات القصيرة (ست كوم) التي تُنتَج للعرض التليفزيوني أو للتوزيع على أقراص دي في دي). وثمة الكثير من السمات النفسية المشترَكة بين الفيلم والوسائط المرئية الأخرى. ومن هنا، يحدِّد بعض الباحثين موضوع دراستهم بأنه «الوسائط»، وليس «الفيلم» ولا «التليفزيون». بَيْدَ أن الأفلام السينمائية تتمتَّع بتاريخ ومكانة خاصة، مقارنةً بالوسائط المرئية الأخرى التي تحمل سمات سيكولوجية فريدة. وبينما سأُشير من حين لآخر إلى التليفزيون وغيره من أشكال الثقافة الجماهيرية، فإنني أَميل أكثر إلى الأمثلة المأخوذة من الأفلام السينمائية.
- الأهداف الفنية/الترفيهية: تحتوي جميع أشكال الترفيه على خصائص فنية، كما تحتوي جميع الفنون على خصائص ترفيهية. ويَمِيل مصطلح «الترفيه» إلى الإشارة ضمنًا إلى أن الناس يَسعَوْن إلى الشيء لأنه مُمْتِع. من المفترض أيضًا أن يَجِد الناس متعةً ما في تجاربهم الفنية، وإلا فإنهم على الأرجح لن يسعَوْا إليها مرة بعد أخرى. فالمشاهِدون الذين يزعمون أنهم يشاهِدون الأفلامَ لقيمتها الجمالية «فقط»، وليس لأنهم يستمتعون بها، إنما هم منغمسون في طقس مازوخي بعيدًا تمامًا عن الشغف الواضح لعشَّاق أفلام كلٍّ من آدم ساندلر وإنجمار بِرجمان (وبالطبع، فإن فرويد كان سيذهب إلى أن ذوَّاقة الجمال المازوخيين يجدون متعةً غير واعية في مشاهدتهم الطقوسية تلك على كل حال).
يركِّز هذا الكتاب اهتمامه على تشكيلة واسعة من الأفلام؛ من الأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة، إلى نُفايات الثقافة الرديئة، وكل ما بينهما. فمصطلح «فن» يَمِيل إلى الإشارة ضمنًا إلى أن شيئًا ما يمتلك صفة خاصة تولِّد تجربة تأمُّلية ذات مغزًى. بَيْدَ أن هذه الصفة قد تكون متوافرة في أكثر أفلام هوليوود ترفيهًا؛ مثل «حرب النجوم» (ستار وُرز)، و«كازابلانكا»، و«ساحر أوز» (ذا ويزارد أوف أوز). إنَّ مسألة تحديد إن كان فيلم ما يُعدُّ فنًّا (يُحفِّز على التفكير) أم ترفيهًا (بمعنى ممتع) هي مسألة لها علاقة بدرجات الفن المختلفة، ويمكن أن تختلف باختلاف نوايا صنَّاع الفيلم، والخصائص الشكلية للفيلم، و/أو موقف الجمهور وسياق المشاهدة. فبعض الأفلام قد تكون أكثر تعقيدًا، وأوسع أفقًا، وأشد تأثيرًا من حيث إمكانياتها الفنية، بَيْدَ أن مثل تلك المزاعم تتعلَّق بالفن الجيِّد في مقابل الفن الرديء، وليس إن كان شيء ما فنًّا أم لا.
(٣) استخدامات حُرَّة لعلم النفس
يميل كثير من الناس ممَّن لم يحصلوا على دراسات أكاديمية في علم النفس إلى الربط بين «علم النفس» وأفكار سيجموند فرويد (الأحلام واللاوعي، على سبيل المثال)، أو بينه وبين علم النفس الإكلينيكي بوجه أعم (الاستشارات والاضطرابات النفسية، على سبيل المثال). وتلك الارتباطات لها أهمية، لكنها ضيِّقة الأفق؛ ذلك لأن علم النفس يغطِّي أيضًا علم النفس العصبي (النشاط الكيميائي للمخ)، وعلم النفس الاجتماعي (سلوك الناس في الحشود)، والإحساس والإدراك (طرائق عمل العين الداخلية)، والتعلُّم (محاكاة أفعال الآخرين)، والإدراك المعرفي (الذاكرة)، والعديد من المجالات والاختصاصات الفرعية الأخرى. أضِفْ إلى ذلك أن علم النفس يتقاطَع مع اختصاصات أخرى في العلوم الاجتماعية؛ مثل علم الاجتماع، وعلم الإنسان، والاتصال. ولأن البشر كائنات بيولوجية، فثمة صلة تاريخية قوية بين علم النفس وعلم الأحياء. وأخيرًا، فإن علماء النفس كثيرًا ما يهتمُّون بالمواضيع نفسِها — العلاقات الاجتماعية، ونتاج الخيال، والطبيعة البشرية — التي يهتمُّ بها الباحثون في العلوم الإنسانية؛ مثل الفلسفة والنقد الأدبي.
ليست جميع المناهج متطابقة ولا متساوية في تحقيق أهداف بعينها. فبعضها قد يكون قائمًا على مجرد لغوٍ ولا يؤدي إلى شيء. ومع ذلك، بإمكاننا أن نفترض باطمئنان أن جميع المناهج التي استخدمها باحثون أذكياء عميقو التفكير على مدار سنوات عديدة لها أساس منطقي. ليس معنى هذا أنها لا تؤدِّي إلى أخطاء على الإطلاق، لكنه يوحي بقوةٍ أن ثمة — على الأرجح — أساسًا منطقيًّا مُلزِمًا «للمناهج في جنونها».
ولهذا، سوف أضع في الاعتبار كلَّ المقارَبات المنهجية الراسخة التي تَزعُم إلقاء الضوء على العلاقة بين الأفلام السينمائية والأفعال البشرية. ويشمل ذلك مناهج تقع في صميم اهتمام علم النفس بوصفه اختصاصًا علميًّا (على سبيل المثال: التجارب المعملية التي يتم فيها التحكُّم بالعوامل وتنويعها بحرص)، بالإضافة أيضًا إلى مناهج أقرب إلى علم النفس بوصفه اختصاصًا إكلينيكيًّا (على سبيل المثال: دراسة حالة يتم من خلالها استخدام الفيلم في علاج نفسي يعتمد على الاستبصار)، والإنسانيات (على سبيل المثال: تأويل فيلم انطلاقًا من نظرية علائقية نِسْوِيَّة). وستتم مناقشة كلِّ واحد من هذه المناهج من حيث مزاياه (ما الذي يُخبِرنا به) وحدوده (ما الذي لا يُخبرنا به). فالاختصاصات التي قد تظهر في البداية على أنها مختلفة وتؤدي إلى نتائج متناقضة، قد يتكشَّف في النهاية أنها محض اختصاصات مختلفة تنظر لجوانب مختلفة من الواقع نفسه. هذه المقاربة للمنهج هي في آنٍ واحد شاملة وتمييزية.
(٤) إطار رمزي لعلم نفس الفيلم
يمكن التوسع في معاني الرموز إلى ما وراء «عالم القصة»، وأن نفهمها بوصفها تمثيلات لأناسٍ، وأماكن، وأفكار ذات صلة ﺑ «العالم الحقيقي»؛ فمثلًا، باستطاعة المتفرِّجين أن يفسِّروا سلاح الجيداي باعتباره رمزًا للبطولة. وهذه التيمة يُمكِن أن تُستخدَم بدورها في تفسير «حرب النجوم» باعتباره فيلمًا عن انتصار الخير على الشرِّ.
إن الرموز لا تنبثق مطلقًا من العدم؛ إذ يتعيَّن على أحدهم أن يبعث فيها الحياة؛ فهي تُخلَق بواسطة صُنَّاع الرموز. ففنانو الجرافيك، والروائيون، والنحَّاتون، حتى مؤلِّفو الكتب الإرشادية التي تَشرَح طُرق تركيب ألواح الأسطح، يُعوِّلون جميعُهم على الرموز لإيصال المعنى. وصنَّاع الأفلام هم نوع آخَر من صنَّاع الرموز. فالمخرجون، والكتَّاب، والممثِّلون، والفنَّانون الآخرون يتعاونون معًا لإنتاج الكيانات الرمزية التي تظهر على الشاشة. وصنَّاع الأفلام يَجلِبون حتمًا إلى الرموز التي يُبدِعونها بعض جوانب من ذواتهم، مشاعرهم الباطنية العميقة، وأنماط سلوكهم الروتينية، وقِيَمهم الواعية، وانحيازاتهم الثقافية التي يأخذونها مأخذ التسليم.
(٥) تنسيق الكتاب
يتناول الفصلان الثاني والثالث تمثيلات الفعل البشري الموجودة «في داخل» الأفلام. فيدرس الفصلُ الثاني تشكيلةً متنوِّعة من السلوكيات البشرية المُمَثَّلة في الأفلام، مع التركيز على المقارَبات التفسيرية (التحليل النفسي الفرويدي، على سبيل المثال) التي تسعى لبلوغ معانٍ أكثر عمقًا، قد لا تكون واضحة بالضرورة للمُشاهد العادي. ويعمد الفصلُ الثالث إلى تضييق نطاق البحث؛ حيث يقدِّم رؤية مكثَّفة للأنشطة المرتبطة في المخيِّلة العامة بعلم النفس كما يتم تصويرها في الأفلام: الاضطرابات النفسية (الفصام، وإدمان الخمور، والنرجسية، إلخ) والتدخُّلات السيكولوجية (العلاج النفسي).
ويبتعد الفصلُ الرابع عن الأفلام باعتبارها أشياءَ، لينظر إلى البشر الذين يُبدِعونها. ماذا يجلب صُنَّاع الفيلم معهم إلى الأفلام، وبأيِّ الطرق يبثُّون جوانب من ذواتهم في إبداعاتهم؟ وبينما من المحتمَل أن يجلب كلُّ العاملين في فيلمٍ ما شيئًا من ذواتهم إلى العمل، فإنني سوف أركِّز على هؤلاء الفنانين الذين تحتلُّ شخصياتُهم الفريدة صدارة المشهد؛ المُخرِجين (الذين يقومون بالاختيارات النهائية على مستوى الصورة والصوت) والممثِّلين (الذين تنطبع هيئاتهم المرئية على الشاشة بحيوية شديدة).
أما الفصول من الخامس إلى التاسع، فتركِّز على الطرف الآخر من الطَّيْف الرمزي؛ المشاهدين الذين يتفاعلون مع صور وأصوات الفيلم. فيُلقِي الفصل الخامس نظرة واسعة على الجمهور، ويتطرَّق إلى أسئلة نفسية اجتماعية؛ مثل: ما أنواع الأفلام التي يُشاهدها الناس؟ مَن يشاهد الأفلام؟ أين ومتي يُشاهِد الناس الأفلام؟ وينظر الفصل السادس إلى «اللحظة السينمائية»: ماذا يحدث «داخل» البَشَر وهم يشاهدون فيلمًا ما؟ فالمشاهدون عليهم أن يُدرِكوا الصُّوَر إدراكًا حسيًّا ويستوعبوها لكي يفهموا عن أي شيء تتحدَّث القصة. وفي الوقت نفسه، تتضمَّن مشاهدة فيلم ما قدْرًا هائلًا من المشاعر، ويمكنها أن تُثِير مشاعر حادَّة من الخوف، والبهجة، والحزن.
يلتقط الفصلُ السابع طرف الخيط بعدَ أن ينتهي عرض الفيلم، رغم أنه يواصل «العيش» في ذكريات المشاهدين وعملياتهم التأمُّلية المستمرَّة بلا انقطاع. فبعد مغادرة دار العرض، كثيرًا ما يعمد المشاهدون إلى تقييم تجربة المشاهدة؛ جيد في مقابل رديء؛ ممتع في مقابل غير ممتع؛ مُقبِض في مقابل مثير للبهجة. وأحيانًا يقضي المشاهدون بعض الوقت في تفسير الفيلم باستفاضة أكثر، وتأمُّل تيماته أو الطريقة التي يعكس بها عالَم الواقع.
ويركِّز الفصلان الثامن والتاسع على النتائج المترتِّبة على مشاهدة الأفلام: هل تُغيِّر الأفلام من أفكار وسلوكيات الجمهور؟ يتناول الفصل الثامن الدليل على أن الأفلام بإمكانها أن تؤثِّر على سلوك وتفكير بعض الناس لبعض الوقت، حتى لو لم يدركوا أن للفيلم تأثيرًا عليهم. ويسلِّط الفصل التاسع الضوء على الطُّرق التي تَعمَل بها الأفلام ﮐ «وسائل للعيش»، تلك المواقف التي يَستخدِم فيها الناس الأفلام بطريقة بها «وعي ذاتي» بهدف تعزيز التعليم، والعلاج، وتطوير الهُوية.
وأخيرًا، يعمد الفصلُ العاشر إلى تجميع كل تلك الأجزاء معًا لينظر في الكيفية التي تتفاعل بها المقاربات العديدة لعلم نفس الأفلام بعضها مع بعض. وستقدِّم لنا تلك البانوراما المركَّبة من وجهات النظر صورةً ديناميكية ثَرِيَّة للدَّوْر الذي يلعبه الفيلم في المجتمع وحياة الأفراد.
(٦) قراءات إضافية
-
Munsterberg, H. (1970) The Film: A Psychological Study. Dover, New York, NY. Sternberg, R. J. and Grigorenko, E. L. (2001) Unified psychology. American Psychologist, 56 (12), 1069–1079.
-
Werner, H. and Kaplan, B. (1984) Symbol Formation. Lawrence Erlbaum, Hillsdale, NJ.