خاتمة: الصورة الكاملة
كان صيف ١٩٧٧م نقطة تحوُّل في حياتي. كنتُ في العاشرة من عمري، عالقًا بين الطفولة والمراهقة، تلك المرحلة التي جسَّدها بدقة فيلم «قِفْ بجانبي» (ستاند باي مي). كنتُ أعيش، منذ سِنِّ الخامسة، في قاعدة عسكرية أمريكية صغيرة بمدينة شتوتجارت بألمانيا، ثم صدر قرار بعودة والدي، الذي كان ضابطًا بالجيش، إلى الولايات المتحدة.
رغم أنه لم يكن لديَّ إلا بضع ذكريات قليلة عنها، كانت أمريكا بالنسبة إليَّ وإلى أصدقائي أرضَ الميعاد. فكل ما يَمَسُّه البريق الأمريكي كان يكتسب على الفور مسحة سحرية؛ فعلبة من حلوى بيكسي ستيكس أرسلها جدَّانا من هناك كان يمكن أن تُبَاع لقاء ٥٠ سنتًا للقطعة الواحدة، أو تتم مبادلتُها بكل أنواع البضائع المهرَّبة.
وقتئذٍ كنتُ عائدًا مرة أخرى إلى تلك الأرض الأسطورية، ورغم شعوري بالإثارة الشديدة، كانت تلك النقلة الوشيكة مُخيفة. فقد كانت القاعدة العسكرية مكانًا حالِمًا ترعرعت فيه، وكان لنا — باعتبارنا أطفالًا — مُطلَق الحرية في التجوال حتى أحد جانبي البوابات في جماعات صغيرة، فضلًا عن الغابات الشاسعة التي لا نهاية لها على الجانب الآخر من بواباتها؛ لذا فقد غمرني شعور بالأسَى والخوف لمغادرتها.
وقبل أسابيع قليلة من موعد الرحيل، بينما كنت أشاهد المحطة التليفزيونية الوحيدة الناطقة بالإنجليزية هناك، رأيتُ خبرًا عن فيلمٍ أثار ضجة كبيرة في الولايات المتحدة في ذلك الحين. كان ثمة أمريكيون حقيقيون، في مدينة أمريكية حقيقية، مصطفِّين في طوابير طويلة لشراء تذكرة للفيلم، الذي رأيتُ مقتطَفًا منه يُصوِّر سفينة فضاء غريبة الشكل تَهرَب بشِقِّ الأنفس من كوكب عجيب. كانت هناك أسلحة تعمل بالليزر، وأشرار يرتدون دروعًا بيضاء، وقِرْد مُشعِر هائل الحجم، ورجل في حلَّة سوداء من الواضح أنه كان الأكثر رباطةَ جأشٍ من بين جميع مَن عاشوا على سطح أيِّ مجرة منذ بدء الخليقة. كنتُ مفتتَنًا؛ ففكرة أنه في غضون أسابيع قليلة سيكون بوسعي مشاهدة هذا الفيلم — بدلًا من الانتظار سنةً كاملة حتى يصل إلى دار العرض الملحَقة بالقاعدة العسكرية، التي دائمًا ما تتأخَّر في عرض الأفلام الجديدة — أشعلتْ حماسي.
بعد وداع أصدقائي والوطن الوحيد الذي عرفتُه حتى وقتئذٍ، بدأ شعوري بالإثارة لمشاهدة «حرب النجوم» يخفِّف من وطأة شعوري بالقلق ويساعدني على تركيز انتباهي. وكان من أوائل الأشياء التي قامت بها عائلتي، بمجرد وصولنا لكولورادو سبرينجز والانتهاء من تفريغ حقائب السفر، هو الذهاب إلى المركز التجاري الجديد المتلألئ الذي توجد به دار عرض. ورغم أن «حرب النجوم» كان موجودًا في دُور العرض منذ بضعة شهور، فإنه كان علينا الوقوف في طابور أمام شباك التذاكر لمدة ساعة فيما راح شعوري بالإثارة والترقُّب تتصاعد حِدَّتُه.
وأخيرًا حانت اللحظة. وبينما كانت العناوين الافتتاحية تُعرَض على الشاشة، راحت موسيقى جون ويليامز توقظ شيئًا في داخلي. كانت المعارك الفضائية واقعية بصورة مذهلة، والشخصيات آسِرة، جديدة لكنْ مألوفة أيضًا. وراحت المخلوقات الغريبة تتقافز على الشاشة بسرعة أكبر بكثير من قدرتي على الاستيعاب. واللمحات التي تراءتْ لي من دارث فيدر، بقِنَاعِه وقامتِه المديدة، كانت مثيرة ومروِّعة. ومن حين لآخر، في اللحظة الملائمة تمامًا، كانت الأجواء المتوتِّرة يعقبها هدنة كوميدية مهدِّئة؛ حيث ينفجر المشاهدون في الضحك (هان سولو عقب إطلاق النار على جريدو: «عذرًا لِما سبَّبتُه من فوضى»). وفي النهاية، فعلت الشخصيات ما كان يتوجَّب عليها فعلُه؛ حيث آمن لوك ﺑ «القوة»، وعثر هان على الخلاص. لقد استحوذ «حرب النجوم» على مخيِّلتي بصورة لم يفعلها أي شيء آخر شاهدتُه من قبل.
لقد أصبح الفيلم الشيء الذي يمثِّل نقطة التحول في حياتي؛ حيث ساعدني على التواصل مع موطني الجديد، والعديد ممَّا كنتُ أقوم به من أنشطة كان يمرُّ من خلاله. وقبل انتهاء فترة عرضه الأولى، ألحَحْتُ على والدتي لكي تأخذني أربع مرات أخرى لمشاهدته (كان هذا من جانبها تدليلًا لا يمكن تخيُّلُه). ابتعتُ المجلات، وبطاقات علكة الفقاقيع، ومجموعات الدُّمَى الصغيرة التي تمثِّل شخصيات الفيلم. وقد شكَّلت تلك الأشياء ملعبًا مشتركًا لإقامة صداقات جديدة.
عندما أَستعيد ذكريات تلك الفترة، يبدو لي أن ولعنا الجارف بفيلم «حرب النجوم»، في أوْج مرحلة المراهقة، لم يكن مصادفة؛ حيث كان وعيُنا البازغ بذواتنا بصدد تحويل حياتنا الداخلية المؤلَّفة من وقائع مفكَّكة إلى كيان مترابط وملحمي. كانت تلك هي المرة الأولى، حسبما أتذكَّر، التي بدأتُ فيها أتأمل الخير والشر، وقطعتُ عهدًا على نفسي ألا أفعل سوى الصواب. وفي مدارس الأحد، بينما كان المعلِّم يُحدِّثنا عن الروح القدس، تراءى لي ما شعرتُ أنه قد يكون كشفًا دينيًّا عميقًا؛ فقد أشرقتْ في ذهني فكرةُ أنَّ ما كان المعلِّم يحدثنا عنه هو في حقيقة الأمر «القوة». ورغم أن الأفلام التي كنتُ سوف أشاهدها فيما بعد — مثل «المحتال» (ذا هسلر)، و«الوهم الكبير» (جراند إيلوجن)، و«الإغواء الأخير للمسيح» — كانت ستقدِّم تناوُلًا أكثر تعقيدًا للمسائل الروحية والأخلاقية، فإن «حرب النجوم» كان أول فيلم يَلْفِت انتباهي لتلك الأمور.
لعب العديدُ من شخصيات الفيلم دورًا هامًّا في حياتي، لكني أتذكَّر أن شخصية الأميرة ليا أثَّرتْ فيَّ بوجه خاص. كانت جذَّابة بطريقة غريبة (تسريحة شعرها على شكل كعكة على جانبَي رأسها!) لكنها شديدة الاختلاف عن حسناوات أفلام الحركة الأخرى (فتيات بوند على سبيل المثال) اللواتي كُنَّ يُؤجِّجْنَ رغباتي في مرحلة ما قبل المراهقة. لم تكن ليا تتصرَّف على النحو المتوقَّع منها. وقد وجدتُ نفسي متماهيًا معها إلى حدٍّ ما؛ كان من المنطقي أن تلتقط عبوة ناسفة وتبادر بأخذ زمام الفعل بدلًا من الجلوس مكتوفةَ الأيدي انتظارًا لما سوف تفعله الشخصيات الذكورية في الفيلم. إنني أميل إلى الاعتقاد أن الفضل في تفهُّمي للأفكار النسوية الأساسية عند اطِّلاعي عليها للمرة الأولى يعود إلى ليا.
والتأثير غير الواعي قد يكون أكثر قوَّةً من ذلك. ففي فصل دراسي كنتُ أقوم بتدريسه بالاشتراك مع زميل لي، ألقيتُ محاضرة حول الأميرة ليا باعتبارها «أيقونة شبه نسوية». فابتسم زميلي وأضاف: «حسنًا، بالطبع أنت تعتقد أن ليا شخصية مشوِّقة؛ فهي زوجتك.» لوهلة قصيرة اعتراني الذهول، لكن بمجرد أن عقدتُ مقارنة سريعة بين ليا وزوجتي، اتَّضَح لي أنه مُحِقٌّ.
غير أن ذكرياتي عن «حرب النجوم» ليستْ طيبةً كلُّها؛ ففي ذروة افتتاني به، أُصِبتُ بالأنفلونزا وارتفعتْ درجة حرارتي ارتفاعًا كبيرًا. وفي الأثناء، حلمتُ بأنني موجود في قاع أنبوبة مضادة للجاذبية، وكنتُ أعرف أنني لو حاولتُ القفز صاعدًا بداخلها فإنني «سأسقط» إلى أعلى وأصطدم بالسقف الذي يحمل شعار فيلم «حرب النجوم». وكان هناك صديق يُحاوِل منعي، لكنني أصررتُ على القفز رغم كل شيء. استيقظتُ صارخًا، مشوَّش الذهن، وغارقًا في العرق. كان من الواضح أن صور الفيلم تسلَّلتْ إلى قَرارة نفسي بطُرق لم تكن مبهِجة تمامًا.
السبب في استمرار شغفي بفيلم «حرب النجوم» حتى اليوم يعود جزئيًّا إلى أنني لستُ الوحيد الذي لا يزال يحمل له تقديرًا. فقصتي تكاد تكون قصة نمطية للجيل إكس. فعندما أَجريتُ مقابلات مع أشخاص حول الأفلام التي كان لها تأثير قوي عليهم، كان «حرب النجوم» يُذكَر أكثر من أيِّ فيلم آخَر (على لسان الرجال والنساء على حدٍّ سواء). وبالإمكان تفسير تلك التجربة المشتركة، جزئيًّا، بالتيمات الراسخة التي استخدمها لوكاس في الفيلم. فهي تجربة لم تَظهَر إلى الوجود من فراغ سردي وسينمائي. فقد اعتمد صُنَّاع الفيلم على تقنيات مستخدَمة في أفلام الغرب، وسلاسل أفلام المغامرات، وغيرها من أفلام الحركة والمغامرات. لم تكن عناصر التجديد والابتكار (المؤثِّرات الخاصة المتقدِّمة للغاية، والروبوتات المرحة، و«أوبرا الفضاء»، إلخ) هي العامل الحاسم في الفيلم بقدْر ما كانت التيمات الموجودة في هوليوود وفي المخيِّلة البشرية قبل زماني بفترة طويلة.
ومع ذلك، كان فيلم «حرب النجوم» ابن زمانه إلى حدٍّ بعيد؛ فقد أثار ضجة كبيرة عند عرضه في أواخر السبعينيات، وساعد في التهدئة من روع الروح الأمريكية التي أنهكها عصر ما بعد فيتنام. كان الفيلم مؤشِّرًا على (أو تسبب في) اتجاه جديد في عالم الترفيه الأمريكي السائد، أصبحتِ الأفلام فيه أكثر ميلًا للهروب من الواقع والانفصال عنه. كما أن الفيلم أرسَى معايير ثابتة للسلع السينمائية. فالدُّمَى التي تمثِّل شخصيات الأفلام، والبطاقات المصوَّرة، والشعارات التي تُلصق على القمصان القصيرة، كانت جميعها طرقًا حاولتُ بها أنا وأصدقائي استحضارَ السِّمات الأسطورية للفيلم في سياق حياتنا اليومية. والنجاح الذي حقَّقه هذا المسعى شجَّع بصورة واضحة على قيام تلك الشراكة بين السينما وتجارة السلع التي تتمتع اليوم بحضور طاغٍ.
ومع مرور السنوات، بدأ شغفي ﺑ «حرب النجوم» يفقد حِدَّته الأولى ويتحوَّل إلى تقدير دائم. وظلَّت أصداء صُوَرِه تتردَّد في وجداني؛ لوك وهو يتطلَّع إلى قرصَيِ الشمس التوأمَيْن الغاربَيْن؛ المواجهة الحاسمة بالسيوف الضوئية بين دارث فيدر وأوبي وان؛ ليا في ثوب أبيض تحمل عبوة ناسفة؛ إلخ. ومع بلوغي منتصف العمر، من الواضح أن تلك الأفكار حول الخير والعناية الإلهية والرجال والنساء، وأشياء أخرى كثيرة، باتت ممتزجة مع شخصيتي وقِيَمي وخلفيَّتي. لقد أصبح «حرب النجوم» جزءًا مني، بالمعنى الحرفي للكلمة.
(١) دعوة لإجراء أبحاث متداخلة الاختصاصات
اخترتُ أن أُدرِج هذا التأمُّل الشخصي حول «حرب النجوم»؛ نظرًا لما يحتويه من عناصر من جميع فصول الكتاب. فهناك أمثلة على التفسيرات التي استعرضناها في الفصل الثاني؛ «حرب النجوم» باعتباره انتصارًا للخير على الشر، أو بلسمًا للجراح الثقافية التي تسبَّبتْ فيها حرب فيتنام. وإذا لم يكن هناك وجود لاختصاصيي الصحة النفسية في تلك المجرَّة النائية، فهل ما قدَّمه أوبي وان من توجيه وإرشاد للوك يبعد كثيرًا عما يقوم به الاستشاريون ذوو القلوب الرحيمة الذين ناقشناهم في الفصل الثالث؟ وتجسِّد قِيَم لوكاس الشخصية هذا التداخل بين الفنانين وفنِّهم (الفصل الرابع)، في حين أن النجاح الذي حقَّقه الفيلم، على مستوى الإيرادات والنجاح الجماهيري على حدٍّ سواء، يمثِّل ظاهرة مثيرة للانتباه تتعلَّق بتفضيلات الجمهور (الفصل الخامس). ويستكشف الفصل السادس الجوانب السردية والشعورية للأفلام، وهو ما عايشتُه بطريقة مكثَّفة عندما شاهدتُ الفيلم للمرة الأولى. وعلى مدار السنوات، واصلتُ بلا انقطاع تأمُّلي في الفيلم وإعادة تقييمه (الفصل السابع)، وهو ما كان له أعمق الأثر على حياتي ولعب دورًا هامًّا في النهاية في تطور شخصيتي (الفصلان الثامن والتاسع).
- المشاهدون يتفاعلون مع الفيلم: حتى وإنْ كنتُ أعتقد أن «حرب النجوم» فيلم رائع، فإنني أُدرِك أن هناك أناسًا لا يَعني لهم الفيلم شيئًا على الإطلاق. فبعض الأفلام تتحدَّث إلينا في لحظات مختلفة من حياتنا في حين أن هناك أفلامًا أخرى لا تفعل ذلك. فقد شاهدتُ فيلم «فتاة الوداع» (ذا جودباي جيرل) بعد «حرب النجوم» بفترة غير طويلة، لكنني لا أتذكر شيئًا منه.4 فقد كان ببساطة يفتقر إلى تلك الأشياء التي قد تُلهِم صبيًّا في العاشرة من عمره.
- صنَّاع الأفلام يتفاعلون مع أفلامهم: فهم يكتبون الحوار، ويمثِّلون، ويوجِّهون الكاميرا؛ وكل ذلك يضيف إلى الفيلم. فلم يكن بمقدور أيِّ صانع فيلم أن يُبدِع «حرب النجوم» سوى مبدِعِه؛ فتلك مهمة تطلَّبتْ جورج لوكاس وشواغله الشخصية (فضلًا عن فظاظة هاريسون فورد اللازمة لتجسيد شخصية هان؛ وهيبة جيمس إيرل جونز اللازمة للتحدُّث بصوت فيدر؛ فضلًا عن شغف فريق المؤثِّرات الخاصة لجعل نموذج نجم الموت يبدو في حجم القمر).
- المشاهدون يتفاعلون مع صنَّاع الأفلام: عَرْض الفيلم على الشاشة هو الحيِّز الذي يلتقي فيه صنَّاع الفيلم جمهورَ المشاهدين، ليس وجهًا لوجه، لكن رمزيًّا، وهي علاقة غير مباشرة لكنها قوية. فقد كنتُ معجَبًا بلوكاس أيما إعجاب، وهو شخص لم أقابله قطُّ في حياتي، لكن عبَّر بعض معجبيه فيما بعدُ عن سخطهم عليه عندما قام بإدخال تعديلات على حقوق ملكية الأفلام التي أحبُّوها. ويبدو أن لوكاس نفسه أصبح يحمل مشاعر متناقضة تجاه جمهوره: فهو يقدِّر تمامًا ولَعَهم به، لكنه يتخذ موقفًا دفاعيًّا تجاه هؤلاء الذين يحاولون أن يُملُوا عليه ما يتعيَّن عليه عملُه.
كل تلك الخيوط والعمليات تلتئم جميعها معًا، وكلما نجحنا في إدراك هذا التداخل بينها (على سبيل المثال، كلما أَوْلى التجريبيون عناية أكبر بالجماليات، وأبدى النقَّاد استعدادًا أكبر لأخذ التجربة الفعلية للجمهور في الاعتبار)؛ ازدادت دراسات علم النفس والفيلم ثراءً.
(٢) الأفلام باعتبارها فنًّا
علاوةً على مزيَّة تناول علم نفس الأفلام من زوايا نظر متعددة، تتمثَّل رسالتي النهائية الأخرى في أن الأفلام ذات سطوة؛ ومن ثمَّ ينبغي التعامل معها بحرص، لكن مع تطبيق إمكانياتها الإيجابية. فأنا أريد أن أصنع إطارًا لمقارَبة نفسية للفيلم لا يساعد القرَّاء على فهم الأفلام فقط، بل على تطبيق إمكانياتها أيضًا.
وفي أحيانٍ أخرى، يتجاوز الحافز وراء استخلاص المعنى من وسائل الإعلام تخفيف الآثار السلبية. فمَن يدافعون عن استخلاص المعنى من المادة المكتوبة يركِّزون على فوائده للمواطنين في مجتمع ديمقراطي (قراءة اللافتات المرورية، فهم القوانين، المشاركة في الانتخابات، إلخ). وبالإمكان تطبيق نفس الحُجَّة في حالة الإعلام المرئي الذي يمزج بين الكلمات والأصوات والصور. ويعتقد المدافعون عن ضرورة استخلاص المعنى من وسائل الإعلام أن وسيلة مثل الفيلم هي أداة يستخدمها المجتمع المعاصر في تنظيم نفسه والتواصل بين أفراده، وأنه لكي يتمكَّن من العمل بكفاءة وبطريقة مثمرة، ينبغي على الناس تعلُّم كيفية تفسير منتجات الإعلام تفسيرًا دقيقًا.
لكن تلك الرؤية لا يزال ينقصها شيء. فمِن خلال تناولنا للخصائص الرمزية المتضافرة للأفلام وصنَّاع الأفلام والمشاهدين، بإمكاننا أن ننظر إلى الأفلام باعتبارها أكثر من مجرد مصادر خطر، وأكثر أيضًا من مجرد وثائق ثقافية نحتاجها لكي تساعدنا على الفهم. فالكلمة المكتوبة، على أي حال، تتيح للناس أن يفعلوا ما هو أكثر من مجرد استنساخ وَصَفات الطعام وقراءة الكتيِّبات الإرشادية؛ فهي تمنحنا القدرة على إبداع الملاحم، والروايات، والقصائد. إن الأفلام تعلِّم وتسلِّي، لكنها أيضًا أشكال من الشعر السردي والمرئي. ويمكن أن تكون مزعجة وجميلة، وأن تُلهِم العقول وتُضيئها. وشأن كل أنواع الفنون، يمكن للأفلام أن تكون خطيرة، لكنها هِبة أيضًا؛ هِبة خطيرة تستطيع أن تدمِّرنا وأن ترتقي بنا.