«عندما يطرق سمعَك مصطلحُ «الاضطراب النفسي»، ما أول صورة تقفز إلى ذهنك؟»
قد تفكِّر في صديق خاض صراعًا مع القلق، أو لعلك عملتَ في مستشفًى كان بعض مرضاه يُعانون
من الاكتئاب. بَيْد أنني لن أراهن على مثل تلك الأنواع من الاستجابة. فأول ما سيقفز إلى
ذهنك سيكون، على الأرجح، صورة أنتوني بيركنز في دور نورمان بيتس في فيلم «سايكو»، بعينَيْه
الداكنتَيْن اللتين تتحرَّكان بعصبية جيئةً وذهابًا بسرعة شديدة. أو لعلك تستحضر شخصية
ميلفين يودال التي أدَّاها جاك نيكلسون في فيلم «أفضل ما يمكن الحصول عليه» (آز جود آز
إت
جيتس)، وهو ينتقي قطعة من الصابون مغلَّفة بطريقة خاصة، ويغسل يديه بعناية شديدة، ثم
يُلقِي
بالصابونة نفسها في سلَّة المهملات. أو ربما يتراءى لك راسل كرو في دور عالِم الرياضيات
جون
ناش في فيلم «عقل جميل» (أ بيوتيفول مايند) وهو يجهش بالبكاء على أرضية حمَّامه بعد أن
كاد
يُغرِق طفلَه حديثَ الولادة.
«عندما تسمع مصطلح «عالِم نفس»، ما أول ما يَخطُر ببالك على الفور؟»
لعلك تتذكَّر استشاريًّا قدَّم لك يدَ العَوْن خلال فترة عصيبة من حياتك، أو أستاذًا
درَّس لك عِلْم النفس في المرحلة الجامعية. مرة أخرى، تلك تداعيات محتمَلة، لكنك على
الأرجح
ستفكِّر في الطبيب النفسي المتبجِّح الذي ظَهَر في نهاية فيلم «سايكو» ليشرح مرة واحدة،
وعلى نحو حاسم، ما حدث بالفعل في فندق بيتس. أو لعلك تتخيَّل صورة روبين ويليامز في دور
الدكتور شون ماجوير في فيلم «ويل هانتنج الطيب» (جود ويل
هانتنج)؛ حيث كان معالِجًا نفسيًّا صادقًا وجيَّاشَ
العاطفة بصورة جامِحة إلى حدِّ أنه لا يَجِد غضاضة في خنْق مريضِه الجانح من أجْل كسْب
احترام المُجرِم الصغير. أو ربما تستحضر صورة بِن كينجسلي في دور الدكتور جون كولي في
فيلم
«جزيرة المصراع» (شاتر آيلاند)، مدير مصحَّة للأمراض النفسية الذي يقدِّم نفسَه كشخص
عطوف
وتقدُّميٍّ، لكنه يُخفِي فيما يبدو وجهًا أشدَّ خطورةً.
نستكمل في هذا الفصل تناولنا لعلم النفس «في» الأفلام، لا سيما تلك الجوانب منه التي
تحتل
مكان الصدارة في المخيِّلة العامة؛ الاضطرابات النفسية وتلك المتعلِّقة بالعلاج النفسي.
وتقدِّم التجربة الذهنية السابقة دليلًا ساطعًا على قَدْرة الأفلام على تشكيل الطُّرق
التي
يَرَى بها الناس تلك الجوانب من علم النفس. قبل عِدَّة سنوات، عملتُ في مشروع لدراسة
صورة
اختصاصيي الصحة النفسية في الأفلام، وقد وجدتُه موضوعًا مثيرًا للفضول، لكنه هامشي نوعًا
ما
بالنسبة إلى علم النفس الإكلينيكي، وإلى حدٍّ كبير مجرَّد ذريعة للجمع بين اهتمامي بالأفلام
وعملي العيادي، فضلًا عن مشاهدة الكثير من الأفلام في هذه الأثناء. ومنذ ذلك الحين، نَمَا
لديَّ اعتقاد أن صورة علم النفس في وسائل الإعلام ذات أهمية بالغة بالفعل، وذلك بالنظر
إلى
تأثيرها على الطريقة التي يَفهَم بها قسمٌ هائل من الجمهور العام علمَ النفس، مهما كانت
الآثار المترتبة على ذلك.
(١) صور الاضطرابات النفسية
يحملنا التفكير بالاضطرابات النفسية إلى تلك الحافة المُخِيفة لآلية عمل النفس
البشرية؛ حيث البشر «يُخطئون» التصرُّف، ولا يتصرَّفون بالطريقة التي يُريدها منهم
الآخرون، و/أو تلك التي يعتقدون أنه يتعيَّن عليهم التصرف بها. إنَّ مملكة الاضطرابات
النفسية أو «الجنون» هي الجانب المُظلِم المحتوم لمجال الصحة النفسية، فلولا احتمال
وقوع اضطرابات نفسية، لما أصبح مجال الصحة العقلية أمرًا ضروريًّا.
من المؤكَّد أن الجنون مملكة يَجِد فيها صُنَّاع الأفلام، على ما يبدو، متعةً خاصة،
والفيلم وسيلة ممتازة لتجسيد تلك المملكة تجسيدًا حيًّا. وشخصية الجوكر في فيلم «فارس
الظلام» (ذا دارك نايت) مثال ممتاز على ذلك؛
1 فالممثل هيث ليدجر (الذي حصل، عقب وفاته، عن دَوْرِه فيه على جائزة أوسكار
لأفضل ممثِّل مساعد)، والمخرج كريستوفر نولان، وبقية صُنَّاع الفيلم، قاموا جميعُهم
بحشْدِ ما بحوزتهم من وسائل تقنية ورمزية لتجسيد جنون الجوكر. فنجد أولًا أن الطريقة
التي تتحدَّث بها عنه الشخصيات الأخرى في الفيلم تُوحِي بذلك؛ حيث يستخدمون مفردات مثل
«غريب الأطوار»، «مجنون»، «قاتل سيكوباتي»، و«رسول الفوضى». أضِفْ إلى ذلك ما يتَّسِم
به مظهرُه الخارجي من غرابة (شعر أخضر أشعث، بدلة ذات لون أرجواني فاقع، وجْه مطلي
بالأبيض، فضلًا عن لطخات من أحمر الشفاه حول شفتيه المجروحتين)، وهو ما يتم إبرازه من
خلال لقطات مُكبَّرة وزوايا كاميرا غريبة. وكثيرًا ما يكون ظهورُه مصحوبًا بموسيقى
متنافرة النغمات، مع التأكيد على ما يمثِّله من فوضى عبر مونتاج سريع ومُربِك يُستخدَم
كثيرًا في المشاهد التي يَظهَر فيها. إن جنونه «محدَّد بشكل مضاعف»؛ أيْ إنه يستحيل على
أيِّ شخص ألَّا يُلاحِظه.
لا جدال في أن تجسيد شخصية الجوكر في «فارس الظلام» كان آسِرًا وأدخَل الفيلم في
زمرة
الأفلام الجيدة الصُّنع. ولكونه أَبْرَزَ ملامحَ فيلم من الأفلام التي حقَّقت أعلى
الإيرادات في تاريخ السينما، حَظِي الجوكر بمشاهدة مئات الملايين من المتفرِّجين من
جميع أنحاء العالم. وهو، بالطبع، ليس التجسيد السينمائي الوحيد للجنون المُتَاح
للاستهلاك الجماهيري؛ فقد حَظِيتْ تلك التجسيدات باهتمام واسع من جانب علماء النفس
والأطباء النفسيين. وكتاب «جنون وسائل الإعلام: الصور العامة للمرض النفسي» لأوتو وال،
يذكر ما يزيد على ٤٠٠ فيلم روائيٍّ، تمَّ تسويقُها للجمهور صراحةً باعتبارها أفلامًا
عن
المرض النفسي.
2
إن المرض النفسي قضية محلُّ جدل واسع: ما طبيعته؟ مَن المخوَّل بتشخيصه؟ كيف يجب
التعامُل معه؟ وحتى ما التسمية التي يجب أن نُطلِقها عليه؟
3 لا عجب إذن أن يُثار جَدَلٌ واسع حول طريقة تصوير المرض النفسي دراميًّا في
الأفلام والوسائط الأخرى؛ فلقد ظلَّ الأطباء النفسيون وعلماء النفس وغيرهم من اختصاصيي
الصحة النفسية، لزمن طويل، يشعرون بالقلق ممَّا تتَّسم به تلك النوعية من الصور من
مبالغة، وتناقُض، وعدم دقَّة، فضلًا عن تأثيرها المدمِّر المحتمَل على مَن يعانون من
مشاكل نفسية حقيقية، وعن كونها تُعرقِل ما يَبذُله اختصاصيو الصحة النفسية من محاولات
لعلاج أناس أظهَرَ التشخيص أنهم يعانون من مثل تلك الاضطرابات. فمع اقتحام الجوكر،
بتصرُّفاته العنيفة، وأطواره الغريبة، ووجهِه الشائه، للوعي العام، بدأ اختصاصيو الصحة
النفسية يَقلَقون من أن هذه الصورة صارت تمثِّل الآن «مصدرًا لإنتاج المزيد من الصور
المسيئة».
4
يروق لصُنَّاع الأفلام التلاعُب بالسلوكيات المرتبطة بالمرض النفسي. فهم يعملون في
مجالٍ يقوم على الإثارة وبَيْع التذاكر، ويعرفون أن غالبية الجمهور ليسوا علماء نفس،
ومن ثم لن يعترضوا على ما يشوب صور الأفلام من عدم الدقَّة، بَيْد أن عدم الدقة هذه
والانحرافات عن الواقع تُثير انزعاجًا كبيرًا بين المشاهدين المشتغلين بعلم
النفس.
لا يحتاج المرء إلى المضيِّ بعيدًا لكي يعثر على أمثلة للأفلام التي تتحرَّر من
مقتضيات الواقع عندما يتعلَّق الأمر بالمرض النفسي. فالأفلام الكوميدية التي تتسم
بالفجاجة والسوقية مثل «أنا ونفسي وآيرين» (مي، ماي-سيلف، آند آيرين) لديها رغبة شديدة
في السخرية من كلِّ صور الضعف البشري، في حين أن أفلام الرعب لديها رغبة شديدة في
استغلال كل المخاوف الإنسانية. وينطبق هذا أيضًا على الجوكر. فأنا لم أرَ ولم أسمع قط
عن مريض واحد مثله، وعلى قناعة كاملة بأنه لا يوجد في كتب علم النفس حالة واحدة لزعيم
عصابة يرتدي زيَّ مهرِّج ليُدير أعماله.
5
بإمكاننا العثور على تجسيدات غير دقيقة للمرض النفسي، حتى في أيقونات سينمائية راسخة
مثل نورمان بيتس. فقد احتلَّ «سايكو» المرتبة الرابعة عشرة في قائمة معهد الفيلم
الأمريكي لأفضل الأفلام في تاريخ السينما (انظر الملحق «ب»)، فضلًا عن أنه فيلمي
المفضَّل.
6 لكننا مهما حاولنا توسيع خيالنا، فلن نجد في الفيلم تجسيدًا واقعيًّا لصورة
معروفة من صور المرض النفسي. إن هذا التأكيد يتعارض مع الانطباع الذي تعطيه نهاية
الفيلم، عندما يَظهَر الطبيب النفسي فريد ريتشمان (سايمون أوكلاند) فجأةً «فقط ليشرح»
سلوك نورمان لجمهور من المفترض أنه يُعاني من الحَيْرة؛ فيوضِّح أن الحالة التي يُعانِي
منها نورمان هي اضطراب تعدُّد الشخصية كما كانت تُسمَّى في ذلك الوقت، أو اضطراب
الهُوية الانشقاقي، كما يُسمَّى الآن.
7 فنورمان قام — بحسب الدكتور ريتشمان — بتجسيد كلٍّ مِن شخصيته وشخصية
أمِّه. فبَعدَ أنْ قَتَلَها هي وعشيقَها في ثورة غَيْرةٍ، قام بإخراج جثَّتها من القبر
وتحنيطها، ثم بدأ في الانخراط في محادثات مع الجثَّة، متنقلًا بين صوته الخاص ومحاكاة
لصوت أمِّه. فالأمر — بحسب الدكتور ريتشمان — مفهوم تمامًا (رغم أن تفاصُحه
الكاريكاتوري دليل على أنه ينبغي ألَّا يؤخَذَ على مَحمَل الجد).
والواقع أن سلوك نورمان بيتس يُخالِف المعايير التي وضَعَها الطب النفسي لمرض اضطراب
الهُوية الانشقاقي في العديد من النقاط الجوهرية: (١) المصابون باضطراب الهُوية
الانشقاقي «لا» يُحاكون شخصيات أفراد بعينهم يعرفونهم؛ فقد يتقمَّصون شخصيات متنوِّعة
لكن ليست شخصية أحَدٍ موجود بالفعل. (٢) الشخصيات المختلفة لا تتحدَّث بعضها مع بعض
(والحقيقة أن الفكرة الأساسية في الانشقاق تتمثَّل في أن الأجزاء المختلفة تكون منفصلة
بعضها عن بعض وتتجنَّب التفاعُل فيما بينها، وفي بعض الحالات لا تتشارك حتى في
الذكريات). (٣) الأشخاص المصابون باضطراب الهُوية الانشقاقي بوجْه عام ليسوا ذُهانيين
(لا يعانون من انفصال كبير عن الواقع)، وعلى الأرجح لن يُصدِّقوا أن هناك جثَّة محنَّطة
تسري فيها الحياة.
8
لا يبدو أن هيتشكوك معنيٌّ بوجه خاص بتوخِّي الدقة في العديد من مستويات الواقع؛
سواء
من حيث معايير التشخيص النفسي؛ أو الأحداث في حياة مصادر الإلهام الواقعية
للفيلم؛
9 أو حتى عادات موظَّفي الفنادق الذين يعملون في الورديات الليلية.
10 ومن هنا، فإننا لو حَكَمنا على فيلم «سايكو» وفق تلك السمات الواقعية،
لأمكننا اعتباره عملًا فاشلًا. لكن، بالنظر إلى هدف هيتشكوك المعلَن (اللعب على الجمهور
«باعتبارهم آلة أرغن»)،
11 فإن الفيلم حقَّق نجاحًا ساحقًا (وإن كان ذلك بطريقة سادية). تنطوي الأفلام
من نوعية «سايكو» على نوع من المقايضة؛ ففي سعْيِها إلى رفْع الحِدَّة «الدراماتيكية»
للاضطرابات النفسية، تعمد تلك الأفلام إلى تشويه الواقع «المادي».
وهناك مجموعة محدَّدة من الصور المشوَّهة لأمراض نفسية حقيقية استخدمها صنَّاع
الأفلام بكثرة، يمكن تصنيفُها في عدد من أنماط الشخصية:
12
- القاتل المهووس: كثيرًا ما يُقدَّم نورمان بيتس باعتباره نموذجًا للقاتل المهووس في
السينما الحديثة، بَيْد أن هذه الشخصية تبلغ ذروة الإفراط في التبسيط
مع شخصية مايكل مايرز، وهو مريض عقلي هارب يرتكب جرائم قتْل لأسباب
عشوائية تمامًا، في فيلم «عيد الهلع» (هالووين). ويعمد فيلم سلاشر هذا
إلى استغلال الخوف من كون الآخرين يمثِّلون خطرًا محتمَلًا علينا، حتى
لو لم نفعل لهم شيئًا. بَيْد أن هذا يتعارض مع واقع أن أغلب المرضى
النفسيين ليسوا عنيفين، وإن وُجد بينهم مَن يتصرَّف بعدوانية فإن ذلك
السلوك في الأغلب يكون موجَّهًا نحو الأشخاص المسئولين عن رعايتهم
(الأسرة، الممرضات، إلخ)، وليس تجاه غرباء عشوائيين.
- المستنير ذو الروح الحُرَّة: هذا النمط هو، إلى حدٍّ ما، النقيض لتصوير المريض النفسي بوصفه
شريرًا؛ حيث يقدِّم صورة للمريض النفسي باعتباره شخصًا خارقًا مقارنةً
بالأشخاص «العاديين»، من حيث كونه أكثر حُرِّيَّةً وإبداعًا، ويفيض
أكثر بالحياة. وبالإمكان العثور على أمثلة عديدة لهذا النمط في الفيلم
الفرنسي الكلاسيكي «ملك القلوب» (كينج أوف هارتس)، وفي الأفلام
الأمريكية مثل «أحدهم طار فوق عش المجانين» (وَن فلو أوفر ذا كوكو
نيست) و«باتش آدامز». وفي حين أن ثمة شيئًا ما جديرًا بالإعجاب في
محاولة إظهار وجود ميزة حيث يرى الآخرون مرضًا، فإن طريقة تصوير «الروح
الحُرَّة» قد تبدو ساذجة. فأي شخص أمضى ولو وقتًا قليلًا مع أناس
شُخِّصت إصابتهم بمرض نفسي، بإمكانه أن يُميِّز المَدَى الذي تَبلُغه
معاناتُهم بحقٍّ.
- الغاوية: يُشير هذا النمط إلى المريضة النفسية الشهوانية13 التي — إضافةً إلى أيِّ اضطرابات أخرى قد تُعاني منها —
تتباهَى باستعراض جاذبيَّتها الجنسية على كلِّ المحيطين بها، بمَن في
ذلك القائمون على رعايتها. ففي فيلم «ليليث»، تؤدِّي جين سيبيرج دور
امرأة غاوية تدمِّر الحياة المهنية لطبيب شابٍّ يلعب دورَه وارن بيتي.
وفي وقت لاحق، فازتْ أنجلينا جولي بجائزة الأوسكار عن تجسيدها شخصية
ليزا، وهي رسول فوضى مفعمة بالشهوانية في فيلم «فتاة، قوطعت» (جيرل،
إنترَّبتِد). تلك التجسيدات يبدو أنها تطمس ذلك الخط الفاصل بين
المعاناة المرتبطة بالمرض النفسي وقلقنا الثقافي من المبالغة في
التعبير عن الميول الجنسية.
- الطفيلي النرجسي: كثيرًا ما لا يكون لدى المرضى النفسيين غير المقيمين بالمستشفيات،
كما تصوِّرهم الأفلام، أيُّ مشاكل حقيقية سوى حاجة مُطلَقة العنان لجذب
الانتباه. يُؤدَّى هذا النمط بطريقة ساخرة في فيلمَي «آني هول»
و«مانهاتن» لوودي آلِن؛ حيث نجد الشخصيات الرئيسية، رغم ما يتمتعون به
من كفاءة في العديد من جوانب الحياة، يتردَّدون بانتظام على جلسات
للعلاج النفسي ليجهشوا بالبكاء شاكِين من حياتهم العاطفية غير المشبعة.
وبهذه الطريقة يتم تقديم المشاكل النفسية باعتبارها مجرد عيوب بسيطة في
الشخصية.
وعلى عكس تلك التجسيدات المشوَّهة والمغرِقة في الدراماتيكية، ثمة أفلام تكاد تصيب
الهدف تمامًا فيما يتعلَّق بالدِّقة التشخيصية.
14 ففي كتاب «الطب النفسي في السينما: صور المرض النفسي في الأفلام»،
15 قام ديفيد روبنسون (٢٠٠٩) بتطوير مقياس للتقييم وقائمة تضم ١٠٠ فيلم يعتقد
أنها تقدِّم تشخيصات دقيقة نسبيًّا (رغم أنها لا تتَّسم بالضرورةً بالكمال) باستخدام
معايير تشخيص رسمية:
16
- الاضطراب النفسي الناتج عن استخدام عقَّار الأمفيتامين: يقدِّم فيلم «مرثية حلم» (ريكويام فور أ دريم) صورًا واقعية ومُزعِجة
لتعاطي المواد المخدِّرة من خلال أربع شخصيات رئيسية؛ حيث يتم تجسيد
تلك الأخطار والتدهورات المرتبطة بتعاطي الهيروين من خلال الشخصيات
الأصغر سِنًّا، لكن شخصية سارة جولدفارب (إيلين برستين)، وهي أمُّ أحد
المدمنين، تسترعي الاهتمام بوجه خاص؛ فهي تسقط في هُوَّة الإدمان (في
صورة حبوب الحِمْيَة) لكي تتمكَّن من ارتداء فستان ضيِّق من أجْل
الاشتراك في برنامج ألعاب تليفزيوني. ويتسبَّب اعتمادُها المتزايد على
تلك الحبوب في تداعيات مدمِّرة على صحتها البدنية والنفسية. ويصوِّر
الفيلم سقوطَها المتسارِع في هُوَّة الإدمان بطريقة حيَّة مؤثِّرة في
مشهد يصوِّر تعرُّضها لهجوم من الأجهزة الكهربائية في منزلها عليها،
بعد أن دبَّتْ فيها الحياة بطريقة مروِّعة.
- اضطراب الشخصية الحَدِّيَّة: تَعَرَّض فيلم «انجذاب قاتل» (فيتَل أتراكشن)، الذي حقَّق إيرادات
هائلة، لانتقادات بسبب ما قدَّمه من معيار مزدوج فيما يتعلَّق
بالعلاقات الغرامية خارج نطاق الزواج. فالزوج الخائن يتم تصويرُه
بطريقة متعاطِفة، بينما «المرأة الأخرى» تُقدَّم كقاتلة مجنونة،
متعطِّشة للثأر. بَيْد أن أداء جلين كلوز استطاع أن يصوِّر ما تنطوي
عليه شخصية أليكس فوريست من تقلُّبات وتناقضات، ويُعَدُّ مثالًا بارزًا
على التقلُّبات الحادة التي تُميِّز اضطراب الشخصية الحَدِّيَّة
(الميول الانتحارية، التشوُّش، نَوْبات الغضب العارم، إلخ). فإدراك
أليس المضطرب لذاتها ينعكس في علاقاتها المضطربة مع الآخرين، خاصة في
علاقتها مع الزوج الخائن مايكل دوجلاس. وهناك شيء من الدقة في الطريقة
التي يتبدَّل بها سلوكها بين الابتعاد الرصين والتعلُّق المفرط،
معبِّرة عن الإخلاص أولًا ثم تنفجر في ثورات غضب.
- الشرود الانفصالي: يبدأ فيلم «باريس، تكساس» بمشهد يُصوِّر ترافيس هندرسون (هاري دين
ستانتون) خارجًا من صحراء تكساس سيرًا على الأقدام، ولديه على ما يبدو
فكرة شاحبة عن هُويَّته، بلا أيِّ ذكريات عمَّا فَعَلَه في العَقْد
المنصرِم. وبينما يحاول ترافيس استعادة الصلة مع حياته السابقة، خاصةً
مع ابنه، الذي يعيش مع أخي ترافيس وزوجته، لا يعرف الجمهور الشيء
الكثير عمَّا حدث لترافيس أثناء «شروده» (فترة من الترحال بلا هدف
مصحوبة بفقدان ذاكرة). فنعرف أن تلك الواقعة نتجت عن حادثة قامت فيها
زوجته التي تصغره في السنِّ بإضرام النار في الكَرَفان الذي يسكنانه
ردًّا على سلوكه المهين وغَيْرَتِه المَرَضيَّة. تلك الفجوة المُزعِجة
والثابتة في ذاكرة ترافيس، والصعوبة التي يواجهها في التواصل عاطفيًّا
مع ظروفه الحالية، والحدث الاستهلالي المفجِع، تشكِّل جميعُها خصائص
مميِّزة لهذا الاضطراب النادر والمبهِر أيضًا.
أودُّ أن أضيف، بصورة شخصية، لهذه القائمة من التجسيدات السيكولوجية الرائعة، الأعراض
الفِصامية لجون ناش (راسل كرو) في فيلم «عقل جميل». ورغم أن الفيلم قد تعرَّض لعدد من
الانتقادات المشروعة بسبب طريقة تناوله للعلاج النفسي لناش،
17 فإنه نجح، من خلال أداء كرو وطريقة بنائه، في تصوير أعراض الأوهام والهلاوس
بطريقة جيدة تدعو إلى الإعجاب. عندما شاهدتُ الفيلم للمرة الأولى (ولم أكن قد قرأتُ
الكتاب)، انتابني شعور بالانزعاج عندما بدأ ناش يتورَّط في عملية التجسُّس السرية.
ولأنني كنتُ أعرف أن الفيلم مأخوذ عن قصة واقعية، فقد صدمَتْني مطاردات السيارات
وعمليات تبادل إطلاق النار بعدم واقعيتها، فخمَّنتُ أن صنَّاع الفيلم أضافوا بعض مشاهد
الحركة لأنهم شعروا أن استعراض معاناة شخص مصاب بالفصام لم يكن مثيرًا بما يكفي. وعندما
انكشفَتْ ملابسات الحبكة، أدركتُ — شأن بقية المشاهدين
— أنني أنا أيضًا قد خُدعتُ وصدَّقتُ أن قصة التجسُّس
بكاملها كانت حقيقية، ولم أفطن إلى أنها جزء من النسق الهذياني لناش.
والسبب في انخداعي هو أن أحداث الفيلم (التي تكشَّفتْ عن كونها هذيانات متخيَّلة)
بَدَتْ مُقنِعة إدراكيًّا كما كانت ستبدو إن كانت حقيقية. تلك هي، على وجْه الدقة،
الطريقة التي تتبدَّى بها الهذيانات (الاعتقادات الزائفة) والهلاوس (الإدراكات الزائفة)
لحواس ومشاعر الفِصاميين — فهي تتمتَّع على مستوى الإدراك بالخواص الفيزيائية نفسِها
التي تملِكها الأحداث والصور الحقيقية. ولْتتخيَّلْ شخصًا يحمل زهرة قرنفل ووردة،
ويُصرُّ على أن إحداهما حقيقية والأخرى من نسج خيالك؛ كيف سيسعك أن تقرِّر أن إحداهما
هي هذه، والأخرى هي تلك؟ يتلاعب «عقل جميل» بالخواص الإدراكية للسينما بهدف استثارة
تجربة مفعَمة بالحياة لكن لا يمكن الوثوق بها، بطريقة تضاهي تجربة المصابين
بالفصام.
18
(٢) تمثيلات علماء النفس والعلاج النفسي
كتاب «الطب النفسي في السينما» (١٩٩٩) لجابارد وجابارد، هو دراسة شاملة للطرق العديدة
التي يتفاعل بها الطب النفسي وعلم النفس والتحليل النفسي مع الأفلام؛
19 حيث يحتوي ملحق الكتاب على قائمة تضم ما يزيد على ٤٥٠ فيلمًا روائيًّا؛
بدايةً من عام ١٩٠٦م (الفيلم ذو العنوان المثير «مصحَّة الدكتور سخيف» (دكتور ديبيز
سانيتريام)) حتى عام ١٩٩٨م، وتجسِّد هذه الأفلام شخصيات تعمل في مجال الصحة
النفسية.
20 فمِن الواضح أن هوليوود مولَعة بالعلاج النفسي والأطباء النفسيين.
21
يعمد التحليل التاريخي الذي يقدِّمه جابارد وجابارد للتجسيدات السينمائية لاختصاصيي
الصحة النفسية إلى تسليط الضوء على الطريقة التي تغيَّرت بها المواقف والاتجاهات عبر
الزمن؛ ففي السنوات الأولى من عمر السينما وحتى الحرب العالمية الثانية، كان تجسيد
الأطباء النفسيين يتم بطريقة غير واقعية على نحو سافِر. فكثيرًا ما كان يتم تصويرهم
كمشعوِذين، باستخدام المحاكاة الساخرة كأداة لفضْح ادعاءاتهم الطبية (كما في الفيلم
الصامت «مصحَّة الدكتور سخيف» والفيلم الكوميدي الكلاسيكي الساخر «تربية طفل رضيع»
(برينجنج أب بيبي)). وفي الأربعينيات والخمسينيات، أصبحت الأفلام أكثر جدِّيَّةً على
نحو متزايد في تناوُلها للتحليل النفسي، وبلغتْ أوجهَا مع أواخر الخمسينيات ومطلع
الستينيات، وهي الفترة التي يُطلَق عليها «العصر الذهبي» للطب النفسي في الأفلام. ففي
أفلام تلك الفترة («ضربات الخوف» (فير سترايكس أوت)، و«وجوه حواء الثلاثة» (ثري فيسيز
أوف إيف)، و«ديفيد وليزا»، وفيلم السيرة الذاتية «فرويد»)، يتم تناول الأطباء النفسيين
وعلماء النفس باعتبارهم أشخاصًا أكْفَاء، رُحَماء، بل وجديرين بالإعجاب. ففي «ديفيد
وليزا» (١٩٦٠)، يبدو الدكتور سوينفورد (هوارد دا سيلفا) رجلًا حكيمًا، وعطوفًا — لكنه
شديد الحساسية — وطيب القلب في علاجه لمرضاه من الشباب المقيمين بالمستشفى.
بَيْد أن هذا «العصر الذهبي» لم يستمرَّ طويلًا؛ ففي الستينيات والسبعينيات، تعرَّض
اختصاصيو الصحة النفسية لتلك الموجة من التشكُّك التي تعرَّضتْ لها جميع المؤسسات
الراسخة، فعادت صورة المشعوِذ إلى الظهور مرة أخرى، لكن بطريقة أكثر حِدَّةً، كما
أُثيرت انتقادات أكثر جديَّةً حول الدوافع الأساسية للطب النفسي في أفلام مثل «أحدهم
طار فوق عش المجانين» الحائز على الأوسكار.
22 وثمة طريقة أخرى لفهم الكيفية التي نظرت بها هوليوود إلى علماء النفس،
تتمثَّل في البحث عن أنماط، ليس خلال فترات زمنية معينة فحسب، بل أيضًا في نماذج
الشخصيات التي قدَّمتْها على مدار تاريخها. وثمة ثلاث صور نمطية للطبيب النفسي
السينمائي تم وصفُها فيما يلي:
23
- الدكتور سخيف: يتميَّز هذا النمط في المقام الأول بحماقته الهزلية. فالهدف من تصوير
تلك الشخصيات هو السخرية منها أو نبذُها باعتبارها خرقاء. فالدكتور
مونتاج (هارفي كورمان) في فيلم «القلق العظيم» (هاي أنجزايتي) لميل
بروكس، والدكتور مارفين (ريتشارد درايفِس) في فيلم «ماذا عن بوب؟» (وات
أبَوت بوب؟) مثالان كلاسيكيان.
- الدكتور شرير: تعكس هذه الصورة النمطية شخصية عالِم النفس الذي يستخدم معرفته
بالذهن البشري للإساءة إلى المرضى أو التلاعُب بهم أو إيذائهم بأي
طريقة كانت من أجْل تحقيق مكاسب شخصية. فهانيبال ليكتر (أنتوني هوبكنز)
القاتل، آكِل لحوم البشر في فيلم «صمْت الحِملان» (سايلانس أوف ذا
لامبس) أصبح المثال الأيقوني ﻟ «الدكتور شرير» في السينما المعاصرة.
أما الممرِّضة راتشيد (لويز فليتشر) في «أحدهم طار فوق عش المجانين»،
فقد لا تبدو بالضبط شخصية شريرة، لكن الفيلم يؤكِّد على دوافع السيطرة
لديها. والدكتور كُولي، في فيلم «جزيرة المصراع»، وهو مدير مصحة أمراض
عقلية تثير المخاوف في الخمسينيات، يبدو كمثال آخر ﻟ «الدكتور شرير»
وذلك رغم مزاعمه التقدُّمية. ومقارنةً بالنمط الثانوي للدكتور سخيف،
يبدو اختصاصيو الصحة النفسية هؤلاء صعاب المراس، حتى وإنْ كانت بوصلتهم
الأخلاقية مختلَّةً بلا جدال.
- الدكتور رائع: تتميَّز هذه الشخصيات بالكفاءة والعطف والفاعلية في ممارساتهم
العلاجية. ويبدو أنه ما من حدود لما سوف يقدِّمونه لمساعدة مرضاهم.
ورغم أن تلك الشخصيات النبيلة كانت هي السائدة في «العصر الذهبي»،
فإنها لم تختَفِ تمامًا الآن. ويمثِّل الدكتور برجر (جود هيرش) في فيلم
«أناس عاديون» (أوردينَري بيبول) نقطة مرجعية لهذا النوع من الأطباء
النفسيين: الطبيب الصالح الذي لا يجد أيَّ غضاضة في الذهاب إلى منزل
مريضِه من أجْل تقديم مشورة عاجلة، وحاسمة في نهاية المطاف.
وقد أُضيفت للقائمة أنماط أخرى. فعلى مدار الأعوام العشرين الماضية، شهدت الأفلام
صورًا عديدة ﻟ «المعالج الجريح»؛
24 وهم اختصاصيون يشاركون «الدكتور رائع» العديد من السمات، لكنهم يعانون من
مشاكل نفسية تعوق عملهم. فالدكتور شون ماجوير في فيلم «ويل هانتنج الطيب» هو معالج جريح
يحاول بشجاعة معالجة «ويل» (مات ديمون) فيما يُصارع أحزانَه جرَّاء وفاة زوجته. لعل مثل
تلك الأفلام تسعى إلى هدم تلك الأفكار المهيبة حول التفوق المزعوم للعاملين في مجال
الصحة النفسية من خلال تصويرهم كأشخاص مَعِيبين (أو بشريين).
ومن السمات البارزة الأخرى للأطباء النفسيين في السينما، مَيْلُهم الشائع بطريقة
غير
عادية للانخراط في علاقات جنسية مع مرضاهم؛ هذا النمط يُمكِن أن نُسمِّيَه «الدكتور
جنسي»
25 أو «الدكتور منتهِك».
26 ففي أفلام الإثارة السيكولوجية، نجد أن الأطباء النفسيين الذين يُمارِسون
الجنس مع مرضاهم يَحمِلون شَبَهًا ما ﺑ «الدكتور شرير» من جهة مَيلِهم إلى استغلال
مرضاهم بدَمٍ بارد،
27 بَيْد أنهم، في العديد من أفلام الاتجاه السائد، كثيرًا ما يَقَعُون في
حبِّ مرضاهم.
28 فقد قدَّم العديد من الأفلام طبيبات نفسيات شابَّات، جذَّابات جنسيًّا (في
طريقة ملبسهن)، ووحيدات. تمرُّ تلك الشخصيات بتحوُّلات على مستوى الشخصية عندما يَقَعْن
في غرام مرضاهن من الذكور.
29 فيلم «مسحور» (سبِل-باوند) لهيتشكوك هو مثال كلاسيكي لهذا النمط، بينما
يقدِّم فيلم «أمير المَدِّ والجزْر» (ذا برنس أوف تايدس) نسخة مُحدَّثة منه؛ معالِجة
نفسية، الدكتورة لوُينستين (باربرا سترايساند) تقع في حب أخي مريضِها ثم تستدرجه إلى
العلاج.
30 فمن الواضح أنه أيًّا كان قَدْر وَلَع صنَّاع الأفلام بحرفة علم النفس، فإن
وَلَعَهم بالنساء الجذَّابات والشَّبِقات يتفوَّق عليه.
وكما هي الحال مع المرض النفسي، بالإمكان الحصول على فَهْم أعمق لتمثيلات الطب النفسي
عن طريق الأخذ بعين الاعتبار تلك الحقائق الأساسية المثيرة التي تستحوذ على خيال
صُنَّاع الأفلام. إحدى الطُّرق لإنجاز هذا هي دراسة «دوافع الشخصية». ما الذي يحرِّك
تلك الشخصيات فيما يبدو؟ هل هناك طرق ترتبط بها دوافع الأطباء النفسيين الخياليين مع
تلك التي للأطباء النفسيين الحقيقيين؟
من خلال دراسة منهجية لاختصاصيي الصحة النفسية في الأفلام، قمتُ أنا ومجموعة من
الزملاء بتفحُّص أعلى ٢٠ فيلمًا من حيث الإيرادات في أمريكا في كل عام من ١٩٩٠ إلى
١٩٩٩.
31 وقمنا بتحديد ٣٤ فيلمًا (١٧٪ من أفلام العَيِّنة) تتضمَّن شخصيات تعمل
اختصاصيين في مجال الصحة النفسية. ومن بين هؤلاء، حدَّدنا ٥٨ شخصية (انظر الملحق «أ»)،
ثم تدبَّرنا ما إذا كانت كل شخصية مدفوعة فيما يبدو بالتالي: المال/المكانة؛ السلطة؛
الحب/الشهوة؛ الاستشفاء الذاتي؛ أو الاهتمام بالآخرين. وقد وجدْنا أن تلك التمثيلات
تَمِيل إلى تشويه الواقع وعكسه في آنٍ واحد.
- المال/المكانة (يحرِّكان ٥٢٪ من الشخصيات): في الكوميديا الهزلية «ماذا عن بوب؟» يشعر الدكتور مارفين الأناني
(ريتشارد درايفِس) بقلق مبالَغ فيه بشأن إعلان تليفزيوني عن أحدث
كُتُبِه في علم النفس الشعبي، بينما يُبدي اهتمامًا ضئيلًا بالعُصابي
بوب (بِل موراي). وشأن العديد من أصحاب المِهَن ذات المكانة والدخل
المرتفع نسبيًّا، فإن اختصاصيي الصحة النفسية معرَّضون لتصويرهم كأشخاص
جَشِعين. والواقع أن الكثير من العاملين في مجال الصحة النفسية يشعرون
بأن لديهم دافعًا قويًّا للمساهمة في الخير العام. ومن هذه الزاوية،
فإن الدكتور مارفين ليس مجرد صورة كاريكاتورية هزلية، بل اﻟ «أنا»
الأخرى الكابوسية لطبيب نفسي.
ومع ذلك، الطب النفسي مهنة تتطلَّب قدرًا كبيرًا من التدريب
والالتزام، ومعظم الممارسين يرغبون في الحصول على عائد مُجْزٍ مقابل
ذلك. وفي الوقت نفسه، هناك مَن يرى أن فشل بعض المعالِجين النفسيين في
التعامل مع عملهم بوصفه تجارة يمكن أن يؤدِّي بالفعل إلى تقويض العلاج
من خلال الفشل في رسم حدود واضحة. ورغم أن غلظة قلب الدكتور مارفين
مَدْعاة للاستهجان، فهل مكتبه ومنزله المخصَّص لقضاء العطلات
المؤثَّثان بطريقة أنيقة يتعارضان مع طموحاته كطبيب محترِف؟
- السلطة (تُحرِّك ٦٢٪ من الشخصيات): يصوِّر فيلم «صمت الحملان» صراعًا ثلاثيًّا طاحنًا على السلطة بين
الدكتور تشيلتون، المدير الماكر لمستشفى أمراض نفسية خاضع لإجراءات
أمنية مشدَّدة، والدكتور هانيبال ليكتر، وهو طبيب نفسي لامع يقضي عقوبة
السجن لارتكابه جريمتَي القتل وأكل لحوم البشر، وكلاريس ستارلينج،
شرطية شابة بالمباحث الفيدرالية الأمريكية تحاول التعامل مع كلا
الرجلين في سعيها للقبض على سفَّاح. إن شخصية ليكتر مزعِجة بوجه خاص؛
لأنه يُفيد من ذلك الارتياب الواسع الانتشار في أن اختصاصيي الصحة
النفسية يمتلكون «قوًى» خاصة تمكِّنهم من السيطرة على الذهن
البشري.
وفي الوقت نفسه، يمتلك هؤلاء الاختصاصيون سُلطةَ كونِهم ممثِّلين
لمؤسسات معترَف بها اجتماعيًّا. وإساءة استخدام تلك السُّلطة تُعدُّ من
أكثر الممارسات الطبية الخاطئة شيوعًا.
32 ومن وجهة نظر تربوية، لا يمكن فهم الدكتور تشيلتون
والدكتور ليكتر ببساطة باعتبارهما صورتين مسيئتين للأطباء النفسيين
المحترمين، بل كتحذيرات مبالَغ فيها لاختصاصيي الصحة النفسية في كل
مكان.
- الحب/الشهوة (يُحرِّكان ٢٤٪ من الشخصيات): يقدِّم فيلم الفانتازيا شبه الإباحي «غريزة أساسية» (بيزك إنستنكت)
شخصية الدكتورة جارنر (جين تريبلهورن)، الاختصاصية في علم النفس
الشُّرَطي ذات الملابس المثيرة، التي تتحدَّى القواعد الأخلاقية
وتُعلِن عن حبِّها لرجلِ تحرٍّ كانت تقوم بعلاجه حتى بعد أن يَعتدي
عليها جنسيًّا. كثيرًا ما تتسبَّب مثل تلك التجسيدات في إثارة غضب
اختصاصيي الصحة النفسية؛ لأن القواعد الأخلاقية لجميع التخصصات
المحورية تَحظُر بصورة قاطعة قيام علاقة جنسية بين الأطباء
ومرضاهم.
بَيْد أن التحليل النفسي يقوم على أطروحة فرويد بأن الميول الجنسية
محرِّك أساسي للسلوك البشري. ورغم أن معظم المقاربات العلاجية الحديثة
تمكَّنتْ من إزاحة الميول الجنسية عن المكانة المركزية التي كان
يحتلُّها، يظل العلاج النفسي تجربة حميمة. فمعظم الأطباء النفسيين
يعترفون أنهم شعروا بالانجذاب جنسيًّا تجاه أحد مرضاهم على الأقل (رغم
أن نسبة ضئيلة منهم فقط تستسلم لهذا الانجذاب).
33 وكما أشار المحلِّل النفسي مارشال إيدلسَن، عندما تشاهد
العديد من الأفلام، يكون من الصعب إغفال أهمية المشاعر الجنسية في
العلاقات الإنسانية.
34
- الاستشفاء الذاتي (يحرِّك ٢٦٪ من الشخصيات): يدور فيلم «الحاسة السادسة» (ذا سيكسث سينس) حول الدكتور مالكوم، وهو
طبيب نفسي ناجح، متخصِّص في علاج الأطفال، يُصاب باكتئاب شديد وشعور
حادٍّ بالذنب بعد انتحار أحد مرضاه، لدرجة أن حياته الزوجية أصبحتْ في
خطر. ذلك الشكل الآخَر لتيمة المعالِج الجريح يؤكِّد أيضًا على فشل
العلاج النفسي.
إن اختصاصيي الصحة النفسية الحقيقيين ليسوا كائنات منزَّهة. وفكرة
أنهم يُعانون، بصورة مسبقة، من مشاكل نفسية وعاطفية تحدِّد طريقة
تعاطيهم مع عملهم، تم تطبيعها من خلال مفاهيم مثل الإنقال المقابل.
فالاختصاصي الناجح لا بد له من إيجاد طُرق لحلِّ مشاكله العاطفية،
وتجنُّبها، وحتى استخدامها استخدامًا بنَّاءً لكي يصبح اختصاصيًّا
أفضل. إن فيلم «الحاسة السادسة»، بفضل نهايته غير المتوقَّعة التي
تُرغِم الدكتور مالكوم على إعادة تقييم مكانه في العالَم جذريًّا،
يُضفي شكلًا دراميًّا على صراعات ومخاوف الأطباء النفسيين
الواقعية.
- الاهتمام بالآخرين (يحرِّك ٦٦٪ من الشخصيات): في الفيلم الكوميدي «حلِّل هذا» (أنالايز ذيس)، يتردَّد الدكتور
سوبيل (بيلي كريستال) في البداية في علاج مريضه رجل المافيا، لكن في
النهاية يتعاطَفُ معه بقوة، لدرجة أنه يُخاطِر بحياته لمساعدة هذا
المُجرِم في مداواة ماضيه الفاسد. ورغم أن الاهتمام بالآخرين يبدو أكثر
إيجابيَّةً من الدوافع الأخرى، فإنه عُرْضة للتشويه بالقدْر نفسه. فما
يبديه بعض الاختصاصيين النفسيين في الأفلام، من مَيْل لفعل الخير
واستعدادهم للتضحية بذواتهم على نحو يكاد لا يُصدَّق، يرسِّخ نزعةَ
إنكار الذات باعتبارها أحد متطلبات المهنة.
لكن، من ناحية أخرى، ربما كان الاهتمام بالآخرين هو الشرط الضروري (لكن ليس الكافي)
الواجب توافره في اختصاصيي الصحة النفسية. وهناك إجماع واسع على أن التعاطُف عنصر حيوي
من عناصر العلاج الناجح.
35 وحتى أفلام هوليوود تُدرك ذلك، إلى حدٍّ ما. لكن رغم غلبة الاهتمام
بالآخرين كمحفِّز لدى الأطباء النفسيين في أفلام هوليوود، فإن صورة الاختصاصي السوبرمان
(نمط «الدكتور رائع») كانت نادرة للغاية في عيِّنة الأفلام التي تناولناها. إن توليفة
الاهتمام بالآخرين مع الرغبة في الارتقاء بالذات قد لا تكون سيئة في حدِّ ذاتها، وهو
استبصار يمكن ملاحظته في العديد من الأفلام (حتى لو تطلَّب ذلك من المشاهدين أن
يتجاهلوا تلك التجاوزات الدرامية؛ مثل ذلك المشهد الذي يُصوِّر جلسة علاج نفسي ناجحة
تُجرى وسط معركة بالأسلحة النارية).
استحوذ العلاج بالجلسات النفسية على الجانب الأكبر من اهتمامنا بالطب النفسي في
الأفلام. يعود هذا جزئيًّا إلى أن ما يتمتع به العلاج بالجلسات من خصوصية وحميمية تُتيح
لنا الكشف عن الجانب الأكثر قتامةً من الإنسانية، وهو جانب يسمح إما بمعالَجة حسَّاسة
أو شَبِقة؛ مما يُضفي على هذا النوع من العلاج مسحة درامية لا تتوافر في الوسائل
العلاجية الأخرى. فروشتَّات العقاقير ذات المفعول النفسي على سبيل المثال — مضادات
الاكتئاب مثل بروزاك، ومضادات الذُّهان مثل ريسبيردال — ربما كانت هي العلاج السائد
للأمراض النفسية في العصر الحديث. ومع ذلك، كان فيلم «أفضل ما يمكن الحصول عليه» (١٩٩٧)
أول فيلم مُهِمٍّ يصوِّر التعامل الفعَّال باستخدام العقاقير مع أعراض الأمراض النفسية
(الاضطراب الاستحواذي القهري) في علاج المرضى غير المقيمين في المستشفيات.
36
وعندما تتناول الأفلام جوانب من علم النفس والعلاج النفسي وليس جوانب من المعالَجة
بالجلسات، فإنها كثيرًا ما تركِّز على التعسُّف المؤسسي. فعند تصوير استخدام العقاقير
النفسية في العلاج داخل المستشفيات، على سبيل المثال، نجد أن التركيز ينصبُّ حصرًا على
آثارِه التخديرية (فيلم «فتاة، قوطعت» على سبيل المثال). ومن حين لآخر، يَظهَر العلاج
بالصدمات الكهربائية، غير أن تلك التجسيدات السينمائية دائمًا ما تتسم بالفظاظة (شاهد
«أحدهم طار فوق عش المجانين»).
37 وثمة ممارسات سيكولوجية أخرى تَظهَر بانتظام في الإعلام نذكر منها: التحليل
النفسي للمجرمين، الذي يؤكِّد على إمكانية فَهْم عقلية السفَّاحين وغيرهم من
المجرمين.
38
إن جاذبية العلاج بالجلسات في الأفلام تتجاوز قدرتَه على استكشاف موضوعات مثيرة تشغل
أذهان صنَّاع الأفلام وجمهور السينما. فالفيلم والعلاج بالجلسات يتقاسمان العديد من
الخصائص المشتركة؛ مثل الحَكْي الذي يضرب بجذوره في الخبرة الشعورية، واكتشاف الذات،
وفي حالات كثيرة، السعي نحو حياة أفضل. لا غرابة إذن في أنهما الْتَقيا كثيرًا.
(٣) لقطات ختامية: تأثير تمثيلات علم النفس
ما كان لتمثيلات الاضطرابات النفسية والعلاج النفسي أن تستحوذ على كل هذا الاهتمام
من
جانب علماء النفس لولا وجود مخاوف من تأثير هذه الصور على مواقف الناس تجاه علم النفس
في عالم الواقع، وما إن كان ضررها أكثر من نفعها.
39 والحال أنه في سينما الفانتازيا الخالصة، نادرًا ما تكون المحاكاة مصدرًا
للانزعاج (فقليلون هم مَن يهتمون بكَوْن شخصيات الأوركس في «سيد الخواتم» مجسَّدة
بدِقَّة أم لا). بَيْد أن علم النفس — على عكس الوحوش الخيالية — «كيان حقيقي»؛ ومن ثم
فإنه من المحتمل أن يأخذ الجمهور مثل تلك التمثيلات المثيرة على أنها هي
الحقيقة.
إن تمثيلات الأشخاص المصابين بأمراض نفسية مقلقةٌ بوجه خاص؛ فقد أظهرت الاستطلاعات
أن
أعدادًا كبيرة من الجمهور يستقون معظم معلوماتهم عن المرض النفسي من الإعلام.
40 ويُعرب أوتو وال عن قلقه من أن السينما وغيرها من وسائل الإعلام روَّجتْ
لرؤية مفادها أن المرضى النفسيين موضوعات للسخرية، ومصدر للخطر والعنف، ومختلفون
جذريًّا عن غيرهم من الناس.
41
وقد لمستُ بنفسي مواقف الجمهور تجاه المرض النفسي من خلال تعاملي مع طلابي في
الجامعة. فرغم أن معظمهم من الفِطْنة بما يكفي لإدراك أن الأفلام — خاصةً الكوميدية —
تُبالِغ في تجسيد الأعراض المرضية، فإن اهتمامهم بظواهر معينة قد تَضاعَف بالتأكيد من
خلال متابعتهم لتغطيات الإعلام. فعندما أُحاضر عن مرض الفصام على سبيل المثال، أقوم
بمناقشة موضوعات من قبيل الأنماط الثانوية، والظهور المتأخِّر نسبيًّا للمرض،
والاستجابات للعقاقير المضادة للذُّهان، إلخ. لكن الطلبة سيتجاوزون حتمًا كل تلك
الحقائق ويبدءون في طرْح أسئلة حول القَتَلَة المصابين باضطرابات نفسية. فبالنسبة إلى
بعض الطلاب، ثمة علاقة قوية بين الفصام وارتكاب جرائم القتل؛ ولذا فَهُم يُصعقون عندما
يعرفون أن عددًا كبيرًا ممَّن شُخِّصت إصابتهم بالفصام يستطيعون ممارسة حياتهم اليومية
بصورة طبيعية تمامًا. ورغم أن الطلبة بوجه عام لديهم استعداد لتغيير اعتقاداتهم، فإنني
أتساءل أحيانًا كم من الوقت ستستمر استنارتهم تلك عندما يواجهون مرة أخرى تلك الهجمات
التي تشنُّها عليهم الثقافة الجماهيرية.
بالإمكان أيضًا رؤية التأثير السلبي لتمثيلات المرض النفسي في الأفراد المصابين
باضطرابات نفسية؛ فقد رَوَتْ إحدى الحاصلات على درجة علمية مرموقة في دراسات الفيلم،
وقد شُخِّصت إصابتها بالفصام، ما كان لتمثيلات الأفلام من تأثير على حياتها. ولم تكن
ثمة مفاجأة في أنها كثيرًا ما تتردَّد في البَوْح بمرضها خشية أن يُنظر إليها باعتبارها
«مهووسة بالقتْل». كذلك يمكن للتمثيلات الإعلامية السلبية أن تبلغ من القوة عليها حدَّ
أن تثير بعضُ الأفلام — بعد مشاهدتها — تساؤلات لديها حول حقيقة حالتها المرضية، حتى
وإن كانت معرفتها تفوق معرفة القائمين على صناعة تلك الأفلام.
42
لقد أكَّدت نتائج بعض الدراسات الواسعة النطاق حول تأثير الإعلام على الصور الذهنية
للمرض النفسي، أن الوسائل التخيُّلية وغير التخيُّلية يمكن أن يكون لها تأثير على طريقة
إدراك المشاهدين للمرض النفسي؛
43 فقد وجدت مجموعةٌ من الباحثين أنه عندما يستقي الناس أغلب معلوماتهم من
الوسائل الإلكترونية، فإنهم يَمِيلون إلى تطوير مواقف سلطوية (بمعنى أنهم يعتقدون أن
علاج المرضى النفسيين يجب ألَّا يتم في المجال العام).
44 وعندما قام باحث آخَر بإجراء مقابلات مع مجموعات من الأفراد حول مواقفهم
تجاه المرض العقلي، أظهرتِ النتائج وجود ارتباط قوي بين أفلام مثل «صمت الحملان»
و«سايكو» وبين الأفكار السلبية عن المرض النفسي.
45 وفي دراسة أخرى، أصبحتْ مواقف الطلاب تجاه المرض النفسي أكثر سلبيَّةً بعدَ
مشاهدتهم فيلم «أحدهم طار فوق عش المجانين».
46
وكما رأينا، ثمة اختلاف كبير بين الطرق التي يتناول بها علماء النفس وصنَّاع الأفلام
تمثيلات الجنون؛ فبحسب فليمنج ومانفل، «الجنون، بالنسبة إلى علماء النفس، هو في المقام
الأول موضوعٌ يتعيَّن فهمُه كميًّا قبل الشروع في معالجته. أما بالنسبة إلى فنَّاني
السينما فهو بالأساس موضوع يوفِّر لنا تناوُلُه فرصة للاطِّلاع على أكثر جوانب وجودنا
قتامةً وأشدها خفاءً.»
47 وبقدْر ما تؤثِّر تلك التمثيلات المشوِّهة للمريض النفسي على مُدرِكات
الجماهير للمرض النفسي، تصبح المطالَبة بتمثيلات إيجابية ودقيقة أمرًا يمكن
تفهُّمه.
ومع ذلك، علينا — نحن اختصاصيُّو الصحة النفسية — ألا نكون ساذجين؛ فنحن لا نشارك
صنَّاع الأفلام النشاط المهني ذاته. فرُبَّ عالِم نفس قد يعترض على وصف شخصية ما ﺑ
«الهوس الاكتئابي» بدلًا من المصطلح الأكثر عصرية «الاضطراب ثنائي القطب»، في حين أن
صانع الفيلم سيرى في الأغلب أن «ثنائي القطب» أشبه بمصطلح جغرافي، فيفضِّل عليه مصطلح
«الهوس الاكتئابي» الأكثر إثارةً.
أضِفْ إلى ذلك أن الأفلام ليستْ مُلزَمة بتجسيد الحقيقة التشخيصية بدِقَّة من أجل
التأمل في طبيعة الجنون بطريقة ناجحة؛ فهي تلتقط تلك السلوكيات البشرية التي تهدِّدنا
وتفتننا في آنٍ واحد، فضلًا عن أن التمثيلات التي تقدِّمها تستثير فينا إمكانية سلوكيات
داخلية، نخشاها و/أو نرغب فيها. فقد أكَّد الطبيب النفسي هاري ستاك سوليفَن أن «كل شخص
هو ببساطة أكثر إنسانيَّةً بكثير من أيِّ شيء آخَر.»
48 وهي مقولة قد تكون مفيدة في تناول أي جانب من جوانب التنوع
البشري،
49 بَيْد أن المطالبة بالوحدة بين هذه الجوانب مناسبة على نحو خاص في التعامل
مع الاضطرابات النفسية التي نجد فيها أمثلة شديدة الوضوح على التنوع. لكن أعراض تلك
الاضطرابات قد تكون صادمة لكثيرين؛ كَوْنها شاذة وغريبة وشديدة الاختلاف عما نحن عليه.
وربما أمكن لمقولة سوليفَن المأثورة أن تساعد في تخفيف المَيْل لإقصاء المصابين من خلال
التأكيد على الأشياء المشتركة بين جميع الناس (الرغبة في الصداقة، القدرة على الحب،
الفضول بشأن الآخرين، إلخ).
بإمكان الأفلام التي تتبنَّى موقفًا متعاطِفًا تجاه الشخصيات المصابة باضطرابات نفسية
أن تساهم في إضفاء طابع إنسانيٍّ محتمَل على المرضى. ففي فيلم «عقل جميل»، يتم تقديم
جون ناش باعتباره شخصًا يمتلك صفات إيجابية تدعو الجمهور إلى الإعجاب أو حتى التماهي
معه في صراعه، رغم غرابة أطواره في بعض الأحيان. أضِفْ إلى ذلك أن الأفلام يمكنها أيضًا
أن تحفِّز المشاهدين على التفكير كيف أنهم ربما يشاركون المرضى النفسيين بعضَ سمات ما
يُسمَّى بالجنون (أي الأعراض النفسية). فالأحلام الليلية، على سبيل المثال، قد تبدو
شبيهة بالهلاوس (كلٌّ منهما يتضمن إدراكات حِسِّيَّة زائفة)، وكلٌّ منهما يُشبِه
الأفلام السيريالية. إن الميل لرؤية أوجه تشابه بين جوانب متباينة من الخبرة الإنسانية
(بما في ذلك الظواهر اليومية مثل الأحلام وأعراض الأمراض النفسية كالهلاوس) يشكل ما
أصبح يسمَّى الآن «الموازاة الشكلية».
50
عندما نُمعِن النظر في التجسيدات السينمائية للمرض النفسي تحت هذا الضوء، فإنه حتى
الشخصيات المتطرِّفة مثل نورمان بيتس أو الجوكر قد تبدو كاشفة. لماذا تفتننا تلك
الشخصيات؟ أمِن الممكن أن يرجع ذلك إلى كونها ليست «مختلفة» عن الشخص العادي فحسب، بل
لأننا نلاحظ فيها أيضًا شيئًا «مألوفًا» على نحو غير مريح؟ أنا لا أنظر إلى نورمان بيتس
كمريض واقعي، لكن باعتباره شخصية سينمائية، فإنه يثير في نفسي قلقًا وتعاطفًا عميقَيْن،
فضلًا على أنه يُخاطِب مخاوفي عن فقدان العقل، وفَقْد السيطرة على الذات، وفَقْد
المعنى. ورغم أن شخصية الجوكر تُعطي صورة غير دقيقة بالمرة عن المرض النفسي، فإن
بإمكانها أن تعلِّمنا شيئًا عما تنطوي عليه الفوضى من جاذبية.
ورغم الاهتمام الذي حَظِي به تأثير تمثيلات علماء النفس وغيرهم من اختصاصيي الصحة
النفسية في الأفلام، فإن ثمة اختلافًا هامًّا بين هذه المجموعة والمرضى النفسيين؛ فنحن
ننتمي إلى طائفة مهنية ونحصل على عائد مادي جيد؛ ومن ثَمَّ يمكن أن يذهب البعض إلى أنه
ينبغي على اختصاصيي الصحة النفسية التزوُّد بالمزيد من اللامبالاة، وأن يكونوا
مستعدِّين لتقبُّل تلك الصور المسيئة (كثمن للتمتُّع بمكانة ونفوذ
اجتماعيَّيْن).
وبالفعل، كانت صورة علماء النفس في الإعلام موضوعًا للجدل بين علماء النفس أنفسهم.
ففي أواخر التسعينيات، أعلنت النشرة الشهرية ﻟ «رابطة علم النفس الأمريكية» عن إنشاء
لجنة «مراقَبة الإعلام»، وهي عبارة عن لجنة فرعية تختص بالمراقَبة والمشاركة في قضايا
العلاقات العامة المتعلِّقة بصور علماء النفس في الإعلام. وتم الاستشهاد بالسلوك غير
اللائق لعلماء النفس في فيلمَيْ «أمير المَدِّ والجزْر» و«ويل هانتنج الطيب».
51 وبعد شهور قليلة، قام أحد علماء النفس الممارسِين بالتعليق على قرار إنشاء
تلك اللجنة في رسالة بعنوان «الكياسة السياسية تفقد صوابَها»؛ حيث ذهب إلى أن لجنة
«مراقَبة الإعلام» هي مؤشِّر على «الشعور المُزمِن بعدم الأمان الذي يعاني منه علم
النفس باعتباره مهنة.»
52 وبصفتي عاشقًا لتلك الأفلام «المسيئة لعلم النفس» مثل «سايكو» و«أحدهم طار
فوق عش المجانين»، فقد اتفقتُ جزئيًّا مع كاتب الرسالة. لكن بصفتي عضوًا في «مراقبة
الإعلام»، فقد كنتُ أعتقد أن الجماعة التي أنشأتْها لدَيْها هدف مشروع. فرغم أن علماء
النفس بحاجة إلى ممارسة النَّقْد/السخرية الذاتية من أنفسهم بلا شك، فإن التمثيلات
المبالَغ فيها تشكِّل خطرًا على الصورة الذهنية العامة المتخَذة عن المهنة.
إن العلاج النفسي عمومًا، والعلاج بالجلسات النفسية خصوصًا، عُرضة للأفكار المغلوطة
بصفة خاصة. فالعلاج بالجلسات يُحاط أحيانًا بهالة من الغموض، تتعلَّق جزئيًّا بسرِّية
العلاقة بين الطبيب والمريض، التي تُعتبر إحدى ركائز الاستشارة الناجحة. فبدون وَعْد
السرِّية، قد يشعر المرضى بقلق مبرَّر من احتمال قيام الأطباء بإفشاء خواطرهم الحميمة؛
مما يجعلهم يتردَّدون في البَوْح بمعلومات على قدْر من الحساسية. بَيْد أن إحدى النتائج
غير المقصودة لتلك السرِّية هي أنها تَحُول بين معظم الناس وبين الاطِّلاع المباشر على
الجلسات النفسية. ومن ثم تَغدُو الأفلام وغيرها من وسائل الإعلام السبيل الوحيد أمام
الجمهور العام لاختلاس نظرة خاطفة على هذا المجال الحميم. فحتى هؤلاء المشاهدون
المحنَّكون الذين لديهم من الفطنة ما يكفي لكيلا يصدِّقوا كلَّ ما يَرَوْنه، قد يكتشفون
أن فكرتهم عن العلاج بالجلسات قد تأثَّرتْ بما يشاهدونه في الإعلام في ظل غياب أي صورة
أخرى.
وحتى تلك التجسيدات التي تبدو في ظاهرها إيجابية، والتي تصوِّر طريقة العلاج في مجال
الصحة النفسية، يمكن أن تتكشَّف عن كونها إشكالية. فقد أشار العديد من الكتَّاب إلى
تفشِّي ظاهرة الشفاء بالتنفيس عن مكنون الذات من خلال الصور التي تقدِّمها السينما
للعلاج بالجلسات النفسية؛ وهي لحظة درامية لكشْف يَغشَى الأبصار ينجلي فيها «السر»،
ويتخلَّص المريض — أيًّا كان قَدْر معاناته — من آلامه على نحو مفاجئ.
53 لقد بهرتْني تلك الظاهرة لدى مشاهدتي فيلم «وجوه حواء الثلاثة» للمرة
الأولى في فصل علم النفس أثناء دراستي الثانوية؛ ففي مشهد الذروة، تتعافَى إيف (جوان
وُدوارد) من اضطراب تعدُّد الشخصية بعد اكتشاف أن أعراض مرضها بدأتْ في الظهور عندما
أُرغمتْ على تقبيل جثمان جدَّتها أثناء طقس السهر على الميت. وتقدِّم أفلام «أمير المد
والجزر»، و«أناس عاديون»، و«ويل هانتنج الطيب» أمثلة أخرى على الشفاء بالتنفيس عن مكنون
الذات. ورغم أن تلك الطرق مُشبِعة دراميًّا؛ حيث تجمع رمزيًّا بين العديد من الخيوط
المتباينة وتؤلِّف منها خاتمة مرضية، فلسوء الحظ، ليست تلك هي الطريقة التي ينجح بها
العلاج بالجلسات بوجه عام. فالشفاء الآني من متاعب جسيمة لا وجود له تقريبًا. والتقدُّم
في العلاج عادةً ما يكون بطيئًا وأقل إثارةً بكثير.
عدم الدقة هذا قمين بأن يَزِيد من إمكانية إحجام الناس عن العلاج كليًّا؛ فقد أظهرت
إحدى الدراسات أن المراهقين «الأكثر عرضةً للمرض النفسي» (الذين يعانون من أعراض
اكتئابية وانتحارية) كانوا أمْيَل إلى الاعتقاد بعدم جدوى العلاج بعدَ مشاهدتهم أفلامًا
مثل «العذراء تنتحر» (ذا فيرجن سويسايدز)، و«فتاة، قوطعت»، و«عقل جميل». إن تلك النتيجة
مقلقة بوجه خاص بالنظر إلى أن تلك الأفلام تتبنَّى موقفًا متعاطِفًا نسبيًّا على الأقل
تجاه العلاج النفسي، ويقينًا هي ليست أسوأ التجسيدات الموجودة للعلاج النفسي.
54
كما قدَّمت دراسة أخرى مقارنةً بين وجهات نظر أناس شاهدوا فيلمًا معينًا ووجهات نظر
مَن لم يشاهدوه. الفيلم هو «ولهان» (لاف سيك)، وهو كوميديا رومانسية من الثمانينيات،
قام ببطولته ددلي مور في دور الدكتور سول بنيامين، وهو طبيب نفسي يقرِّر إقامة علاقة
عاطفية مع إحدى مريضاته. هذا القرار العاطفي يحرِّره ويوحي له بترك عمله المربِح في
التحليل النفسي من أجْل مساعده الفقراء. وقد وُجد أن المشاركين في الدراسة الذين شاهدوا
الفيلم كانوا أكثر تقبُّلًا لوجود علاقة جنسية بين الطبيب والمريض من الذين لم يشاهدوه.
وبوصفه فيلمًا من نوعية الكوميديا الرومانسية، فإن نجاحه السردي يعتمد على إقناع
الجمهور أن الحب الحقيقي يفوق كل الاعتبارات الأخرى، بما في ذلك أخلاقيات المهنة. بَيْد
أن الترويج لفكرة إمكانية قيام علاقة عاطفية بين الطبيب والمرضى لا يصبُّ في الصالح
العام؛ ذلك لأن هذه الإمكانية إما أن تصيب المرضى المحتمَلِين بالذُّعْر وتدفعهم إلى
تجنُّب العلاج، أو تُغريهم بالسعي في طلبه لكل الأسباب الخاطئة.
55
نشأ علم النفس والسينما جنبًا إلى جنب خلال القرن العشرين، أضِفْ إلى ذلك أن علم
النفس والعلاج بالجلسات هما، مثل هوليوود، مؤسَّستان راسختان. ولأن علم النفس يفتقر إلى
ماكينة دعاية جيدة خاصة به، فقد انتهى به الأمر إلى الاعتماد على هوليوود في الترويج
لنفسه. ففي التسعينيات، كان واحدًا من بين كل ستة أفلام حقَّقت نجاحًا مدوِّيًا يتضمَّن
تمثيلات لاختصاصيين نفسيين يُمارسون شتَّى أنواع العلاجات؛ مثل العلاج النفسي الفردي،
والاستشارات المتعلِّقة بالحياة الزوجية، وتلك الخاصة بالإدمان والتقييم
النفسي.
56 لقد غَدَتْ تلك الممارسات شائعة في الثقافة الأمريكية، حتى إن الأفلام قد
تكون ببساطة انعكاسًا لما يحدث على أرض الواقع. لكن من الممكن أيضًا أن يكون الوجود
المكثَّف للطب النفسي في الأفلام قد لعب دورًا في تسهيل قبول تلك الممارسات باعتبارها
جزءًا من الثقافة السائدة (جنبًا إلى جنب مع توضيح التناقض الشديد مع الواقع).
لقد شجَّعت شخصيات علماء النفس في السينما بعض المشاهدين على السعي للالتحاق بعمل
في
مجال علم النفس أو المجالات المرتبطة به. وقد أشار مارشال إيدلسَن، وهو عالم نفس وطبيب
نفسي من ييل، إلى أن أداء إنجريد برجمان لشخصية المحلِّلة النفسية في فيلم «مسحور»
لهيتشكوك كان له مثل هذا الأثر عليه.
57 وقد تبيَّن لي، من خلال محادثاتي مع زملائي، أن الكثير من الأطباء النفسيين
من جيلي (مواليد الفترة من ١٩٦٠ إلى ١٩٧٥م) استلهموا شخصية الدكتور بيرجر التي أدَّاها
جود هيرش في فيلم «أناس عاديون». وقد يُبدي بعض المتشكِّكين انزعاجَهم من أن ما يتَّسم
به الدكتور بيرجر من إيثار يضع معايير مستحيلة للأطباء النفسيين الصاعدين، بَيْد أن مَن
تحدَّثتُ معهم من الاستشاريين المخضرمين لم يكونوا على هذا القدْر من المثالية العمياء؛
فقد انصبَّ اهتمامهم، بدلًا من ذلك، على بعض جوانب بيرجر (التعاطف، الصبر، الحساسية)
التي لا تزال تُلهِمهم.
وبالمقابل، ثمة معلِّقون آخَرون عَثَروا في الأفلام على نماذج جيدة للطب النفسي.
فرغم
أنه يتناول قصة أشباح خارقة للطبيعة، لاقَى فيلم «الحاسة السادسة» استحسانًا كبيرًا
باعتباره مثالًا للصعوبات التي قد يواجهها الأطباء النفسيون في تقبُّل الحقائق الذاتية
لمرضاهم. ففي البداية، لا يستطيع الدكتور كرو تقبُّل حقيقة مريضه الصغير، كول، الذي
يُعلِن قائلًا: «أرى أمواتًا.» وفقط بعد أن يتقبَّل الصور التي تتراءى لكول باعتبارها
حقيقة تنتمي لعالمه الذاتي، يتمكَّن الدكتور كرو من مساعدته في التصدِّي للأشباح التي
تسكنه.
58 والحال أن افتقاره إلى الوعْي بمشاكله الخاصة يقوده في البداية إلى الردِّ
بطريقة دفاعية عندما يواجه المعتقدات الخاصة بكول. فعزوفه عن التصديق وانسحابه مجرد
وسيلة لتجنُّب المواجهة مع إخفاقاته وأوجه قصوره.
59 وبرغم مَنْحاه الخارق للطبيعة، يتيح لنا فيلم «الحاسة السادسة» أن نرى كيف
يمكن لفيلمٍ الكشفُ عن حقائق العلاج النفسي الناجح، والعلاقات الناجحة بين الأشخاص بوجه
عام.
60