أيونيتش
١
عندما كان القادمون إلى مدينة «س» عاصمة المحافظة يشكُون من الملل ورتابة الحياة فيها، كان السكان المحليون يقولون كأنما يعتذرون: إن الحياة في «س» على العكس جيدة جدًّا، وإنه توجد في «س» مكتبة ومسرح ونادٍ، وتُقام فيها الحفلات الراقصة، وأخيرًا فهناك أناس شيقون وعائلات لطيفة يمكن التعرف إليها. وكانوا يشيرون إلى عائلة توركين؛ باعتبارها أكثر العائلات ثقافة وموهبة.
كانت هذه العائلة تسكن في الشارع الرئيسي، بجوار المحافظ، في بيتٍ مِلكها. وكان إيفان بتروفتش تورکين نفسه، وهو رجلٌ أسمر جمیل، بَدین، بسوالف، يقيم عروض الهُواة التمثيلية لأغراضٍ خيرية، ويلعب بنفسه أدوار الجنرالات العجائز، ويسعل في أثناء ذلك بصورةٍ مضحكة للغاية. كان يعرف الكثير من النكات والألغاز والأمثال، ويحب المزاح والقفشات، وعلى وجهه يرتسم دائمًا تعبير لا تفهم منه إن كان يمزح أم يتكلم بجدِّية. وكانت زوجته فيرا يوسفوفنا، وهي امرأةٌ نحيلة، لطيفة، في عوينات، تكتب القصص والروايات، وتقرؤها بصوتٍ مسموع لضيوفها عن طِيب خاطر. أما ابنتهم؛ یكاترينا إيفانوفنا، الفتاة الشابة، فكانت تعزف على البيانو. وباختصارٍ كانت لكل فردٍ من أفراد العائلة موهبته الخاصة. وكان آل توركين يستقبلون الضيوف بحفاوة ويعرضون عليهم مواهبهم بمرح، وببساطةٍ قلبية. وكان بيتهم الحجري الكبير رحبًا، وفي الصيف باردًا، ويطل نصف النوافذ على بستانٍ قدیم ظليل تصدح فيه البلابل ربيعًا. وعندما يجلس الضيوف في الداخل، تسمع من المطبخ ضربات السكاكين، وتفوح في الفناء رائحة البصل المحمَّر … وكان ذلك يبشِّر في كل مرة بعشاءٍ لذيذ حافل.
وقد قيل أيضًا للدكتور ستارتسف، دیمتري أیونیتش، إثر تعيينه طبيبًا إقليميًّا واستقراره في «دیالیج»، على بُعد تسعة فراسخ من «س»، إنه لا بد له كشخصٍ مثقف من التعرف على آل توركين. وذات مرة، شتاء، قدَّموه إلى إيفان بتروفتش في الشارع. فتحدَّثا عن الطقس، وعن المسرح، وعن الكوليرا، وتلت ذلك الدعوة. وفي الربيع، يوم العيد — وكان ذلك عيد الصعود — وبعد أن فرغ ستارتسف من استقبال المرضى، رحل إلى المدينة ليرَفِّه عن نفسه قليلًا، وبالمناسبة، ليشتري بعض الأشياء، سار على قدمَيه، على مهل (لم يكن قد اقتنى خيوله الخاصة بعدُ) وهو يدندن طوال الطريق: لم أكن قد ذقتُ مرَّ الدمع من كأس الوجود …
تغدَّى في المدينة وتنزَّه في الحديقة، وبعد ذلك تذكَّر عفوًا دعوة إيفان بتروفتش فقرَّر أن يذهب إلى آل توركين ليرى أي ناسٍ هؤلاء.
– اجلس هنا — قالت فيرا يوسفوفنا وهي تُجلس الضيف بجوارها — يمكنك أن تغازلني. زوجي غيور، إنه عطيل، ولكننا سنحاول أن نفعل ذلك دون أن يلاحظ شيئًا.
وقدَّموا لستارتسف يكاترينا إيفانوفنا، فتاةً في الثامنة عشرة، تشبه أمها كثيرًا، ومثلها نحيلة ولطيفة. كانت قسماتها لا تزال طفولية، وخصرها دقیق ورقيق. وكان صدرها العذري الكاعب، الجميل، العفي يُنْبئ بالربيع، الربيع الحقيقي. ثم شربوا الشاي مع المربى والعسل والحلويات ومع بسكوتٍ لذيذ جدًّا كان يذوب في الأفواه. وبحلول المساء توافد الضيوف شيئًا فشيئًا، وكان إيفان بتروفتش يحدج كلًّا منهم بعينَيه الضاحكتَين ويقول: مرحبًا من فضلك.
ثم جلسوا جميعًا في غرفة الجلوس بوجوهٍ جدية للغاية، وراحت فيرا یوسفوفنا تقرأ لهم روايتها. وبدأَتها هكذا: «صقع الصقيع …» كانت النوافذ مفتوحة على مصاريعها، وسُمعَت ضربات السكاكين في المطبخ وتناهت رائحة البصل المحمَّر … واطمأنَّت النفوس في المقاعد الليِّنة العميقة، وومضَت الأضواء بِرقَّة في غسق الغرفة، وفي هذا المساء الصيفي، الذي تناهت فيه من الشارع أصوات وضحكات، وهبَّت من الفناء رائحة البنفسج، كان من العسير أن تفهم كيف صقع الصقيع، وكيف أضاءت الشمس الغاربة بأشعَّتها الباردة السهل الثلجي وذلك المسافر الوحيد في الطريق. كانت فيرا يوسفوفنا تقرأ عن كونتيسة شابة جميلة تُشيد المستشفيات والمدارس والمكتبات في قريتها، وكيف أحبَّت مصوِّرًا جوَّالًا … كانت تقرأ عمَّا لا يحدث أبدًا في الحياة، ومع ذلك كان سماعها لطيفًا ومريحًا، فكانت تتوارد إلى الذهن أفكارٌ طيبة مطمئنة، ولا تشعر بالرغبة في الانصراف.
وقال إيفان بتروفتش بصوتٍ خافت: لم بأس!
وقال أحد الضيوف لا يكاد يُسمع وهو يصغي ويُحلق بأفكاره بعيدًا جدًّا: نعم … بالفعل …
ومرَّت ساعة، وأخرى. وفي حديقة المدينة، المجاورة لهم، عزفَت فرقةٌ موسيقية وغنَّت جوقة منشدين، وعندما أغلقَت فیرا یوسفوفنا دفترها صمتوا حوالي خمس دقائق وهم يستمعون إلى أغنية «لوتشينوشكا» التي كانت الجوقة تغنِّيها، وعبَّرَت هذه الأغنية عما لم يكن في الرواية وعما يوجَد في الحياة.
وسأل ستارتسف فيرا يوسفوفنا: هل تنشرين مؤلفاتكِ في المجلات؟
فأجابت: كلا، أنا لا أنشرها في أي مكان، أكتبها وأخبئها في الصوان. وقالت موضحة: ولماذا النشر؟ إن لدَينا مواردنا.
ولسببٍ ما تنهَّد الجميع.
وقال إيفان بتروفتش لابنته: والآن يا قطة، اعزفي شيئًا ما.
ورفعوا غطاء البيانو، وفتحوا النوت الموضوعة هناك سلفًا. وجلسَت يكاترينا إيفانوفنا إلى البيانو وأهوَت بكلتا يدَيها على المفاتيح. ثم أهوَت على الفور مرةً أخرى بكل قوَّتها، ثم مرةً أخرى، فأخرى. وارتعش كتفاها وصدرها، وأخذَت تدق بعناد على نفس الموضع، وبدا أنها لن تكفَّ حتى تحشر المفاتيح داخل البيانو. وامتلأَت غرفة الجلوس بالرعد. كان كل شيء يرعد: الأرض، والسقف، والأثاث … كانت يكاترينا إيفانوفنا تعزف مقطعًا صعبًا، أطرف ما فيه صعوبته، مقطعًا طويلًا رتيبًا، فأخذ ستارتسف يُصغي ويتصور أحجارًا تهوي من جبلٍ عالٍ، تهوي بلا انقطاع، وأراد أن تكف عن السقوط بسرعة، وفي الوقت نفسه أعجبَته جدًّا يكاترينا إيفانوفنا، المتوردة من التوتر، القوية، النشطة، بخصلة الشعر المتهدلة على جبينها. وبعد الشتاء الذي قضاه في «دیالیج» بين الفلاحين والمرضى، كان الجلوس في هذه الغرفة، والتطلع إلى هذا المخلوق الفتي الرشيق، والطاهر على الأرجح، والاستماع إلى هذه الأصوات الصاخبة المزعجة، والراقية مع ذلك … كم كان هذا لطيفًا وجديدًا.
وأحاط بها الجميع، وهنئوها، وأعربوا عن إعجابهم وأقسموا إنهم لم يسمعوا منذ زمنٍ بعيد موسیقی كهذه، أما هي فأصغَت في صمت، بابتسامةٍ خفيفة، ونطقَت هیئتها كلها بالظفر.
– رائع! ممتاز!
– رائع! قال ستارتسف أيضًا منساقًا مع الإعجاب العام، وسألها: أين تعلمتِ الموسيقى؟ في الكونسرفاتوار؟
– كلا، أنا أستعد للالتحاق بالكونسرفاتوار، لكني حتى الآن كنت أدرس هنا، عند مدام زافلوفسكایا.
– هل تخرجتِ في مدرسة المدينة؟
– أوه، کلا! — أجابت عنها فيرا يوسفوفنا — لقد دعَونا المدرسين لتدريسها منزليًّا؛ ففي المدرسة أو المعهد يمكن أن تكون تأثيراتٌ سيئة. الفتاة في أثناء نموها يجب أن تكون تحت تأثير أمها فقط.
فقالت یكاترينا إيفانوفنا: ومع ذلك سأذهب إلى الكونسرفاتوار.
– كلا، القطة تحب ماما. القطة لن تفعل ما يغضب بابا وماما.
– کلا، سأذهب، سأذهب! قالت یكاترينا إيفانوفنا بمزاح ونزق، ودقَّت الأرض بقدمها.
أما في أثناء العشاء فقام إيفان بتروفتش بعرض مواهبه. كان يضحك بعينَيه فقط وهو يروي النكات، ويمزح، ويطرح مسائل مضحكة ويحلها بنفسه، ويتحدث طوال الوقت بلُغته غير العادية التي اكتسبها بالمران الطويل على التندُّر، والتي أصبحَت عادةً لدَيه منذ زمنٍ بعيد فيما يبدو: كبُّور، لم بأس، شكرًا هزيلًا.
فقال له إيفان بتروفتش: هيَّا بافا، مثِّل!
فاتخذ بافا وضعًا تمثيليًّا، ورفع يده إلى أعلى وقال بصوتٍ مأساوي: فلْتموتي أيتها التعيسة!
وقهقه الجميع.
«طريف!» قال ستارتسف لنفسه وهو يخرج إلى الشارع.
وذهب إلى المطعم فشرب بيرة، ثم توجه إلى «دیالیج» سيرًا على الأقدام. وظل طوال الطريق يدندن: صوتكِ في سمعي عذبٌ وشجي.
وعندما استلقى لينام بعد أن قطع تسعة فراسخ لم يشعر بأي تعب، بالعكس فقد بدا له أنه يستطيع بكل سرور أن يقطع عشرین فرسخًا أخرى.
«لم بأس …» تذكَّر وهو ينعس فضحك.
٢
نوی ستارتسف أن يزور آل توركين، ولكن العمل في المستشفى كان كثيرًا جدًّا فلم يتمكن من اقتناص ساعة فراغ. ومَرَّ أكثر من سنة على هذه الحال من الكد والوحدة. ولكن ها هم أولاء قد جاءوا من المدينة برسالة في مظروفٍ أزرق.
كانت فيرا يوسفوفنا تعاني من صداعٍ نصفي منذ زمنٍ بعيد، ولكن نوبات الصداع تزايدَت في الفترة الأخيرة عندما أصبحَت القطة تخيفها كل يوم بالرحيل إلى الكونسرفاتوار. وجاء إلى آل تورکين كل أطباء المدينة، حتى وصل الدور أخيرًا إلى الطبيب الإقليمي. كتبَت له فيرا يوسفوفنا رسالةً رقيقة دعَته فيها إلى الحضور وتخفيف عذابها. وجاء ستارتسف، وبعد ذلك أصبح يتردد على آل توركین كثيرًا، كثيرًا جدًّا.
وبالفعل فقد خفف عن فيرا يوسفوفنا إلى حدٍّ ما، فراحت تقول لجميع الضيوف إنه دکتورٌ مدهِش عظيم. ولكنه لم يعُد يزور آل توركين الآن من أجل صداعها.
كان يوم عيد. وأنهت یكاترينا إيفانوفنا تمریناتها الطويلة المرهقة على البيانو. وبعد ذلك جلسوا طويلًا في غرفة الطعام يتناولون الشاي، وروی إيفان بتروفتش شيئًا ما مضحكًا. وها هو ذا جرس الباب يدق، ولا بد من الذهاب إلى المدخل لاستقبال ضيفٍ ما. وانتهز ستارتسف فرصة الاضطراب فقال ليكاترينا إيفانوفنا همسًا وهو في شدة الانفعال: أرجوكِ، أتوسل إليكِ، لا تعذبیني، فلنذهب إلى البستان!
هزَّت كتفَيها كأنما تستغرب ولا تفهم ما الذي يريده منها، ولكنها نهضَت وذهبَت.
وقال وهو يتبعها: أنتِ تعزفين على البيانو ثلاث وأربع ساعات، ثم تجلسين مع ماما، وليس هناك أي فرصة للحديث معكِ. أعطيني ولو ربع ساعة، أرجوكِ.
كان الخريف يقترب، فكان الجو هادئًا وحزينًا في البستان القديم، وغطَّت أرض الممرات أوراق دکناء. وأصبح الغسق يهبط مبكرًا.
ومضى ستارتسف يقول: أنا لم أركِ أسبوعًا كاملًا، وآه لو تعلمين أي عذابٍ هذا! فلنجلس. أصغي إليَّ.
كان لدَيهما مكانٌ مفضل في البستان: أريكة تحت شجرة قيقب عجوز عريضة. وها هما ذان قد جلسا على هذه الأريكة.
وسألَت يكاترينا إيفانوفنا بجفاء، بصوتٍ عملي: ماذا تريد؟
– أنا لم أركِ أسبوعًا كاملًا، لم أسمعكِ منذ مدةٍ طويلة. أنا مشتاق جدًّا، أنا ظمآن إلى صوتكِ. تكلمي.
أثارت إعجابه بنضارتها وبتعبير السذاجة في عينَيها وخدَّيها. حتى في كون الفستان لائقًا عليها رأى ستارتسف شيئًا رقيقًا للغاية ومؤثِّرًا ببساطته ورشاقته الساذجة. وفي الوقت نفسه، وبالرغم من هذه السذاجة، بدَت له ذكية جدًّا وناضجة بأكبر من سنها. كان بوسعه أن يتحدث معها عن الأدب وعن الفن، عن أي شيء، بوسعه أن يشكو لها من الحياة والبشر، رغم أنه كان يحدث في أثناء الحديث الجدِّي أن تضحك فجأةً دون مناسبة أو تركض إلى البيت. كانت ككل فتيات مدينة «س» تقرأ كثيرًا (وعمومًا فقد كانوا في «س» يقرءون قليلًا جدًّا، وكانوا في المكتبة المحلية يقولون إنه لولا الفتيات واليهود الشبان لتوجَّب إغلاق المكتبة). وكان ذلك يعجب ستارتسف إلى أقصى حد، وفي كل مقابلة كان يسألها بانفعال عما قرأَته في الآونة الأخيرة، ويصغي مسحورًا إلى ما تَرويه.
وسألها الآن: وماذا قرأتِ في الأسبوع الأخير الذي لم نتقابل فيه؟ تحدَّثي أرجوكِ.
– وماذا بالتحديد؟
– فأجابت القطة: «ألف نفس». كم كان اسم بیسیمسكي مضحكًا: أليكسي فيوفيلاكتش!
– إلى أين أنت؟ — قال ستارتسف بذعرٍ عندما نهضَت فجأةً ومضَت إلى البيت — أنا بحاجة إلى الحديث معكِ، يجب أن أصارحكِ … ابقي معي ولو خمس دقائق! أستحلفكِ!
فتوقفَت كأنما تريد أن تقول شيئًا، ثم دسَّت في يده بحرج قصاصة وركضَت إلى البيت، حيث جلسَت إلى البيانو من جديد.
وقرأ ستارتسف: «اليوم في الحادية عشرة مساءً انتظرني في المقابر عند تمثال دیمیتِّي.»
وفكَّر عندما عاد إلى صوابه: «ليس هذا ذكيًّا على الإطلاق. ما دخْل المقابر هنا؟ لأي غرض؟»
كان واضحًا أن القطة تعبث. وبالفعل فمن ذا الذي يفكر جديًّا في تحديد موعدٍ ليلًا، بعيدًا خارج المدينة، في المقابر، بينما من السهل تدبير ذلك في الشارع، في حديقة المدينة؟ وهل تليق به وهو طبيب الإقليم، الرجل الذكي الرصين هذه الزفرات والرسائل والتسكع في المقابر وارتكاب الحماقات التي يضحك منها الآن حتى تلاميذ المدارس؟ إلى أين ستقوده هذه الغراميات؟ وما الذي سيقوله رفاقه إذا علموا؟ هكذا فكر ستارتسف وهو يتجول في النادي حول طاولات القمار، ولكنه في منتصف الحادية عشرة قرر فجأةً أن يرحل إلى المقابر.
كان قد اقتنى زوجًا من الجياد وحوذيًا يُدعى بانتیلیمون، يرتدي صديریًّا من القطيفة. وكان القمر في السماء. وساد الهدوء والدفء، ولكنه دفءٌ خريفي. وفي ضاحية المدينة، قُرب المجزر، عوت الكلاب. وترك ستارتسف عربته عند طرف المدينة في إحدى الحارات، وذهب إلى المقابر سيرًا على الأقدام. وفكَّر: «لكل شخصٍ غرائبه. والقطة أيضًا غريبة. ومن يدري؟ ربما لم تكن تمزح، وستأتي.» واستسلم لهذا الرجاء الضعيف الفارغ فانتشى.
قطع نصف فرسخٍ عبر الحقل. ولاحت المقابر في البعيد خطًّا أسود كالغابة أو البستان الكبير. وظهر سورٌ حجري أبيض وبوابة … وكان من الممكن في ضوء القمر قراءة هذه الكلمات على البوابة: «تأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور …» ودخل ستارتسف، وكان أول ما رآه الصلبان البيضاء والتماثيل على كلا جانبَي الممر الطويل العريض، وظلالًا سوداء ترتمي منها ومن أشجار الحور. كان الأبيض والأسود مرئيَين لمسافةٍ بعيدة حوله، وأسدلَت الأشجار الناعسة أغصانها على الأبيض. وبدا أن المكان هنا أكثر نورًا من الحقل. وبرزَت أوراق القيقب التي تشبه المخالب بحدة على خلفية الرمال الصفراء في الممرات وعلى الألواح كما كانت الكتابات على التماثيل بادية. أذهل ستارتسف في اللحظات الأولى ما يراه الآن لأول مرة في حياته، وما لن يتسنى له في الغالب أن يراه بعد ذلك … عالم لا يشبه أي شيءٍ آخر، عالم فيه نور القمر جميل وناعم إلى هذه الدرجة، وكأنما هنا مهدُه، عالم ليس فيه حياة قَط قَط، ولكنك تحس في كل شجرة حورٍ قاتمة وفي كل قبر بوجود سر يعِد بحياةٍ هادئة رائعة خالدة. ومع رائحة الأوراق الخريفية ينبعث من الألواح والأزهار الذابلة الغفران والأسى والسكينة.
الصمت يلف المكان. وأطلَّت النجوم من المساء في استكانةٍ عميقة، فترددَت خطوات ستارتسف بحدة ونشاز. وعندما بدأَت ساعة الكنيسة تدق وتصور نفسه ميتًا ومدفونًا هنا إلى الأبد، عندئذٍ فقط خُيِّل إليه أن أحدًا يتطلع إليه، ففكر للحظة أن هذا ليس هدوءًا وسكينة، بل وحشة العدم الصماء، واليأس المكبوت.
كان تمثال دیمیتِّي على شكل مصلى بملاك في أعلاه. في زمنٍ ما مرت بمدينة «س» فرقة أوبرا إيطالية، وتُوفيَت إحدى المغنيات فدفنوها هنا وأقاموا لها هذا التمثال. ولم يعُد أحد يذكرها في المدينة، ولكن القنديل المعلَّق على المدخل عكَس ضوء القمر فبدا وكأنما يشتعل.
لم يكن هناك أحد. ومن ذا الذي سيأتي إلى هنا في منتصف الليل؟ ولكن ستارتسف انتظر وكأنما ألهب فيه ضوء القمر العواطف الجياشة فراح ينتظر بهيام ويرسم في خياله القبلات والأحضان. جلس بجوار التمثال نصف ساعة، ثم تمشَّى في الممرات الجانبية وقبعته في يده وهو ينتظر ويفكر: كم يرقد هنا في هذه القبور من نساء وفتيات، كنَّ جميلات، فاتنات، أحببن، وتأججَت شهواتهن في الليالي مستسلمات للحنان. وما أسوأ مزاح أُمنا الطبيعة بالإنسان، في الواقع، وما أمرَّ أن تعي ذلك! كان ستارتسف يفكر هكذا، وفي الوقت نفسه ودَّ لو يصرخ بأنه يريد الحب وينتظره مهما كان الأمر. ولم يعُد ما يلمع أمامه هو القِطع المرمرية البيضاء بل أجسادٌ رائعة، رأى تكويناتها تتستر في خجل بظلال الأشجار، وأحس بدفئها، وأصبح هذا الضنى لا يُطاق.
كأنما أُسدِل الستار … اختفى القمر خلف السحب، فأظلم المكان كله فجأةً. وبالكاد عثر ستارتسف على البوابة، فقد كان الجو مظلمًا كما في ليلةٍ خريفية، ثم تخبط حوالي ساعة ونصف بحثًا عن الحارة التي ترك فيها العربة.
وقال لبانتيليمون: أنا متعَب، لا أكاد أقف على قدمَي.
وعندما جلس بتلذُّذ في العربة فكر: «آه، لا يجوز أن أسمن!»
٣
في مساء اليوم التالي رحل إلى آل توركين ليخطب ابنتهم. ولكن الفرصة لم تكن مناسبة؛ إذ كان الحلاق يصفف شعر يكاترينا إيفانوفنا في غرفتها. كانت تستعد للذهاب إلى حفلةٍ راقصة في النادي.
واضطُر مرةً أخرى إلى الجلوس طويلًا في غرفة المائدة وشرب الشاي. وعندما رأى إيفان بتروفتش أن ضيفه مستغرق في التفكير وضجر، أخرج من جيبه أوراقًا وقرأ رسالةً مضحكة من وكيل أعماله الألماني يقول فيها: إن جميع قوافل الأبواب في الضيعة قد «عندَت»، وإن الحيطان قد «جلسَت».
وفكر ستارتسف وهو يصغي إليه شارد البال: «أظن أنهم سيعطون بائنة كبيرة.»
كان في حالة من الذهول بعد ليلةٍ مسهدة وكأنما سقوه شرابًا حلوًا منومًا. وكان الضباب يلفُّ روحه، ولكنه أحس بالفرحة والدفء، وفي الوقت نفسه كانت ثمة قطعةٌ باردة ثقيلة في رأسه تفكر: «توقفْ قبل فوات الأوان! هل هي تناسبك؟ إنها مدللة، نزقة، تنام حتى الساعة الثانية، أمَّا أنت فابن شماس، طبيبٌ إقليمي …»
وقال في نفسه: «وماذا؟ فليكن.»
ومضَت القطعة تقول: «وعلاوة على ذلك إذا تزوجتَها فسوف يرغمك أهلها على ترك العمل في الإقليم والعيش في المدينة.»
فقال في نفسه: «وماذا؟ فليكن في المدينة. سيعطوننا بائنة فنؤثث بیتًا …»
وأخيرًا دخلَت يكاترينا إيفانوفنا في فستان سهرة ديكولتيه، جميلة، نظيفة، فملَّى ستارتسف عينَيه منها وتملَّكه الإعجاب لدرجة أنه لم يستطع أن يتفوَّه بكلمة، بل أخذ يتطلع إليها ويضحك.
وهمَّت بالانصراف فنهض — إذ لم يعُد ثمة معنًی لبقائه — وقال إنه آن له أن يعود، فالمرضى في انتظاره.
فقال إيفان بتروفتش: طيب، ما العمل؟ اذهب، وبالمناسبة توصِّل القطة إلى النادي.
كان مطرٌ خفيف يسقط في الخارج، والظلام حالكًا، ومن سعال بانتيليمون الأبح وحده كان يمكن تحديد مكان العربة. وشدوا غطاء العربة.
وقال إيفان بتروفتش وهو يُجلس ابنته في العربة: أنا أفقت من النوم، أنت أفقت، هو أفَّاك، هم أفَّاكون … أفَّاکون هيَّا، تحرك. وداعًا من فضلك!
وتحركوا.
وقال ستارتسف: لقد ذهبتُ أمس إلى المقابر … كم كنتِ ظالمة وقاسية عليَّ …
– هل كنت في المقابر؟
– نعم، وانتظرتكِ حتى الساعة الثانية. كنت أتعذَّب.
– فلتتعذب ما دمتَ لا تفهم المزاح.
قهقهَت يكاترینا إيفانوفنا وقد أسعدَها أنها مزحَت بهذه الصورة الماكرة من عاشقها وأنه يحبها إلى هذه الدرجة، ولكنها صرخَت فجأةً رعبًا، ففي تلك اللحظة انعطفَت العربة بحدة إلى بوابة النادي فمالت. وطوَّق ستارتسف خصرها فالتصقَت به مذعورة، ولم يتمالك نفسه فقبَّلها بشهوة في شفتَيها وذقنها، وضمَّها إليه بشدة.
فقالت بجفاء: کفى.
وبعد لحظةٍ لم تكن في العربة، وصاح الشرطي الواقف بجوار مدخل النادي المضاء في بانتيليمون بصوتٍ منفِّر: ما لك تقف أيها الغراب؟ سِر في طريقك!
ورحل ستارتسف إلى بيته، لكنه سرعان ما عاد. ارتدی فراکًا مستأجَرًا ورابطة عنقٍ بيضاء قاسية كانت تنفر وتوشك على الانزلاق عن الياقة. وفي منتصف الليل كان جالسًا في قاعة الجلوس في النادي يقول ليكاترينا إيفانوفنا بهيام: أوه، ما أقل ما يعرف أولئك الذين لم يحبوا! يُخيَّل إليَّ أن أحدًا لم يصوِّر الحب تصويرًا صحيحًا حتى الآن، ولا أظن أنه من الممكن تصویر هذا الإحساس الرقيق البهيج المضني، ومَن كابده ولو مرة فلن يصوره بالكلمات. ما الداعي للمقدمات والتصوير؟ ما الداعي للبلاغة التي لا معنى لها؟ إن حبي بلا حدود … أرجوكِ، أتوسل إليك. قال ستارتسف أخيرًا: كوني زوجتي!
ففكرَت یكاترينا إيفانوفنا ثم قالت وعلى وجهها تعبيرٌ جاد جدًّا: يا ديمتري أيونيتش، أنا ممتنة لك جدًّا على هذا التشريف، إنني أحترمك ولكن … — ونهضَت واستطردَت وهي واقفة — ولكن اعذرني، لا أستطيع أن أكون زوجتك. فلنتحدث جديًّا. أنت تعرف یا دیمتري أيونيتش أنني أحب الفن أكثر من أي شيء، إنني أهوى الموسيقى، أحبها بجنون، وقد وهبتُها كل حياتي. أنا أريد أن أصبح فنانة، أريد الشهرة والنجاح والحرية، وأنت تريدني أن أواصل الحياة في هذه المدينة، أواصل هذه الحياة التافهة الخاوية التي أصبحتُ لا أحتملها. أن أصبح زوجة … أوه، کلا، اعذرني! يجب على الإنسان أن يسعى إلى هدفٍ أسمى باهر، أما الحياة العائلية فستقيدني إلى الأبد. یا دیمتري أيونيتش (وابتسمَت قليلًا، فعندما قالت: «دیمتري أیونیتش» تذكرَت «أليكسي فيوفيلاكتش»)، یا دیمتري أيونيتش، أنت رجلٌ طيب، نبیل، ذکي، أنت أحسن الجميع … — واغرورقَت عيناها بالدموع — أنا أتعاطف معك من كل قلبي، ولكن … ولكنك ستفهم.
واستدارت کي لا تبكي وخرجَت من القاعة.
کفَّ قلب ستارتسف عن الخفقان المؤلم. وكان أول ما فعله عندما خرج من النادي أن انتزع من رقبته رابطة العنق القاسية وتنفَّس بملء رئتَيه. كان يشعر بشيء من العار وبأن كرامته أُهينَت — إذ لم يتوقع الرفض — ولم يصدق أن كل أحلامه ولوعته وآماله قد أفضَت به إلى هذه النهاية الحمقاء كما في مسرحيةٍ صغيرة من عروض الهواة. وكان يشعر بالشفقة على إحساسه، على حبه هذا، كان يشعر بالشفقة إلى درجةٍ بدا له فيها أنه مستعد لأنْ ينفجر بالبكاء أو يهوي بالشمسية على ظهر بانتيليمون العريض.
ظل ثلاثة أيامٍ غير قادر على العمل، ولم يأكل ولم ينم، ولكن حينما بلغه أن يكاترينا إيفانوفنا قد سافرَت إلى موسكو للالتحاق بالكونسرفاتوار، هدأَت نفسه وعاد إلى حياته السابقة.
وفيما بعدُ، حين كان يتذكر أحيانًا كيف تمشَّى في المقابر، وكيف قطع شوارع المدينة كلها بحثًا عن فراك، كان يتمطَّى في كسل ويقول: أوه، يا لها من هموم كانت!
٤
مرَّت أربع سنوات، وأصبح لدى ستارتسف الكثير من الزبائن في المدينة. وكل صباح كان يستقبل المرضى في دياليج بعجلة ثم يرحل إلى مرضاه في المدينة، ويرحل الآن لا في عربة بجوادَین بل في عربة «ترويكا» بأجراس، ويعود إلى البيت في ساعةٍ متأخرة. أصبح ممتلئًا، بدينًا، لا يحب السير على قدمَيه؛ إذ كان يعاني من اللهاث. وبانتیلیمون أيضًا أصبح بدينًا، وكلما ازداد امتلاءً زفر بحسرة واشتكى من حظه المرير: فقد قهرَته السواقة!
كان ستارتسف يتردد على بيوتٍ كثيرة ويلتقي بأناسٍ كثيرين ولكنه لم يوطِّد علاقته بأحد. كان البرجوازيون الصغار يثيرونه بأحاديثهم وبآرائهم في الحياة، بل حتى بمظهرهم. وعلمَته الخبرة شيئًا فشيئًا أن البرجوازي الصغير، طالما تلعب معه الورق أو تشرب وتمز، فهو شخصٌ مسالم، سمح، بل حتی ذکي، ولكن ما إن تتحدث معه عن شيء لا يؤكل، عن السياسة أو العلم مثلًا، حتى يواجه مأزقًا أو يشرع في الثرثرة بفلسفةٍ بليدة، شريرة؛ حتى لا يعود أمامك إلا أن تشیح بيدَيك وتبتعد. وحينما حاول ستارتسف أن يتحدث حتى مع برجوازي لیبرالي عن أن البشرية والحمد الله تسير إلى الأمام وأنها في المستقبل ستستغني عن جوازات السفر وعن عقوبة الإعدام، نظر إليه البرجوازي شزرًا وبريبة وسأله: «وإذن فسيكون بوسع أي شخص أن يَذبح في الشارع من يشاء؟» وعندما كان ستارتسف يتحدث في جمْع في أثناء العشاء أو تناول الشاي عن أنه لا بد من الكدح، وأنه لا يمكن أن تعيش بلا عمل، كان كل شخص يعتبِر ذلك لومًا موجهًا إليه، فيتملكه الغضب ويشرع في الجدال بإلحاح. وعلاوة على ذلك كله لم يكن البرجوازيون الصغار يفعلون أي شيء مطلقًا، ولم يهتموا بشيء، وكان من المستحيل إيجاد مادة للحديث معهم. فصار ستارتسف يتجنب الأحاديث ويأكل فقط ويلعب «الفنت»، وعندما تصادِف زيارته عيدًا عائليًّا في أحد البيوت ويدعونه للمائدة، كان يجلس ويأكل في صمت محدقًا في طبقه. وكل ما كان يُقال آنذاك كان غير طريف، ظالمًا، أحمق، فيشعر بالانزعاج والاضطراب، ولكنه يصمت. ولأنه كان يصمت دائمًا في تجهُّم ويحدق في طبقه فقد سمَّوه في المدينة «البولندي المتعجرف» رغم أنه لم يكن بولنديًّا في أي وقت من الأوقات.
كان يتحاشى ألوان التسلية من أمثال العروض المسرحية وحفلات الموسيقى، وفي المقابل كان يلعب «الفنت» كل مساء، حوالي ثلاث ساعات، وباستمتاع. وكانت لدَيه تسليةٌ أخرى انغمس فيها شيئًا فشيئًا ودون أن يلحظ؛ فقد كان كل مساء يستخرج من جيوبه أوراق البنكنوت التي حصل عليها من مرضاه، وأحيانًا تكون جيوبه محشوة بحوالي سبعين روبلًا من شتَّى الأوراق الصفراء والخضراء التي تفوح منها رائحة العطور، والخل، والبخور، وزيت الحوت. وعندما يتجمع لدَيه منها بضع مئات كان يحملها إلى جمعية القرض المتبادل فيودعها في حسابه الجاري.
وخلال السنوات الأربع التي مرَّت بعد رحيل يكاترينا إيفانوفنا لم يزر آل توركين سوی مرَّتَين بدعوة من فيرا يوسفوفنا التي كانت لا تزال تتعالج من الصداع النصفي. وكانت يكاترينا إيفانوفنا تأتي إلى أهلها كل صيف لقضاء العطلة، ولكنه لم يرَها مرةً واحدة، لم يتصادف ذلك.
وها هي ذي السنوات الأربع قد انصرفَت. وذات صباحٍ هادئ دافئ تسلَّم رسالة في المستشفى. كتبَت فيرا يوسفوفنا تقول إنها اشتاقت إليه جدًّا ورجَته أن يتفضل بزيارتها حتمًا ليخفف من عذابها، كما أن اليوم بالمناسبة عيد ميلادها. وفي أسفل الرسالة أضافت: «أضم صوتي إلى رجاء ماما … ك.»
وفكر ستارتسف ثم رحل مساءً إلى آل توركين.
– آه، مرحبًا من فضلك — استقبله إيفان بتروفتش مبتسمًا بعينَيه فقط — بونجور عليكم.
وصافحَت فيرا يوسفوفنا التي هرمَت بشدة وابيضَّ شعرها ید ستارتسف وتنهدَت بتصنُّع وقالت: أنت يا دكتور لا تريد أن تغازلني، ولا تزورنا أبدًا، أصبحتُ عجوزًا بالنسبة لك. ولكن ها هي ذي أخرى شابة قد جاءت، فربما كان حظها أسعد.
وماذا عن القطة؟ لقد هزلَت وشحبَت، وأصبحَت أجمل وأرشق، ولكنها الآن يكاترينا إيفانوفنا وليست القطة. لم تعُد فيها تلك النضارة السابقة وتعبير السذاجة الطفولية. وكان في نظراتها وحركاتها شيءٌ جديد، شيءٌ متردِّد ومذنب كأنما لم تعُد تشعر هنا، في دار آل توركين، بأنها في بيتها.
– من زمانٍ لم نرك! قالت وهي تمد يدها إلى ستارتسف، وكان واضحًا أن قلبها يدق بقلق. وحدجَته بنظرةٍ فاحصة وبفضول واستطردَت: کم سمنتَ! لوحَتكَ الشمس، وكبرتَ، ولكنك عمومًا لم تتغير كثيرًا.
كانت الآن أيضًا تعجبه، تعجبه جدًّا، ولكن كان ينقصها شيءٌ ما، أو كان فيها شيءٌ زائد، ولم يكن بوسعه أن يحدد هذا الشيء، ولكن شيئًا ما كان يعوقه عن الإحساس بما كان يحس به من قبل. لم يعجبه شحوبها، والتعبير الجديد على وجهها، وابتسامتها الواهنة، وصوتها، ثم بعد فترةٍ قصيرة لم يعُد يعجبه فستانها، والمقعد الذي جلسَت فيه، لم يعجبه شيءٌ ما في الماضي عندما كاد أن يتزوجها. وتذكَّر حبه وأحلامه وآماله التي أثارَته قبل أربع سنوات، فشعر بالحرج.
شربوا الشاي مع كعكةٍ حلوة. ثم قرأَت فيرا يوسفوفنا روايةً عما لا يحدث أبدًا في الحياة، وأصغى ستارتسف وهو يتطلع إلى رأسها الأشيب الجميل منتظرًا أن تنتهي من القراءة.
وفكر: «العاطل من الموهبة ليس ذلك الذي لا يجيد كتابة الروايات، بل ذلك الذي يكتبها ولا يجيد إخفاء ذلك.»
وقال إيفان بتروفتش: لا بأس.
ثم عزفَت یكاترينا إيفانوفنا على البيانو بصخب ولمدةٍ طويلة. وعندما انتهت من العزف شكروها طويلًا وأبدَوا إعجابهم بها.
وفكر ستارتسف: «حسنًا أنني لم أتزوجها.»
ونظرَت إليه وهي تنتظر على ما يبدو أن يقترح عليها الخروج إلى البستان، ولكنه جلس صامتًا.
فقالت وهي تقترب منه: هيَّا نتحدث. كيف أحوالك؟ ماذا لدَيك؟ لقد كنت طوال هذه الأيام أفكر فيك — استطردَت بعصبية — أردتُ أن أرسل إليك خطابًا، أردتُ أن أذهب بنفسي إليك في دياليج، وقررتُ بالفعل أن أذهب، ولكني عدلتُ، فمن يدري ما هو إحساسك الآن نحوي. بأي قلق انتظرتُ مجيئك اليوم. أستحلفك بالله، فلنذهب إلى البستان.
وذهبا إلى البستان، وجلسا هناك على الأريكة تحت القيقب العجوز كما حدث منذ أربع سنوات. وكان الجو مظلمًا.
وسألته یكاترينا إيفانوفنا: إذن … كيف أحوالك؟
فأجاب ستارتسف: لا بأس. الأمور تسير.
ولم يستطع أن يجد أكثر من ذلك، فصمتا.
وقالت يكاترينا إيفانوفنا وغطَّت وجهها بيدَيها: إنني مضطربة، ولكن لا تُلقِ بالًا. كم أشعر بالراحة في البيت، كم أنا سعيدة برؤية الجميع ولا أستطيع أن أتعوَّد على ذلك. كم من ذكريات! بدا لي أننا سنتحدث بلا توقُّف حتى الصباح.
كان الآن يرى عن قُربٍ وجهها وعينَيها البراقتَين، فبدَت له هنا، في الظلام، أصبى مما كانت في الغرفة بل كأنما عاد إليها التعبير الطفولي السابق. وبالفعل فقد كانت تنظر إليه بفضولٍ ساذج، وكأنما تريد أن تتأمل وتفهم عن قُرب هذا الرجل الذي أحبها في وقتٍ ما بذلك التأجج وتلك الرقة وتلك النهاية التعيسة. وشكرَته عيناها على ذلك الحب. فتذكَّر كل ما حدث، بأدق التفاصيل، كيف جال وسط المقابر، وكيف عاد بعدها إلى البيت قرب الصباح متعبًا، فأحس فجأةً بالحزن والأسف على الماضي. وومضَت في روحه جذوة.
فقال: أتذكرين كيف أوصلتكِ إلى الحفل في النادي؟ كان المطر يسقط آنذاك، والدنيا مظلمة.
وازدادت الجذوة اشتعالًا في روحه، وأحس برغبة في الحديث والشكوى من الحياة …
وقال متنهدًا: إيه! ها قد سألتِني عن أحوالي وكيف أحيا. كيف نحيا هنا؟ لا نحيا. نهرم ونسمن ونتدهور. نهار وليل ويمر اليوم، وتمضي الحياة كابية، بلا انطباعات، بلا أفكار … بالنهار الكسب وبالليل النادي وصحبة المقامرين والسكاری، ذوي الأصوات المبحوحة الذين لا أطيقهم. فأي خير؟
– ولكنَّ لدَيك عملًا، هدفًا نبيلًا في الحياة. كم كنت تحب الحديث عن مستشفيات. كنت أنا حينذاك غريبة، أتصور نفسي عازفةً عظيمة. كل الآنسات الآن يعزفن على البيانو، وأنا أيضًا كنت أعزف مثل الجميع، ولم يكن فيَّ أي شيءٍ مميز. أنا عازفة مثلما أمي كاتبة. وبالطبع لم أفهمك آنذاك، ولكن فيما بعد، في موسكو، کنت كثيرًا ما أفكر فيك. كنت أفكر فيك وحدك. يا لها من سعادة أن تكون طبيبًا إقليميًّا وتساعد المعذَّبين وتخدم الشعب — وكررَت يكاترينا إيفانوفنا بحماس — يا لها من سعادة! عندما كنتُ أفكر فيك في موسكو كنتَ تبدو لي مثالیًّا، ساميًا.
وتذكَّر ستارتسف الأوراق التي يستخرجها من جيوبه بلذة كل مساء فانطفأَت الجذوة في روحه.
ونهض لكي يذهب إلى البيت. فوضعَت ذراعه في ذراعها. ومضَت تقول: أنت أفضل مَن عرفتُهم في حياتي. سوف نتقابل ونتحدث أليس كذلك؟ عِدني. أنا لست عازفة بيانو، ولم أعُد مخدوعة فيما يخصني، ولن أعزف في حضورك أو أتحدث عن الموسيقى.
وعندما دلفا إلى البيت ورأى ستارتسف في ضوء المساء وجهها وعينها الحزينتَين الشاكرتَين المتفرستَین والمصوبَتَين إليه، أحس بالقلق وفكر ثانية: «حسنًا أنني لم أتزوجها آنذاك.»
ونهض يودِّع.
فقال إيفان بتروفتش وهو يوصله: ليس لدَيك أي حقٍّ روماني في الرحيل دون عشاء. هذا من جانبك محوري جدًّا … هيَّا، مثِّل. قال مخاطبًا بافا في المدخل.
اتخذ بافا، الذي لم يعُد صبيًّا، بل شابًا بشوارب، وضعًا تمثيليًّا ورفع يده إلى أعلى وقال بصوتٍ مأساوي: فلتموتي أيتها التعيسة!
أثار ذلك كله ستارتسف. وعندما جلس في العربة ونظر إلى البيت المظلم والبستان اللذين كانا رقيقَين وعزيزَين عليه جدًّا في زمنٍ ما، تذكَّر على الفور كل شيء: رويات فيرا يوسفوفنا، وعزْف القطة الصاخب، ونكات إيفان بتروفتش ووضع بافا المأساوي، وفكَّر: إذا كان أكثر الناس موهبة في هذه المدينة على هذه الدرجة من البؤس، فكيف ينبغي إذن أن تكون المدينة؟
بعد ثلاثة أيام جاء بافا برسالة من يكاترينا إيفانوفنا.
«أنت لا تزورنا. لماذا؟ — كتبَت تقول — أخشى أن تكون قد تغيرتَ نحونا. أخاف وأشعر بالرهبة من مجرد التفكير في ذلك. فلْتطمَئن، تعالَ وقل إن كل شيء على ما يرام.
أنا بحاجة إلى التحدث معك. المخلصة ي. ت.»
قرأ هذه الرسالة، وفكَّر، ثم قال لبافا: قل لها يا عزيزي إنني لا أستطيع الحضور اليوم. أنا مشغول جدًّا. قل لها إنني سآتي بعد حوالي ثلاثة أيام.
بيد أنه مرَّت ثلاثة أيام، ومَرَّ أسبوع لكنه لم يذهب. وذات مرة كان مارًّا بجوار منزل آل توركين فتذكر أنه ينبغي أن يعرِّج ولو لدقيقة ولكنه فكر و… لم يعرِّج.
وبعدها لم يزُر آل توركين قَط.
٥
ومرَّت عدة سنواتٍ أخرى. ازداد ستارتسف سمنة وشحمًا، وأصبح يتنفس بصعوبة ويسير ورأسه ملقًى إلى الوراء. وعندما يستقل الترويكا ذات الأجراس، مكتنزًا، أحمر الوجه، وبانتيليمون أيضًا مكتنز أحمر الوجه، بقفًا غزير اللحم، جالسًا على مقعد الحوذي ويمد إلى الأمام ذراعَيه المستقيمتَين كأنهما خشبيَّتان، ويصيح في المارة: «الزم يمينك!»؛ فإن الصورة تبدو مهيبة، ويبدو أن الراكب ليس بشرًا بل صنمٌ وثني. وأصبح لدَيه في المدينة زبائن لا حصر لهم، ولا وقت لدَيه لالتقاط الأنفاس، ولدَيه ضيعة ومنزلان في المدينة ويسعى لاقتناء ثالث، مربح، وعندما يخبرونه في جمعية القرض المتبادل عن منزلٍ ما مخصَّص للبيع، يتوجه إلى هذا البيت دون كلفة، ويطوف بجميع غُرفه غير عابئ بالنساء المتجردات والأطفال الذين ينظرون إليه بذهول ورهبة، ويدفع بعصاه جميع الأبواب ويقول: هذه غرفة مكتب؟ وهذه غرفة نوم؟ وماذا هنا؟
وفي أثناء ذلك يتنفس بصعوبة ويمسح العرق عن جبينه.
ولدَيه مشاغل كثيرة، ومع ذلك لا يترك وظيفة طبيب الإقليم. لقد تملكه الجشع، ويود أن يلحق هنا وهناك. وأصبحوا يدعونه في المدينة وفي دياليج أيونيتش فقط. يقولون: «إلى أين يذهب أيونيتش؟» أو: «ألا ندعو أيونيتش للكونسلتو؟»
وربما لأن الشحم تراكم في زوره فقد تغيَّر صوته، أصبح رفيعًا حادًّا. وتغيرَت طِباعه أيضًا. أصبح ثقيلًا، عصبيًّا. وعندما يستقبل المرضى يغضب عادة ويدق بعصاه على الأرض بنفاد صبر ويصرخ بصوته المنفِّر: تفضل بالإجابة عن الأسئلة فقط! ممنوع الكلام!
وهو وحيد. يحيا بملل، ولا يهتم بشيء.
وطوال إقامته في دياليج كان حبه للقطَّة فرحتَه الوحيدة وربما الأخيرة. وفي المساء يلعب «الفنت» في النادي، ثم يجلس وحيدًا إلى مائدةٍ كبيرة ويتعشى. ويقوم على خدمته النادل إيفان، أقدم الخدم وأكثرهم احترامًا ويقدِّم له نبيذ لافيت رقم ١٧، ويعرف الجميع — رؤساء النادي والطهاة والنادل — ماذا يحب وما لا يحب، ويبذلون قصارى جهدهم لنَيل رضاه، وإلا لا قدَّر الله فقد يغضب فجأةً ويروح يدق الأرض بعصاه.
وفي أثناء العشاء يلتفت أحيانًا فيتدخل في حديثٍ ما: ما هو الموضوع؟ هه؟ من؟
وإذا ما حدث أن دار الحديث على طاولةٍ مجاورة عن آل توركين فإنه يسأل: عن أي توركين تتحدثون؟ عن أولئك الذين تعزف ابنتهم على البيانو؟ وهذا كل ما يمكن أن يقال عنه.
فماذا عن آل توركين؟ لم يهرم إيفان بتروفتش، ولم يتغير مطلقًا، وما زال كما في السابق يمزح ويروي النكات. وفيرا يوسفوفنا تقرأ للضيوف روایاتها عن طيب خاطر وببساطة قلبية كما في السابق. والقطة تعزف على البيانو كل يوم حوالي أربع ساعات. لقد هرمَت بصورةٍ ملحوظة ومرضَت، وتسافر مع أمها كل خريف إلى القرم. ويودِّعهما إيفان بتروفتش على المحطة، وعندما يتحرك القطار يكفكف دموعه ويصيح: مع السلامة من فضلك!
ويُلوِّح بالمنديل.