أخدود الذهب الخالص
كانت هذه البقعة هي القلب الأخضر للأُخدود؛ حيث انبعجت جُدرانه إلى الخلف بعدما كانت منتصبةً في مستوًى واحد، وتخفَّفت من استقامتها الجامدة بتكوين ملاذٍ صغير، ملأَتْه حتى حافته بالجمال والسعة والانسيابية. هنا كل شيء ساكن. فحتى الغدير الضيق كان يتوقَّف عن جريانه الهائج المضطرب منذ فترة طويلة مكونًا بِركة هادئة. كان في البركة أُيَّل ناعس كثير القرون، غاص حتى ركبتَيه في الماء واتَّشح بالحُمرة، فيما كان رأسه متدليًا وعيناه نصف مغلقتَين.
وعلى أحد جانبَي البركة، بَدءًا من حافتها تمامًا، كان يوجد مرجٌ صغير ذو كسوةٍ من الخضرة الجميلة المتجدِّدة تمتدُّ حتى قاعدة الجدار المتجهِّم. أما على الجانب الآخر من بركة الماء، فكانت الأرض تميل لأعلى شيئًا فشيئًا إلى أن تلامس الجدار المقابل. اكتسى هذا المنحدر المائل بعُشب رقيق مرصَّع بالزهور، فترى رُقَعًا من الألوان هنا وهناك، رُقَعًا من البرتقالي والأرجواني والذهبي. لو نظرت ناحية نهاية الأخدود لوجدته مغلقًا على نفسه هناك. لم يكن ثمَّة ما يمكن أن يُرى. فالجِداران يتقاربان هناك فجأة، وينتهي الأخدود بكُتَلٍ فوضوية من صخور تُغطِّيها الطحالب، ويخفيها حائلٌ أخضر كثيف من الكروم والمتسلقات وفروع الأشجار. أما ناحية بداية الأخدود، فكانت توجد تلال سَفحِيَّة شاهقة بعيدة ذات قمم مغطَّاة بأشجار الصنوبر. وأبعد منها بكثير يبدو لك أنك ترى مآذن بيضاء شاهقة، كسُحُب تلامس صفحة السماء، إلا أنها الثلوج الأبدية على جبال سييرا نيفادا تعكس وهج الشمس بسطوع صارخ.
لم يكن في الأخدود غبار. فالأوراق والأزهار كانت نظيفة نقية. والعشب كان يانعًا مخمليًّا. كانت ثلاث من أشجار الحور القطني تنثر زغبها ذا المظهر الثلجي في الهواء الهادئ فوق بركة الماء. وعلى المنحدر، كانت زهور أشجار المنزنيتا ذات الأغصان المكسوة بلون النبيذ تملأ الهواء بعبق الربيع، فيما كانت أوراقها المتمرسة تلتف رأسيًّا لتحتمي من قَحْل الصيف المقبل. أما في الأجزاء الفسيحة المفتوحة من المنحدر، بعد أبعد نقطة يطولها ظل المنزنيتا، فتَرى نباتات الزنبقة الفراشية مستقرَّة، كأنها فراشات مُرصَّعة بالجواهر حطَّت على الأرض فجأة، لكنها على وَشْك أن ترفرف مرتحلة مجددًا. وكانت أشجار المادرون، التي توصف بأنها «بهلوانات الغابة»، منتشرة في أماكن متفرقة؛ حيث كانت تسمح للناظرين بأن يروها وهي تغير لون جذعها من خُضرة البازلاء إلى حُمرة الفُوَّة، بينما تنشر عبيرَها في الهواء من عناقيد كبيرة من تُوَيجاتٍ شمعية جَرَسية الشكل. كانت تلك التُّوَيجات بيضاء بلون القِشْدة وتُشبه زنبقة الوادي، ويفوح منها شذًا ربيعيٌّ حلو.
لم يكن في المكان نفحةُ رياح. بل كان الهواء ساكنًا من ثقل ما يحمله من شذًا. وكانت حلاوة الهواء ستصير مُتخمة لو كان ثقيلًا محملًا بالرطوبة. لكنه كان خفيفًا رشيقًا. كان كبريق نجمي استحال إلى جو أصابته الشمس بسناها حتى دَفِئ، وعبَّقته الأزهار بأريجها.
ومن آنٍ إلى آخر، كانت تظهر فراشةٌ تتأرجح فيما بين رُقعَات الظل والنور. فيما كان طنين نحل الجبال الناعس الخافت يتعالى من كل اتجاه، وكأنه جمعٌ من المترفين المتنعمين في اللذائذ يتزاحمون حول المأدبة بطيب خاطر، ليس عندهم من وقت للتشاحن والفظاظة. كان الغدير الصغير ينساب ويترقرق في الأخدود بهدوء شديد، لدرجة أنه لم يكن يُصدِر سوى خريرٍ فاترٍ من حين إلى آخر. كان صوت الغدير كأنه همسات نعِسة، تارة يقطعها غَفوات وسكوت، وتارة تعود كلما أفاق من نومته.
كل حركة هناك لم تكن إلا انسيابًا في قلب الأخدود. فنور الشمس مع الفراشات كان ينساب جيئةً وذهابًا فيما بين الأشجار. وأصوات طنين النحل وهمس الغدير كانت منسابةً بكل سلاسة. بدا انسياب الصوت مع انسياب الألوان كأنهما يتناسجان معًا لحياكة نسيج رهيف غير محسوس يُمثِّل روح هذا المكان. روحًا تنعم بسلام؛ ليس السلام الذي يرقد فيه الموتى، بل سلام نابض بالحياة بمنتهى السلاسة، وبهدوء ليس بصمت، وبحركة تلقائية ليس فيها مجهود، وبسكون، لكنه مفعم بوجود نَشِط من دون قسوة العناء والكدح. لم تكن روح المكان إلا روح سلام مفعمة بالحياة، في دَعَةٍ من ليانها، واطمئنانٍ برَخائها، ولامبالاة بالشائعات عن حروبٍ بعيدة.
رضخ الأُيَّل الكثير القرون المُتَّشح بالحمرة لسيادة روح المكان، وغفا منغمسًا حتى ركبتَيه في البِركة الباردة الظليلة. لم يبدُ أن ثمة ذبابًا يعكر صفوه، فكان خدرًا في دعة. أحيانًا كان يحرك أذنَيه عندما يفيق الغدير ويهمس، لكنهما كانتا تتحركان بتثاقل؛ لأنهما تعلمان أن هذا ليس إلا الغدير يُفَقْفِق عندما يدرك أنه قد غفا.
لكن في لحظةٍ ما، وقفت أُذُنا الأيل وانتبهتا بتأهُّب سريع لصوتٍ ما. أدار رأسه نحو نهاية الأخدود. وتشمَّم الهواء بفتحتَيْ أنفه الحساستَين المرتعشتَين. لم تستطع عيناه أن تنفذا إلى ما وراء الحائل الأخضر الذي كان الماء يتدفق من خلاله، لكنَّ أذنيه سمعتا صوت إنسان. كان صوتًا رتيبًا مُدَندِنًا ثابت النبرة. وفي مرةٍ ما، سمع الأيل قعقعة مزعجة من احتكاك شيء معدني بالصخر. نخر وانتفض في الهواء انتفاضة وصلت به من الماء إلى المرج، وغاصت قدماه في العشب المخملي اليافع، بينما وقف يُرهف السمع ويتشمَّم الهواء مجددًا. ثم تسلَّل إلى الجانب الآخر من المرج الصغير، وكان يتوقف من حين إلى آخر ليتسمَّع، حتى اختفى في النهاية من الأخدود كأنه شبح، بأقدام لينة وبلا صوت.
بدأ صوت اصطدام الفولاذ الموجود في النعال بالصخور يصير مسموعًا، وارتفع صوت الرجل. ارتفع الصوت بترنيمةٍ ما، وظل يتَّضح كلما اقترب، حتى باتت الكلمات مسموعة:
صاحَب الأغنية صوتُ تسلُّق وهَرج، وفَرَّت روح المكان في عَقِب الأيل الأحمر. تمزَّق الحائل الأخضر إربًا، وخرج منه رجل راح يحدِّق في المرج والبِركة والسَّفح المنحدر. بدا رجلًا من النوع المُتَأني. ألمَّ بالمشهد كله بنظرة واسعة واحدة، ثم بدأ يمرر عينَيه على تفاصيله ليتوثَّق من انطباعه العام عنه. وعندها، عندها فقط، فَغَر فاه في استحسان شديد ورزين:
«عجبًا، ما هذا الذي أراه؟! حسبُك أن تمتع عينيك بهذا! الأشجار والمياه والعُشب والسفح المنحدر! يا لها من بهجة لصيَّادي الذهب أمثالي، وفردوس للأحصنة! خُضرة ندية تريح العيون المتعَبة! بل هي شفاء للعليل خيرٌ من أي دواء. مَرتع سري للمُنَقِّبين عن الذهب، ومستراح للحَمير المتعَبة. إن هذا المكان لخلَّاب!»
كانت بشرته بلون الرمال، وكان وجهه ينضح باللطف والفكاهة. كانت قسماته متقلبة، وسريعة التغيُّر لتفصح عن مزاجه وفكره. بل كان تفكيره يتجلَّى بوضوح مرئي على ملامحه. إذ كانت الأفكار تتلاحق على وجهه، كما تتتابع الرياح على صفحة مياه بُحيرة. أما شَعره، فكان خفيفًا متناثرًا شَعْثًا، لم يهذب نموه، ولونه كان غير مفهوم كلون وجهه، كأنه بلا لون. بدا الرجل وكأن كل الألوان في هيئته قد اختُزِلت في لون عينَيه، إذ كانتا زرقاوين زُرقة مذهلة. وكانتا ضاحكتَين مَرِحتَين، تنطقان بالكثير من براءة الأطفال ودهشتهم، لكنهما مع ذلك كانتا تُضمران، على استحياء، قدرًا جمًّا من الاعتماد الهادئ على النفس وقوة الإرادة النابعة من إدراكه لذاته، وتجاربه مع العالم من حوله.
ألقى الرجل أدوات التنقيب أمامه من بين حائل الكروم والمتسلقات: مِعوَل وجاروف ووعاء لغسل الذهب. تقدَّم ببطء نحو العَراء المفتوح. كان يرتدي بدلةَ عمال كالِحة بالية، وقميصًا قطنيًّا أسود، وحذاءً غليظًا ذا رأس مُدبَّب، ويعتمر قبعةً انمحى شكلُها، وعليها بقع واضحة تفصح عما عانته معه في الرياح والمطر والشمس ودخان التخييم. وقف منتصبًا، ينظر بوسع عينَيه إلى هذا المشهد السري، ويتنفس منتشيًا نسيم الوادي الدافئ الحلو من خلال فتحتَي أنفه، اللتَين تتَّسِعان وترتعشان ابتهاجًا. ضاقَت عيناه حتى صارتا شَقَّين أزرقَين يلتمعان ضحكًا، وتهلَّل وجهه مرحًا، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة بينما صاح:
«انظر إلى الخِطْميِّ الوردي سعيدًا، والهِندِباءات تتراقص، يا لها من رائحة طيبة! دعك من عطر الورد ومصانع الكولونيا! فهي لا تضاهيها بحال!»
كان دائمَ التناجي مع نفسه. وكانت ملامح وجهه السريعة التقلُّب تنطق بكل فكرٍ وشعور يخطر عليه، أمَّا لسانه، فكان يلاحق وجهه دون أن يلحق به بطبيعة الحال، كأنه يكرر ما يقول ويسجل سيرته من بعده.
استلقى الرجل على حافة البِركة، وطفق يعبُّ من مياهها عبًّا. ثم غمغم قائلًا: «يا له من ماء عذب!» وهو يرفع رأسه ليمسح الماء عن فمه بظهر يده، سارحًا بعينَيه ناحية السفح المنحدِر وراء البِركة. استولى السفح المنحدر على انتباهه. ظل مستلقيًا على بطنه، لكنه أخذ وقته في فحص التكوين الصخري الذي أمامه بتمَعُّن. إذ راح بعينَيه المتمرستَين يتفحَّص المنحدر صعودًا حتى جدار الأخدود المتداعي، ثم نزلت عيناه مرة أخرى حتى وصلتا إلى حافة البركة. هبَّ واقفًا وقرر أن يلقي نظرة فاحصة أخرى على السفح المنحدِر.
ثم اتخذ قراره قائلًا: «يبدو لي جيدًا»، والتقط عدته؛ المعول والجاروف والوعاء.
عبَر الرجل الغدير المتدفق من بعد البِركة، وهو يقفز برشاقة من صخرة لأخرى. ثم أنشب جاروفَه حيث يلتقي السفح المنحدر مع الماء، واغترف ملءَ جاروفه من التربة ووضعها في وعاء الذهب. جلس القُرفُصاء وأمسك الوعاء بين يديه، وغمره جزئيًّا في مياه الغدير. وبتحريك الوعاء حركةً دائرية رشيقة، جعل الماء يتخلل التراب والحصى. تزحزحت الجُسَيمات الكبيرة والخفيفة نحو السطح، وبلمسة ماهرة منه، غمر الوعاء في الماء وسكب تلك الجسيمات خارجًا من فوق حافته. وليُسرع العملية، كان يضع الوعاء من حين إلى آخر ويطرح بعض الحصى وقِطَع الصخور الكبيرة بأصابعه.
سرعان ما تلاشت محتويات الوعاء، حتى لم يبقَ إلا حبات التراب الدقيقة والحصوات البالغة الصِّغر. وعندئذٍ بدأ يعمل بمنتهى التأنِّي والدقة. كان يدقق في غسلها، وظل يزداد تدقيقًا بإمعان بالغ ولمسات حسَّاسة في منتهى الحرص. وفي النهاية بدا الوعاء كأنه صار خاليًا من كل شيء عدا الماء، لكن بحركة سريعة نصف دائرية، طرح الماء من فوق حافة الوعاء الضحل حتى نزل في الغَدير، لتظهر طبقة من الرمل الأسود في قعر الوعاء. كانت طبقة رقيقة للغاية، وكأنها ليست أكثر من مسحة طِلاء. فتفحَّصَها عن كَثَب. في وسطها وجد ذرةً صغيرة جدًّا من الذهب. قطر بعض الماء على الحافة المنخفضة من الوعاء، ثم بحركة خاطفة أرسل الماء يخلخل الحبيبات السوداء في القعر خلخلة تلو أخرى. فتُوِّجت جهوده بذرة ذهبية أخرى.
بات الغسل الآن أدق ما يكون، بل أدق حتى مما قد يحتاج إليه المنقبون عن الذهب في المعتاد. ظل يزحزح كمية صغيرة من الرمل الأسود نحو أعلى الحافة القصيرة من الوعاء في كل مرة. وأمعن النظر في كل كمية منها أيما إمعان، حتى إنه كان يفحص الحبَّات السوداء حبة حبة قبل أن يترك أيًّا منها ينساب عن الحافة. لم يكُن يتركها إلا واحدة في كل مرة كأنه يغار عليها. ظهرت على الحافة ذرة ذهبية ليست بأكبر من رأس الدبوس، وبمهاراته في ترويض المياه أعادها إلى قعر الوعاء. وبنفس الطريقة ظهرت ذرة أخرى، وتبعتها أخرى. أَوْلاها عناية شديدة. كأنه راعٍ يسوق قطيعًا من ذرات الذهب، فلا يترك أيًّا منها تنسَلُّ منه. وفي نهاية الأمر، لم يتبقَّ من التراب الذي كان في الوعاء إلا قطيعه الذهبي. عدَّها، ثم بعد كل هذا العناء، طرحها خارج وعائه مع دفعة أخيرة من الماء.
لكنَّ عينَيه الزرقاوَين كانتا تتوهجان اشتهاءً وهو يقف على قدمَيه. تمتم بصوت عالٍ: «سبع»، مُعلنًا لنفسه عدد الذرات التي أضنى نفسه ليحصل عليها، ثم ألقى بها بكل رعونة. وكرر قائلًا: «سبع»، كأنه يؤكد الرقم لنفسه لينطبع في ذاكرته. ثم وقف طويلًا يتطلع في السفح المنحدر. كانت عيناه تستعران بفضول اتَّقد للتَّو. وكانت وقفته تشع ابتهاجًا وحماسة، كحيوان ضارٍ تشمَّم رائحة فريسة جديدة.
تحرك بضع خطوات بمحاذاة مجرى الغدير، واجترف من التربة ملء وعائه مجددًا.
ومرة أخرى كرر عملية الغسل بحرص، ثم أولَى ذرات الذهب عنايةً شديدة كمن يغار عليها حقًّا، وبعدئذٍ طرحها برعونة في الغدير مرة أخرى.
ثم تمتم قائلًا: «خمس»، وكررها على نفسه: «خمس».
لم يستطع منع نفسه من مطالعة التل مرة أخرى، ثم ملأ وعاءه من التربة في مكان أقرب إلى مصب النهر. تقلَّصت قطعانه الذهبية. إذ ظلَّت الأرقام التي أخذ يكررها ليحفظها في ذاكرته تتناقص كلما تحرك نحو مهبط الغدير: «أربع، فثلاث، فاثنتان، فاثنتان، فواحدة». وعندما لم يجد لقاء جهده إلا ذرة واحدة بعد الغسل والتصفية، توقف، وأشعل نارًا من أغصان جافة. زجَّ بوعاء الذهب في النار وأحرقه حتى صار أسوَد مَشُوبًا بالزُّرقة. رفع الوعاء وتفحَّصه بحرص. ثم أومأ إيماءة استحسان. إذ كان واثقًا من عدم إفلات ولو ذرة ذهبية صغيرة منه بعدما صارت الخلفية بمثل هذا اللون.
واصل التحرك قُدُمًا بمحاذاة مجرى الماء، ثم اجترف وغسل مجددًا. حصل على ذرة واحدة. وفي المرة الثالثة لم يجِد أثرًا للذهب. لم يكتفِ بهذا، فاجترف من التربة وصفَّى ثلاث مرات أُخَر، كلٌّ منها على مسافة قدم من سابقتها. كانت كلها بلا ذهب، لكن بدلًا من أن يحبطه هذا، بدا عليه الرضا. فقد ازداد طربًا مع كل مرة تكون فيها العينة خاوية، حتى نهض وهو يصيح متهلِّلًا:
«فلتُقطَع ذراعي إن لم يكن هذا ذهبًا حقيقيًّا!»
عاد إلى حيث ابتدأ، ثم بدأ يجترف من التربة، لكن متحركًا عكس اتجاه جريان الماء. في البداية بدأت قطعانه تزداد، ازدادت زيادة مذهلة. أخذ يكررها في كل مرة ليحفظها في ذاكرته: «أربع عشرة، ثماني عشرة، إحدى وعشرون، ست وعشرون.» وعند طرف البِركة مباشرة اجترف، فكانت أغنى تربة وجدها؛ إذ عثر فيها على خمس وثلاثين ذَرَّة متلألئة.
علَّق آسفًا وهو يرميها كلها في الماء: «كانت على وَشْك أن تصبح جديرة بالاحتفاظ بها».
تابعت الشمس صعودها في السماء حتى وصلت إلى ذروتها. وتابع الرجل عمله. يملأ الوعاء مرةً بعد مرة، ثم يغسل، ماشيًا عكس اتجاه جريان الماء، فوجد حصيلته تتضاءل باستمرار.
وعندما وصل إلى أن وعاءً كاملًا من التربة لا يحمل إلا ذَرَّة ذهب واحدة، قال مغتبطًا: «ما أجمل أنه يتلاشى هكذا.» وعندما لم يعُد يجد ولو ذَرَّة واحدة في بضع محاولات، استقام واقفًا ورمق السفح المنحدر بنظرة واثقة.
هتف عاليًا: «أها! ها أنت يا سيد جُحر الذهب!»، وكأنه يخاطب مستمعًا مختبئًا عند سطح المنحدر في مكان ما أعلى منه. «ها أنت يا سيد جُحر الذهب! وأنا آتٍ إليك، آتٍ وسأنال منك! أتسمعني يا سيد؟ أنا متيقِّن من أنني سأنال منك لا محالة!»
استدار ونظر إلى الشمس المعلَّقة فوقه وسط زرقة السماء الصافية ليقدر الوقت. ثم مشى نحو آخر الأخدود، متتبعًا الخط الذي ترسمه الحُفَر التي حفرها بجاروفه بحثًا عن الذهب. عبر الغدير فيما يلي البِركة، واختفى عابرًا الحائل الأخضر. لم يكن ممكنًا أن تعود روح المكان بهدوئها ووداعتها؛ إذ كان صدى صوت الرجل الذي يجلجل بأغنياته الشعبية لا يزال يتردَّد في المكان مهيمنًا عليه تمامًا.
بعد مُدة، عاد الرجل مرة أخرى، لكن الدوِيَّ من قرع الفولاذ في الحذاء على الصخور كان أعلى. ارتجَّ الحائل الأخضر بعنف. كان يُدفع جيئةً وذهابًا كأنه يخوض صراعًا. تعالى صريرٌ وصليلٌ صاخب من اصطكاك شيء معدِني. صارت طبقة صوت الرجل أعلى، وأصبحت نبرته حادة آمِرة. كان جسمٌ ضخم يقتحم الحائلَ وهو يلهث. تعالى صوت أشياء تنقصم وأشياء تتمزق وأشياء تتهشم، ومع وابلٍ من الأوراق المتساقطة، ظهر حصان من خلال الحائل. كانت على ظهره حقيبة تجرُّ معها ذيلًا من الكروم والمتسلقات الممزقة. حدَّق الحصان بعينَين مدهوشتَين في المشهد الذي دُفِع إليه دفعًا، ثم طأطأ رأسه نحو الأرض وبدأ يرعى راضيًا. ظَهَر حصان آخر بنفس العناء والاندفاع، وانزلق مرة على الصخور المكتسية بالطحالب، لكنه استعاد اتِّزانه عندما غاص بحوافره في سطح المرج الوطيء. لم يكن أحد يمتطيه مع أنَّ ظهره كان مكسوًّا بسَرج مكسيكي ذي قَرَبوسَين عاليَين، وهو مكشوط وباهت من طول استعماله.
كان الرجل هو آخر من وصل. وضع عنه الحقيبة والسرج مُنتَوِيًا أن يخيِّم هناك، وترك لحصانَيه حرية الرعي كيفما شاءَا. أخرج طعامه ومِقلاة وإبريق قهوة. جمع ما يستطيع من الخشب الجاف مِلء ذراعَيه، وببضعة أحجارٍ صنع لنفسه موقدًا.
قال: «يا إلهي! كَم أنا جائع. يمكنني أن آكل مسامير الحديد وأظفار الخيول، وأكون شاكرًا بكل ودٍّ إذا حصلت على حصةٍ ثانيةٍ منها.»
انتصب الرجل، وبينما كان يدسُّ يده في جيبه باحثًا عن علبة عيدان الثقاب، تجاوزت عيناه البركة إلى السفح المنحدِر. كانت أصابعه قد أمسكت بعلبة الثقاب، لكنه أرخى قبضته عنها وسحب يده فارغة. بدا التردُّد واضحًا على الرجل. نظر إلى ما كان يعدُّه للطهي ونظر إلى التل.
ثم انتهى إلى قراره قائلًا: «أعتقد أني سأحاول محاولةً أخرى»، وطفِق يعبر الغدير.
تمتم مبررًا: «أعلم أنه لا معنى لما سأفعله. لكن لا ضير في أن ينتظر الطعام ساعة أخرى على ما أظن.»
وعلى بُعد بضع أقدام خلف الخط الأول من حفر البحث عن الذهب، بدأ خطًّا ثانيًا. انخفضت الشمس نحو الغرب، وصارت الظلال أطول، لكن الرجل استمر في العمل. بدأ خطًّا ثالثًا من حفر أخذ العيِّنات. كان يقطع المنحدر عرضيًّا، بخطٍّ تلو الآخر، وهو يتسلَّق نحو الأعلى. كل الخطوط كان منتصفها هو أغنى ما فيها بالذهب، بينما كانت أطرافها خواءً منه. وكلما صعد نحو الأعلى قصرت الخطوط بشكل ملحوظ. كان طولها يتقاصر بانتظامٍ يوحي بأنه عند ارتفاعٍ ما سيقترب الخط الأخير من أن يكون بلا طول أصلًا، وبعده تمامًا لا بد أنها ستكون نقطة واحدة. أخذ شكل توزيع الحفر يكوِّن تدريجيًّا ما يُشبه الرقم «٨». وكان ضلعا الرقم «٨» المتقاربان يحُدَّان التربة التي تحمل ذهبًا.
صار جليًّا أن رأس هذه اﻟ «٨» كانت هي ما يبتغيه الرجل. كان كثيرًا ما يمرر عينَيه على الضلعَين المُرتسِمَين أمامه ويتأمَّل أعلى المنحدر، محاولًا أن يتكهَّن بموضع التقائهما، حيث تنتهي حدود التربة الحاوية للذهب حتمًا. هناك يرقد «السيد جُحر الذهب»، أو هكذا سمَّى الرجل نقطته المتخيَّلة أعلى المنحدر، فراح يصيح:
«تعالَ من فوق الجبل يا سيد جُحر الذهب! كُنْ رجلًا ذكيًّا مهذبًا وتعال الآن!»
وبعد برهة، قال بإصرار كأنه يقبل التحدي: «حسنًا إذن! هكذا إذن سيكون الأمر يا سيد جُحر الذهب. لا مفر إذن من أن آتي إليك وأجتثَّك عن آخرك.» بل واستمر في تهديده بعدها قائلًا: «سأفعلها! سترى ذلك!»
كان ينزل بالوعاء مرةً بعد مرة لتَنقِيته في الماء، وكلما صعد إلى ارتفاع أعلى وجد وعاءه يحمل ذهبًا أكثر، حتى بدأ يحتفظ بالذهب الذي يجده في علبة مسحوقِ خبزٍ خالية، كان يحملها في جيبه الخلفي بلا اكتراث. كان منهمكًا في عمله لدرجة أنه لم يحسَّ بالشفق الطويل الذي خيَّم إيذانًا بحلول الليل. ولم ينتبه إلى مرور الوقت إلَّا عندما لم يعُدْ قادرًا على رؤية لون الذهب في قعر وعائه. هبَّ الرجل واقفًا. وبدت على وجهه ملامح ذهول وتعجُّب وهو يقول بنبرة متباطئة:
«سُحقًا! لقد نسيت أمر عَشائي تمامًا!»
عبر الرجل الغدير متعثرًا في العَتمة وأشعل النار التي أجَّل إشعالها طويلًا. كان عشاؤه فطائر مُحلَّاة مع لحم مُقدَّد وفاصُوليا مطهوَّة أعاد تسخينها. ثم دخَّن غليونه أمام الجمر المتأجِّج، وراح يستمع إلى أصوات الليل ويراقب انسياب ضوء القمر عبر الأخدود. وبعدها بَسَط فراشه وخلع حذاءه الثقيل، ثم تدثَّر حتى ذقنه ببطانيته. بدا وجهُه أبيض تمامًا في ضوء القمر، أبيض كوجه جثة ميتة هامدة. لكنه حتى وإن كان ميتًا، كان يعلم أنه سيُبعَث من جديد؛ لأنه نهض مستندًا على مرفقه، وحدَّق في منحدره الأثير.
وبصوت ناعس قال: «تصبح على خير يا سيد جُحر الذهب. تصبح على كل خير.»
نام الرجل ساعات الصباح الأولى حتى صارت أشعَّة الشمس المباشرة تضرب جَفنيه المُغلَقَين، فأفاق فزِعًا وراح ينظر حوله حتى استوعب أنه ما زال حيًّا، وتذكر الأيام السابقة التي آلت به إلى حاله هذه.
لم يحتَج اكتمالُ هِندامه إلا إلى أن ينتعِل حذاءه. تطلع إلى موقد النار ثم إلى المنحدر، فتردد، إلا أنه قاوم الإغراء في النهاية وأشعل النار.
وبَّخ نفسه قائلًا: «صبرًا يا بيل، صبرًا! لمَ العجلة؟ لا داعيَ إلى الاندفاع والتصبُّب عرقًا. فالسيد جُحر الذهب سينتظرك. لن يفر هاربًا قبل أن تتناول فطورك. نعم، ما ينقصك الآن يا بيل هو شيء طازج على مائدتك. لذا عليك أن تنهض وتحصل عليه.»
قصف الرجل عصًا قصيرة وجدها عند حافة الماء، ثم أخرج خيطًا من أحد جيوبه، وطُعمًا ملطَّخًا مُهلكًا كان ذات يوم من نوعية ممتازة.
تمتم وهو يقذف صنارته في البِركة للمرة الأولى: «ربما ستكون شهية السمك مفتوحة في الصباح الباكر». وبعد لحظة كان يصرخ بسعادة: «ألم أقل لك، ها؟ ألم أقل لك؟»
لم يكن لديه بَكرة للصنارة ولم يكن مستعدًّا لتضييع الوقت كذلك، فاعتمد على قوته البدنية، وبحركة خاطفة سحب من الماء سمكةً من السلمون المُرَقَّط براقة طولها عشر بوصات. ثم اصطاد ثلاثًا أخريات واحدة تلو الأخرى بسرعة، وبها تكلَّلت مائدة إفطاره. طفق يعبر الغدير، لكن ما إن وصل إلى الحجارة التي سيخطو عليها إلى الناحية الأخرى، ناحية السفح المنحدر، داهمته فكرة، فتوقف.
قال لنفسه: «يجدُر بي أن أتفقَّد المكان بمحاذاة مجرى الغدير لمسافة لا بأس بها. قد يكون أيُّ شخص يتلصَّص عليَّ.»
لكنه داس الحجارة وعبر الغدير، وقال في قرارة نفسه: «يجدُر بي فعلًا أن أتفقَّد المكان»، لكن حاجته إلى الاحتياط غابت عن ذهنه واستغرق في العمل.
مع حلول الليل نهض. كان أسفل ظهره متخشبًا بسبب طول انحنائه، فوضع يده خلف ظهره ليخفِّف ألم عضلاته المعلِنة عن احتجاجها، وقال:
«ماذا الآن؟ لقد نسيتُ عشائي تمامًا مرة أخرى! إن لم أنتبه إلى ذلك، قد أصبح وغدًا غريب الأطوار ممَّن يتناولون وجبتَين فقط في اليوم.»
وبينما كان يرقد ملتحفًا بطانيته هذه الليلة، همس مناجيًا نفسه: «البحث عن جحور الذهب أعجب شيء قد يفعله المرء، لدرجة أنه يسهو عن حاله تمامًا.» لكنه لم ينسَ أن يلقي تحية المساء على السفح المنحدر قائلًا: «تصبح على خير يا سيد جُحر الذهب! تصبح على كل خير!»
نهض مع طلوع الشمس واختلس إفطارًا سريعًا، وبدأ عمله مبكرًا. بدا كأنَّه أصيب بسُعارٍ متزايد نحو الذهب، سعارٍ لم يهدأ، مع أنَّه كان يجد مزيدًا من الذهب في عينات التربة. كان في وجنتَيه حُمرة، غير تلك التي تسببت فيها الشمس، ولم يعُد واعيًا بإنهاكه ولا بالوقت. كلما ملأ وعاء الذهب بالتراب وهرول نازلًا المنحدر ليغسلها، لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يهرول صاعدًا المنحدرَ مرة أخرى ليملأه من جديد، وهو يلهث ويتعثر ولا يكفُّ عن السب واللعن.
بات على بُعد مائة ياردة من الماء، وراح رقم «٨» يرتسم أمامه بشكل أوضح. كان عرض التربة الغنية بالذهب يتناقص باستمرار، فسرح بعينَيه يحاول أن يرسم في رأسه امتداد الضلعين اللذَين أمامه، ليرى أين سيلتقيان أعلى المنحدر ليُكوِّنا شكل «٨». وهذا كان مرامه، رأس الشكل «٨»، وقد حفر مرارًا وأخذ عينات كثيرة ليعرف موضعه.
وأخيرًا وصل إلى استنتاجٍ، قائلًا: «سيكون على بُعد حوالَي ياردتَين فقط أعلى شُجَيرة المنزنيتا، ثم ياردة إلى اليمين.»
أغوته الفكرة. قال لنفسه: «إنه واضح كالشمس في وَضَح النهار»، وترك حَفرَه المضني بعرض المنحدر ثم تسلق إلى رأس اﻟ «٨» كما رسمها في رأسه. ملأ وعاءه وحمله نزولًا من على المنحدر ليغسله. لم يجد فيه أثرًا للذهب. حفر حُفَرًا عميقة وحُفَرًا ضحلة، وغسل دستة من العينات، ولم يجد ذرة ذهب واحدة تكلِّل جهوده. كان حانقًا لأنه استسلم للإغراء، ووبَّخ نفسه توبيخًا لاذعًا قاذعًا. ثم نزل ليتابع الحفر بعرض المنحدر كما كان يفعل.
ظل يُحدِّث نفسه قائلًا: «برَوِيَّة وثبات يا بيل، برَوِيَّة وثبات. لست بمن يسلك طرقًا مختصرة نحو الثراء، ومن المفترض أنك صرت تدرك ذلك. تحلَّ بالحكمة يا بيل، تحلَّ بالحكمة. الرويَّة والثبات هما رهانك الوحيد للفوز هنا؛ لذا التزم بذلك واستمر عليه.»
كلما تقاصرت الخطوط بعرض السفح، وصار ضلعا رقم «٨» يتقاربان، كان عمقها يزداد. فمسار آثار الذهب راح يغطس في التل. لم يكن الرجل يجد أثرًا للذهب في الحفر إلا على عمق ٣٠ بوصة تحت سطح التربة. أمَّا حينما كان يحفر على عمق ٢٥ أو ٣٥ بوصة، فكان يجد عيناته كلها خاوية من الذهب. كان قد وجد ذرات الذهب عند جذور العُشب حينما كان يحفر عند قاعدة شكل الرقم «٨»، أي عند حافة الماء. لكن كلما صعد المنحدر، كان يجد الذهب غاطسًا على عمق أكبر. ولأن تحفر ثلاث أقدام لتملأ وعاءك بعينةٍ واحدةٍ هِي مهمة لا يُستهان بها، فضلًا عن أنه لم يكن يعرف عدد الحُفَر التي ينبغي حفرها ليصل إلى نقطته المنشودة. توقف برهة وراح يخفِّف ألم ظهره بأصابعه وهو يتنهد قائلًا: «ولا سبيل إلى معرفة العمق الذي ينبغي أن أحفر إليه.»
لكنه واصل العمل برغبته المتأجِّجة وظهره المتألم وعضلاته المُتَيبِّسة، وباستخدام المعول والجاروف، راح يضرب وينخر ويحفر في التربة البُنية الهشَّة، وشق طريقه نحو أعلى التل شقًّا. كان المنحدر يمتد أمامه أسيلًا، مُرصعًا بأزهار ملونة تبثُّ عبيرًا لطيفًا. أما وراءه، فكان الخراب. إذ بدا وكأن طفحًا شنيعًا أصاب بشرة السفح الملساء. كان تقدُّمُه البطيء كزحفِ حلزونٍ يُدنِّس بهاء الطبيعة الغنَّاء بآثاره الوحشية.
ومع أن مجهوده ظل يتضاعف مع ازدياد العُمق الذي كان يجد آثار الذهب عنده، فإنه وجد عزاءه في تزايد كمية الذهب في وعائه مع كل عينة من التربة. إذ كانت حصيلة الذهب في الوعاء تتزايد مرةً بعد أخرى، فبلغت قيمتها عشرين سنتًا، ثم ثلاثين، ثم خمسين، ثم ستين، وبحلول الليل أثمرت تصفية وعائه من تراب الذهب ما يوازي دولارًا كاملًا.
غمغم ليلتها ناعسًا وهو يلتحف ببطانيته حتى ذقنه فقال: «لديَّ إحساس بأن حظي العاثر يحمل لي دخيلًا مُتطفلًا سيأتي ليتوغل إلى مرعاي.»
لكنه هب معتدلًا فجأة. وصاح في نفسه: «بيل! استمع إليَّ الآن يا بيل! ينبغي عليك أن تتجوَّل وتتفقد الأرجاء غدًا صباحًا لتنظر ماذا هنالك. هل تفهمني؟ قلت لك غدًا صباحًا، إياك أن تنسى!»
تثاءب ثم رنا نحو سفحه الثمين. ناداه قائلًا: «تصبح على خير يا سيد جُحر الذهب.»
في ذاك الصباح باغت هو الشمسَ، فقبل أول خيوط نورها كان قد أنهى إفطاره وبدأ تسلُّق جدار الأخدود، والجدار يتداعى تحت قدمه مرةً ويسنده في تسلُّقه مرةً. وحين وصل إلى الأعلى ونظر حوله، وجد نفسه وحيدًا في فراغ فسيح. فعلى مد بصره، رأى الجبال تقف شامخة، سلاسل وراء سلاسل. تقافزت عيناه جهة الشرق على مدى أميالٍ بين سلسلة جبلية تلو أخرى، حتى وقعتا في النهاية على جبال سييرا نيفادا الشاهقة بقِمَمها البيضاء، وكأنها عمادُ العالم الغربي بأكمله بهامتها مرفوعة في السماء. وحين التفت نحو الشمال والجنوب، تجلَّت له الجبال المتقاطعة التي كانت تتخلل تلك السلسلة الرئيسية من الجبال. أما في الغرب، فكانت سلاسل الجبال تتهاوى واحدة خلف الأخرى، وظلت تتقاصر تباعًا وتتلاشى حتى غاصت وسط التلال السفحية، التي كانت بدورها تنحدر هي الأخرى حتى توارت وسط الوادي الفسيح الذي لم يستطع رؤيته.
وعلى اتِّساع تلك البقعة المترامية الهائلة التي كانت تحت ناظريه، لم يبصر إنسانًا واحدًا، ولا حتى أثرًا واحدًا من عمل الإنسان، إلا الملاذ الممزَّق في السفح المنحدر تحت قدميه. أطال النظر بتمعُّن. وفي لحظة ما، ظن أنه رأى أثرًا طفيفًا من الدخان على مسافة بعيدة نحو آخر الأخدود. فنظر مجددًا وقرر أن ذاك الدخان ليس إلا ضباب التلال الأرجواني، لكنه صار أغمق لوجودِ انحناءة في جدار الأخدود من خلفه.
نادى الأخدود القابع أسفل منه قائلًا: «أتسمعني يا سيد جُحر الذهب؟ اخرج من مخبئك في الأسفل! أنا قادم وسأنال منك يا سيد جُحر الذهب! صدقني سأنال منك!»
كان الحذاء الغليظ الذي يرتديه يجعله يبدو ثقيل المِشية، لكنه نزل من ارتفاع شاهق متأرجحًا بخفة ورشاقة وكأنه عَنز جَبلي. بل إنه لم يهتزَّ حتى عندما هوت صخرة من تحت قدمه عند حافة الهاوية. بدا وكأنه يعلم بدقة ما يحتاج إليه من وقت قبل أن يُفضي تهاوي الصخرة إلى كارثة، وفي الوقت نفسه استغل مَوطئَ قدمه المؤقَّت هذا ليتَّكئ على الأرض الاتِّكاءة اللحظية اللازمة لنقله إلى موضعٍ آمن. وفي النقطة التي كان الجُرف عندها شديد الانحدار، حتى بات من المستحيل أن يقف عليه ولو ثانية واحدة، لم يُبدِ تردُّدًا. إذ ارتكز بقدمه على هذا السطح المستحيل لجزءٍ طفيفٍ من الثانية، التي ربما كان فيها هلاكه، فحصل منه على الدفعة التي احتاج إليها ليَمضي قُدمًا. بل إنه في مواضع أخرى وجد الارتكاز لمثل هذه الهُنَيهة الخاطفة مستحيلًا تمامًا، فكان يؤرجح جسمه ويتجاوز تلك المواضع بقبضةٍ خاطفةٍ على صخرةٍ ناتئة أو شقٍّ ما، أو حتى على شُجيرة صغيرة جذورها مُتزعزعة. ثم في النهاية، بوثبةٍ مجنونةٍ وصيحةٍ عالية، انتقل من التأرجح على وجه الجدار الرأسي إلى منزلقٍ تُرابي، حتى أنهى هبوطه وسط بضعة أطنان من التراب والحصى المنزلق معه.
أسفرت أول عيِّنة غسلها في الصباح عما يساوي دولارين من جَريش الذهب. وكانت هذه العينة مأخوذة من نقطةٍ عند وسط الشكل «٨». وسرعان ما بات الذهب الذي يجده في التربة يتضاءل إن تحرك يمينًا أو يسارًا. صارت الخطوط التي ترسمها الحفر بعرض السفح تتقاصر سريعًا جدًّا. وأصبح البُعد الفاصل بين ضلعَي الشكل «٨» المتقاربَين بضع ياردات فقط. كانت نقطة التقائهما تقع أعلاه ببضع ياردات لا أكثر. إلا أن طبقة الذهب كانت تغوص إلى عمق أكبر في التربة. وبنهاية الظهيرة، كان يضطر إلى النزول خمس أقدام في عمق الأرض ليجد الذهب في عيناته.
وفي الوقت ذاته، كان الذهب الذي يجده في التربة قد بدأ يغدو أكثر من مجرد آثارٍ ضئيلة؛ إذ كان مَنجمًا مفتوحًا للذهب الراسب، واستقر الرجل على أن يعود إليه مرة أخرى بعدما يجد جُحر الذهب ليُنقِّب في التربة. لكن ثراء التربة المتزايد بالذهب بدأ يُوتِّره. فبنهاية الظهيرة كانت العينة الواحدة تحمل ما يساوي ثلاثة أو أربعة دولارات. حكَّ الرجل رأسه وهو يتطلع بضع أقدام أمامه عند شجيرة المنزنيتا التي يلتقي عندها ضلعا اﻟشكل «٨» تقريبًا. ثم أومأ برأسه وقال متكهِّنًا:
«لن يكون الأمر إلا واحدًا من اثنين يا بيل. إما أن السيد جُحر الذهب سكب ما في جوفه كله على السفح، أو أنه فاحش الثراء حتى إنك لن تتمكن من أن ترحل به كله. وهذا سيكون عارًا شنيعًا، أليس كذلك؟» وضحك ضحكة مكتومة وهو يتأمل هذه المعضلة البهيجة.
بحلول الظلام، كان على حافة الغدير تُصارع عيناه الظلام المُخيِّم عليه؛ لتُكمِلا غسلَ جَرفةٍ من التربة تحمل خمسة دولارات من الذهب.
قال لنفسه: «ليت معي مصباحًا كهربيًّا الآن لأستمر في العمل.»
كان النوم صعبًا عليه تلك الليلة. حاول مرات عديدة أن يسترخي ويطبق جفنيه لعل النوم يتسلَّل إليهما، إلا أن قلبه كان يشتعل رغبةً وتَوقًا، فكان يفتح عينَيه مرارًا عديدة بالقَدر نفسه ويغمغم بضَجر قائلًا: «ليت الصباح يطلع».
تمكَّن النوم منه في النهاية، لكنَّ عينَيه استفاقتا مع بوادر خفوت النجوم، ومع الفجر المنبثق بضوئه الرمادي كان قد أتم إفطاره، وطفِق يصعد السفح قاصدًا مخبأ السيد جُحر الذهب الثري.
لم يكن أول خطٍّ من الحُفَر التي حفرها بعرض المنحدر يتَّسع لأكثر من ثلاث حفر؛ فطبقة الذهب المترسب قد صارت ضيقة جدًّا، وأصبح قريبًا جدًّا من منبع الذهب الذي يتتبعه منذ أربعة أيام.
راح يُذَكر نفسه قائلًا: «تمهَّل يا بيل تمهل»، بينما كان يضرب الأرض ليحفر آخر حفرة عند النقطة التي التقى عندها ضلعا الشكل «٨» أخيرًا.
قال مرارًا وهو يغوص أعمقَ وأعمق بحفرته: «لقد وضعت قبضتي عليك يا سيد جُحر الذهب، ولا سبيل لديك لتُفلت مني.»
ظل يشق طريقه في عمق الأرض تدريجيًّا، فبلغ أربع أقدام، ثم خمسًا، ثم ستًّا. أصبح الحفر أشقَّ. صرَّ مِعوله صريرًا وهو يضرب حجرًا مكسورًا. تفحَّص الحجر بعناية. استقر رأيه في النهاية على أنه «مجرد حجر كوارتز متآكل»، وأزاح التربة المهلهلة من قعر الحفرة بجاروفه. أخذ يضرب حجر الكوارتز المتداعي بمِعوله، والحجر يتفلَّق ويتشظَّى مع كل ضربة.
أقحم جاروفه في وسط هذا الركام. فلمحت عيناه بريقًا أصفر. ألقى جاروفه وخر فجأة مُقَرفِصًا. وكما يفرُك الفلاح حبة البطاطس التي حصدها توًّا ليزيل التراب العالق بها، راح يزيل الطين عن قطعةٍ من الكوارتز المتآكل كان يُمسكها بيدَيه كلتَيهما.
صاح قائلًا: «رباه! كُتَل من الذهب! كُتَل من الذهب!»
كان الجُزء الصخري من الحجر الذي يمسكه يُشكل نصفه فقط. أما نصفه الآخر، فكان ذهبًا خالصًا. قذفه في وعاء الذهب وانبرى يتفحص قطعة أخرى. لم يلُح منها إلا طيفٌ ضئيلٌ من اللون الأصفر، لكنه فتَّت الكوارتز البالي بأصابعه القوية حتى لم يبقَ في كلتا يديه إلا الذهب ببريقه الأصفر. أزال الطين عن قطعة ذهب وراءَ أخرى، وقذفها جميعًا في وعاء الذهب. كانت تلك الحفرة كَنزًا. كان جزءٌ كبير من الكوارتز قد تآكل، إلى حدِّ أن كميته صارت أقل من كمية الذهب. ومن آنٍ إلى آخر، كان يجد قطعة من الذهب الصافي لا تحمل أي شوائب صخرية عالقة بها. ولما انبثق قلب الذهب من بين ضربات المِعول، تلألأت كتلةٌ من الذهب كأنها حَفنةٌ من الجواهر الصفراء، فأكبَّ رأسه عليها وراح يقلِّبها في مختلف الاتجاهات ليُمتِّع عينَيه بتراقُص الضوء الزاهي عليها.
نخر الرجل وقال مستهزئًا: «حدِّثني الآن عن كل ما حصَّلته من تنقيبك من قبلُ! غنيمة التنقيب هذه المرة تجعله كله يبدو وكأنه ثلاثون سِنتًا لا أكثر. هذه المرة الحفرة ليس فيها إلا الذهب الخالص. والآن سأُسمي هذا الأُخدود «أُخدود الذهب الخالص»!»
ظل يتفحَّص قِطَع الذهب ويقذفها في وعائه وهو ما زال مُقرفصًا. لكنه توجس شرًّا فجأة. بدا وكأنَّ ظِلًّا ما أطل عليه. لكن لم يكن يوجد ظل. قفز قلبه من صدره حتى بلغ حنجرته وكاد يخنقه. لكن رويدًا بدأ يهدأ، وأحس بالعرق الذي بلل قميصه يُبرد جسمه.
لم يقفز من مكانه ولا حتى التفت حوله. لم يتحرك. كان يفكر مليًّا في طبيعة هذا الهاجس الذي نزل عليه، محاولًا معرفة مكان مصدر القوة الغامضة التي تحذِّره، محاولًا أن يتحسَّس ذاك التهديد الذي لا يراه ولا يجد مَفرًّا منه. ثمة هالةٌ ما تحيط بكل ما هو عدائي وتتجلَّى للمرء عبر إشاراتٍ أدق من أن تدركها الحواسُّ، وقد أحسَّ بهذه الهالة، وإن لم يعلم كيف أحسَّ بها. فكأنما مرت من فوقه غيمة في السماء حاجبة الشمس. أحس وكأن ظلامًا ما أطلَّ يحول بينه وبين الحياة، ظلامًا خانقًا مُتَوعِّدًا، عتمة كئيبة تقتات على الحياة، إن جاز القول، وتمهد للموت؛ موته هو.
كانت كل ذرةٍ في كيانه تحضُّه ليهبَّ واقفًا ويواجه هذا الخطر المجهول، لكن روحه هيمنت على الفزع، فظل مُقرفصًا وممسكًا في يده كتلةً من الذهب. لم يجرؤ على النظر حوله، لكنه بات الآن عالمًا بوجود شيء ما خلفه وفوقَه. تظاهر بأنه منغمس في قطعة الذهب التي بين يديه. راح يتفحَّصها مليًّا، وراح يُقلِّبها تقليبًا، ويزيل عنها ما علق بها من طين. وطوال هذا الوقت كان يعلم أن شيئًا ما خلفه يتطلَّع إلى قطعة الذهب من فوق كتِفه.
ظل يتظاهر بالانهماك في قطعة الذهب، لكنه أرهف السمع حتى سمع صوت أنفاس الشيء الواقف خلفه. انبرت عيناه تفتشان الأرض أمامه بحثًا عن سلاح، لكن لم يجد أمامه إلا الذهب الذي سبق أن استخرجه من الصخر، الذهب الذي صار بلا قيمة في ورطته الآن. كان أمامه مِعوله، وهو سلاح نافع في مواقف عديدة، لكن ليس موقفًا كهذا. أدرك الرجل أنه قد وقع في مأزق فعلًا. لقد كان في حفرة ضيقة بعمق ٧ أقدام. ورأسه لا يصل إلى سطح الأرض حتى. لقد أطبق عليه الشَّرَك.
ظل جالسًا القُرفُصاء. كان رابط الجأش تمامًا، إلا أن عقله، بعد تقليب النظر في الأمر كله، لم يُظهِر له سوى قلة حيلته. استمرَّ في فَرْك ما كان عالقًا في الذهب من بقايا الكوارتز ثم قَذْف الذهب في الوعاء. لم يكن أمامه من شيء آخر يفعله. لكنه كان يعلم أنه سيضطر إلى النهوض عاجلًا أو آجلًا ليواجه الخطر الذي يتنفس من فوق ظهره. مرت الدقائق، وكان يعلم أنه مع كل دقيقة تمر يصبح أقرب إلى لحظة النهوض الحَتمي، وإلا فقد يلقى حتفه وهو هناك منكفئ على كنزه، وتلك الخاطرة جعلته يحسُّ ببرودة قميصه الرطب على جسده مجددًا.
بقي جالسًا القرفصاء، يُزيل ما علق بذهبه من تراب، ويتباحث مع نفسه للوصول إلى أسلم طريقة للنهوض. فكَّر في أن يهُبَّ مندفعًا من مكانه ناشبًا أصابعه ليتسلق الحفرة ويخرج منها ويقابل ما يهدده، أيًّا كان، على الأرض المنبسطة أعلاه. أو أن ينهض ببطء متظاهرًا بالعفوية واللامبالاة ليكتشف ما يتنفس فوق ظهره. كانت غريزته وكل ذرة مقاتلة في جسده تميل نحو الاندفاع المجنون والتسلُّق نحو السطح. أما عقله وحِنكته، فاتفقا على مواجهة المجهول الذي يهدده ببطء وحذَر. وبينما كان يتدارس الأمر، رنَّ في أذنه صوت ارتطام مدوٍّ. وفي اللحظة ذاتها تلقَّى ضربة صاعقة على جانب ظهره الأيسر اكتسحته، وشعر بلهيبٍ في لحم جسمه في مكان الصدمة. هبَّ واقفًا لكن جسمه تردى في منتصف المسافة أرضًا. تكوَّم على نفسه كما لو كان ورقة شجر لفَحها لهيب مفاجئ فذَوَت، وخرَّ أرضًا فسقط صدره فوق وعاء الذهب، وانكفأ وجهه على التراب والصخر، والتفت ساقاه وتشابكتا من ضيق المساحة في قاع الحفرة. تشنَّجت ساقاه بضع مرات. واختلج جسمه كما لو كان ينتفض من حُمَّى عنيفة. تمددت رئتاه ببُطء صحبه شهيقٌ عميق. ثم أخرج زفيرًا بطيئًا، بل بطيئًا جدًّا، وتَسَطَّح جسمه بالبطء ذاته حتى صار هامدًا تمامًا.
كان في الأعلى رجل يُحدِّق إلى قاع الحفرة من فوق حافتِها، وفي يده مسدس. ظل يحدق طويلًا في الجسد المنبطح الهامد تحته. وبعد فترة جلس على حافة الحفرة لكي يدقق داخلها، وأسند مسدسه على ركبته. مد يده إلى جيبه فأخرج منه قصاصة بُنِّية. دس فيها بعض فُتات من التبغ. صارت بذلك لديه سيجارة، سيجارة بُنية قصيرة ومكتنِزة، وطرفاها مطويَّان للداخل. لكنه لم يحرك ناظريه عن الجسد الجاثم في قاع الحفرة ولو مرة. أشعل سيجارته وتنشَّق دخانها مع شهيق لطيف إلى داخل رئتيه. دخَّنها رويدًا رويدًا. انطفأت منه السيجارة مرةً فأعاد إشعالها. وطوال هذا الوقت كان يمعن النظر في الجسد الجاثم في القاع.
في النهاية ألقى الرجل عَقِب السيجارة ونهض واقفًا. تحرك نحو حافة الحفرة. ارتكز عليها بكلتا يديه، واضعًا يدًا عند كل ناحية، وهو ما زال مُمسِكًا المسدسَ في اليد اليُمنى، ثم دفع جسمه من على الأرض لينزل الحفرة. ولما صارت قدماه على ارتفاع ياردة واحدة من القاع، أفلت يديه ليهبط في الحفرة.
وحين لمست قدماه القاع، فوجئ بذراع صاحب الحفرة تنقضُّ عليه، وأحسَّت ساقاه بقبضة خاطفة مباغتة أسقطته أرضًا. كانت يده التي تحمل المسدس فوق رأسه بحكم طبيعة قفزته. وبنفس السرعة الخاطفة التي امتدت بها القبضة إلى ساقيه، كان قد أنزل المسدس صوب الأسفل. كان ما يزال في الهواء في هذه اللحظة، ولم يكن قد أتمَّ قفزته بعد، لكنه ضغط على الزناد. دوَّى إطلاق النار في هذه المساحة الضيقة دويًّا يصمُّ الآذان. وملأ الدخان الحفرة حتى لم يعُد يَرى شيئًا. ارتطم بقاع الحفرة وظهره إلى الأرض، وانسلَّ صاحب الحفرة بحركة خفيفة، كما لو كان قطة، حتى صار فوقه. وبينما صار صاحب الحفرة فوقه، كان الرجل الغريب يحاول أن يلويَ ذراعه اليُمنى ليتمكن من إطلاق النار، إلا أن صاحب الحفرة استطاع في هذه اللحظة الخاطفة أن يضرب معصمه بمرفقه بسرعة. فاندفعت فُوَّهةُ المسدس لأعلى واستقرت الرصاصة في الطين في جانب من الحفرة.
وفي اللحظة التالية، أحسَّ الغريب بيد صاحب الحفرة تقبض على مِعصمه. صار الصراع حينئذٍ على المسدس. حاول كِلا الرجلَين جاهدًا أن يُدير فُوَّهة المسدس ناحية الآخر. كان الدخان في الحفرة قد بدأ يَنقشِع. وبدأ الغريب المستلقي على ظهره يُبصِر ملامح رؤية ضبابية. لكن فجأة أعماه غريمه بحَفنةٍ من التراب قذفها في عينه. ومن وقع صدمة هذه اللحظة، انفرجت قبضته عن مسدسه. وفي اللحظة التالية، أحسَّ بظلامٍ ينقضُّ على رأسه ويسحقه، وفي وسط كل هذا الظلام، لم يعُد يَرى حتى الظلام.
لكن المُنقِّب عن الذهب تابع إطلاق النار مرةً تلو مرةٍ، حتى فرغ المسدس. فألقاه عنه وجثا عند رجلَي الرجل الميت يتنفس ببطء.
كان نشيج الرجل مسموعًا وهو يصارع من أجل التقاط أنفاسه. قال لاهثًا: «يا لك من خنزير حقير! تُخَيِّم في إثري وتنتظرني حتى أنجزَ العمل كله ثم تضربني من الخلف؟!»
كاد يبكي من فرط الغضب والإجهاد. راح يحدق إلى وجه الرجل الميت. كان نِثَار التراب والحصى يغطي وجهه حتى صار من الصعب تمييز ملامحه.
اختتم الرجل تفحُّصه قائلًا: «لم أره من قبل. إنه مجرد لص عادي، سُحقًا له! وضربني من الخلف! نعم ضربني من الخلف!»
فتح قميصه وتحسَّس جانبه الأيسر من الأمام والخلف.
ثم صاح قائلًا: «لكني خرجت سالمًا ولم يمسَسني أذًى! أراهن أنه قد صوَّب عليَّ بدقة، لكنه رفع الفوهة وهو يضغط الزناد … يا له من لعين! لكني نلت منه! نعم، لقد نلت منه!»
تحسَّست أصابعه الثَّقب الذي أحدثته الرصاصة في جانبه، فظهرت في وجهه مسحة من الأسى. قال لنفسه: «ستتفاقم بشدة. عليَّ أن أضمد جرحي وأرحل من هنا.»
زحف خارجًا من الحفرة ثم نزل السفح المنحدر حتى وصل إلى مكان تخييمه. وبعد نصف ساعة، عاد يقود حصانه الحمَّال. كان قميصه المفتوح يكشف عن الضمادات البدائية التي ضمَّد بها جراحه. وكانت حركة يده اليسرى بطيئةً وخرقاء، لكن هذا لم يمنعه من استخدام ذراعه اليُسرى.
لف حبل الأمتعة حول كتِفَي الجثة الهامدة، وبذلك رفعها من الحفرة. ثم شرع في عمله يجمع الذهب. عمل بلا كلل لعدة ساعات، وكان يتوقف من حين لآخر ليريح كتفه المُتيبِّسة ويصيح قائلًا:
«ضربني من الخلف، ذلك الخنزير الحقير! لقد ضربني من الخلف!»
وعندما أتم جمع الذهب ولفَّه بإحكام في عدة صُرَر وغطاها ببطانية، راح يقدر قيمة غنيمته.
توصل إلى نتيجة حِسبته قائلًا: «إما أنها ٤٠٠ رطل أو أني لا أفقه شيئًا. سيكون منها ٢٠٠ رطل من بقايا الكوارتز والطين، وبهذا يكون لديَّ ٢٠٠ رطل من الذهب! أتسمع هذا؟ أفِقْ يا بيل! ٢٠٠ رطل ذهبًا! أي ٤٠ ألف دولار! وهذا كله ملكك أنت!»
حك رأسه بابتهاجٍ لكن أصابعه تعثَّرت في حزٍّ لم يعهده من قبل. تحسست يده ذلك التجويف على امتداد بضع بوصات. كان هذا جرحًا طفيفًا في فروة رأسه أحدثته الرصاصة الثانية.
سار بغضبٍ نحو الرجل الميت.
وقال شامتًا: «كنت تظن أنك ستفعلها، أليس كذلك؟ بلى كنت تظن ذلك! حسنًا إذن، لقد نِلت منك بما فيه الكفاية، وسأمنحك دفنةً لائقةً أيضًا. هذا أكثر مما كنت ستفعله أنت معي.»
سحب جثته حتى حافة الحفرة وألقاه فيها. ارتطمت الجثة بالأرض على جانبها ارتطامًا مكتومًا، وانقلب وجهها فصار مواجهًا للنور. حدق إليه المنقِّب عن الذهب من عَلٍ.
وقال كمن يُوجِّه اتهامًا: «ضربتني من الخلف!»
ثم ردم الحفرة بمعوله وجاروفه. بعدها حمَّل الذهب على ظهر حصانه. كان حملًا ثقيلًا جدًّا على حيوانه؛ لذا لمَّا وصل به إلى موقع التخييم، نقل جزءًا من الحِمل إلى الحصان المُسرَج. وحتى مع ذلك، اضطر في النهاية إلى التخلي عن بعض أغراضه؛ المِعول والجاروف ووعاء الذهب، وبعض الطعام الإضافي وأدوات الطهو، وأشياء متنوعة أخرى.
كانت الشمس في كبد السماء حينما كان يُجبر حصانَيه على العبور من خلال حائل الكروم والمتسلقات. وليتسلق الحصانان تلك الجلاميد الصخرية الضخمة، اضطرَّا إلى أن يهُبَّا على قوائمهما الخلفية، ويشقَّا طريقهما صعودًا عبر تلك الخُضرة الكثيفة المتشابكة دون أن يَريَا موضع حوافرهما. وفي مرةٍ خرَّ الحصان المُسرَج مُثقَلًا، فأزاح الرجل عن ظهره حمولته ليتمكَّن من الوقوف مجددًا. وبعدما تابع الحصان المُضي قُدمًا، مدَّ الرجل رأسه من وسط الأوراق، وألقى نظرةً على السفح المنحدر.
صاح قائلًا: «ذاك الخنزير الحقير!» ثم اختفى.
راحت الكروم وفروع الأشجار تتمزق. وارتجت الأشجار جيئةً وذهابًا معلنةً مرور الحصانَين في وسطها. كان الصلب في نِعال الحصانَين يقرع الصخر، ومن آنٍ إلى آخر كانت تأتي صرخة آمرة حادَّة. ثم علا صوت الرجل يُرنِّم:
أخذ صوت الأغنية يخفت شيئًا فشيئًا، وبدأت روح المكان تنسلُّ عائدة إليه متخللة هذا السكوت. عاد الغدير يغفو ويهمس، ورجع نحل الجبل يطنُّ طنينه الناعس الخفيض. أمَّا أشجار الحور القطني، فعادت تنثُر زغبَها الثلجي في الهواء المحمَّل بالشذا. وعادت الفراشات تنساب ذهابًا وإيابًا بين الأشجار، ووهج الشمس الهادئ يكلِّل المشهد كله. لم يبقَ شاهدٌ على الأثر الصاخب لروحٍ حلَّت على المكان، فخرقت سلامه ومضت، سوى السفح المُخرَّق، وآثار حوافر الخيل على المرج.