آلهة المقاطعات
تكلمنا في الفصل السابق عن أصل منشأ المقاطعات وكيفية تدرجها ورقيها من الوجهة الإدارية، وكذلك تكلمنا عن أصل العبادات فيها وتقلباتها في كل مقاطعة. والآن سنتحدث عن آلهة هذه المقاطعات وعن الأسباب التي أدت إلى تقديس هذه المعبودات على اختلاف أنواعها بقدر ما تسمح به الأحوال.
وسنبدأ بآلهة الوجه البحري متتبعين مواقع نفوذ كل إله أو إلهة حسب طبيعة الإقليم الذي نشأت فيه تلك العبادات، والحقيقة التي لا مراء فيها أن الفكرة الدينية الأساسية كانت واحدة في كل أنحاء القطر، ولكن الخلاف في كيفية عبادة كل إله في كل مقاطعة، ولذلك لا نكون مغالين إذا قلنا إنه يوجد في مصر على وجه عام ديانات بقدر عدد المقاطعات.
ويجب أن نقرر هنا في بادئ الأمر أنه يكاد يكون من ضروب المستحيل أن يكون اعترافنا بتقسيم الوجه القبلي إلى ٢٢ مقاطعة والوجه البحري إلى ٢٠ مقاطعة، كما وصل إلينا من القوائم القديمة المختلفة، دالًّا على أنه كان في مصر في تلك العصور ٤٢ حكومة مستقلة، بل الواقع أن كثيرًا من هذه المقاطعات قد نشأ لأسباب إدارية، هذا إلى أن حدود هذه المقاطعات كانت تتغير حسب العصور، ولا يمكننا الآن أن نبحث في أصل كل مقاطعة وكيفية نشأتها، والوثائق لا تعوزنا لهذه البحوث في الوجه القبلي، ولكنها قليلة هزيلة وغامضة أحيانًا بالنسبة للوجه البحري، ولذلك سنقتصر في بحثنا في ديانة مقاطعات الوجه البحري على ما تسمح به الوثائق التي بين أيدينا.
«نيت» الأم العظيمة للإله «رع» وقد ولدت في الأول، في الوقت الذي لم يكن قد ولد فيه أحد، وقد أصبحت فيما بعد على رأس الثالوث الذي كان يتألف من «أوزير» الزوج في «منديس» (تل الربع)، ومن ابنيهما «أرى-حس-نفر» الذي كان يمثل على شكل أسد وديع.
ولهذا السبب يرمز هذا الرسم في المتون والتعاويذ التي تعمل على شكله إلى معنى الثبات، وعندما كان يفيض ماء النهر ويطفو على الأراضي ويغطيها، كان ذلك يسبب غرق الإله الذي يسكن الأعماق، ولكن زوجتيه الإلهة «إزيس» والإلهة «نفتيس» كانتا تخلصان جثته من الغرق كما تقول الأساطير، وبذلك ينتعش «أوزير» ويحيا حياة جديدة بمفعول السحر من جهة، ولأن والده إله الأرض «جب»، قد أمر بذلك من جهة أخرى، ومنذ ذلك العهد كان «أوزير» عاملًا فعالًا في نمو النباتات وجعلها مثمرة يانعة وهو مع ذلك في أعماق قبره، ولذلك يعتبر إله النيل كما جاء في متون الأهرام، وهذه الأطوار في حياة «أوزير» كانت تمثل في احتفال ديني عظيم يفرد لهذا الغرض، فيحتفل فيه بذكرى وفاته وعودته للحياة ثانية، وكان يقام في بلدة «العرابة» المدفونة حيث يقال إن رأسه كان مدفونًا هناك.
وقد جاء في الأساطير أن «أوزير» حكم في سالف الزمان على الأرض، ونشر في أرجائها أعماله الطيبة، ولكن أخاه «ست» الشرير اغتال حياته خلسة في مؤامرة دبرها له هو وأتباعه، ومنذ ذلك العهد أصبح مقره الأبدي القبر بعد أن جمعت أختاه «إزيس» و«نفتيس» أشلاءه من الأمكنة التي وجدت فيها، ورغم ذلك فإن هذا الإله الميت، أو كما يعبر عن ذلك المصريون «الذي لا يدق قلبه» يمكن أن يعود إلى الحياة ثانية ويمنح قوة التناسل بمفعول السحر، وقد نتج عن عودته للحياة ثانية أن ولدت له إلهة السماء «إزيس» ابنة «حور»، ولكن أمه قد هربت به خوفًا من اضطهاد عمه وشروره فذهبت إلى المناقع التي في غرب الدلتا بالقرب من «بوتو». ولما اكتملت رجولة «حور» انتقم لوالده وفتح ثانية مملكته.
وذلك بفضل مساعدة جده «جب» إله الأرض الذي نصبه وارثًا على ملك والده، ولقد كان من نتائج هذا أن أصبح «حور» يعبد في بلدة «بوتو» التي كانت تعد مسقط رأسه، وكذلك انتشرت عبادته في مواطن أخرى كثيرة في الدلتا، فكان يعبد في «بوتو» بصفته حور الطفل «حوربوخراد» وفي جنوبي تشعب النيل في بلدة «ليتوبوليس» المقاطعة الثانية «أوسيم» كان يعبد بصفته كهلًا «حور الكبير»، وكان يعد في هذه الجهة كأنه أخ للإله «أوزير» وللإله «ست»، وفي المقاطعة العشرين «الغرب» عند الحدود الشرقية في منطقة فاقوس (صفت الحنا) امتزج الإله «حور» في العصور المتأخرة بالإله المحلي «سبد» سيد الشعوب الأجنبية الشرقية وحاميها، وأصبح يعبد هناك على هيئة صقر جاثم على سرير، وهناك آلهة أخرى كثيرة غير من ذكرنا يرجع منشؤها إلى بلاد الدلتا، وقد لعبت دورًا هامًّا في تاريخ ديانة القوم فمنها الإله «تحوت» «هرمس»، وكان مقر عبادته بلدة «هرموبوليس» (بحدت) عاصمة المقاطعة الثالثة، وهي (دمنهور الحالية) ويرى الأستاذ «إدوردمير» أن هناك مقاطعتين باسم «هرموبوليس» واحدة منها في الشمال الغربي والثانية في الشمال الشرقي من الدلتا.
أما البقرات فكانت تعبد في منطقة «منف» (البدرشين)، وتقمصت روحها شجرة الجميز.
وكانت الجميزة في هذه الجهة تسمى شجرة جميزة الجنوب، وكان يعتقد أنها جسم الإلهة «حتحور» (البقرة) الحي على الأرض، وكانت الإلهة نفسها تسمى سيدة شجرة الجميز الجنوبية، وكثيرًا ما يشاهد على الآثار المصرية رسم شجرة الجميز والإلهة مطلة من بين أغصانها على شكل امرأة، وبيدها أبريق تصب منه الماء للسابلة والأموات في وسط الجبانة، وقد بقي احترام الجميزة باقيًا للآن؛ إذ تزرع بجوار المقابر يستظل بفيئها وتروى ظمأ الأموات كما هو الاعتقاد السائد الآن بين عامة الشعب، ويعد قطعها من الأمور المحرمة، أما في المقاطعة الثانية عشرة وعاصمتها «زبات-نثر» (سمنود الحالية)، ومعناها معبد الإله فكان يعبد فيها الإله «أونوريس» (أنحور) فكان يمثل إله الشمس في شكل إنساني «أوزير» محنطًا، ويقال في الأساطير إنه هو الذي أحضر عين الشمس من بلاد النوبة، وقد حل محل الإله «شو» إله الهواء في أماكن مختلفة، والظاهر أن عبادته كانت حديثة في هذه الجهة.
أما أعظم الآلهة المحلية التي كانت تعبد في الدلتا فهو الإله «آتوم» الإله المحلي للمقاطعة الثالثة عشرة ومقرها عين شمس، والواقع أننا لا نعرف شيئًا عن أصل نشأة هذا الإله؛ لأن الكهنة وحدوه مع الإله «رع» ملك الكون، وكان يمثل «آتوم» أو «تم» في شكل حيوان يشبه «فار فرعون» الحالي، لأنه كما جاء في الأساطير كان يبتلع الثعبان الذي يريد أن ينقض على «آتوم» (الشمس عند الغروب) ويبتلعه عند غروب الشمس، والحقيقة أن هذا الحيوان لا يظهر إلا عند الغروب ويسطو على الثعابين، وكذلك كان يمثل على شكل رجل متوج يحمل شارات الملك؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أنه ملك الآلهة — أما عندما كانوا يمثلون «رع» إله الشمس، فكانوا يرون فيه قرص الشمس الأحمر الذي يسبح في السماء في سفينته، وقد كان الخيال المصري أحيانًا يصوره في صورة غريبة، فكان في إحدى الجهات يمثل إله الشمس على هيئة «جعل» تلك الحشرة التي تدحرج أمامها قرص الشمس في أنحاء السماء، كما يدحرج الجعل الأرضي «كور الروث» التي تشتمل على بويضاته، وتلد نفسها بنفسها دون أن تحتاج إلى أنثى، وفي جهة أخرى تمثل الشمس على هيئة عجل من الذهب ولدته إلهة السماء، وفي خلال النهار يكبر ويصبح ثورًا ويسمى «كاموتف»؛ أي ثور أمه، لأنه يلقح البقرة لأجل أن تضع شمسًا جديدة لليوم التالي.
أما إذا مثل الإنسان السماء على هيئة امرأة، فإنها تلد الشمس على هيئة طفل يكبر كذلك خلال النهار ليغيب في السماء، كرجل مسن في عالم الآخرة، وتمثيل الشمس على هيئة رجل مسن كان يعبد بصفته «آتوم» في عين شمس. أما الجعل «خبرى» فكان يعتبر شمس الضحى، وهكذا كان يفرق القوم بين مظاهر الشمس الثلاثة: «خبرى» في الصباح و«رع» وقت الظهيرة و«آتوم» عند الغروب، على أن هذا الترتيب لم يكن متبعًا بصفة قاطعة في كل الجهات.
وعندما نترك الدلتا صاعدين في النيل فأول ما يواجهنا منطقة «منف».
أي في المقاطعة الأولى للوجه البحري، ونجد فيها عدة آلهة تعبد جنبًا لجنب ونخص بالذكر منها: أوَّلًا الإله «سقر» ومنه اشتق اسم بلدة «سقارة»، وهو إله كان يمثل على شكل إنسان يحمل رأس صقر، ويعد إلهًا للموتى؛ وذلك لأن اسم المنطقة أو الجبانة التي كان يسيطر عليها، كانت تعتبر في نظر المصريين الباب الذي يؤدي إلى الآخرة «روستاو». ثانيًا: الإله «تاتننت» ومعناه (الأرض التي ترفع) ويعد مظهرًا من صور الإله «فتاح»، الذي كان يعتبر من أهم معبودات هذه الجهة أيضًا، وكان يمثل على هيئة رجل مزمل في اللفائف، كأنه مومياء برأس صلعاء عارية عن كل لباس، وليس في حالته وشكله ما يشير إلى وظيفته أو هو في الحقيقة يمثل إله الفن والنحت، وإليه ينسب خلق العالم، وكان ينعت «فتاح» بصاحب الوجه الجميل. ثالثًا: العجل «أبيس» كما ذكرنا كان يعبد في هذه الجهة، ولكن أهميته لم تصبح ذات شأن إلا عندما صارت «منف» عاصمة الدولة، ومن المدهش أن هذا العجل كان يحفظ في معبد الإله فتاح مع أنه ليس هناك أية علاقة تربطهما، اللهم إلا في عهد الدولة الحديثة إذ كان القوم وقتئذ يعتقدون أن روح الإله فتاح قد تقمصته.
وأول ما يواجهنا في طريقنا من مقاطعات الوجه القبلي المقاطعة الثانية والعشرون وعاصمتها «بر-حمت» (بيت البقرة) وموقعها إطفيح الحالية، وقد أطلق عليها اليونان «أفروديتو بوليس» الشمال، وكانت البقرة تعبد في هذه الجهة بصفتها إلهة السماء، وعلى الضفة اليسرى توجد مقاطعة النخيل العليا، وهي المقاطعة العشرون وعاصمتها «هراكليو بوليس» (إهناس المدينة الحالية)، وفيها معبد للإله «حرشف» (الذي على بحيرته) وتتقمص روحه كبشا، وكان عباده يعتقدون فيه أنه إله عالمي، وأن عينيه هما الشمس والقمر، ومن أنفه يخرج الهواء، أما اسمه الذي على بحيرته فتفسيره أن معبده يوجد عند مدخل الفيوم حيث توجد بحيرة. أما المقاطعة الحادية والعشرون، وتسمى مقاطعة «النخيل السفلي» فهي واحة الفيوم نفسها التي سكنها المصريون منذ فجر التاريخ، وعاصمتها «شدت» (الفيوم الحالية)، وكان يعبد فيها الإله «سبك» الذي يمثل على شكل تمساح، وقد أقيم له معبد آخر عظيم في بلدة «أمبوس» (كوم أمبو الحالية)، وفي هذه الجهة كان يحتفل كل عام بفيضان النيل وهو في الواقع إله الماء، وهذا هو السبب الذي من أجله قد مثل في لوحة نائمًا على قضيب من الرمل في مقصورة صغيرة شأن كل الآلهة المقدسة التي يجب أن تحترم في كل مكان على النيل، ولقد بلغ من احترام هذا الإله عند أتباعه أن وصفوه ﺑ «جميل الوجه»، على أن الدافع الحقيقي لعبادة هذا الإله في الأصل هو الخوف أو الفزع مما عساه أن يحدثه هذا الحيوان الجبار من الضرر بالإنسان، وبعد إقليم الفيوم جنوبًا يواجه الإنسان إقليما عظيمًا يمتد من الوادي إلى سفح الجبل الشرقي المتاخم للنهر، ويشمل ثلاث مقاطعات: الأولى: مقاطعة «سبا» وهي الثامنة عشرة. والثانية: مقاطعة «كينوبوليس» وهي المقاطعة السابعة عشرة. أما المقاطعة الثالثة: فيطلق عليها جبل الثعبان وهي المقاطعة الثانية عشرة، وعاصمتها «هيراكنبوليس» (بلدة الإله حور)، ثم «أنتيوبوليس»، وموقعها «قاو الكبيرة» الحالية، وفي هذه المنطقة تسود عبادة الإله «أنوبيس» وبخاصة في المقاطعة السابعة عشرة، وفي مقاطعة جبل الثعبان ١٢ كان يعبد الإله «حور» وإلهة على هيئة لبؤة تسمى «ميتيت»، وهي أم الإله «حور»؛ أي إنها هنا تمثل الإلهة «إزيس».
على أننا نجد مثالًا مشابهًا لما ذكرنا في الإقليم الذي يضم المقاطعة التاسعة وعاصمتها «أبو» (إخميم الحالية) والمقاطعة الخامسة الملاصقة لها وعاصمتها «قفط»، ففي هاتين المقاطعتين كان يعبد الإله «مين» رب القوة التناسلية والخصب في مصر، ويرمز له برسم الصاعقة، وقد عثر منذ أزمان سحيقة على صور لهذا الإله من الحجر في «قفط»، وهو ممثل على شكل صنم ضخم له رأس ملتحية وقناة تناسلية قد استقامت كأنها تلقح، ثم مثل فيما بعد على شكل إنسان يلوح في يده اليمنى زخمة ويلبس على رأسه ريشتين عظيمتين، وبجوار هذا الإله كان يعبد الإله «آمون» في بلدة طيبة في المقاطعة الرابعة، وقد عثر له على أشكال عدة ممثلًا بعضو التذكير المستقيم، وكان كذلك يعبد على شكل كبش في كثير من معابد القطر، كما كان يمثل على شكل إنسان يحمل ريشتين عظيمتين، ولا شك في أنه كانت توجد عصبية بين هذين الإلهين لما بينهما من أوجه الشبه العدة.
أما على الشاطئ الأيسر للنيل في المنطقة الواقعة بين قفط و«العرابة» فكانت تقع المقاطعتان السادسة والسابعة، وكانت العبادة السائدة فيهما لإلهة عظيمة تتقمص بقرة يطلق عليها اسم «حتحور» (دندرة) وتعتبر إلهة السماء، والواقع أن إلهة السماء كانت «نوت» ولم تكن عبادتها منتشرة تمامًا. أما عبادة «حتحور» (بيت حور) فكانت على العكس ذات أهمية عظمى، ولا نزاع في أن اسمها يشير إلى الفكرة القديمة، وهي أنها مسكن «حور» صقر السماء، على حين أن صورتها تحمل من البقرة قرنيها وأذنيها، وأحيانًا ترسم رأسها على هيئة رأس بقرة حقيقية، وتنتسب للبقرة السماوية، والواقع أن «حتحور» قد فقدت صفتها الأصلية تدريجًا. إذ لم نفهم على وجه التحقيق الشيء الذي تحمله البقرة بين قرنيها. هل هو الشمس أو كما يعبر عنه المصريون أنفسهم عين الشمس؟ على أن المصريين كانوا يسمونها عين الشمس، وهو الوصف المعتاد الذي كانت توصف به، وكذلك نجد أنها قد تخلت دائمًا عن مرتبتها الأولى بين الإلهات، وقد أصبحت فيما بعد تسمى إلهة الغرب؛ وذلك لأنه كان يعتقد أنها تقف بجانب الجبل الغربي وتسمح للشمس وللأموات عند الغروب بأن يدخلوا في الأقاليم السفلية «عالم الأموات»، وكذلك أصبحت تدعى إلهة الحب والآلهة المرحة الطروب بين النساء، ومن أجل ذلك كن يسمينها «الذهبية»، ولم يخطئ اليونان عندما سموها باسم إلهتهم «أفروديت»، ومن أجل ذلك نجد أن النسوة كن يخدمنها ويحتفلن بها بإقامة حفلات الرقص والغناء واللعب على الصاجات والشخشخة بقلائدهن، وبالعزف على الدفوف، ولها أدوار أخرى سيأتي ذكرها عند المناسبات، وفي المقاطعة الثالثة «هيراكنبوليس» وعاصمتها «نخب» (الكاب) الحالية، ثم إسنا فيما بعد، كانت تعبد إلهة على هيئة أنثى نسر ضخم تسمى «نخبت»، والحقيقة أن اسم هذه الإلهة ليس «نخبت»، بل اسمها نسبة من البلد الذي عبدت فيه «نخب»، وهي العاصمة القديمة للوجه القبلي، وكانت الحامية لرب هذه الجهة وتحلق فوق رأسه، ولذلك كان يوضع رسمها على تاج الملوك والملكات.
ومما يسترعي النظر من بين معابد هذه الآلهة المنتشرة في الوجه القبلي معابد الإلهين «حور» و«ست»؛ إذ كانت لها أهمية عظيمة في طول البلاد وعرضها، وهنا يجب أن ننبه الأذهان إلى أن هذين الإلهين لم تكن لهما علاقة في الأصل بالإله أوزير أو الإله «ست» بل في الحقيقة كانا أخوين متخاصمين، فكان «ست» يمثل الظلمة الدامسة والهلاك، على حين أن الإله «حور» كان يمثل النور الذي يسطع بين نجوم السماء، ويحلق في الفضاء على هيئة صقر عيناه الشمس والقمر، وهو يقوم بحرب أبدية على الإله «ست» دون أن تسفر انتصاراته المتوالية عن القضاء على خصمه، وعندما يحدث خسوف القمر يرى المصريون في ذلك أن الإله «ست» قد اقتلع عين «حور»، غير أن الأخير ينتقم لنفسه بانتزاع خصيتي عدوه، ثم ينزل الإله «حور» بعدوه «ست» هزائم دموية، ثم تطالعنا الأساطير بعد ذلك بأن الإله «تحوت» إله الأشمونين (هرمس) يظهر في هذه الآونة على المسرح ممثلًا إله القمر ويشفي جروح المتخاصمين، ومن ثم يذهب كل منهما ليحكم في ملكه فيقسم وادي النيل بينهما، فيكون الوادي الخصيب من نصيب الإله «حور»، أما الصحراء القاحلة (الأرض الحمراء) فتقع من نصيب الإله «ست»، ويتصل بهذه الأساطير التي نجدها مذكورة بصور مختلفة في تاريخ الديانة حسب المذاهب، بعض نقط ترجع بها إلى العبادات المحلية كما سبق وأشرنا إليه في أساطير الدلتا وبخاصة ما يشير منها إلى الإله «حور» الذي نشأ في مناقع الوجه البحري، وتدل الأحوال على أنه كان في الأصل صقرًا، ولا نزاع في أن مثل هذه الأمور العرضية التي تظهر في ديانة المقاطعات، نلاحظ أن صبغة الأسطورة العالمية تنمحي تمامًا أمام ما ينسب إلى الآلهة المحلية في هذه المقاطعة أو تلك؛ لأن القوم كانوا فيها يعتبرون إلههم المحلي أعظم الآلهة.
على أن هناك حقيقة يمكن استخلاصها بكل جلاء ووضوح، وهي أن الإله «ست» منذ فجر التاريخ كان يعد بين الآلهة الرئيسية التي كانت تقدس في الصعيد، وكانت عاصمته بوجه خاص هي بلدة «أمبوس» الواقعة قبالة قفط، بين جبانة نقادة القديمة وقرية البلاص الحالية؛ أي إنها كانت واقعة في قلب أقدم مدنية مصرية، وكان يلقب في هذه الجهة رب البلاد الجنوبية ويعبد على هيئة حيوان خرافي لا وجود له في مصر، ويحتمل أنه هو العقاب الذي عثر عليه في أعالي نهر الكنغو، ولا يبعد أنه كان من حيوانات مصر في ذلك العهد ثم تقهقر، وكذلك كانت عبادته منتشرة في المقاطعتين الحادية عشرة والتاسعة عشرة، وعاصمة الأولى «سشحتب» (شطب الحالية) والثانية مقاطعة «أكسرنكس» (البهنسة) جنوبي مقاطعة «إهناس»، وكان الحيوان المقدس في هذه الجهة سمكة ذات فم مدبب «القنومة».
أما الإله «حور» فكان مقره إدفو عاصمة المقاطعة الثانية، وكان الصقر يمثل إله الشمس وصار يرمز له بقرص الشمس ذات الجناحيين القويين، ويتدلى من كِلَا جانبيه «صل» (ثعبان) وكان القوم يعتقدون أنه يولد كل يوم في الأفق، ثم يتوالد بنفسه من جديد في رحم أخته وزوجته «بقرة دندرة» التي تحولت إلى إلهة السماء، ومن أجل ذلك أطلق عليها اسم «حتحور» ومعناه بيت الإله «حور» أي الشمس، ولذلك كان يرسم قرص الشمس ناشرًا جناحين عظيمين تذكرة لأصل الفكرة. على أن انتشار عبادة «حور» لم تقف عند هذا الحد، بل كانت أعظم شأنًا من ذلك. إذ نجدها سائدة في المدينة التي ستصير فيما بعد العاصمة الملكية «نخن» (الكوم الأحمر)، وتقع على الضفة الغربية من النيل قبالة مدينة الكاب (نخب)، بل وفي المقاطعة الخامسة التي عاصمتها «قفط» وقد رمز لها بصقرين، وكذلك في مقاطعة المهى «السادسة عشرة» وفي مقاطعة جبل «الثعبان» ١٢، ولا جدال في أن نفوذ هذا الإله قد امتد إلى هذه الدرجة لأسباب سياسية؛ إذ الحقيقة أن الإله «حور» مدين بانتشار عبادته في الوجه القبلي لغزو هذه البلاد وفتحها على يد أتباع «حور»، وتدل الأحوال على أن مقر هذا الإله الأصلي بلدة «بوتو» إبطو «تل الفراعين الحالية» وأطلالها بالوجه البحري بالقرب من دسوق، ومن المحتمل أن عبادته قد نقلت في هذه الفترة إلى الوجه القبلي، وذلك لأن «حور» كان إله الدولة، ثم توحد فيما بعد مع الإله المحلي لإدفو واسمه «حور» أيضًا، وقد تكلمنا عنه من قبل، وقد حدثت تغيرات وحوادث مثل هذه في أمر انتشار عبادة الإله «ست» في الوجه القبلي، غير أن المصادر تعوزنا للوقوف على حقيقتها. ولا شك في أن كيفية عبادة هذين الإلهين قد حدث فيها تغيير وتحوير، وذلك يرجع إلى أن عباد «حور» قد انقسموا في الوجهين القبلي والبحري، ومنذ ذلك العهد أخذت الأساطير الشكل الذي عرفناه فيما بعد، ومن المحتمل كذلك أن يكون قد حدث مثل هذه الحال في أمر الإله «ست»، فتكون عبادته قد نقلت إلى الدلتا، ولم يكن معروفًا من قبل فيها إلا بالدور الذي لعبه في قصة «أوزير»، ولم تكن له في الدلتا أية عبادة خاصة قائمة بذاتها، وقد دلت الأبحاث الحديثة على أن الإله «ست» كان يعبد في الدلتا منذ الأسرة الرابعة، ولا يبعد أنه كان يعبد فيها من قبل في نفس الإقليم الذي يحمل في ثناياه اسمه «سوتريت» وموقعه الآن بالقرب من بلدة «تانيس» (صان الحالية).