الأسرة الثالثة
وقد مكث حكم «خع سخموي» ١٥ سنة على أقل تقدير، ثم خلفه على العرش في منف الملك «نترخت-زوسر» ومن المحتمل جدًّا أنه كان أخاه الأصغر لا ابنه، ويعد المؤسس للأسرة الثالثة، وقد دام حكمه نحو ٢٩ سنة، وكان من أهم ملوك هذا العصر السحيق، ويعد إلى الآن أول ملك بنى لنفسه مقبرتين: واحدة منهما بصفته ملكًا للوجه القبلي وكانت على شكل مصطبة ضخمة من اللَّبِن مجهزة بمنحدر عميق وتتبعها عدة حجرات تحت الأرض وهي واقعة في شمال «العرابة» المدفونة في بيت خلاف، والمقبرة الثانية قد شيدت له باعتباره ملكًا للوجه البحري، وهي واقعة على الهضبة التي فيها جبانة «منف» وهي المعروفة الآن بسقارة، وهذه المقبرة تعد أقدم هرم عرف إلى الآن في التاريخ، ويقول بعض علماء الآثار: إن هذا البناء هو الحلقة المتوسطة بين المصطبة والهرم الحقيقي، ويعرف الآن بالهرم المدرج، والمهندس الذي وضع تصميم هذا البناء الغريب الذي يعتبر أضخم بناء من الحجر في عصره في وادي النيل هو «أمحوتب» الذي كان زيادة على نبوغه في الهندسة ملمًّا بعلم الطب وراسخ القدم في الإدارة، وقد كانت له شهرة عظيمة في عصره وما بعده، حتى إنه اعتبر كإله للطب، وقد بقي اسمه مخلدًا حتى عصر اليونان ولكنه حُرِّف إلى «أموتس» ومثلوه بحكيمهم المشهور «أسكليبوس».
وقد عثر أخيرًا على تمثال جميل للملك زوسر سردابه، وكذلك كشف عن عدة مبان له وبخاصة معبده الجنازي ومقبرتي ابنتيه، وهذه المباني تضع المهندس الذي وضع تصميمها في أعلى مرتبة من الشرف والعلم، وكذلك تشهد للعمال الذين كانوا يقومون بتنفيذها بالمهارة. والواقع أننا أمام هذه المباني نشاهد أول خطوة انتقال في تاريخ فن المعمار في تعميم البناء بالأحجار في وادي النيل؛ إذ نرى عمدها مضلعة تشبه العمد الدوريكية في الفن الإغريقي ومزخرفة بزخرف نباتي، ولكننا نشك في أن روح تلك المباني الحجرية منقولة بذاتها عن المباني التي أقيمت بالخشب واللَّبِن في عهد الأسرتين الأولى والثانية، وهذا المعمار الذي يعتبر كأنه نوع من النجارة الدقيقة هو الحد الفاصل بين البناء الأولي باللَّبِن والبناء بالأحجار الضخمة التي ساد استعمالها وبلغت قمتها في الأسرة الرابعة في بناء الأهرام والمصاطب، وقد أرسل «زوسر» حملات إلى المحاجر والمناجم في شبه جزيرة سينا لإحضار النحاس والفيروز.
ويعد «زوسر» أول ملك توغل في نوبيا السفلى فيما وراء الشلال إلى المحرقة في منتصف الطريق إلى الشلال الثاني، وهو الذي ينسب إليه اليونان فتح الإقليم المعروف باسم «دوديكاشين» أي المنطقة التي يبلغ طولها نحو ١٤٣ كيلومترًا من الفنتين فصاعدًا.
وقد عثر أخيرًا في دهاليز هرمه المدرج على أوان من الأحجار الصلبة من المرمر والجرانيت والديوريت والإردواز وغيرها من أنواع الأحجار الصلبة النادرة ويبلغ عددها أكثر من ثلاثين ألفًا غير أن معظمها وجد مهشما، وربما يرجع ذلك إلى زلزال أرضي أو إلى أنها قد كسرت عمدًا لأسباب جنائزية، وقد وجد من بين هذه الأواني أشكال تنم عن منتهى الرقي في دقة الفن وحسن الذوق والأناقة والتنسيق إلى حد يعجز القلم عن وصفه، وقد وجد على بعضها أسماء الأشخاص الذين أهدوها إلى الملك مكتوبة بالمداد الأسود، ولا نكون مغالين إذا قلنا: إن قطع الحجر اللازم لصنع بعض الأواني الكبيرة وتنسيقها ربما استغرق عامًا كاملًا من مجهود صانع واحد، وقد كان لهذا الكشف أثر عظيم في تحويل آراء علماء الآثار إلى الأهرام الكبيرة وعما عساه أن يوجد فيها من المخلفات.
وقد خلف «زوسر» بعض ملوك لا يزال تاريخهم غامضًا أولهم «سانخت» وكل ما نعرفه عن «سانخت» هذا أنه بنى لنفسه مقبرة في بيت خلاف بالقرب من مقبرة «زوسر»، ولم يعثر له على مقبرة أخرى في سقارة كما كان المنتظر، والظاهر أن هذا الفرعون حكم كل مصر؛ إذ وجدنا اسمه منقوشًا على صخور وادي مغارة في شبه جزيرة سينا.
وتولى العرش بعده ملك يدعى «حابا» ثم الفرعون «نفركا»، ولا نعرف عنهما شيئًا.
أما آخر ملوك هذه الأسرة فهو الفرعون «حو» ويدعى «حوني» أيضًا ومعناه «الضارب»، وقد أقام لنفسه هرمًا في دهشور في جنوب سقارة، وهو الحلقة الموصلة بين الهرم المدرج والهرم الكامل، وقد جاء ذكره في ورقة عثر عليها من عهد الدولة الوسطى تنص على أن «حوني» هذا هو السلف المباشر للفرعون «سنفرو» مؤسس الأسرة الرابعة.