الأسرة الرابعة
لقد بقي تاريخ الأسرة الرابعة محاطًا بشيء كبير من الغموض رغم ظهور آثار ملوكهم للعيان، وشهرتها في كل العالم، وقد ظل الحال كذلك إلى أن قامت الحفائر العلمية في منطقة أهرام الجيزة على الهضبة التي أقيمت عليها الأهرام المعروف بأهرام الجيزة، فكان من أهم الكشوف إماطة اللثام عن مقبرة الملكة «حتب-حرس الأولى» أم الملك خوفو، وهي بنت «حوني» وقد تزوجت «حتب حرس» هذه من الملك «سنفرو» أول ملوك الأسرة الرابعة، ورزق منها بالملك «خوفو» ثاني ملوك هذه الأسرة.
(١) الملك سنفرو
هو أول ملوك الأسرة الرابعة، وقد أراد أن يقلد جده العظيم «زوسر»، فبنى لنفسه مقبرتين متقاربتين، وكلتاهما على شكل هرمي، وهما لا تزالان باقيتين إلى الآن، الأولى في دهشور جنوبي سقارة، والثانية في ميدوم في الشمال من مدخل الفيوم، والهرم الأخير يطلق عليه الأهالي اسم الهرم الكاذب لعدم انتظام شكله، ونحن نجهل تمامًا في أي هرم من الاثنين دفن الملك «سنفرو»، وفي عهده قامت حملة بحرية عظيمة إلى المواني السورية رجع منها المصريون بنحو أربعين سفينة محملة بالأخشاب للبناء قطعت من غابات لبنان، وقد كان الخشب يجلب من جهات لبنان لمصر بكل الوسائل لخلو جهات القطر المصري من الغابات، وكانت مصر في عهد هذا الفرعون مملكة متحدة ثابتة الأركان، وكانت كل القوة مجتمعة في يد الملك الذي حل محل رؤساء القبائل، ولما كان الملك هو الوارث لمعبود القبائل أصبح القوم يعتقدون فيه أنه إله حقيقي، فعندما ينتقل في أرجاء قصره أو خارجه كان لزامًا على رعيته أن يركعوا أمام جلالته الإلهية، ويُقَبلوا التراب الذي تحت قدميه، وعند تتويجه كان يقام له احتفال عظيم، ويعد يوم التتويج يوم عيد وأفراح، يحتفل به سنويًّا، ولما كان هو الواسطة بين الشعب وآلهته، فكان حقًّا مكتسبًا له أن يقوم مقام الكاهن الأكبر في كل المعابد وفي كل الطقوس الدينية، وكذلك كان الملك يعتبر في أعين عظماء بلاده وحاشيته أنه إله، وبعد وفاته كان القبر الذي يضم رفاته موضع تقديس كما يقدس محراب أي إله، وكانت حاشيته وعظماء البلاد تدفن حول قبره أو بالقرب منه حتى يقدموا له خدماتهم في دار الآخرة بنفس الولاء والإخلاص الذي تعودوه أحياء.
وكانت مصر تنقسم إلى مقاطعات ربما كانت هي التي سكنتها القبائل منذ عهد ما قبل الأسرات، وهي التي أطلق عليها اليونان كلمة «نوم» أي مقاطعة، وقد كان الوجه القبلي يتكون من ٢٢ مقاطعة من الشلال الأول إلى منف، وكان الوجه البحري يشمل ٢٠ مقاطعة — كما ذكرنا آنفًا — وفي عهد «سنفرو» كان لكل مقاطعة حاكم يعينه الملك يلقب بلقب «الأول بعد الملك»، وهذه التسمية تدل على أن حاكم المقاطعة كان تحت إدارة الملك مباشرة، وكان المسئول الوحيد أمامه في مقاطعته، لذلك كانت السلطة كلها في يد الملك، وكان الموظفون يتسلمون الأوامر من الفرعون وحده الذي كان في يده كل شيء، ولما كان الملك يسكن في الوجه القبلي فيظهر أنه لم يندب أحدًا ليمثله في تنفيذ أوامره في هذا القسم من المملكة، على خلاف الوجه البحري، فإنه كان ينيب عنه موظفًا كبيرًا يلقب بحامل خاتم الملك في الوجه البحري، أو حامل الختم كما يسمى في عصرنا هذا، وكان ينتخب من الأسرة المالكة.
وكان تحت إدارة حاكم المقاطعة أو المديرية عدد من الموظفين يساعدونه على تصريف أمور المقاطعة، وأهمهم رجال القضاء والمالية، والظاهر أن قانون الوراثة بين أفراد الشعب كان يجري على نظام الأمومة، وكان كذلك عندما ينقطع نسل الذكور في الأسرة المالكة، فإن الملك الذي يتولى من غير الأسرة المالكة لا بُدَّ له من أن يتزوج بإحدى بنات البيت الملكي، وكان ذلك من الضروري حتى يأتي خَلَفُه يجري في عروقه الدم الملكي.
وقد كان للآلهة في هذا الزمن السحيق معابد من حجر على حين أن الملك كان يسكن في مأوى بسيط من اللَّبِن، أو من طين النيل المجفف في الشمس، ولم يكن لأحد الحق في أن يسكن في مساكن من الحجر إلا الموتى لأنهم كانوا يُعَدُّون كالآلهة.
وقد كان يظن أن معبد الملك خال من النقوش، ولكن الكشوف الحديثة دلت على أن معابد الملوك كانت منقوشة مثل الحجر التابعة لمقابر الأمراء وعِلْيَةِ القوم، وقد بدأت تظهر فيها النقوش البارزة والغائرة وتلون بألوان زاهية منذ الأسرة الثالثة، وهذه النقوش كانت تمثل مناظر من الحياة اليومية التي كان يشاهدها الميت في حياته، وكان الغرض منها أن تمثل للملك الحياة كما كان يتمتع بها وهو في دنياه، وفضلًا عن أن هذه الرسوم تعطينا فكرة تامة عن الحياة الاجتماعية في هذا العصر عند عِلْيَةِ القوم وعامة الشعب، فإنها تعطينا فكرة عن الفن في هذا الفن العصر ومقدار ما وصلت إليه الحضارة المصرية من جميع وجوهها، وقد ظلت الفكرة القائلة بأن هذه المناظر الاجتماعية ظهرت أوَّلًا في مقابر الأعيان والأمراء سائدة إلى أن كشف في العام المنصرم عن الطريق الجنازي الممتد بين معبد الوادي والمعبد الجنازي لهرم الملك «أوناس» آخر ملوك الأسرة الخامسة، وقد ظهرت على جانبيه نقوش ومناظر تدل دلالة واضحة على أن الملوك قد بدءوا في استعمال هذه المناظر أولًا، ثم قلدهم الأمراء وعِلْيَةُ القوم، وسنتكلم عن ذلك في موضعه.
(٢) الملك خوفو
هو ثاني ملوك هذه الأسرة وباني الهرم الأكبر الذي يعد مع الأهرام الأخرى في منطقة الجيزة من عجائب الدنيا السبع.
وقبل أن نتناول الكلام على حكم خوفو وأخلافه، سنتكلم بشيء من الإيجاز عن الأهرام عامة، حتى يتسنى لكل زائر لمنطقة الأهرام أن يعرف شيئًا عنها.
كان أول من أقام هرمًا من ملوك مصر هو الفرعون «زوسر»، وهو المعروف بالهرم المدرج بمنطقة سقارة، وقد أقام بعده «سنفرو» هرمين في منطقتي دهشور وميدوم كما ذكرنا، ولكن خوفو قد ترك هذه الجهات واختار لنفسه هضبة الجيزة ليقيم عليها هرمه الضخم، وربما كان السر في ذلك أن هذه الهضبة كانت قريبة من عين شمس مقر عبادة «رع»، وكذلك لأنها متسعة ومرتفعة لتجعل هرمه يشرف على كل ما حوله، يضاف إلى ذلك أن أحجار هذه الهضبة صالحة لقطع أحجار المباني لصلابتها ومتانتها، فكان من السهل عليه أن يقطع الأحجار منها ليقيم بها هرمه الضخم.
وبمقارنة أحجار هذه المحاجر بأحجار الأهرام وجد أنها نوع واحد، وبذلك هدمت النظرية القديمة، وهي نظرية «هيرودوت» القائلة بأن أحجار الأهرام كانت تجلب إليه من محاجر الجهة الشرقية من النيل «محاجر طرة»، وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه بعض الأثريين الحالين، والواقع أن الأحجار التي كانت تكسى بها الأهرام، هي التي كانت تجلب من محاجر طرة، وكذلك كانت تستعمل أحجار هذه الجهة لصنع التماثيل، ولعمل الأبواب الوهمية التي كان يكتب عليها النصوص الهيروغليفية، وذلك لملاستها وناصع بياضها وسهولة الحفر عليها، ومن ذلك يتضح أن موضوع بناء الأهرام لم يكن من الأعمال التي كانت تبذل فيها المشاق العظيمة التي كنا نقرؤها في الكتب القديمة والحديثة، والمحاجر التي قطعت منها أحجار الأهرام ظاهرة واضحة بجوار كل من الأهرام الأربعة لمن يريد أن يراها الآن بعد أن أزيحت عنها الرمال والأتربة التي غطتها منذ آلاف السنين، ومما سهل بناء الأهرام كذلك كيفية رفع الأحجار عند قدماء المصريين، إذ قد ظل العالم إلى زمن قريب جدًّا يعتقد أن المصريين كانوا يبنون المزالق فقط لجر الأحجار عليها في بناء الهرم، ولكن الكشوف الحديثة برهنت على أن المصريين كانوا قد وصلوا في هذا العصر إلى استعمال «البَكَر» لرفع الأحجار، وقد عثر في حفائر الجامعة المصرية على بكرتين إحداهما وجدت بجوار الهرم الثاني، والأخرى عثر عليها في إحدى بيوت مدن الأهرام التي كشف عن جزء منها حديثًا شرقي الهرم الرابع، ومن كل ذلك يتضح للقارئ أن أجدادنا المصريين كانوا قد وصلوا إلى مدى عظيم في فن البناء واستخدام قوى الطبيعة، وقبل أن نصف الهرم الأكبر يجب أن نذكر كلمة عامة عن الهرم وملحقاته والغرض من بنائه.
اختلف علماء الآثار في تكييف شكل الهرم عند قدماء المصريين وأصل بنائه، والواقع أن أشكال الأهرام تختلف في منظرها وفي تركيبها في كثير من الأحيان، فمثلًا نجد الهرم المدرج في سقارة قاعدته مصطبة مربعة فوقها عدة مصاطب تصغر تدريجًا، وهناك هرم آخر قاعدته مربعة وفوقه عدة مصاطب مربعة أصغر من الأولى، ولكن بدون قمة، وهناك الهرم الرابع ويختلف عن الأهرام كلها، فإن قاعدته المربعة تحمل فوقها تابوتًا. وأحسن بناء هرمي تام أهرام الجيزة.
- أوَّلًا: يكون للهرم في الجهة البحرية أحيانًا بابان، واحد في المداميك السفلى والثاني فوقه بقليل، وكل منهما يوصل إلى حجرة الدفن، ومن المؤكد أنه كان يوجد أمام الباب محراب صغير للعبادة.
- ثانيًا: في الجهة الشرقية من الهرم كان يقام معبد ضخم يسمي «المعبد
الجنائزي»، وهذا المعبد كان يتصل بمعبد آخر يسمى «معبد الوادي» بطريق
مبني بالأحجار الضخمة المحلية يبلغ عرضه أحيانًا نحو ٢٥ مترًا، وفي
وسطه طولًا أقيم ممر ضيق مسقوف، كان يستعمل لمرور الكهنة الذين كانوا
يقومون بالمراسيم الدينية للملك من المعبد الجنائزي إلى معبد الوادي أو
بالعكس، وهذا الطريق الذي كان يوصل بين المعبدين طويل جدًّا، وقد بلغ
طوله نحو ٦٠٠ متر للهرم الثاني. ولما كان من المستحيل اختراق هذا
الطريق عرضًا كان ينحت في منتصفه نفق تحت الأرض، تسهيلًا للذين يريدون
أن يعبروا الطريق عرضًا.
أما المعبد الجنائزي الذي يقام ملاصقًا لجدران الجهة الشرقية من الهرم، فكان يقسم قسمين: قسم يعتبر معبدًا للوجه البحري، وآخر للوجه القبلي، وعلى جانب معبد الوجه القبلي كان يحفر الملك لنفسه قاربين ليقوم فيهما بسياحته اليومية مثل الشمس؛ إذ كان الفرعون يعتبر نفسه بعد موته كالشمس؛ يولد صباحًا ويسبح في الأفق طول النهار في سفينة خاصة، ثم ينقل عند الغروب إلى سفينة أخرى ليقوم فيها بسياحته ليلًا، ثم يعود إلى الدنيا ثانية وهكذا، ولما كان المفروض أن سفينة الليل لا ترى فقد أخفاها المصريون عن العيان، وذلك بأن جعلوا لها سقفًا، ويبلغ طول سفينة النهار نحو ٢٩ مترًا وطول سفينة الليل نحو ٣١ مترًا، وقد وجد في الجهة البحرية من معبد الوجه البحري قاربان مماثلان لمركبي الوجه القبلي ولكنهما أقل حجمًا.
وفي محاذاة الهرم من جهة الشرق كذلك كانت تنحت سفينة ضخمة للحج إلى «العرابة» (؟) وقد بلغ طول هذه السفينة المحاذية للجهة الشرقية من الهرم الثاني نحو ٤٢ مترًا.
- ثالثًا: وكان من مستلزمات الهرم كذلك أن يقام حوله سور ضخم حتى لا يقرب منه أحد غير الكهنة، وهذا السور كان يبني بالحجر أو باللَّبِن حسب مقدرة الفرعون.
- رابعًا: وكانت تقام بالقرب من كل هرم مدينة مبنية باللَّبِن للكهنة والخدم الذين يقومون بأداء الواجب نحو الملك المتوفى، وقد عثر أخيرًا على هذه المدن في الجهة الشرقية من الأهرام، وكشف عن جزء كبير منها، غير أن معظمها لا يزال مطمورًا تحت الرمال، وربما تكشف لنا عن صفحة جديدة في الحضارة المصرية من ذلك العهد الغامض.
ورغم ما عثرنا عليه من التماثيل الجميلة والأواني الفاخرة في معبدي الوادي والجنائزي للهرم الثاني والثالث فإنه قد وضع جزء كبير منها؛ إذ قد هشم الثوار بعد الأسرة السادسة معظم مخلفات الأسرة الرابعة.
وقد عثرنا بجوار الهرم الثاني على بقايا أكثر من ٢٠٠ تمثال خلاف ما نقله الألمان إلى «ميونخ» و«هلدسهيم» من بقايا هذه التماثيل.
ورغم كل ما كشف حديثًا حول أهرام الجيزة، فإن معلوماتنا لا تزال ناقصة عن الهرم وكنهه، وإلى أن يكشف أحد الأهرام من كل جهاتها كشفًا علميًّا تامًّا فإننا سنبقى في الظلام وستبقي الأهرام سرًا غامضًا.
(٢-١) الهرم الأكبر
ورغم أن الهرم الأكبر يعد أعجب شيء في مصر، فإنه لم يكشف عنه من كل جهاته، ولا يزال معبده الجنائزي ومعبد الوادي مطمورين تحت الأرض، والظاهر أن الطريق الموصل بين المعبدين كان ظاهرًا في عهد «هيرودوت»، وقد قال عنه أنه كان أعجب من الهرم نفسه، والآن تقوم حفائر في الجهة الشرقية من هذا الهرم في المعبد الجنائزي أوقفت فجأة، وقد عثر على صورة للملك «خوفو» منقوشة على أحد أحجار المعبد، وكذلك عثر على بعض نقوش وصور تدل دلالة واضحة. على أن المعبد الجنائزي للملك «خوفو» وجد عليه نقوش وكتابات، وبذلك هدمت النظرية القائلة بأن معبد الهرم الأكبر لم يكن عليه نقوش، والواقع أن رسم «خوفو» الذي عثر عليه هنا هو أول صورة معروفة له في التاريخ، وآخر ما عثر عليه سفينتان للشمس يبلغ طول الواحدة منهما نحو ٥٥ مترًا، وسفينة أخرى يتوصل إليها بدرج ويبلغ طولها نحو ٤٠ مترًا.
أقام «خوفو» هذا الهرم ليكون مأواه الأبدي، إلا أنه لم يمكث فيه طويلًا؛ إذ وجد تابوته المحفوظ في حجرة دفنه خاليًا خُلوًّا تامًّا من كل شيء، ولا بد أن حجرة دفنه قد اقتحمت في عهد الثورة التي قامت بعد تدهور حكم ملوك الأسرة السادسة، على أننا نجد آثار التخريب الذي قام في الفترة بين أواخر الأسرة السادسة والأسرة الحادية عشرة ظاهرة في هذه المنطقة كما سنتكلم عنها فيما بعد.
وربما يتوهم البعض أن بناء الهرم الأكبر قد شغل «خوفو» عن باقي أعمال ملكه، ولكن الواقع أننا نجد له آثارًا باقية في مدن ملكه مثل «قفط» و«دندرة» و«تل بسطة» وغيرها، وقد ترك خوفو اسمه منقوشًا في مناجم النحاس والفيروز في شبه جزيرة سينا، والنقوش التي بقيت في هذه المنطقة تخبرنا أنه أشعل نار الحرب ضد الساميين الرُّحَّل الجائلين في هذه الجهات، وهم الذين يُعرفون باسم «منتيو»، ولا شك أنه كان يقوم بهذه الحروب ليحمي الحملات التي كان يرسلها إلى هذه الجهات للحصول على المعادن والأحجار، وقد كان يضطر أحيانًا إلى اقتفاء أثر هؤلاء اللصوص إلى مسافات بعيدة شمالًا، حتى إن الفرص سنحت له لأن يختلط بالمدنية الشمالية والشرقية، ورغم أنه ليس لدينا براهين قاطعة من ذلك العهد الموغل في القدم، على وجود علاقات حقيقية بين مصر وبابل، فإنه من المؤكد أن المصريين كانوا يعلمون شيئًا عن المدنية البابلية، يضاف إلى ذلك أنه كانت توجد علاقات تجارية من حين لآخر في ذلك العصر بين بعض القبائل التي كانت تسكن الصحراء بالقرب من حافة وادي النيل وبعضها، وقد كان قيام هذه العلاقة ميسورًا وبخاصة من جهة الجنوب؛ لأن النيل كان يسهل هذه التجارة، أما النوبيون فقد أحجموا عن الإغارات على حدود الفرعون، ثم قبلوا أن يكونوا تحت سلطانه.
- (١)
أن يكون الوارث للعرش ابن ملك ولد من زواج ملك بأخته، وكلاهما من الدم الملكي الخالص.
- (٢)
أن يكون الوارث ابن ملك ولد من زواج ملك ليس من الدم الملكي الخالص بابنة ملك من الدم الملكي الخالص.
- (٣)
أن يكون الوارث للعرش رجلًا قويًّا تزوج من ابنة ملك من دم ملكي خالص.
ومما سبق يتضح أن تولية العرش في مصر لم تكن من الأمور الهينة، وبخاصة إذا علمنا أن «خوفو» تزوج من عدة نساء، وأن المنافسات قد قامت بعده بين أولاد زوجاته المتعددات على تولي عرش الملك، والظاهر أن «ددف رع» لم يكن حقه في الملك قويًّا كأخيه «كاوعب»؛ إذ يظن أن «ددف رع» كان ابن ملكة لوبية الأصل وليست من الدم الملكي، وقد تزوج من أخته «حتب حرس الثانية» ابنة الملكة «حتب حرس الأولى» وهي المعروفة بالشقراء، ولذلك نجد أن ملامح «ددف-رع» تختلف عن ملامح ملوك هذه الأسرة، والظاهر أن فرع أسرته الأصلي كان في عداء ظاهر له، إن لم يكن في مشاحنات ضد تسلطه على العرش، على أنه لما توفي وخلفه أخوه «خفرع» لم تسكت على ذلك أسرة «ددف-رع» إذ قام ابنه «باكارا» يناهض «خفرع» مدة أعوام بدون جدوى.
(٣) خفرع
عندما تولى خفرع عرش مصر لم تكن يده مطلقة التصرف بسبب المنازعات الداخلية التي قامت بينه وبين أولاد «ددف-رع» غير أن ذلك لم يثن عزمه عن إقامة هرم يضارع هرم «خوفو» في عظمته وفخامته وإن كان أقل منه حجمًا بقليل، والناظر إلى الهرم الثاني الآن يجد أنه في شكله أكثر أناقة واحتفاظًا برونقه من الهرم الأكبر؛ إذ لا يزال الجزء الأعلى من كسوته التي أحضرت له من محاجر «طرة» باقيًا إلى الآن.
وقد دلت الحفائر التي عملت حديثًا في جهته الشرقية على أن قاعدة الهرم من جهاتها الأربع مكسوة بمدماكين من الجرانيت الأحمر المحبب، ولا تزال بقايا هذه الأحجار في مكانها من الجهة الشرقية إلى الآن. هذا وقد كشف عن المعبد الجنائزي الملاصق للهرم من جهته الشرقية وكذلك عن الطريق الموصل إلى معبد الوادي ويبلغ طوله نحو ٦٠٠ متر تقريبًا، وبجوار المعبد الجنائزي كشف عن سفن الشمس وسفينة الحج إلى «العرابة»، وعثر في المعبد الجنائزي وما حوله على بقايا أكثر من مائتي تمثال ﻟ «خفرع» ليس بينها تمثال واحد سليم، ويرجع السبب في ذلك إلى عصر الثورة التي قامت بعد سقوط الأسرة السادسة فحطمت كل ما كان أمامها. أما التماثيل التي عثر عليها في معبد الوادي المبني بالقطع الضخمة من الجرانيت الأحمر المحبب، وهو المعبد الملاصق لأبي الهول، فقد وجد منها اثنان سليمان، ويعد أحدهما وهو المصنوع من الديوريت من أجمل ما أخرجه الفنان المصري في كل عصوره، بل ومن القطع النادرة في عالم الفن.
وقد بقيت أسرة «خفرع» مجهولة في معظمها إلى عهد قريب، فلم يكن يعرف من أولاده أكثر من ثلاثة، أما الآن فقد كشف عن معظم أفراد الأسرة ويبلغ عدد أولاده نحو ١٦ فردًا من الذكور والإناث، وقد وجدت مقابر بعضهم سليمة لم تصل إليها أيدي اللصوص، ومعظمهم قد نحتوا لأنفسهم قبورًا في الصخر، وهي إما في الجهة الشرقية أو الجهة القبلية من هرمه، وإما بجوار الطريق الموصل بين معبده الجنائزي ومعبد الوادي. والظاهر أن «خفرع» لم يتمكن من بناء أهرام صغيرة في الجهة الجنوبية من هرمه لزوجاته، كما فعل «خوفو» من قبله و«منكاورع» من بعده، وربما كان السبب في ذلك قيام المشاحنات على العرش، وقد كانت قائمة بينه وبين أخلاف «ددف-رع»، ويظهر ذلك جليًّا في الهرم الذي أخذ في تشييده بالجهة الجنوبية ولكن لم يتم بناءه، ويحتمل أنه لم يدفن فيه أحد، وبقاياه لا تزال موجودة إلى الآن، وربما كان عدم قيامه بحملات إلى البلاد الأجنبية شمالًا أو جنوبًا يرجع إلى نفس السبب؛ إذ الواقع أننا لم نعثر على اسم «خفرع» في الجهات التي كان فراعنة مصر يرسلون إليها البعثات أو الحملات التأديبية أو للبحث عن المعادن، ومما يعزز هذا الرأي إن مقابر أسرته العدة التي كشف عنها حديثًا لم يكن قد تم نحتها عند الدفن، وبقيت كذلك إلى الآن، وقد كان المفروض أن مقابر الأسرة تعطى عناية عظيمة من الملك في نحتها ونقشها.
(٣-١) أبو الهول
جرت العادة عند علماء الآثار والمؤرخين أنهم عندما يكتبون عن الملك «خفرع» أن ينسبوا إليه تمثال أبي الهول قائلين بأن هذا التمثال العجيب هو للملك «خفرع» بعينه، ولذلك يعتقد الكثيرون أن المعبد المجاور له هو معبد أبي الهول، والواقع أن تمثال أبي الهول ليس له علاقة قط بالمعبد المجاور له، وأنه كان إلهًا يعبده الملك خفرع وله معبد خاص قائم أمامه، كما سنفصل ذلك فيما يلي.
لم تصل إلينا معلومات عن هذا التمثال من مؤرخي اليونان الذين زاروا مصر قبل الميلاد، بل كان كل همهم موجهًا إلى الأهرام ووصفها، ولا ندري لذلك من سبب، فهل كان أبو الهول مغمورًا بالرمال أم أنه لم يلفت نظرهم؟
يقع هذا التمثال في الجهة الشمالية من نهاية الطريق الممتد بين المعبد الجنائزي ومعبد الوادي للملك خفرع، وهو محفور في قطعة واحدة نحتت من صخرة محلية، ولكن الناظر إليه الآن لا يصدق ذلك، والسبب في هذا أنه رمم في عصور مختلفة، ويبلغ طوله ٤٦ مترًا وارتفاعه من الأرض إلى قمته ٢١ مترًا، والظاهر يدلنا على أنه تمثال، رأسه رأس إنسان وجسمه جسم أسد.
أما تاريخ نحته فقد اختلف فيه المصريون أنفسهم، فهناك نقوش متأخرة تدل على أنه نحت في عهد «خوفو»، ولكن برهن البحث العلمي على أنها نقوش دخيلة من عصر الدولة الحديثة وما بعدها، وقد غالى بعض المؤرخين فقال: إن هذا التمثال قد نحت في عهد ما قبل الأسرات، وقد بقيت الآراء متشعبة في تاريخ نحته وفي كنهه وما يرمز إليه.
ومما يؤسف له أننا إلى الآن لم نعثر على تاريخ أو نقش معاصر له يدلنا على زمن نحته بالضبط، ولذلك يعده الأثريون لغزًا من الألغاز في تاريخ مصر، ولكن إذا تأملنا فيما كان يحوطه به ملوك مصر من الاحترام والتقديس وخاصة من أوائل الأسرة الثامنة عشرة إلى آخر عهد الرومان، اتضح لنا أن هذا التمثال لا بد أن يكون معبودًا من المعبودات المصرية القديمة، وإذا كانت الأشياء يُحكم عليها بأشباهها، فلدينا في التاريخ المصري ما يُثبت ذلك؛ إذ منذ الأسرة الخامسة نجد أن الملك كان يشبه بعد وفاته دائمًا بالإله «أتوم» الذي كان يعد أعظم الآلهة المصرية قوة وسلطانًا، ولذلك مُثِّل هذا الإله برأس إنسان أي القوة المفكرة، وجسم أسد أي القوة الجسمانية، هذا إلى أن الملك نفسه كان يمثل نفسه بهذه الكيفية، وقد بقي هذا التمثيل إلى أواخر العهد الروماني، ومن هنا جاء الالتباس بأن «خفرع» هو الذي صنع تمثال أبي الهول ليمثله نفسه وبخاصة لأنه بجوار معبده، وقد أثبت الكشف الحديث أنه صنع في عهد الملك «خفرع» وعلى صورته، ولكنه يمثل إله الشمس عند الغروب، وقد كان يطلق عليه للمصريون اسم «أتوم».
ولكن المصريين أنفسهم قد أخبرونا كتابة أن تمثال أبي الهول هو الإله «حور إم آخت» أي (حور في الأفق) «الملك المتوفى»، وقد ذكره المؤرخون الإغريق باسم «حرماخيس»، وليس أدل على ذلك من اللوحة التي كتبها «تحتمس الرابع» تعبُّدًا لهذا الإله وسرد ما فعله لربه من الخدمات إجابة لطلبه عندما أظهر «حور إم آخت» رغبته في إزالة الرمال التي كانت متراكمة حوله، ولا يزال أثر هذا العمل الجليل الذي قام به «تحتمس الرابع» باقيًا إلى الآن؛ إذ نجد أنه بعد أن أزال الرمال التي كانت متراكمة حوله، بنى من جهاته الأربع سورًا من اللَّبِن لا يزال جزء منه باقيًا إلى الآن، وعلى مسافة نحو أربعين مترًا غرب السور أقام سورًا آخر لحماية السور الأول من إغارة الرمال، وقد جاء بعده ملوك من الأسرات الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين بنوا مساكن للكهنة الذين كانوا يقومون بتأدية الفرائض الدينية لهذا الإله، وبخاصة عندما نعلم أن ملوك هذه الأسر كانوا قد اتخذوا البقعة التي حول أبي الهول مكانًا للصيد والقنص لشهرتها بحيوانات الصيد، ولذلك كانوا يطلقون على هذه الجهة اسم «وادي الغزلان»، وقد عثر أخيرًا على بيت وحمام ﻟ «توت عنخ آمون» في هذه الجهة، ربما كان لراحة الملك عند خروجه للصيد، ولما جاء «رعمسيس الثاني» نقش اسمه على هذا البيت بعد أن طمس بطبقة من الجص نقوش «توت عنخ آمون»، ونجد كذلك أن جسم الحيوان قد رمم في أزمان مختلفة وبخاصة في عهد الأسرة الثامنة عشرة والأسرة العشرين، وفي عهد الإغريق والرومان، ومباني هذه العصور نراها واضحة في الترميمات التي أدخلت عليه وخاصة في جانبيه وذيله.
ومع كل هذا بقي الاعتقاد عند علماء الآثار سائدًا بأن أبا الهول يمثل الملك «خفرع» إلى أن كشف حديثًا عن معبد منفصل تمام الانفصال عن المعبد المجاور له، أي معبد «خفرع»، وموقعه في الجهة الشرقية من وجه أبي الهول، وهذا المعبد قد أقيم لعبادة هذا الإله، وقد نصبت فيه تماثيل للملك الذي أقامه، غير أنه لم يبقَ منها إلا قواعدها تدل عليها.
لكن الواقع أن هذا التمثال يمثل الشمس عند الغروب، وهي تعد أكبر المعبودات عند المصريين، وأن هذا المعبد الذي أنشئ أمامه أقيم خاصة لعبادته، ولا يمكن أن يكون قد أقيم لعبادة «خفرع»؛ إذ إنه قد أقام لنفسه معبدين أحدهما جنوب هذا المعبد وهو معبد الوادي، والآخر هو المعبد الجنائزي الواقع شرق هرمه مباشرة، ولا غرابة في إقامة تمثال أبي الهول في هذه الجهة؛ إذ كان على مقربة منه بلدة عين شمس التي كانت تعد أكبر مركز لعبادة الإله «أتوم» إله هذه الجهة المحلي، وكان يمثل فيها بشكل أسد رأسه رأس إنسان، وكان أمام معبده طريق تحفه تماثيل أبي الهول الذي يمثل الإله المحلي لهذه الجهة.
ومما يعزز إلاهية أبي الهول أن الأهلين في عصور مختلفة كانوا يصنعون تماثيل لهذا الإله ويعدونها تذكارًا في الحفلات الدينية التي كانت تقام له، وقد عثر منذ بضع سنوات على أكثر من عشرين تمثالًا له صغيرة الحجم في الرمال التي كانت تغطي معبده، وعلى تماثيل متوسطة الحجم أمام معبد «أمنحتب الثاني» الذي أقام فيه لوحته المشهورة.
والحقيقة إذن أن تمثال أبي الهول ليس بلغز وما هو إلا الإله «أتوم»، وإنما أخذ العالم على عاتقه أن يجعله لغزًا إلى الأبد، وسيبقى كذلك ولو ظهرت كتابات تدل على أصله وكنهه.
أما العهد الذي نحت فيه أبو الهول فقد عرف على وجه التقريب؛ إذ دلت الكشوف الأخيرة على أنه نحت بعد إقامة الطريق الموصل بين المعبد الجنائزي ومعبد الوادي للملك «خفرع»؛ أي إن أبا الهول لا بُدَّ أن يكون قد نحت في عهد «خفرع» باني الهرم الثاني أو بعده، وهذا أول تاريخ ثابت في عمر أبي الهول.
وفي عام ١٩٣٧ قامت مصلحة الآثار بحفائر لتنظيف المنطقة التي تقع حول أبي الهول والحفرة التي هو فيها، وقد أدت هذه الحفائر إلى كشف النقاب عن نيف ومائة وخمسين لوحة تذكارية وآثار أخرى وبعض مقابر في الجهة البحرية يرجع عهدها إلى الدولة القديمة، وأهم هذه اللوحات لوحة الملك «أمنحتب الثاني»، وقد نصبها داخل معبد خاص له تذكارًا لزيارته لمنطقة الهرم وأبي الهول، وفيها ذكر أبا الهول بأنه هو الإله «حور أم آخت» وأنه الإله «أتوم» وتكلم عن الأهرام بأنها أهرام أبي الهول؛ أي إنه نسبها إلى هذا التمثال العظيم بصفته إلهًا. أما اللوحات الكثيرة التي كشف عنها هذا العام فقد استخلصنا منها معلومات جديدة تلقي بعض الضوء على هذا التمثال فيما يلي:
دلت البحوث التي حول هذا التمثال على أن ملوك الفراعنة منذ بداية الأسرة الثامنة عشرة حتى نهاية العهد الروماني كانوا يزورون هذا المكان المقدس، وكذلك كان يتقرب الأهلون إلى أبي الهول بتقديم القرابين، واللوحات التذكارية، كما كانوا يتقربون إلى الإله أوزير في «العرابة» المدفونة، فكانت هذه المنطقة تعد في نظر القوم والملوك أنها بقعة مقدسة، وقد كانوا يطلقون على معبد أبي الهول اسم «المكان المختار».
ولا شك في أن فراعنة مصر فضلًا عن تقديسهم لأبي الهول، فإنهم كانوا يأتون إلى هذه المنطقة لصيد الغزلان والأسود، ولا غرابة في ذلك، فإن هذه المنطقة كان يطلق عليها اسم «وادي الغزلان»، وتدل اللوحات التي كشفت في هذا المكان على ما يثبت ذلك، فنجد أن من زار هذه البقعة حسب ما وصلت إليه معلوماتنا هو ابن «تحتمس الأول» ثم «تحتمس الثالث»، «وأمنحتب الثاني» صاحب اللوحة المشهورة التي كشف عنها حديثًا، وهي التي يقول فيها إنه أتي بعربته من منف إلى مكان أبي الهول الذي بنيت من أجله الأهرام، ثم «تحتمس» الرابع الذي ذكر في لوحته أنه جاء في هذا المكان وهو أمير لم يتول الملك بعد، وأخذته سِنة من النوم في ظل أبي الهول، وطلب إليه «حور إم آخت» (أبو الهول) أن يزيل عنه الرمال عندما يتولى عرش الملك، رغم أن «تحتمس الرابع» لم يكن الوارث الحقيقي للعرش، وقد بر بوعده. ثم جاء بعده «أمنحتب الثالث»، وقد رسم في لوحة فتيا، للصيد والقنص، وكذلك حضر «توت عنخ آمون» إلى هذا المكان المقدس، وأقام في الجهة القبلية منه مكانًا للراحة باللَّبِن، وشيد فيه حمامًا ليستحم فيه بعد الصيد والقنص. وقد كشف عن هذا المكان حديثًا غير أن «رعمسيس الثاني» كعادته وضع طبقة من الجص فوق النقوش التي نقشها «توت عنخ آمون» على واجهة الاستراحة التي بناها في هذه الجهة، وكتب اسمه وألقابه، وقد وجدنا النقشين أحدهما فوق الآخر ورغم ذلك فإن «رعمسيس الثاني» أصلح ما أفسده الدهر من الأجزاء التي تآكلت من تمثال أبي الهول، وكذلك أتى إلى هذا المكان الملك «آي»، ثم الملك «حورن أم حب»، ثم «سيتي الأول»، وترك الأخير لنا لوحة عثر عليها في معبد «أمنحتب الثاني» المقامة في الجهة البحرية من أبي الهول، وفيها يذكر صيده للغزال والأسود، ثم أتى الفرعون «منفتاح»، وترك لنا نقوشًا تدل على مقدار اهتمامه بأبي الهول، وهكذا تواترت زيارة الفراعنة والأباطرة لهذا المكان حتى عهد الإمبراطور «سبتميس سفرس» ١٩٣–٢١١ بعد الميلاد.
وأدهش ما كشف في هذا المكان أن قومًا من الكنعانيين وفدوا على مصر، وسكنوا في منطقة أبي الهول في عهد الدولة الحديثة، ومن المحتمل جدًّا أن ذلك كان في أواخر الأسرة الثامنة عشرة كما تدل على ذلك لوحة الفرعون «آي» من أواخر فراعنة الأسرة الثامنة عشرة؛ إذ جاء فيها أنه اقتطع ضيعة للحيثيين في هذه الجهة، وقد دلت اللوحات المكشوفة على أن هؤلاء الكنعانيين «أو السوريين» كانوا يسكنون في هذه المنطقة في بلدة سميت باسم إلههم الذي كانوا يعبدونه في بلادهم، وأعني بذلك الإله «حورون»، وهذا الإله كان يمثل عندهم بشكل صقر، ولما كان أبو الهول عند المصريين، وبخاصة في عهد الأسرة الثامنة عشرة يسمى «حور إم آخت» أي «حور الأفق»، وكان يمثل بصقر، فقد راعى فيه هؤلاء الآسيويون أنه يمثل إلههم الذي تركوه في بلادهم، ولذلك أطلقوا على أبي الهول اسم «حورنا» أو «حورون» أو «حول» هو «حور إم آخت»، ومن ذلك يتضح جليًّا أن الاسم الجديد الذي أصبح يطلق على هذا التمثال هو اسم سامي الأصل، ولا غرابة في أن المصريين عبدوا الإله «حورنا» أو «حورون» في مصر، ووحدوه مع أبي الهول، فإن ذلك له ما يمثله في هذا العصر؛ إذ عبد الإله «ستخ»، وهو آسيوي الأصل في مصر، وأصبح موحدًا مع الإله «ست» إله الحرب، وكذلك الإلهة «عشترت»، فهي إلهة سورية نقلت عبادتها إلى مصر، ووحدت مع الإلهة «حتحور»، وهكذا كان بعض الملوك في فترة فتوحهم العظيمة يقربون بين البلاد السورية ومصر بكل الوسائل. ثم أطلق هؤلاء القوم على الحفرة التي فيها أبو الهول اسم «بر-حول» (بيت حول)، ومن ثم جاء اسم أبي الهول، ومن ذلك يتضح أنه ليس هناك أي علاقة بالمعنى الذي نعطيه لأبي الهول في عصرنا هذا بأنه صاحب الفزع، والحقيقة — كما ذكرنا — أنه اسم مصري سامي يرجع عهده إلى أواخر الأسرة الثامنة عشرة عندما جاء هؤلاء القوم الآسيويون ووحدوه في إلهم «حورون» أو «حول»، ومن الطريف أننا وجدنا لوحة أقامها «تحتمس الرابع»، نجد فيها أنه حبس على هذا الإله بعض الضِّياع في فينيقيا ليقدم منها قربانًا له يوميًّا؛ أي إن الملوك أنفسهم كانوا يعبدون هذا الإله، ويقال إن اسم الملك «حورن أم حب» يحمل في تركيبه اسم هذا الإله. هذا وقد تعبد إليه «رعمسيس الثاني» صراحة، وكشفت لهذا الإله مجموعة تماثيل في جهة «تانيس» مثل فيها هذا الإله على شكل الإله «حور» ومعه «رعمسيس الثاني»، ولكن اسم الإله لم يكتب «حور» بل كتب «حورنا»، ولا أدل على وجود مستعمرة من هؤلاء الكنعانيين في هذه الجهة من اسم القرية التي كانوا يقطنونها في ذلك الوقت، وقد بقي لنا محفوظًا بنصه في اسم قرية صغيرة بالقرب من أبي الهول في جنوبه الشرقي وبينهما كيلومتران ونصف، وهي تسمى الآن «الحارونية» نسبة إلى الإله «حورنا»؛ أي أبو الهول كما ذكرنا، وهي تنقسم قسمين؛ الحارونية القبلية والبحرية، وقد جاءت النقوش مؤكدة لذلك؛ إذ وجد على لوحة من اللوحات «حارونية» بالمخصص الذي يدل على لفظة بلد في اللغة المصرية القديمة، وهي نسبة إلى الإله «حورون»، وقد بقيت شخصية هذا الإله «حورنا» مجهولة عند علماء الآثار حتى جاء العالم «فيرولو» سنة ١٨٣٧، ونشر قطعة من قصيدة شعر «رأس شمر» وقد ظهر فيها اسم الإله «حورون» بصفة قاطعة، وظهر أنه كان يعبد في «صيدا».
ومن ذلك يتضح أن أبا الهول ذلك اللغز العظيم قد اشترك في عبادته، وتقديسه بصفته إله الموتى، وحارس الجبانة السوريون والمصريون على السواء.
إني أحمي مقصورة مدفنك، وإني أحرس حجرة دفنك، وإني أقصى كل أجنبي يريد اقتحامها، وإني أقضي على الأعداء بسلاحهم، وإني أقصي المؤذي عن قبرك، وإني أصرع أعداءك فلا يعودون إليه قط.
وتدل كل الآثار التي كشفت في هذه المنطقة حتى الآن، على أن أبا الهول هو الإله الذي يحرس الموتى في الغرب، وأنه مظهر الشمس عند غيابها في الأفق، وسنكتفي هنا بهذا القدر عن أبي الهول؛ إذ خصصنا له بحثًا خاصًّا في مجلدين ضخمين سننشرهما عندما تتهيأ الأحوال لذلك إن شاء الله.
(٤) منكاورع
خلف «خفرع» على عرش مصر الفرعون «منكاورع»، وبقي على أريكة الملك أكثر من عشرين عامًا، ومن المحتمل أنه ابن خفرع، وعلى أية حال فإن والده ترك له المشاحنات التي قامت بينه وبين أسرة «ددف رع»، ويظن أنه الذي أكمل مقابر أسرة والده، ومقبرة والدته «خع مرر نبتي» في الصخرة الواقعة في الجنوب الشرقي للهرم الثاني، ولما استتب له الأمر أخذ في الاستعداد لبناء هرمه الصغير بالنسبة لهرمي خوفو، خفرع، غير أنه وضع تصميمه على أن يكسى بجرانيت أسوان الأحمر بدلًا من الحجر السلطاني الأبيض الذي كان يجلب من طرة، ومع ذلك فقد كانت تكاليفه أقل بكثير من تكاليف أهرام أسلافه. غير أنه أثناء قيام هذا العمل مات «منكاورع» فجأة، وكان الهرم في تلك اللحظة قد كسي إلى نحو الثلث أي (١٦ مدماكًا)، ومعبده الجنازي قد كسي جزء منه من الخارج، وكذلك حجرة القرابين فقد كسيت بالجرانيت الأحمر والأسود. أما معبد الوادي فإنه لم يتم في عهده وأتمه من بعده «شبسكاف» باللَّبِن، ووضع في المعبد كل أدواته من تماثيل وأوانٍ، غير أن بعضها غير تام، وتدل الحجر الداخلية في هذا الهرم على حصول تغيير في تصميمها أثناء سير العمل، وقد دخل اللصوص هذا الهرم عام ١٢٢٦ ميلادية وقد وجدوا تابوته خاليًا … ووجدوا في هذا التابوت (لا بُدَّ أن يكون تابوتًا آخر) بعد أن كسروا غطاءه، بقايا جسم إنسان من غير حلي ما، اللهم إلا بعض ألواح ذهبية مكتوبة بحروف لا تفهم، وفي عام ١٨٣٧ دخل الكولونيل «هاوردفيس» حجر هذا الهرم، فوجد في الحجرة العليا قطعًا من تابوت خشبي تعزى إلى «ملك الشمال والجنوب منكاورع حيًّا إلى الأبد» ومعه بقايا إنسان ملفوف في ثوب من الصوف الخشن لونه أصفر، وقد وجد كذلك في الحجرة السفلى تابوت من البازلت، وهو الذي خيب آمال لصوص سنة ١٢٢٦، وقد نقل التابوت وبقايا الجسم إلى المتحف البريطاني. أما التابوت البازلتي فإنه شحن إلى إنجلترا، ولكن السفينة غرقت به في «لجهورن» في ١٢ أكتوبر سنة ١٨٣٨، ولا يزال في قعر البحر إلى الآن.
وقد كشفت لنا حفائر الدكتور «ريزنر» في معبد الوادي ﻟ «منكاورع» عن نفائس فنية ودينية، وهذه المجموعة تعد أنفس مجموعة وجدت في الدولة القديمة من الأسرة الرابعة. ومن بينها مجاميع إلهات المقاطعات، وكذلك تمثالان ﻟ «منكاورع» وزوجته في قطعة واحدة بالحجم الطبيعي تقريبًا من الجرانيت، وهما يعدان أجمل قطع في الفن المصري في هذا العصر، ولم يصلنا شيء عن بعثات هذا الملك للخارج سواء أكانت للفتح أم لقطع الأحجار. وأهم وثيقة وصلت إلينا من عهده عثر عليها في مقبرة أحد كبار موظفيه المسمى «دبحن» وفيها يقص هذا الموظف الكبير كيف أن مولاه قدم له خمسين عاملًا لبناء مقبرة خادمه الأمين، وهذه المنحة وإن كانت تعتبر في أعيننا شيئًا قليلًا لكنها أكبر خدمة يقدمها الملك إلى رجل خدمه بصدق وأمانة، وقد تعطف عليه «منكاورع» بذلك حينما كان جلالته على الطريق التي بجانب هرم «حر» يتفقد حال العمل في هرمه المسمى «المقدس» وهو اسم الهرم الثالث. أما هرم «حر» فلا بد أن يكون هرمًا آخر له علاقة ﺑ «منكاورع» من جهة ما، وقد ظن البعض أن «منكاورع» كان له هرمان كبعض أسلافه مثل «سنفرو»، وهذا غير مطابق للواقع، والحقيقة أن هرم «حر» هو هرم ابنته «خنت كاوس»، وفعلًا عثرنا على الطريق التي تربط الهرمين ببعضهما، وقد كشف منه جزء. وقد سمي هرمها «حر»؛ أي العالمي من مسميات الأضداد؛ إذ الواقع أن هرم الملكة «خنت كاوس» في منخفض، وسنتكلم عليه فيما بعد.
ومن الطريف أنه جاء في نقوش «دبحن» هذا أن الملك أمر بإحضار بابين وهميين من الحجر، وكذلك كتلتين لواجهة المقبرة، وتمثال بالحجم الطبيعي لتقام في مقبرته، وقد وجدت كل هذه الهدايا التي أمر بها الملك في مقبرة «دبحن» عند الكشف عنها في عام ١٩٣٤، غير أن التمثال لم يوجد منه إلا بقايا مهشمة وفي عهده أرسل ابنه «حرددف» ليفحص المعابد المصرية بأجمعها، وقد كشف هذا الأمير في الأشمونين الفصلين ٣٠ و٦٤ من كتاب الموتى «كما في النسخة الصاوية»، وكان «منكاورع» يعرف في الأزمان التي تلت عهده بأنه رجل تقي، وكان يُحترَم ويُقدَّس كحكيم من الحكماء في عصر الرعامسة.
(٥) الملك شبسكاف
لما تولى «شبسكاف» عرش مصر بعد والده «منكاورع» لم يشيد لنفسه هرمًا مثل والده على هضبة الجيزة، بل رجع إلى مكان أجداده بالقرب من سقارة، وابتدع لنفسه مقبرة فريدة في بابها، وذلك أنه بنى لنفسه مصطبة ضخمة وبنى فوقها مصطبة أخرى على شكل تابوت. غير أنه جعل لهذه المقبرة كل الملحقات التي تتبع الهرم، وهذا البناء يعرف عند أهالي جهة دهشور باسم مصطبة فرعون.
وإذا اعتمدنا على النقوش القليلة التي كشفت وحكمنا بأن هذا البناء الغريب هو قبر «شبسكاف»، كان أمامنا سؤال لا بد من الإجابة عليه وهو: ما السبب الذي دعا «شبسكاف» إلى العدول عن السُنة المتبعة في بناء القبور على شكل هرمي، وابتداع شكل غريب كهذا؟
والظاهر في تفسير ذلك أن الهرم قد بني ليكون مقبرة للملك، ولم يتخذ هذا الشكل اعتباطًا، بل لأنه رمز لعبادة الشمس في بلدة عين شمس، وفي إقامة المقبرة على هيئة الهرم اعتراف بإلاهية الشمس وسلطانها العظيم، ووضع المتوفى تحت حمايتها ليصل إلى العالم الآخر، وإذا لاحظنا أنه منذ بداية حكم الملك الثالث من الأسرة الرابعة قد دخل في تركيب اسم الملك لفظة «رع» أي الشمس، ولاحظنا أنه في أوائل الأسرة الخامسة اعتبر ملوك هذه الأسرة أنفسهم أولاد «رع» مباشرة وخلفاءه على العرش. لعرفنا منزلة ذلك الإله في نفوسهم وتأثيره عليهم ولأدهشنا أن نرى ثلاثة ملوك لم نجد في تركيب أسمائهم لفظة «رع» كأسلافهم وهم «شبسكاف» و«خنتكاوس» و«وسركاف»، وفي ذلك ما يدل على أن هؤلاء الملوك قد تنحوا عن الانتساب إلى عقيدة عين شمس التي احتلت منزلًا ممتازًا في ذلك الوقت، وما يفسر لنا موقف شبسكاف من قبره، والعدول عن المألوف عند أسلافه في بنائه.
وقد كان هو أول من تخلى عن هذه العقيدة، وأظهرها في بناء قبره مقتنعًا بفكرة أقل روحانية، وهي أن يخلد في القبر نفسه بدلًا من السماء، وذلك بأن يبني لنفسه قبرًا على شكل تابوت ضخم (وهو المكان الذي تأوي إليه «الكا» (أي الروح المادية)، وتجعل الجسم المادي مخلدًا ما دامت تزوره)، ولا شك أن هذه الحركة كانت لا بُدَّ قائمة ضد كهنة عين شمس الذين كان سلطانهم يزداد كل يوم على سلطان الملك، كما حدث فيما بعد في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وربما كان الواضع لهذه الفكرة هو «شبسكاف» نفسه حصنًا له ضد كهنة عين شمس، وفي عهد هذا الملك كان «فتاح شبسس» الذي يعد من أهم الشخصيات التي عاشت في هذه الفترة، وقد ترك لحسن الحظ ترجمة حياته كما كتبها بنفسه، مما يلقي بعض الضوء على تاريخ هذا العصر من بعض النواحي، ولا غرابة في ذلك، فإنه كان أعظم المعمرين؛ بلغ من العمر أرذله، إذ أفنى في خلال حياته الطويلة ستة فراعنة، تقلب مدة حكمهم في وظائف عدة، ولا نبالغ إذا أطلقنا عليه عميد الموظفين، ولقد أحصى الوقت الذي خدم فيه هؤلاء الملوك، فوجد أنه يربو على الثمانين حولًا، والظاهر أنه كان موظفًا حكوميًّا بالمعنى الذي تتطلبه هذه المهنة في مصر؛ إذ كان لا يحسب للمبادئ أي حساب، بل كان بطبيعة الحال يميل عند تأدية عمله إلى ما يجر له المنفعة الشخصية أولًا، ولا أدل على ذلك من أنه رغم رابطة الرحم التي كانت تربطه بالأسرة الرابعة فإنه لم يجد أي وازع يردعه عن الخدمة تحت لواء ملوك الأسرة الخامسة الذين ربما كانوا هم المغتصبين لعرش الملك منه؛ إذ كان متزوجًا من كبرى بنات الملك «شبسسكاف» الذي لم يُرزق وارثًا ذكرًا ليتولى الملك بعده، وقد كان في استطاعة «فتاح شبسس» في مثل هذه الأحوال أن يطالب بالعرش لنفسه، ولكنه كما يظهر لنا، كان رجلًا حريصًا عاقلًا قنوعًا، لم يزج بنفسه في مثل هذه المغامرة، ورضي أن يتقاضي مرتبًا دسمًا تحت لواء أي ملك يقبض على ناصية الأمور، وتاريخ حياة «فتاح شبسس» استغرق عهد ستة ملوك من فراعنة الأسرة الخامسة خدمهم كلهم موظفًا حكوميًّا مطيعًا، ولكن لما كانت أول خطوة خطاها نحو الرقي في الوظائف جاءت في عهد الأسرة الرابعة فقد آثرنا أن نجعله يتكلم هنا بنفسه عن ترجمة حياته كما دونها على مقبرته، وبخاصة إذا علمنا أنه يعدد فيها لنا أسماء الملوك الذين جاءوا بعد «شبسكاف» ووظف في بلاطهم، فيقول مع ذكر اسمه في نهاية كل فقرة: ولد في عهد «منكاورع» الذي رباه مع أطفال الملك في الحريم الملكي»، وكان مقربًا لدى الملك أكثر من أي ولد، «فتاح شبسس». (وكان لا يزال يلبس الحزام) في عهد الملك شبسكاف الذي رباه بين أولاد الملك في قصر الملك، وفي داخل الحريم الملكي، وكان مقربًا لدى الملك أكثر من أي شاب، «فتاح شبسس». (وقد لقي حظوة عند جلالته) وزوجه جلالته من كبرى بناته «معات-خع»؛ لأن جلالته أراد أن يكون بصحبته أكثر من أي رجل آخر، «شبسس فتاح».
المقرب من «وسركاف»، كبير كهنة منف» المحترم من الملك أكثر من أي خادم، فكان ينزل في كل سفينة تابعة للبلاط، وكان يدخل بطريق القصر الجنوبي في كل أعياد التتويج، «فتاح شبسس».
التابع ﻟ «سحورع» المبجل عند الملك أكثر من أي خادم، الذي كان يعمل أمين سر لكل الأعمال التي يريد إنجازها جلالته، وهو الذي كان يسلي قلب سيده كل يوم، «فتاح شبسس».
التابع للملك «نفر إر كا رع» والمبجل عند الملك أكثر من أي خادم، وعندما يثني عليه جلالته لأمر ما، كان جلالته يسمح له بأن يقبل قدمه، ولم يرضَ جلالته أن يقبل الأرض، «فتاح شبسس».
التابع للملك «نفرف رع» المبجل لدن الملك أكثر من أي خادم، وكان ينزل في السفينة المقدسة في كل أعياد التتويج، المحبوب من سيده، «فتاح شبسس».
المحبب لقلب سيده «نوسر رع» عاش أبديًّا في بلاطه، المحبوب من سيده والمحترم لدى الإله «فتاح»، وهو الذي يفعل ما يرغب إلهه، والذي يرتاح إليه كل فنان في عهد الملك، «فتاح شبسس».
ولا جدال في أن «فتاح شبسس» كان رجلًا قد أسعده الحظ، إذا كان مقياس السعادة بالحظوة الملكية التي عاش يرتع في بحبوحتها، ويتقلب في أعطاف نعيمها طوال حياته في عهد كل هؤلاء الملوك دون أن يغضب عليه واحد من بينهم، إذا صدقنا ما رواه عن نفسه، على أن أكبر فخر ناله في حياة أولئك الملوك ما حباه به الفرعون «نفر إر كا رع» الذي سمح له أن يقبل قدمه بدلًا من أن يلثم التراب الذي تحت قدميه وهو ملقى على بطنه أرضًا حسب التعبير المصري الصحيح.
على أن أكبر درس اجتماعي نخرج به من حياة هذا الرجل هو ما نشاهده في خلال هذا العصر السحيق في القدم من أن الوظائف الحكومية كانت الهدف الذي يرمي إليه كل عظيم مهما بلغت درجته، ولقد بقي هذا الداء العضال يتوارثه المصريون إلى يومنا هذا، نعم إن المصري كان بطبعه يتمسك بالعادات والأخلاق التي نشأ عليها أجداده، وكان الابن يرثها عن الأب، ولكن سنن الرقي كان من شأنها أن تجعله يتخلى عن بعض هذه العادات الموروثة، إلا حب الوظائف الحكومية، فإنه لا ينفك يطلبها، ويرى أن كل عمل سواها حقير ضئيل، وأنه في سبيلها يجب أن يضحي بكل شيء، ولا نزاع في أن «فتاح شبسس» قد ضرب الرقم القياسي في ذلك المضمار دون مراعاة أي مبدأ، ولا أكون مبالغًا إن قلت: إنه لا يوجد فرد واحد في مصر عاش في خلال الأربعين قرنًا التي تلت وفاة عميد الموظفين، يتردد لحظة في أن يضحي بمبدئه وعقيدته في سبيل أبهة الوظيفة والتنافس في نيل رضاء الحاكمين وعطفهم مهما كلفه ذلك غاليًا.
وقد ذكر المؤرخون بعد حكم «شبسكاف» ثلاثة ملوك، غير أن الآثار التي كشفت إلى الآن لم يأتِ فيها ذكر واحد منهم، وهكذا بقيت نهاية هذه الأسرة غامضة لا يعرف عنها شيء حتى عام ١٩٣٢، وذلك عندما كشفت بعثة الجامعة المصرية القائمة بأعمال الحفر في منطقة أهرام الجيزة عن الهرم الرابع الذي دفنت فيه الملكة «خنت كاوس».
(٦) الملكة خنت كاوس
ومما لا شك فيه أن «خنت كاوس» هي بنت الملك «منكاورع»؛ لأن «شبسكاف» مات ولم يترك له خلفًا من الذكور، فقامت «خنت كاوس» مطالبة بالعرش بعده، والظاهر أنه كان لها بعض المنافسين على العرش، غير أن الدم الملكي الذي يجري في عروقها جعل لها الأولوية في تولى الملك، ولذلك كتبت على باب هرمها «ملك الوجهين القبلي والبحري والأم الملكية وبنت الإله، وكل شيء تأمر به ينفذ لأجلها»، ويتضح لنا من هذا النص أنها تزوجت بأحد عظماء القوم المنتخب وليًّا للعهد، ولذا سميت الأم الملكية، غير أنها لم تذكر اسم زوجها لأنه ليس من دم ملكي خالص، وأطلقت على نفسها لقب «ملك الوجهين القبلي والبحري» لا ملكة الوجهين، كما فعلت الملكة «حتشبسوت» في الأسرة الثامنة عشرة، وأن هذا ليدل على سمو مكانة المرأة عند المصريين القدماء في ذلك العهد.
ولما تزوجت «خنت كاوس» الوارثة الحقيقية للملك، وأنجبت «وسركاف» خلصت البلاد من تلك الفوضى السياسية، وكانت هي الحلقة الموصلة بين الأسرتين الرابعة والخامسة.
وهناك أقصوصة تكاد تكون خرافة عن أصل الأسرة الخامسة، وربما كان لزواج «خنت كاوس» من أحد الأفراد أو الكهنة وتأسيس الأسرة الخامسة صلة بها، وذلك أنه جاء في ورقة «وستكار» المنسوبة لأحد السحرة أن «حرددف» بن «خوفو» مثل بين يدي والده، وهو يقدم ساحرًا اسمه «ديدى»، وقد تنبأ هذا الساحر بولادة أطفال ثلاثة ستلدهم زوجة كاهن هليوبوليس من «رع» إله الشمس، ثم تسميهم الإلهات بأسماء تشبه في لفظها أسماء الملوك الثلاثة الأُول للأسرة الخامسة وهم «وسركاف»، و«سحورع» و«كاكاو»، وكذلك تنبأت الإلهات بأن كلًّا منهم سيحكم البلاد قاطبة.
ولا شك في أن هذه القصة تنطوي على ارتباك تاريخي؛ إذ لا يعقل أن يولد «كاكاو» ثالث ملوك الأسرة الخامسة في عهد «خوفو»، ولكن المهم في هذه الخرافة أن هؤلاء الملوك الثلاثة هم الذين ورثوا الملك بعد أولاد خوفو وأحفاده، كما أخبر «ديدى» الساحر الملك بقوله: «إن ابنك سيحكم وابن ابنك سيحكم ثم واحد منهم»، يضاف إلى ذلك أن هؤلاء الملوك قد ولدوا من زوجة كاهن «رع» التي حملتهم من الإله نفسه، وأن الإله وعد الأم بأنهم سيحكمون، وأن أكبرهم سيكون كاهنًا أكبر لعين شمس.
ومن المحتمل جدًّا أن تكون «خنت كاوس» قد تزوجت من كاهن عظيم لعين شمس، وبذلك يكون الدم الملكي يجري في أولادهما، ويعزز كهنة «رع» الذين أخذ حظهم يرتفع، ولذلك أصبح الملك يسمى «ابن الشمس»، وربما ادعى الملك نفسه أنه هو ابن الشمس الحقيقي، لأن والده هو كاهن الإله «رع» أو الصورة التي تقمص فيها «رع».
وقد أقامت «خنت كاوس» في عهد وصايتها على الملك هرمًا خاصًّا بها في منطقة أهرام الجيزة، وهجرت المنطقة التي بنى فيها «شبسسكاف» مقبرته الغريبة في بابها.
ولا غرابة في ذلك؛ فإن «خنت كاوس» أرادت أن تكون بجوار والدها «منكاورع». غير أنها لم تتخذ شكل الهرم تمامًا، بل استحدثت في المعمار المصري طرازًا جديدًا يجمع بين الشكل الهرمي والهيئة الجديدة التي اختصت بها مقبرة أخيها «شبسكاف»، ولذلك جعلت قاعدة هرمها مربعة الشكل كما هو الحال في أهرام الجيزة، وأقامت على هذه القاعدة شكل تابوت لتحاكي مقبرة أخيها في دهشور، ويبلغ طول قاعدة هذا الهرم نحو ٤٥ مترًا وارتفاعه نحو ٣٥ مترًا، وقد قطعت القاعدة في الصخر المحلي ثم كسيت بالحجر الجيري الأملس من طرة، ووضع معبده الجنازي في داخل مربع قاعدته، ويتجه بابه شرقًا، وقد كسي معظم هذا المعبد بالجرانيت الأحمر، ونقشت جدرانه بالمناظر الدينية والقرابين على كسوة من الحجر الجيري الضارب إلى السمرة. أما حجرة الدفن فقد كسيت بالجرانيت المحبب، ويتوصل إليها بوساطة منحدر مكسو بقطع الجرانيت الأحمر.
وقد نحتت في جوانبها سبع حجرات صغيرة للأثاث المأتمي، ومن المدهش أننا وجدنا بابًا وهميًّا داخل هذه الحجرة، وكان بنهايتها من الناحية الغربية حجرة من الجرانيت وضع فيها تابوت الملكة المصنوع من المرمر، وقد عثرنا على أجزاء صغيرة منه، وأمام الهرم من الناحية الشرقية أقامت «خنت كاوس» مدينة صغيرة لكهنتها لا تزال منازلها المبنية من اللَّبِن حافظة لشكلها، وبجوار معبد والدها الذي أقامه في الوادي شيدت «خنت كاوس» معبدها أيضًا، وهما متشابهان في نظامهما وبنائهما من اللَّبِن، وهناك أحواض ثلاثة لماء التطهير؛ أحدهم بالقرب من الهرم، والثاني في وسط المدينة، والثالث بجوار معبد الوادي، وقد نحتت في الناحية الجنوبية الغربية من الهرم سفينة تحكي سفن الشمس التي وجدت بجوار أهرام «خوفو» و«خفرع» وغيرهما من ملوك الأسرة الخامسة، ويحيط بالهرم والمباني الملحقة به سور عظيم يجمع بينها ويجعلها وحدة قائمة بذاتها.
وقد أثبتت البحوث التاريخية أخيرًا أن «خنت كاوس» ربما كانت هي الملكة «نيتو كريس» التي ذكرها المؤرخون ونسبوا إليها إتمام الهرم الثالث، وأن التحريف جاء من النطق فحسب كما سنذكر بعد، ولا شك في أن هذه النظرية يقبلها العقل إذا علمنا أن «خنت كاوس» هي بنت «منكاورع» وأنها قد بنت معبدها بجواره، فلا يستغرب أن تكون هي التي يقصدها المؤرخون الأقدمون.
(٦-١) الأساطير التي قيلت عن الملكة «خنت كاوس» بانية الهرم الرابع بمنطقة الجيزة
إن الباحث فيما تركه لنا مؤرخو اليونان عن منطقة الجيزة، يلاحظ في الحال أن هناك بعض أشياء تنطبق على الحقيقة تمام الانطباق. على أن هناك في الوقت نفسه أشياء أخرى لا تقوم إلا على مجرد الأساطير.
فمثلًا نرى هؤلاء المؤرخين يعزون الهرم الأكبر إلى «خوفو»، والهرم الثاني إلى «خفرع»، والثالث إلى «منكاورع». على أننا نرى من جهة أخرى أن «ديدور الصقلي» يذكر لنا استنادًا على مصادر مصرية، أو يونانية أن الأهرام الثلاثة هي ﻟ «أرمايوس» و«أموسس» و«أناروس»، وهناك أسطورة أخرى تدعي أن الهرم الثالث كان مقبرة لحظية تُدعى «رودوبيس»، وقد بناه لها بعض عشاقها من حكام الأقاليم، وظلت هذه الرواية الأخيرة متواترة، وقد ذكر «استرابون» الذي قال إن هذه الحظية كانت تدعوها «سافو» باسم «دوريخا» على حين كان يدعوها آخرون باسم «رودوبيس». غير أن «هيرودوت» فند هذه الأسطورة قائلًا إنه رغم الثروة التي جمعتها «رودبيس» فإنه كان من الصعب عليها أن تجد الموارد التي تمكنها من أن تقيم مثل هذا الأثر. يضاف إلى ذلك أنها لم تكن معاصرة لبناء هذا الأثر؛ إذ كانت تعيش في عهد الملك «أماسيس»، وبعد ذلك نجده يقص علينا تاريخ «رودوبيس» ذاكرًا أنها كانت امرأة راقية الجنس، وأنها كانت جارية لشخص يدعى «جادمان» من جزيرة «ساموس»، وأحضرت إلى مصر حيث أعتقها «كراسوس» أخو «سافو» التي أحضرتها إلى مصر حيث أقامت فيها حظية.
وقد ذكر المؤرخ «أفريكانوس» نقلًا عن مختصر تاريخ مصر لمانيتون، أنه في نهاية الأسرة السادسة حكمت البلاد الملكة «نيتوكريس»، وهي التي أقامت الهرم الثالث، وقد وصفها بأنها أقوى وأجمل نساء عصرها، وأضاف إلى ذلك أنها كانت شقراء. أما نص «يوزيب» (نقلًا عن «مانيتون» أيضًا) فيصفها بأنها شقراء وردية الوجنتين، ولعل السبب الذي دعا إلى وضع «رودوبيس» مكان «نيتوكريس» يرجع إلى وصف الملكة «نيتوكريس» بكونها شقراء ذات وجنتين ورديتين؛ لأن لفظة «رودوبيس» تعني المرأة ذات الوجه الوردي اللون، وعلى ذلك يجب ألا يفهم من الاسم الذي جاء في هذه الأسطورة الإغريقية أنه اسم علم، بل يجب أن يفهم منه أنه وصف ﻟ «دوريخا». يضاف إلى ذلك أن «نيتوكريس» و«رودوبيس» توصفان بأنهما أجمل نساء عصرهما، وقد بذلت محاولات شتى بطرق مختلفة لحل التناقض الذي يظهر لنا في هذه الروايات فلم تسفر عن شيء، ولا جدال في أن «مانيتون» كان يعرف أن الهرم الثالث ينسب ﻟ «منكاورع» وأن اسمه كان يقرأ عليه، وفي قائمة الملوك المصريين يوجد في بدء الأسرة السابعة اسم «من كا رع» وهو اسم يشبه اسم «منكاورع»، وقد ظُنَّ هذا الاسم أنه لقب التتويج للملكة «نيتوكريس» التي وضعت تقريبًا في هذا الموضع في قائمة الملوك، ولكن هذا الفرض مشكوك جدًّا في صحته، ويعلل الآخرون النسبة المزدوجة لبناء الهرم الثالث بحقيقة وجود حجرتين للدفن فيه؛ إحداهما فوق الأخرى، وفي كل منهما آثار للدفن. وأخيرًا ظن البعض أن هذه الأسطورة ليست لها علاقة ببناء الهرم بل بإتمامه، وذلك لأن «ديدور» ذكر أن «منكاورع» مات قبل أن يكمل بناء مقبرته، ولكن ليس من المعقول أن نذكر أن «نيتوكريس» أو أية ملكة أخرى هي التي أتمت الهرم، لأنه معروف لدينا أن «شبيسكاف» بن «منكاورع» هو الذي قام بإكمال معبد الوادي الذي تركه والده ناقصًا، وعلى ذلك فإن الأسطورة القائلة بأن «نيتوكريس» (رودوبيس) هي بانية الهرم الثالث لم تفسر بعد.
والآن أصبح من المحقق لدينا تحديد نسبة هرم الجيزة الرابع، فاعتمادًا على النقوش المكتوبة على مدخله نعرف أنه ﻟ «خنت كاوس» (ملك الوجه القبلي والبحري، وأم الملك)، والآن بعد هذا الكشف نرى أن رواية بناء ملكة لهرم يظهر أنها قد نقلت من الهرم الرابع إلى الهرم الثالث، وهذا التخمين قد أيده نص «يوزيب» الذي ذكر أنه في الأسرة السادسة كانت «نيتوكريس» تحكم البلاد، وكانت (أقوى من كل من كان في عهدها، وأجمل النساء جميعًا)، شقراء لها وجنتان ورديتان ويظن أنها بانية الهرم الثالث الذي يشبه تلًّا.
ولكننا نرى من جهة أخرى أن الهرم الثالث لا يختلف في شكله عن هرمي «خوفو» و«خفرع» وعلى ذلك يظن أنه قد وقع خطأ في نص «يوزيب»؛ وذلك لأن الوصف الذي أورده ينطبق تمام الانطباق على الهرم الرابع، فهو مبني على قطعة منحوتة في الصخر ويظهر في الحقيقة على شكل تلٍّ.
ولا نستطيع على وجه التأكيد ذكر السبب الذي أدى إلى اختلاط الأمر بين الهرمين، ومن المحتمل أنه في النص الأصلي ﻟ «مانيتون»، قد جاء ذكر الهرم الرابع، ولكن الكتَّاب الأقدمين قد اعتادوا أن يتكلموا عن أهرام ثلاثة بالجيزة، ويحتمل أنه قد وقع خطأ في النص في هذا الموضوع فوضع اسم الهرم الثالث مكان الهرم الرابع، ومن المحتمل كذلك أنه قد ظن أن الهرم الرابع لوقوعه بالقرب من معبد الوادي للهرم الثالث قد بني لإحدى بنات «منكاورع»، وفي عام ١٩٢٧ كشفت حفائر بعثة «هارفرد-بوستن» في مصر شرقي الهرم الأكبر عن مقبرة الملكة «مرسى عنخ الثالثة»، وقد رسم على الجدار الغربي للحجرة الرئيسية صورة أمها «حتب حرس الثانية» زوجة الملك «ددف رع» على شكل امرأة شقراء ترتدي رداء يختلف عما يرتديه عادة النساء المصريات، ومن المحتمل جدًّا أنها من نسل «خوفو» عن طريق زواجه بامرأة أجنبية من أصل نوبي.
أما «مرسى عنخ» ابنة حتب حرس الثانية» — وقد تكون زوجة «منكاورع» — فهي ممثلة في شعرها وجلدها باللون المصري المعتاد، ولكن يحتمل أن الدم الأجنبي قد تسرب ثانية في عروق الجيل التالي، وعلى ذلك يرجح أن «خنت كاوس» هي حفيدة «حتب حرس الثانية»، ويحتمل كذلك أن الدم الأجنبي قد انتقل من زوجة «خوفو» الشقراء، وبذلك ليس مصادفة أن تتحدث الأسطورة دون انقطاع عن ملكة جميلة شقراء صاحبة لهرم إذ إنها قد تكون منحدرة من جنس أشقر، وهنا يظهر لنا مرة أخرى شيء من التفاصيل قد يبدو لنا في ظاهره غير مهم ولكنه ينتقل من عصر إلى عصر لأهميته.
وعلى ذلك فإن كل شيء يشير إلى أن ما جاء في «مانيتون» خاصًّا بهرم الملكة له أساس من الصحة، وإنما جاء التناقض من تشابه الأسماء، ووضع أثر مكان أثر، وعلى ذلك «فخنت كاوس»، و«نيتوكريس»، هما اللتان أقامتا الهرم الثالث، وقد وضع اليونان مكانهما «رودوبيس» وبهذه الكيفية انتقلت الأوصاف المستهجنة إلى الصورة الروائية للملكة التي ذكر عنها «مانيتون» أنها كانت تسمى أقوى وأجمل النساء. على أن حكاية «رودوبيس» ظلت متواترة في أسطورة عربية تروي أن الهرم الثالث ينسب إلى روح أنثى تحوم حوله، وتذهل عقول الرجال الذين يقعون في حبها.