الأسرة السادسة
لم تكشف لنا الآثار للآن عن أصل قيام الأسرة السادسة، والظاهر أن ملوكها قد تولوا حكم البلاد من غير شبوب ثورات أو قيام خلاف كبير، وقد ظل فراعنتها على عرش الملك ما يقرب من قرنين من الزمان.
ويظن أن مؤسسها هو الملك «سحتب تاوي تيتي»، ولا نعرف عن حكمه إلا الشيء القليل.
وقد علمنا التاريخ في كل العصور أن كل مؤسس جديد لا بُدَّ أن يكون رجلًا ذا بطش وقوة، ولكن قناع الوجه الذي عثر عليه الأثري «كويبل» بالقرب من معبد هرم «تيتي» في سقارة تدل ملامحه، على أن ذلك الملك كان رجلًا ناعم الخلق رقيق العاطفة إذا صح أن هذا القناع قد عمل شبيهًا لوجهه لا لإنسان آخر.
ويعزو المؤرخ «مانيتون» أصل هذه الأسرة إلى منف، وربما كان محقًّا في ذلك بعض الشيء؛ لأن الأسرة الخامسة كانت كل ميول ملوكها متجهة نحو عبادة عين شمس (الإله رع) أما ميول ملوك الأسرة السادسة الدينية، فكانت تتجه إلى عبادة الإله فتاح في منف.
وقد وصلت إلينا وثيقتان صادرتان عن كبير كهنة الإله فتاح في منف، وهما تدلان على أن الملك «تيتي» كان متجهًا بميوله إلى تنظيم كهنوت «فتاح»، وقام فعلًا بإصلاحات وتغييرات هامة في نظام كلية الكهنة، على حين أنه توجد كذلك لوحة في المتحف البريطاني نقشت عليها قصيدة من هذا العصر نسب فيها أصل كل ما ظهر وما خفي إلى الإله فتاح الإله الواحد الخالق لكل شيء، وكذلك عثر في سقارة على مقبرة لكاهن أعظم للإله فتاح في عهد الملك «وناس» اسمه «سابوابيبي»، وقد أخبرنا في نقوشه أنه خدم في عهد وناس «ثم أصبح اليوم في حضرة ابن الشمس تيتي» عاش أبديًّا، كاهنًا أكبر لفتاح، ومحترمًا من الملك أكثر من أي خادم آخر، وكاهن «فتاح» الأكبر وحامل كأس الملك، ورئيس الأمور السرية للملك في كل مكان.
ومن هذا يتضح أن الكاهن الأكبر للإله فتاح في العهد الجديد كانت له مكانة ممتازة قريبة من الملك، كان لا يمكن أن يصل إليها عندما كان نفوذ عين شمس سائرًا في البلاد. هذا إلى أنه عثر على تمثال للملك «تيتي» نقش عليه: «محبوب فتاح».
على أنه في استطاعتنا أن نستنتج من كل ذلك احتمال قيام حركة رجعية ضد سيطرة بلدة عين شمس ومحبذة لمناصرة مناظرتها منف مقر «فتاح».
ومما يؤسف له جد الأسف أن هرم «تيتي» قد نهبته اللصوص؛ إذ حرقوا كل ما في طريقهم إلى حجرة الدفن وهشموا الحواجز الجرانيتية.
وقد نقش على جدران حجرة الدفن سلسلة نقوش، كثير منها مطابق لما وجد في هرم «وناس». وهذه النقوش قد كتبت بحروف وإشارات أصغر حجمًا من التي وجدت في هرم «وناس»، ولم يفلت من يد اللصوص من جسم الملك إلا ذراع وكتف، وقد ذكر لنا «مانتيون» أن هذا الملك قد قتله الحراس، ولكن ليس لدينا ما يثبت ذلك، اللهم إلا أن الملوك الذين أتوا بعده لم يمكثوا على عرش الملك إلا فترة قصيرة، وربما كان سبب ذلك عدم استتباب الأمن كما يحدث عادة عند قيام عصيان في الجيش أو ثورات داخلية.
وفي عهد تيتي بدأ «وني» حياته، وهو يعد من أكبر الموظفين المصريين في هذا العصر، وقد عاش في عهد عدة ملوك، وقد دفن في «العرابة»، وترك لنا هناك على أحد جدران مقبرته أطول نقش عن حياة شخص، ويعد أهم وثيقة تاريخية وصلت إلينا من الدولة القديمة. على أن ما وصل إليه من علو المكانة قد بلغه في عهد الملوك الذين سيأتي ذكرهم بعد؛ إذ وصل إلى رتبة أمير وحاكم الجنوب وتشريفي، ونائب الملك في «نخن» وسيد «نخب» والسمير الوحيد.
وقد حدثنا «وني» عن نفسه في عهد «تيتي» قائلًا: كنت طفلًا لا يزال متمنطقًا الحزام في عهد الملك «تيتي»، وقد كانت وظيفتي مدير بيت الزراعة، وكنت أشغل وظيفة مدير ضِياع القصر الملكي.
وقد تلا حكم «تيتي» عصر غامض ربما كان سببه الاضطراب الذي حدث بعد قتله إذا صدقنا «مانيتون»، وكل ما نعلمه عن هذه الفترة أن قائمة الملوك ﺑ «العرابة» ذكرت لنا اسم ملك خَلَف «تيتي» لا نعرف عنه شيئًا مطلقا وهو «وسر كا رع». على أننا من جهة أخرى عثرنا على نقش من هذا العصر في وادي حمامات لملك يدعي «إتي»، وقد جاء فيه أن موظفًا اسمه «فتاح أن كاو» جاء إلى هذه الجهة ومعه ٢٠٠ من الرماة و٢٠٠ من الحجاريين ليقطعوا أحجارًا لهرم الملك «إتي». وقد ظن بعض المؤرخين أن «وسر كا رع» و«إتي» اسم لملك واحد، ولا نعلم عدد سني حكم هذا الملك، ويحتمل أنه لم يخلف «تيتي»؛ إذ لم يذكره لنا «وني» ضمن الملوك الذين عاش في عهدهم، وبخاصة أنه ذكرهم لنا بالترتيب التاريخي، وربما كان عدم ذكره لسبب لا نعرفه.
(١) الملك بيبي الأول
ظهر بعد هذا الغموض على عرش البلاد ملك فتى يدعى «بيبي»، وقط ظلَّ قابضًا على زمام الأمور في البلاد بقوة وعزم نحو نصف قرن من الزمان، وهو يعد بحق من أكبر الفراعنة الذين قبضوا على ناصية الحال في مصر في كل عصور تاريخها بحزم ونشاط. حقًّا إنه لم يترك لنا وثائق تدل على أعماله مثل «رعمسيس الثاني» أو «أحمس الأول»، اللهم إلا نقوش «وني»، ولكنا نستعيض عن ذلك بالآثار التي تركها ونقوش المحاجر والتحف التي خلفها وعظماء الرجال الذين عاشوا في عصره، مما يلقي بعض الضوء على عهده، وما حدث فيه من جليل الأعمال، والظاهر أنه كان محببًا إلى أفراد رعيته؛ إذ تسمى الكثير منهم باسمه، وربما كان يشبه في ذلك «تحتمس الثالث»، وإن كان وجه الشبه هنا ضئيلًا لبعد ما بينهما من الزمن، ولكن رغم كل هذا فإن دلائل الأمور تنبئ بأن بيبي كان محببًا في أعين شعبه، وأنه كان الفرعون النابه بين ملوك أسرته.
وقد عثر له على تمثال آية في دقة الصنع من النحاس، ولا نكون مبالغين إذا قررنا أن دقة صنع هذا التمثال وقربه من الحقيقة تفوق كل ما صنع قبله من التماثيل، حتى التي عثر عليها لخفرع، و«منكاورع»، وهو يعد بلا نزاع من أعظم الكنوز التي عثر عليها علماء الآثار في عصرنا الحالي، وقد كشفه الأثري «كويبل» ومعه تمثال آخر صغير من نفس المعدن، عندما كان يحفر في بلدة «هيراكنبوليس» (الكاب). والظاهر أن التمثالين منسوبان لشخص واحد، وقد ظن بعض علماء الآثار أنهما يمثلان «بيبي الأول» نفسه وابنه الأمير «مرن رع» الذي خلف والده مباشرة، أو يمثل الأمير «نفر كا رع بيبي الثاني»، ولكن الأستاذ «فلندرز بتري» يعتبر أن التمثالين هما للملك بيبي نفسه، وذلك ليترك الخيار لقرينه أن يلبس جسم الملك في حداثة سنه أو في كهولته.
ويظن بعض المؤرخين أن «بيبي» هو ابن الملك «إتي» وبخاصة إذا علمنا أن الملكة «أبوت» أم بيبي لم تكن زوج «تيتي»، ولكن كل ذلك من ضروب التخمين المقبول شكلًا، ويمكننا أن نستدل بعض الشيء على نشاط هذا الفرعون خلال حكمه من المباني التي أقامها أو التي أصلحها في طول البلاد وعرضها، ولا نزاع في أن مباني «بيبي» الأصلية قد اختفت بسبب إعادة بنائها في العصور التي تلت، ولكن على الرغم من ذلك نجد بعض بقايا من آثاره لا تزال موجودة. إذ عثر له في تانيس وتل بسطة و«العرابة» ودندرة وقفط على آثار منقوش عليها اسمه. هذا إلى أنه خلف نقوشًا على الصخور حتى إقليم بلاد النوبة السفلية.
والظاهر أن «بيبي» لم يكن موفقًا في داخلية بيته؛ إذ نجد إشارة في نقوش «وني» إلى أن الملك أمر بمحاكمة زوجته «إمتس» أمام محكمة شكلت خاصة لهذا الغرض، ولكن لا نعلم شيئًا خلاف هذه الإشارة، وقد تركنا التاريخ في ظلام حالك عن سبب هذه المحاكمة وكنه الجريمة التي ارتكبتها، ولا يبعد أنها أرادت أن تتآمر على الملك غيرةً منها عندما رأت أنه تزوج من اثنتين غيرها كل منهما باسم «مري رع عنخس»، وعلى أية حال فإنا سنظل نجهل السر أبديًّا أو نعثر على أثر يكشف القناع عن هذا السر الغامض.
وقد كان المكلف بهذه المحاكمة كما ذكرت «وني» وقد لمح لها في نقوشه بكل حذق ومهارة دون أن يحكم على الملكة بالبراءة أو الإجرام، وبعد ذلك لم نسمع عنها في النقوش شرًّا ولا خيرًا، أما زوجتا الملك الأخريين فإنهما كانتا أختين، وقد كانتا كذلك سيدتين عظيمتين من نسل أمير وراثي وحاكم، وكاهن اسمه «خوي» وزوجته «نبت». والظاهر أن أملاك أسرتهم كانت في «العرابة» المدفونة، وقد رزق من كل منهما بوارث للملك، ولا غرابة إذا كنا نجد شقيق هاتين الملكتين الذي ينسب إلى أسرة أمراء بالوراثة قد أثرى ثراء عظيمًا وأصبح يحمل من ألقاب الدولة أعظمها فكان يحمل «زاو» شقيق الملكتين لقب الحاكم، وكبير القضاة، ووزير ورئيس الملابس الملكية، وحافظ خاتم الفرعون، وغير ذلك من الألقاب في عهد ابن أخته الصغير «بيبي الثاني»، ولما كان «زاو» هذا مدينًا لأختيه بالرقي والحظوة التي نالها فإنه أراد أن يعترف لهما بالجميل، وقد نحا في ذلك نحو الطريقة المصرية البحتة، وذلك بإقامة لوحة في «العرابة» أشاد في نقوشها بذكرهما؛ إذ جاء فيها ما يأتي: زوجة الملك، التابعة للهرم المسمى «مري رع يبقي جميلًا»، المحبوبة جدًّا، والمحظوظة جدًّا، عظيمة الممتلكات، رفيقة «حور» (الملك) أم الملك. وقد كان «مرن رع» هو ابن الملكة «مري رع عنخس الأول»، أما «مرن رع الثانية» فهي التي أنجبت الملك بيبي الثاني «نفر كا رع» الذي عاش طويلًا حتى ناهز المائة، وجلس على العرش ما لا يقل عن ٩٤ عامًا، وقد ظن بعض المؤرخين أن «مري رع عنخس الأولى» قد توفيت بعد الوضع مباشرة، ولذلك تزوج «بيبي الأول» أختها «مري رع عنخس الثانية»، وقد يكون ذلك صحيحًا، كما أنه لا غرابة في خلق ملوك المصريين أن يجمعوا بين الأختين، وقد بنى «بيبي» لنفسه هرمًا في سقارة، وأطلق عليه اسم «الحسن التأسيس» وهو أكبر من هرم «وناس» ومن هرم «تيتي»، وقد نقشت على جدران حجرة الدفن الداخلية متون مماثلة لما في هرمي «وناس» و«تيتي» وكتابته أقل حجمًا من كتابة هرم «تيتي»، ويمتاز هذا الهرم بالتفنن في إخفاء حجرة الدفن والعناية بوضع العقبات في طريق الوصول إليها، ولكن رغم كل التحفظات التي بذلت في هذا السبيل فإن اللصوص نفذوا إلى مكان التابوت المصنوع من حجر البازلت وهشموه ومزقوا جثة هذا الفرعون العظيم، هذا فضلًا عن أنهم أزالوا كل خرطوش ملكي في الممر المؤدي إلى حجرة الدفن، ومن المحتمل أن هذا التخريب البالغ قد حدث في نهاية هذه الأسرة في الفترة التي كانت الثورة متأججة في البلاد بدرجة أن ذكرى «بيبي» وعظمته لم تقللا من حدتها عند الثوار. غير أن عمل الثوار هذا قد كشف لنا عن طريقة إقامة هذا الهرم؛ إذ نجد جدران جسم الهرم من قشور الحجر الأبيض محشوة بقطع صغيرة من شظايا الجير، بدلًا من الكتل الحجرية التي بنيت بها أهرام الجيزة العظيمة كلها، ومن ذلك نعلم أن القصد من بناء الهرم بهذه الكيفية أن يكون ظاهره جميلًا، ولا يهم حشوه بعد ذلك من الداخل، وتلك لعمري إحدى علامات الضعف التي أخذت تدب في نواحي المرافق العامة في البلاد رغم قوتها الظاهرة وعظمتها.
وتدل الآثار التي كشف عنها حديثًا على أن أشراف البلاد وعظماءها أحد نفوذهم يزداد تدريجًا وينالون الحظوة لدى الفرعون، ولم يكن لديهم وسيلة لإظهار سلطانهم وحظوتهم للخلف إلا بتدوينها على مقابرهم التي كانوا يعتقدون أنها ستكون أبدية، وأن السلف سيقرءون عليها أعمالهم العظيمة ومكانتهم الممتازة لدى الفرعون، وتلك ميزة أمتاز بها المصري عن باقي أمم الشرق، ولذلك نجد بصيص ضوء يرسل علينا أشعته من وقت لآخر من الكشوف الأثرية التي تقوم في طول البلاد وعرضها مما خلفه لنا هؤلاء العظماء فيجعلنا نعيش في وسطهم رغم تطاول الآباد والأجيال، فمن أعظم مخلفات هذا العصر النقوش التي تركها لنا «وني» السالف الذكر وقد عاش في عهد أكثر من ثلاثة ملوك، وقص علينا ما كان يقوم به من جليل الأعمال وما ناله في عهد كل فرعون من الرقي، وها هو الآن يحدثنا عن الحوادث التي جرت له في عهد «بيبي الأول». قال: لقد أصبحت كبير بيت الزينة في عهد جلالة «بيبي الأول»، وقد رقاني جلالته إلى رتبة سمير وكاهن أعظم لأوقافه الجنازية (أي لأوقاف هرمه)، وبعد ذلك نصبني جلالته قاضيًا لنخن، ورئيسًا للمجلس الأعظم للستة. وكان قلبه مفعمًا بي أكثر من كل خدامه الآخرين، وكنت أحقق في قضاياه وليس معي غير الوزير، بكل تكتم باسم الملك، وكان ذلك خاصًّا بالحريم الملكي، وكذلك في المحكمة العظيمة للستة؛ وذلك لأني كنت محببًا إلى قلب جلالته أكثر من كل أشرافه وأكثر من كل عظمائه ومن كل خدامه الآخرين.
(١-١) إهداء تابوت من الملك
ولقد رجوت جلالة سيدي أن يأمر بإحضار تابوت لي من حجر طرة، ولهذا الغرض سمح جلالته بأن يقلع حامل خاتم ملكي ومعه فصيلة من البحارة تحت إمرته لإحضار هذا التابوت من طرة، وقد عاد حامل الخاتم بالتابوت في سفينة عظيمة من سفن البلاط ومعه غطاؤه، واللوحة، وخدتان للباب، والقاعدة الأرضية. على أن هذا لم يفعل قط لخادم آخر لأني كنت في منزلة فائقة في قلب جلالته، وكنت محببًا لجلالته، وكان جلالته يميل إليَّ.
وعلى حين كنت قاضيًا، وفم بلدة نخن (أي رئيس مجلس محكمة الستة)، فإن جلالته نصَّبني سميرًا وحيدًا، ومدير الأوقاف الملكية، وبهذا التعيين حللت محل أربعة المديرين الآخرين الذين كانوا قبلي هناك، ولقد عملت حتى إن جلالته أثنى عليَّ.
وبمناسبة قضيته في الحريم الملكي ضد الزوجة الملكية «ورت حتس» وقد أُديرت سرًّا، فإن جلالته قد منحني القيام بعمل تحقيق، وقد كنت منفردًا، وليس معي وزير أو عظيم، ولكن كنت وحدي؛ لأني كنت مثال الاستقامة ومحببًا إلى قلب جلالته ولأن جلالته كان ميالًا إليَّ، وقد كنت أنا الذي أقوم بدور الكاتب، وكنت وحيدًا ومعي قاضٍ واحد، وفم نخن، على حين أن وظيفتي كانت «رئيس أوقاف القصر»، ولم يحدث قط أن فردًا مثلي قد حقق قضية سرية خاصة بالحريم الملكي من قبل، ولكن جلالته أعطاها إياي لتحقيقيها لأني كنت ذا مكانة في قلب جلالته أكثر من كل عظمائه الآخرين، ومن كل أشرافه ومن كل خدامه الأخرين.
(١-٢) التأهب لمحاربة أهل البدو
ولقد قام جلالته بحملة تأديبية ضد الآسيويين رؤساء الرمال، وقد جهَّز جلالته جيشًا مؤلفًا من عشرات الآلاف من الرجال من كل الوجه القبلي من أول الفنتين في الجنوب حتى إطفيح شمالًا ومن الوجه البحري أيضًا، وقد جندتهم إدارة جيش المرتزقة بأجمعهم في القلعة، في داخل القلاع، من بين نوبيي بلاد «أرثت»، و«المجا»، «وإيام» و«واوات» و«كاوو» ومن بلاد لوبية.
(١-٣) مسير الجيش بإمرة «وني»
وقد وضع جلالته الجيش تحت إمرتي، على حين أن فيه الأمراء، وحاملي خاتم الملك في الوجه البحري، والسمار الوحيدين أصحاب القلاع العظيمة ورؤساء القلاع ونوابها في الوجه القبلي والوجه البحري، والسمار مديري القوافل، ومديري الكهنة للوجه القبلي والوجه البحري، ومديري الجيوش المرتزقة، وكان كل منهم على رأس فيلق من قلاع الوجه القبلي والبحري والضِّياع التي يحكمونها وعلى رأس «النحسى» (الزنوج) من البلاد الأجنبية، وقد كنت أنا الذي أسهر على نظامهم مع كونى كنت مدير أوقاف القصر، وبسبب مكانتي، لم يأخذ أحد مكان جاره، ولم يسرق واحد منهم عجينة أو نعلًا من السابلة، ولم يأخذ واحد منهم ملابس من أية بلدة، ولم تغتصب ماعز أي شخص، وقد قدت هؤلاء الجنود بطريق جزيرة الشمال، وبوابة «إمحوتب»، وصقع «سنفرو» …
وقد استعرضت كل فيلق من هؤلاء الجنود أمامي، على أنه لم يحدث أن خادمًا (لملك) قد استعرض جنودًا من قبل مثلي.
(١-٤) عودة الجيش
لقد عاد هذا الجيش سالمًا بعد أن خرَّب بلاد البدو، لقد عاد هذا الجيش سالمًا بعد أن نهب بلاد سكان الرمال. لقد عاد هذا الجيش سالمًا بعد أن أزال قلاعهم.
لقد عاد هذا الجيش سالمًا بعد أن قطع أشجار تينهم وكرومهم.
لقد عاد هذا الجيش سالمًا بعد أن حمل الحديد والنار بين كل سكانهم.
لقد عاد هذا الجيش سالمًا بعد أن ذبح كل جنودهم بعشرات الألوف العدة.
لقد عاد هذا الجيش سالمًا بعد أن جاء معه بجنود عدة أسرى.
ولقد أثنى عليَّ جلالته لهذا أكثر من أي شيء.
(١-٥) إخضاع عصيان الأقوام المقهورة
ولقد أرسلني جلالته خمس مرات لقيادة هذا الجيش لسلب بلاد البدو، في كل مرة يثورون، ومعي فصائل من الجنود، وقد عملت بطريقة امتدحني جلالته من أجلها.
(١-٦) الحملة ضد فلسطين
وقد حدث أن جاءت الأخبار بأن ثورة انفجرت على إثر حادث ما بين المتوحشين في جهة الكرمل (بلاد أنف الغزال)، وعلى إثر ذلك أبحرت في سفن البحر ومعي فصائل جنود، ونزلت خلف مرتفعات الجبال الواقعة شمالي بلاد سكان الرمال، وعندما سار هذا الجيش على المرتفعات سرت وقبضت على الثوار بأكملهم وقضي على كل العصاة.
لقد تركنا «وني» يتكلم عن أعماله وما حدث له في عهد الملك «بيبي الأول»، غير أنه يجب علينا قبل تركه إلى عهد «مرن رع» أن نشير هنا إلى أن الحملة التي قام بها إلى فلسطين تعد الأولى من نوعها في تاريخ مصر، بل وفي تاريخ العالم على ما نعلم. إذ الواقع أنها تعتبر أول حملة اشترك فيها الجيش والأسطول دوَّنها لنا التاريخ. وقد برهن المصريون في هذه الحملة على نهم بحارة حقيقيون لا كما يدعيه البعض بأنهم غير أكفاء في جوف اليم، ولقد فطنوا بسرعة، بل وقدَّروا الميزة التي يجنيها الجيش من نقله بوساطة البحر إلى نقطة الهدف الذي يريدها، فتجنبوا الطرق الصحراوية الطويلة الخطرة التي ربما أفنت الجيش وجعلت عودته مغامرة عظيمة، لذلك يمكننا القول بأن مصر كانت أول دولة في العالم قامت بحملة حارب فيها الجيش المصري يحميه أسطول.
والظاهر أن سبب قيام الفرعون بهذه الحملة إلى فلسطين ما يقال عن هجرة جم غفير من الشمال الشرقي من بلاد ما بين النهرين «مسوبوتاميا»، وتقدمهم في هجرتهم إلى أن وصلوا إلى فلسطين، بل والحدود المصرية، فاضطر فرعون مصر إذ ذاك إلى منع هؤلاء المهاجرين الآسيويين من دخول مصر.
وقبل أن ننتقل بالقارئ إلى عهد الفرعون «مرن رع» سنلقي نظرة خاطفة على نقوش مقبرة من عهد «بيبي الأول» لكبير من عظماء البلاد الذين تسموا باسمه تيمنًا وهو «ني عنخ بيبي».
وقد كشف قبره في العام الماضي بسقارة ويحمل ألقابًا ضخمة، فكان يلقب بالسمير الوحيد، ورئيس الكهنة المرتلين، ورئيس أوقاف هرم «بيبي»، والظاهر أنه بدأ حياته في عهد «وناس»؛ إذ من بين ألقابه «المقرب من ملك الوجه البحري والوجه القبلي وناس»، وقد عُمِّر حتى عهد «مرن رع» إذ كان اسمه الثاني «ني عنخ مرن رع».
وقد نحت قبره في الصخر وكسا واجهته بالحجر الجيري الأبيض، ونقش عليها نقوشًا تكاد تكون فريدة في بابها لغرابتها بالنسبة للنقوش التي كشفت للآن في عهد الدولة القديمة؛ وذلك لأنها تكشف لنا عن ناحية خاصة، وهي مقدار تخوف المصريين من سلب قبورهم بعد وفاتهم واحتيالهم على ذلك بتهديد الأحياء بعذاب الآخرة والحساب أو بإقناعهم بأن صاحب المقبرة رجل قوي سيخرج من قبره ويعذب من يضره بكسر عنقه.
وأخيرًا يوحي إلى الأحياء بأنه يعرف السحر، ويمكنه أن يضر من يؤذيه والنقش كما يأتي: «السمير الوحيد، المرتل شريف الفرعون» يقول: أما من جهة أي فرد يريد أن يلحق أي أذى بهذا القبر الذي في المقبرة، وهو الذي تابوته مركب فيه الأب فوق أمه (أي الغطاء فوق التابوت)، فإني سأتقاضى معه في المجلس المبجل الفاخر للإله العظيم رب الغرب، وسأقبض على رقبته كما يقبض الإنسان على عصفور، وسيسري خوفي فيه أمام كل من على الأرض، وكل الأحياء سيرتعدون من الأرواح الممتازة، وإني روح ممتازة، ليس السحر أمامها بالشيء المستعصي، أما كوني حاذقًا فإني مرتل حاذق ورجل عالم ﺑ «أمور السحر».
وعلى جانب آخر من باب مقبرته يستعطف المارة ويستجديهم ليقدموا له قربانًا، فإذا لم يكن في مقدورهم أن يقوموا بذلك ماديًّا فليفعلوه بقراءة التعاويذ التي كان يعتقد أنها تقوم مقام المادة، إذ كان مجرد قراءتها يجعلها بقوة السحر تنقلب إلى صورها الحقيقية فيقول السمير الوحيد والمرتل وشريف الفرعون ورجل البلاط: أنتم أيها الأحياء الذين على الأرض، والمحترمون والمحبوبون من الإله، الذين سيمرون بهذا القبر، صبُّوا الماء والجعة مما معكم، وإذا اتفق أن لم يكن لديكم شيء فقولوا بأفواهكم، وضعوا مما في أيدكم خبزًا نقيًّا، وجعة، وحيوان قربان وطيورًا وبخورًا نقيًّا لشريف الملك «ني عخ بيبي». ولا شك أننا نرى في هذه المتون أن المصري في هذا العهد كان يرهب، بل يرتعد من نهب مقبرته بعد وفاته أو الإضرار بها، ولا غرابة في ذلك، فقد عثر في نفس العام الذي كشفت فيه هذه المقبرة على مصطبة أخرى لوزير من عهد الملك «وناس» ملاصقة لها، ومن المدهش أن مقبرة هذا الوزير لم تكن قد أقيمت له، بل كانت لوزير سبقه وجاء هو واغتصبها لنفسه، وذلك بمحو اسم سلفه من كل جدران حجرة المقبرة حتى في حجرة الدفن، فقد وجد التابوت قد محي من جوانبه اسم صاحب المقبرة الأصلي، وكتب عليه اسم المغتصِب الجديد، وليس هناك شك في أن «ني بيبي عنخ» كان حاضرًا والوزير «ني كاوو حور» المغتصب يمحو اسم الوزير «آخت حتب» من كل مكان في المقبرة ليغتصبه لنفسه، ولعمري فإن هذا هو السبب الذي دعاه ليكتب هذا التحذير على قبره، فقد رأى الاغتصاب جهارًا أمامه وبجوار مقبرته، وهذا مثل من أفظع الأمثلة في عدم المبالاة بحقوق الأموات والتهكم بالعقائد الدينية والحساب والعقاب، وربما كان هذا هو السر في كثرة التعاويذ السحرية التي طغت على الدين في هذا العصر لإرهاب الناس من مفعولها.
(٢) الملك مرن رع
تولى أريكة البلاد بعد «بيبي الأول» بكر ولديه «مرن رع» وكان لا يزال صبيًّا، ومن المحتمل جدًّا أن بيبي تزوج من والدته في أواخر أيامه، ولقب هذا الفرعون «محتى أم ساف» ومعناه «الإله محتي حاميه»، ولم يمكث على عرش الملك أكثر من سبعة أعوام، ومات وهو لا يزال في بداية العقد الثاني من عمره، ولا نزاع في أنه قد بدأ بناء هرمه عند توليه الحكم مباشرة كما هو الحال عند كل فراعنة هذا العهد، وسنرى أن الرجل الذي كان يشرف على هذا العمل هو «وني».
وقد دخل هرمه حديثًا حوالي عام ١٨٨٠ ولحسن الحظ وجدت مومياؤه سليمة، وهي في الواقع أول جثة عثر عليها لفرعون بقيت إلى عهدنا هذا. حقًّا إنها جردت من كل كفنها باللصوص الذين نهبوا الهرم في الأزمان القديمة، وقد لوحظ أن خصلة الشعر التي كان يتميز بها الفتيان الحديثو السن لا تزال عالقة بجمجمته مما يدل على أن «مر رع» كان لا يزال صبيًّا عند وفاته.
وتدل النقوش التي من عهده على أنه قد وجَّه جُلَّ عنايته إلى الجنوب، وربما كان هذا هو السبب الذي من أجله عين «وني» حاكمًا ومسيطرًا على الوجه القبلي بلقب حاكم الجنوب. وسندع «وني» يقص قصته في عهد هذا الفرعون وما قام به من جلائل الأعمال.
ولما كنت موظفًا حاملًا لنعلي الفرعون في القصر العظيم، ونصبني ملك الوجه القبلي والوجه البحري مولاي «مرن رع» أميرًا ومدير الجنوب من «الفنتين» (أسوان) جنوبًا إلى إطفيح شمالًا، لأني كنت مثلًا أعلى في قلب جلالته، وما دمت مزدهرًا في قلب جلالته، كنت ملء قلب جلالته، وقد أثنى عليَّ جلالته، وأنا حامل نعليه لليقظة التي كنت أقوم بها في القصر، وقد مدحني أكثر من أي عظيم أو شريف أو خادم. على أن مثل هذه الوظيفة لم تُمنح لأحد ما من قبل، وقد قمت بعمل حاكم للوجه القبلي بما يرضيه، حتى إنه لم يغتصب أحد مكان جاره، وقد أنجزت كل عمل، وأجريت حساب كل شيء خاص بالخزينة في الوجه القبلي مرتين، وكل ساعات السخرة التي كانت تخص الخزينة في الوجه القبلي مرتين أيضًا، وكنت في ذلك أقوم بعمل وظيفتي على أحسن مثال في الوجه القبلي هذا. على أنه لم يعمل شيء كهذا في الوجه القبلي من قبل، وقد عملت كل شيء لأستحق ثناء جلالته.
(٢-١) الحملة إلى محاجر «إبهات» ببلاد النوبة ومحار الفنتين
وقد أرسلني جلالته إلى «إبهات» لإحضار تابوت (صندوق الأحياء) وغطائه، وكذلك قطعة هرمية صغيرة ثمينة ومحترمة لأجل هرم «مرن رع» الذي يسمى «خع نفر مرن رع». وبعد ذلك أرسلني جلالته إلى الفنتين لأحضر لوحة من الجرانيت وقاعدتها وجانبيها، وكذلك لأحضر أبوابًا من الجرانيت ورقعتها للحجرة العليا لهرم «مرن رع» المسمى «خع نفر مرن رع» وقد سحت في النهر من هناك حتى هرم «مرن رع» (خع نفر مرن رع)، بست سفن نقالة وثلاثة قوارب تشد بالأمراس بوساطة ستة عشر رجلًا، كل ذلك تم في بعثة واحدة. على أنه لم تعمل رحلة واحدة قط إلى «إبهات» و«الفنتين» دفعة واحدة في عهد أي ملك ما، وكل شيء أمر به جلالته قد نفذ برمته كما أمرني به جلالته.
(٢-٢) البعثة إلى محاجر المرمر في «حتنوب» في مصر الوسطى
وقد أرسلني جلالته إلى «حتنوب» لإحضار مائدة قربان من المرمر، وقد سرت في النهر شمالًا من أجل الملك لاستخراج هذه المائدة من محاجر «حتنوب» في سبعة عشر يومًا، وسحت شمالًا في سفينة نقالة، والواقع أني بنيت نقالة لهذا الغرض من خشب السنط طولها ستون ذراعًا وعرضها ثلاثون ذراعًا، وقد جمعت الأحجار في ١٧ يومًا خلال الشهر الثالث من فصل الصيف، ورغم أن ماء النهر كان قريب الغور فإني وصلت سالمًا معافًى إلى هرم «مرن رع» (خع نفر مرن رع)، وقد أتممت كل العمل بنفسي حسب الأمر الذي أمرني به جلالة سيدي.
وقد أرسلني جلالته لحفر خمس ترع في الجنوب، ولأصنع ثلاث نقالات وأربعة قوارب تجر بالحبال من خشب سنط أصقاع «واوات»، وقد كان رؤساء أقطار «إرثت»، و«واوات»، و«إيام»، و«مجا»، يقدمون الخشب لهذا الغرض.
وقد أنجزت كل العمل في سنة، يدخل في ذلك السياحة وتحميل الجرانيت بكمية لهرم «مرن رع» المسمى «خع نفر مرن رع». يضاف إلى ذلك أني قد حققت الاقتصاد في الزمن لأجل القصر وذلك بفضل هذه الترع الخمس معًا.
كل ذلك بسبب قيمتي، وصفاتي الشخصية، والاحترام الذي أكنه لقوة ملك الوجه القبلي والوجه البحري «مرن رع» عاش أبديًّا، أكثر من كل الآلهة؛ لأن كل شيء قد حقق حسب الأوامر التي أعطاها إياي الملك.
وإني محبوب والده، والممدوح من والدته، وزينة إخوته، أنا الأمير، حاكم الوجه القبلي المعظم من الإله أوزير «وني».
ومما سبق يمكننا أن نرى أن «وني» كان له تأثير فعَّال في بلاد الجنوب؛ إذ أصبح يجلب كل شيء من أسوان، وبخاصة الأحجار، بسهولة دون أن يحتاج إلى عدد عظيم من الجنود.
أما آخر أعمال «وني» في عصر هذا الفرعون فهو حفر القنوات الخمس عند الشلال الأول لتسهيل سير السفن التي كانت تعترضها الصخور، وقد أتم هذا العمل في سنة واحدة وذلك بمساعدة رؤساء الزنوج الذين كانوا على ما يظهر رهن إشارته.
والظاهر أن حفر هذه القنوات كان جزءًا من سياسة عامة شرع في تنفيذها في عهد هذا الفرعون، وتنطوي على كشف كل الجهات الجنوبية كشفًا منظمًا وتحسين طرق التجارة والعمل على إنمائها بين مصر وبلاد النوبة، وقد كان آخر عمل قام به «مرن رع» زيادة حدود بلاده، ولا نعلم إذا كانت قد حدثت قبل اعتزال «وني» خدمة مليكه أو بعدها، ولكن يغلب على الظن أن «وني» قد شاهد سيده يرى آخر أعماله التي كانت تعد من أكبر مفاخر ما تم على يديه «حفر القنوات». وعلى أية حال فإن الزيارة قد تمت وخلدها الفرعون بنقشين عند الشلال الأول، وهذه الرسوم تمثل «مرن رع» متكئًا على عصا وخلفه الإله «خنوم» (إله الشلال) وأمراء النوبة، ونقشت ألقابه الآتية: «ملك الوجه القبلي والوجه البحري، مرن رع محبوب خنوم، رب الشلال»، والتاريخ الذي حدثت فيه الزيارة هو السنة الخامسة، الشهر الثاني من الفصل الثالث، اليوم الثامن والعشرون، ورسم مجيء الملك نفسه وهو يظهر خلف البلاد الجبلية، حتى إنه يتمكن من مشاهدة ما في هذه البلاد، على حين أن أمراء «المجا»، و«إرثت» ثم «واوات» كانوا يقدمون الخضوع والطاعة ويمتدحونه مدحًا عظيمًا.
ولقد كان من جراء فتح هذا الطريق وتسهيل التجارة بين مصر وبلاد النوبة أن قامت رحلات للتوغل في مجاهل هذه البلاد، وارتياد أقطارها والاتصال بأهلها اتصالًا وثيقًا، ويعد «حرخوف» أحد عظماء حكام «الفنتين» الذي لا يزال قبره محفوظًا لنا للآن على الضفة الغربية من شلال أسوان، من أعظم أبطال هذا المضمار، وقد قام «حرخوف» هذا بثلاث رحلات في داخل الأقطار الأفريقية قبل وفاة سيده «مرن رع»، وقد كان يحمل لقب «مدير القوافل»، وقد قص علينا بنفسه المخاطرات المختلفة التي قام بها، على قبره بكل دقة واختصار، وسندعه كطريقتنا في مثل هذه الأحوال يتكلم بنفسه، وقد بدأ يذكر ألقابه فيقول: الأمير، السمير الوحيد، الكاهن المرتل، التشريفي للملك، نائب الملك في «نخن»، ورئيس عبادة «نخب»، حامل الخاتم الملكي، مدير القوافل، رئيس كل الأسرار الخاصة بكل أوامر الحدود الجنوبية، محبوب الملك، «حرخوف» الذي يحمل كل محصولات الأقطار الأجنبية لسيده، والذي يأتي بالجزية التي تستحق، لإقامة المراسيم الملكية، ومدير كل الأقطار الأجنبية في الحدود الجنوبية، والذي ينشر سطوة «حور» بين الممالك الأجنبية، والذي ينفذ كل ما يرغب فيه سيده … «حرخوف».
- الحملة الأولى: أرسلني جلالة «مرن رع» سيدي كما أرسل والدي السمير الوحيد والمرتل «إري» إلى بلاد «إيام» لأكشف الطريق الذي يؤدي إلى البلاد الأجنبية، وقد قمت بهذا العمل في ستة أشهر فقط، وقد عدت بكل أنواع الهدايا من هذه البلاد … وقد أثنى عليَّ كثيرًا من أجل ذلك.
- الحملة الثانية: أرسلني جلالته مرة ثانية وكنت وحدي، وقد سرت على طريق الفنتين وذهبت نحو «إرثت»، و«مخر» أرض «ترس»، وذلك في مدة ثمانية أشهر، وقد عدت بعد أن حملت معي منتجات هذه البلاد الأجنبية بكميات وافرة، ولم تعرف نظائر لهذه الأشياء قد جيء بها من هذه البلاد من قبل، وقد نزلت من مساكن رئيس جهات «سشو» و«إرثت» بعد أن رُدْتُ مجاهل هذه البلاد الأجنبية، والواقع أنه لم يتسنَّ قط لأي سمير ومدير قوافل أن يفعل ذلك ممن وفدوا إلى قطر «إيام» من قبل.
-
الحملة الثالثة: أرسلني جلالته مرة ثالثة إلى بلاد «إيام» Iam، فرحلت من «ستشت» (المقاطعة السابعة من
الوجه القبلي) عن طريق منطقة الواحات (؟) وقد وجدت رئيس «إيام»
الذي قام ضد بلاد لوبيا «تمح» ليحاربهم حتى الحدود الغربية.
وقد سرت بعده لغاية بلاد لوبيا، وأخضعته لدرجة أنه عبد آلهة مليكي … وبعد أن أخضعت رئيس «إيام» نزلت … حتى «إرثت» وحدود «سشو» ووحدت «رؤسا» و«إرثت» و«سشو» و«واوات» … ثم عدت بنحو ٣٠٠ حمار محملة بالبخور، والأبنوس، والزيت … وجلود الفهود، والعاج … وكل المنتجات الطيبة، وعندما رأى رؤساء «إرثت»، و«سشو» و«واوات» عظم عدد جنود «إيام» وقوتهم، وهم الذين عادوا معي إلى البلاط، وكذلك الجنود الذين كانوا قد أرسلوا معي، فإن هؤلاء الرؤساء أحضروا لي هدايا من الثيران، والحيوانات الصغيرة وقادوني نحو طرق جبال «إرثت»، وقد كانت عيني ساهرة بفطنة أكثر من كل سمير ومدير قوافل من الذين أرسلوا إلى «إيام» قبلي، ومن ثم عاد في النهر الخادم «حرخوف» نحو البلاط، وقد أرسل «الفرعون» الأمير، السمير الوحيد ومدير قاعة المرطبات المزدوجة «خوني» لمقابلته ومعه سفن محملة بنبيذ البلح، والفطير، والخبز، والجعة. الأمير، حامل الخاتم الملكي، والسمير الوحيد، والكاهن المرتل، وحامل الخاتم الملكي، ورئيس أسرار كل أوامر حدود الجنوب، المقرب «حرخوف».
ولا شك أن الذي يمعن في تفاصيل ما جاء في هذه الرحلات لا يتردد لحظة في الحكم في «حرخوف» بأنه كان كاشفًا عظيمًا في عصره، وأنه يعد أول من فتح الطريق للكاشفين والرواد العظام في عصرنا للتوغل في مجاهل أفريقيا، وقد جلب الخيرات منها لمليكه «مرن رع» وسهَّل سبيل التجارة بين مصر وتلك الأقطار النائية التي لم يجسر أحد قبله أن يجوب مجاهلها ويستفيد منها مثله، ولا غرابة إذن إذا أرسل إليه الفرعون من يستقبله وهو عائد من تلك الرحلة الفذة، ولكن أطماع «حرخوف» لم تقف عند هذه الرحلة، بل سنسمع عنه في عهد الملك الصغير الذي تولى زمام البلاد بعد وفاة «مرن رع».
(٣) الملك بيبي الثاني «نفر كا رع»
تدل كل شواهد الأحوال على أن الملك «مرن رع» قد توفي وهو لا يزال في بداية العقد الثاني من حياته، وخلفه على العرش أخوه «بيبي الثاني»، وقد ذكر لنا «مانيتون» أنه جلس على عرش البلاد وهو في السادسة من عمره، والواقع أن «مانيتون» لم يخطئ في ذلك، وبخاصة عندما قال إنه حكم حتى بلغ المائة من عمره، وبذلك يتكون قد حكم نحو ٩٤ عامًا إذ كل هذا قد حققته الآثار، ومن الطريف أن المؤرخ «أراتستونيس» الإسكندري قد أخبرنا أنه حكم مائة عام إلا ساعة واحدة، ولا نزاع في أن «بيبي» ضرب بسهم صائب في طول الحكم، وليس هناك من يضارعه، غير أنه كما يحدث غالبًا، في مثل هذه الأحوال، أن نهاية حكمه الطويل كانت نكبة على البلاد، ورغم توليه الملك صغيرًا لم يحدث في البلاط أي اضطراب، وقد يعزى هذا إلى أن «زاو» خاله ووزيره في آن واحد، قد حافظ على استتباب الأمن وقمع كل خلاف من هذه الناحية، والظاهر أن أمه قد لعبت دورًا تمثيليًّا معه في الحكم في بادئ الأمر، وربما كان ذلك هو السبب في ظهور اسمها وصورتها معه على إحدى نقوش وادي مغارة؛ إذ في هذا النقش الذي دُوِّن ذكرى لحملة في تلك المحاجر، نرى أن الملك رغم أنه ذكر بالاسم فإن صورته لم ترسم، على حين أن صورة والدته قد رسمت. وتدل ألقابها على أمومتها لهذا الملك وللملك بيني الأول: أم الملك، التابعة للهرم المسمى «نفر كا رع يبقى حيًّا»، وزوج الملك ومحبوبته التابعة للهرم «مر رع يبقى جميلًا» (عنخس مري رع التي يحبها كل الآلهة).
حقًّا إنك فعلت ما يحبه ويمدحه سيدك، حقًّا إنك تمضي النهار والليل في عمل ما يرغب سيدك ويحب ويأمر، وجلالته يرغب في أن يمنحك كثيرًا من الشرف العظيم حتى تصبح زينة لابن ابنك أبديًّا، لدرجة أن كل إنسان سيقول عندما يسمع ما فعلته لجلالتي: هل هناك شيء مماثل لما عمل للسمير الوحيد «حرخوف» عندما عاد من بلاد «إيام»، وذلك بسبب اليقظة التي أظهرها لعمل ما يرغب فيه سيده، وما يحبه وما يأمر به.
عد حينئذ في الحال إلى البلاط نازلًا في النهر وأترك كل شيء آخر (؟) ولتحضر معك هذا القزم الذي جلبته معك من بلاد الأرواح حيًّا وسليمًا معافًى، حتى يقوم بالرقص المقدس، وليسري عن القلب وليسر فؤاد ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نفر كا رع» عاش أبديًّا.
وعندما ينزل معك في السفينة اعمل على أن يكون رجالك اليقظون حوله من ناحيتي السفينة، واعمل على ألا يسقط في الماء، وعندما ينام في الليل اعمل على أن يكون رجالك اليقظون نائمين حوله في حجرته (الكبين) وفتش عليه عشر مرات كل ليلة؛ لأن جلالتي يريد أن يرى هذا القزم أكثر من كل محصولات بلاد «البنت» وكنوزها.
وإذا وصلت إلى البلاط وبصحبتك هذا القزم حيًّا سليمًا معافًى فإن جلالتي سيقوم بعمل أشياء عظيمة لك، تفوق التي عملت لحامل الخاتم الإلهي «باوردد» في عهد الملك إسيسي، وذلك لرغبة قلب جلالتي في رؤية القزم، وقد أعطيت الأوامر لحاكم إقليم البلاد الجديدة، السمير، مدير الكهنة، ليأمر بإعداد المأكولات في كل قصر ببيت المحراث (ضِياع ملكية) وفي كل معبد دون استثناء.
ولدينا من عهد هذا الملك نقشان آخران لعظيمين من رجالات الفنتين لهما أهمية عظمى، فإنهما يظهران لنا مقدار النشاط في الكشف الذي كان يقوم به رجال هذا العصر رغم الأخطار التي كانت تحدق بهم، ورغم انقطاع أخبار بعض الكاشفين، وكذلك تبرز لنا ناحية خاصة من نواحي التفكير المصري والعقائد التي كانت تسود هذا العصر. حقًّا إن المصري كان يعتقد بأن ارتياد مجاهل البلاد النائية، كانت من الأعمال الجليلة، غير أنه كان لا يقبل بأية حال أن يترك جسمه يدفن في هذه الجهات القاصية، إذا حدث أن لاقى حتفه فيها، بل كان يعمل ذووه المستحيل ليحضروه إلى موطنه الأصلي حتى يكفن وتعمل له كل الطقوس والمراسم الجنازية التي كان لا بُدَّ منها حتى يكون له نصيب في الخلود بعد الموت؛ وذلك لأنه كان يعتقد أن خلوده في القبر كان يتوقف على هذه التجهيزات والاحتفالات التي كان لا يتسنى عملها في البلاد القاصية، ومن أجل ذلك كانت ترسل بعثة خاصة إذا قضت الحاجة لإحضار جثة الكاشف المتوفى، وقد حدث أن كاشفًا قد قام بإحضار جثة أحد هؤلاء الرواد، فكان الثناء الذي ناله على ذلك عظيمًا، ولم ينل أي ثناء على إحضار فيل يبلغ طول خرطومه نحو تسعة أقدام، وليس عجيبًا أن يقال في مصر أن التقوى تحل أولا ثم تحل بعدها الفائدة المادية، وإن كنا أحيانًا نشاهد التقوى يضرب بها عرض الحائط إذا تعارضت مع الفائدة الشخصية كما أسلفنا في اغتصاب المقابر.
والنقش الأول لموظف كبير يدعى «بيبي نخت» وقد قام برحلتين إحداهما إلى بلاد النوبة والثانية نحو شمال البحر الأحمر.
وكان «بيبي نخت» يحمل ألقابًا عدة؛ منها أنه كان السمير الوحيد، نائب الملك في «نخن»، ورئيس عبادة «نخب»، ومدير كل القوافل، والمحترم من الإله العظيم «بيبي نخت». ويقول: كنت رجلًا يقول ما هو حسن، ويكرر ما يحب، ولم أقل قط شيئًا يسيء إلى رجل قوى ذمًّا في أي شخص؛ لأني كنت أرغب في أن تعرض الأشياء من جهتي حسنة في حضرة الإله العظيم. لقد أعطيت خبزًا للجائع، وكسوت العريان، ولم أقضِ قط بين أخوين بحيث يحرم ابن من متاع والده، ولقد كنت محبوبًا من والدي، ممتدحًا من والدتي ومحبوبًا من إخوتي ذكورًا وإناثًا.
ولقد أرسلني جلالة سيدي لأخرِّب بلاد «إرثت» فعملت ما مدحني عليه سيدي، ولقد ذبحت منهم عددًا عظيمًا، من بينهم أولاد الرؤساء والضباط المتفوقين من المحاربين (؟) وقد أحضرت معي عددًا منهم أسرى أحياء إلى البلاط، لأني كنت بطلًا على رأس جيش عظيم من الجنود الأقوياء، وقد سر قلب سيدي مني لكل البعوث التي وكل أمرها لي.
وعقب ذلك أرسلني جلالة سيدي لتهدئة الأحوال في هذه الممالك.
وقد قمت بذلك حتى إن سيدي أثنى عليَّ كثيرًا أكثر من أي إنسان آخر، ولقد أحضرت معي رئيسي هاتين المملكتين سالمين معافين إلى البلاط، ومعهما ثيران وماعز حية إلى البلاط، وكذلك أحضرت أطفال الرئيسين وضابطي المحاربين الذين كانوا معهما.
أما السبب في القيام برحلة البحر الأحمر فكان للنجدة ويلخص ذلك في أن أحد الضباط الذين أرسلوا في حملة إلى سواحل البحر الأحمر واسمه «عنخت نيتي»، وكان يريد أوَّلًا بناء سفينة والسفر بها إلى بلاد «بنت» التي كان يعتقد فيها المصريون أنها شبه مقدسة وأن أصلهم يرجع إليها، وعندما كان «عنخت نيني» هذا منهمكًا في بناء سفينة غير ملتفت إلى ما حوله، انقض عليه وعلى رجاله قوة من البدو وقضوا عليه، وقد كان من الضروري معاقبة المعتدين على فعلتهم هذه، ولكن الأهم من ذلك كان إحضار جثة «عنخت نيني» إلى مصر، ولذلك أرسل «بيبي نخت» ثانية للقيام بهذه المهمة، فيقول: وعقب ذلك أرسلني سيدي نحو بلاد «العامو» (الآسيويين) لأحضر له السمير الوحيد … من البحارة «كاعبر» مدير القافلة «عنخت نيني» الذي كان مشتغلًا هناك ببناء سفينة (للسفر بها) إلى بلاد بنت، وقد داهمه الآسيويون الذين ينتمون إلى أهل البدو، فذبحوه هو وفصيلة الجنود الذين كانوا معه. بعد ذلك نجد أن النقش مهشم، وكل ما يمكن فهمه هو أنه قام بإنجاز المهمة التي أرسل من أجلها، فيقول: لقد ذبحت خلقًا منهم أنا وجنود الجيش الذين كانوا معي.
أما ثالث هؤلاء الرحالة من عظماء أسوان فهو «سبني»، فقد قام بحملة شبيهة بحملة «بيبي نخت» الأخيرة، غير أنه لسوء حظه كانت الجثة المكلف بإحضارها لمصر هي جثة والده، وكان في هذه المرة قبائل الزنوج هم الذين سطوا عليه وذبحوه، ونقوش «سبني» مهشمة في البداية، غير أنه في إمكاننا أن نفهم منها المعنى المقصود جملة، ولم يكن «سبني» عند قيامه بهذه الحملة جاهلًا بأحوال هذه البلاد التي قتل فيها والده، بل يظهر أنه كان مدربًا على ارتيادها، وكان لا بُدَّ له من ذلك؛ لأن وظيفة قيادة القوافل على ما نعلم كانت وراثية في حكام هذه المنطقة كما شاهدنا ذلك في «حرخوف» ووالده، فكان الوالد يعلِّم ولده الأعمال التي كانت تتطلبها وظيفته.
الأمير حامل خاتم ملك الوجه البحري، مدير الجنوب، السمير الوحيد، الكاهن المرتل «سبني».
وعندئذ ذهب ضابط السفينة «أبتف» ومدير … «بهكيسي» ليحملوا الخبز، إن السمير الوحيد والكاهن المرتل «مخو» قد مات، وعندئذ صحبت معي جنودًا من ضيعتي ومائة حمار، وأخذت كذلك عطورًا وشهدًا، وملابس وزيتًا و… لأقدمها هدايا في هذه الأقطار، وسرت نحو بلاد النحسى «العبيد» هذه … وقد أرسلت أناسًا كانوا عند بوابة الفنتين، وكتبت خطابات لأخبر الملك بأني سافرت لأحضر من «واوات» و«أوثث»، ولقد هدأت الأحوال في هذه الأقطار الأجنبية … وفي الأقطار … التي تسمى «عا تم ثر». ثم حملت جثة هذا السمير الوحيد على ظهر حمار ثم أرسلته مع فصيلة من جنود أوقافي، وصنعت له تابوتًا … وأحضرت معي … لأجل أن أنقله من هذه الأقطار الأجنبية، ثم عدت نحو «واوات» و«أوثك» وأرسلت الشريف الملكي «إري» مع اثنين من ملَّاك الفلاحين من ضِياعي طليعة ومعهما الروائح العطرية … وحاجز من العاج لأعلم … أني حملت جثة والدي وكل أنواع هدايا هذه الأقطار. ثم عدت لأضع والدي … أما من جهة «إري» الذي كان في البلاط فإنه أحضر أمرًا بتحنيط الأمير، حامل خاتم الوجه البحري، السمير الوحيد، الكاهن المرتل «مخو» وقد أحضر … محنطين، والكاهن المطهر الأعلى والتشريفي، والكاهن الأعلى للأوقاف المأتمية والبكائين، وكل قربان بيت التحنيط، وأحضر زيت الطقوس الخاص ببيت التحنيط، والأشياء السرية لبيت التطهير المزدوج والخاصة ببيت السلاح، وملابس من بيت المال، وكل الملحقات الجنازية أتت من البلاط كما كان الحال في أمر الأمير «مرو»، وعندما وصل «إري» أحضر معه مرسومًا ليثني عليَّ على ما فعلته، وقد ذكر في هذا المرسوم: «لقد فعلت لك كل الأشياء الممتازة تذكارًا لهذا العمل العظيم لأنك أحضرت والدك …» ولم يحدث مثل هذا من قبل.
ودفنت والدي في هذا القبر من الجبانة، على أنه لم يدفن رجل في هذه الدرجة بالطريقة التي دفن بها. ثم نزلت في النهر نحو «منف» حاملا معي منتجات هذه الأقطار الأجنبية، وكذلك ما كان والدي قد جمعه … جيشي و«النحسى» (النخاسة) … والخادم «سبني» قد أثنى عليه في البلاط ووجه الملك له مدحًا؛ لأنه كان صاحب حظوة عظيمة عند الملك … وقد أعطيت صندوقًا من خشب الخروب يحتوي على عطور وزيوت، وكذلك منحت حقيبة من الكتان … وملابس، وكذلك أعطيت ذهب الجدارة، وكذلك تسلمت قرابين من اللحم والطيور … وعندما كانت تقرَّب الذبائح كان يذكر ما فعله لي سيدي.
ولسنا في حاجة للتعليق على رحلة «سبني»، وما قام به نحو والده، فالمتن يعطينا صورة ناطقة عن العادات والشعائر الدينية التي كانت تجري في هذه الفترة في مصر، وسنترك ذلك للقارئ نفسه.
وقبل أن نتمم كلامنا عن عصر «بيبي الثاني» نرى لزامًا علينا أن نلقي نظرة إجمالية عن بيت أسرة الأمير «زاو» وهو كما ذكرنا من قبل شقيق زوجتي «بيبي الأول» وخال «بيبي الثاني» ووزيره لفترة من حكمه الطويل، وقد كان أمراء هذا البيت حكامًا وراثيين لمقاطعتي «هراكنبوليس» (مقاطعة جبل الثعبان، وهي الثانية عشرة بالنسبة لمقاطعات الوجه القبلي)، وكذلك كانوا حكامًا لمقاطعة «طينة» (المقاطعة الثامنة من الوجه القبلي وهي «العرابة»).
والظاهر أن هذه الأسرة يرجع نسبها إلى الوزير «مري»، وقد تزوج من إحدى بنات الملك «تيتي»، وقد بقي عظماء هذه الأسرة يتقلبون في مناصب الدولة العظيمة حتى تولى «زاو» رياسة الوزارة في عهد «بيبي الثاني»، وأصبح هو المسيطر على كل الأمور في البلاد لما له من الصلة الوثيقة بالفرعون الصغير، وقد ترك من بعده ابنه «إبي» وكان في أول الأمر حاكمًا لمقاطعة «هراكنبوليس» ثم لمقاطعة «طينة» بالوراثة عن أبيه، وأخيرًا عُيِّن حاكمًا للجنوب، وقد ترك كل من «زاو» و«إبي» نقوشًا على قبريهما، وهذه النقوش لا تختلف كثيرًا عن النقوش التي كانت شائعة الانتشار في هذا العهد، اللهم إلَّا بعض جمل تخرج أحيانًا عن حد المألوف قد جاءت ضمن نقوشها، فمثلًا نجد على مقبرة الأمير «زاو»: إني لم أقدم احترامي لأي رجل ولكن احترامي كان يقدمه لي العظماء، ولقد عمل لي تابوت وقربان ملكية من البلاط بمقدار عظيم جدًّا في عهد جلالة الفرعون «مرن رع».
أما مقبرة «إبي» فقد وجدنا في نقوشها الروح التي يظهرها كل مصري تحايلًا على استمرار بقاء وقف قبره وعدم الاعتداء عليه، ولذلك قد استعان بالتهديد وبقوة التعاويذ السحرية التي كانت شائعة الانتشار في هذا العهد، وبخاصة أن الملوك كانوا يستعملونها ويستعينون بها على المحافظة على أهرامهم وأوقافها، وكذلك كان يبرئ نفسه أمام العالم من كل المظالم التي كان يقترفها الناس فيقول: إذا دخل أي إنسان هذا القبر مدعيًا ملكيته فإني سأنقضُّ عليه كطائر مفترس، وإني روح فائقة، وإني أعرف كل التعاويذ وأسرار البلاط في الجبانة، وإني المحبوب من والده والمُثْنَى عليه من والدته و«المقرب» (إبي).
ثم يقول: إني أعطيت خبزًا للجائع، وملابس للعريان … وحبوبًا، وثيرانًا وفلاحين من أوقافي … إلخ.
وقد ترك «إبي» وريثًا له على مقاطعتيه ابنه «زاوشما»، ولكن يظهر أنه لم يُعَمَّر طويلًا فورثه ابنه وسَمِيُّه «زاو»، وكان كذلك حاكمًا على «طينة»، وقد دفن مع والده «زاوشما» في المقبرة التي أقامها له في جبانة «هراكنبوليس» في عهد «بيبي الثاني».
وقد ذكر لنا كيف دفن والده بكل عظمة وأبهة ونجد ذلك كثيرًا على مقابر هذا العصر ولكن الأمر الذي يلفت النظر في هذه النقوش أنه أظهر رغبته في أن يدفن مع والده في القبر الذي أقامه هو له، ولم يكن ذلك من عجز كما يقول في عمل مقبرة أخرى له خاصة ولكن حبًا منه في أن يكون على مقربة من والده ويراه كل يوم، فيقول: لقد دفنت والدي الأمير «زاو» بطريقة فاخرة جميلة أحسن من أي فرد من أسرته الذين في الجنوب، وقد التمست أن يشرفني جلالة سيدي ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نفر كا رع» (بيبي الثاني) عاش أبديًّا بمنحي تابوتًا وملابس وعطورًا جنازية لوالدي «زاو» هذا، وقد أمر جلالته مدير الأوقاف بأن يحضر تابوتًا من الخشب وكذلك زيت العيد، وملابس و٢٠٠ قطعة من الكتان الممتاز ومن كتان الجنوب الرقيق، وأقمشة تصرف من بيت المال «البلاط المزدوج» لوالدي «زاو» هذا على أن هذه الأشياء لم تعط قط لأحد في نفس هذه المنزلة.
وكذلك وصَّيت أن يكون دفني في نفس القبر مع «زاو» هذا حتى أكون في صحبته في نفس المكان، ولم يكن ذلك عن عجز مني لبناء مقبرة ثانية، ولكني فعلت ذلك رغبة مني في رؤية «زاو» هذا كل يوم، ولأني أريد أن أكون معه في نفس المكان.
هذه صفحات من أخلاق هذا العصر وعاداته، وهي في الحق تكشف لنا عن نواح طريفة مختلفة في حياة المصري رغم أنها قد كتبت على القبور. والباحث في تاريخ مصر لا يمكنه أن يصل إلى معرفة تاريخ البلاد إلا بتحليل مثل هذه النقوش واستنباط الحقائق التي نراها قد جاءت عفوًا وعن غير قصد، والواقع أنا نجد في أسرة «زاو» دروسًا عدة من الوجهة السياسية والاجتماعية والدينية؛ فقد كانوا هم القابضين على زمام البلاد في عهد «بيبي الأول» و«بيبي الثاني» لما كان لهم من المكانة في البيت المالك لقرابتهم له ولما لهم من المجد القديم؛ إذ كانوا حكام مقاطعتين وراثيتين من أعظم مقاطعات البلاد، وكذلك لأنه كان منهم الوزير وحاكم الجنوب، ولكن رغم كل هذا فإن عوامل الضعف كانت قد أخذت تدب في البلاد، وكانت قوة الملك أخذت في التدهور شيئًا فشيئًا مما سنفصله بعض الشيء هنا؛ إذ بعد اختفاء «بيبي الثاني» هوت البلاد دفعة واحدة إلى الحضيض ولم تقم لها قائمة مدة طويلة من الزمان، والأسباب التي أدت إلى ذلك سنشرحها ببعض التفاصيل فيما بعد.
وخلف «بيبي الثاني» فرعون آخر يدعى «مرن رع محتي إم ساف»، غير أننا لا نعرف شيئًا عن حكمه. وتولى العرش بعده كما يقول «مانيتون» ملكة تُدعى «نيتوكريس» التي كانت تعد أجمل نساء عصرها، وكانت شقراء اللون، وقد تكلمنا عن هذه الملكة والملابسات التي حدثت في اسمها واسم الملكة «خنت كاوس» عند الكلام عن الأخيرة، ولا غرابة فإن نهاية الأسرة السادسة كانت غامضة، ولم نعثر في الآثار للآن على ما يكشف لنا القناع عن الحقيقة وربما بقي ذلك سرًّا غامضًا إلى الأبد؛ لأن خاتمة الأسرة كانت عصر ثورات واضطراب لم يقم فيه من الآثار ما ينير لنا الطريق.