مينا وتوحيد البلاد
اختلف المؤرخون في تحديد السنة التي بدأ فيها «مينا» حكم مصر المتحدة فمنهم من يرجع بنا إلى سنة ٤٣٢٦ق.م، ومنهم من يذهب إلى أبعد من ذلك، ويضع تاريخ هذا الحادث في نحو سنة ٥٠٠٠ قبل الميلاد، وهناك مؤرخون من جهة أخرى يميلون إلى التاريخ القصير ويؤرخون هذا الحادث بعام ٢٩٠٠ق.م، أو عام ٢٧٠٤ق.م غير أن الآراء أصبحت الآن متفقة على اتخاذ طريق وسط بين هذين الحدين فجعل ٣٢٠٠ق.م، وهذا التاريخ الذي بدأ فيه ملوك مصر المتحدة يحكمون البلاد يعرف ببداية التاريخ المصري عند «مانيتون».
والظاهر أن ملوك الأسرتين الأولى والثانية لم يتخذوا «منف» عاصمة لملكهم، ولم يفكروا قط في نقل مقر ملكهم إليها، وإذن يحتمل أن منف لم تكن يومًا من الأيام عاصمة المملكة المتحدة، والظاهر أن الدور الذي لعبته في تاريخ البلاد كان أقل من ذلك أهمية، فلم تتعد كونها معقلا للبلاد في الجهة الشمالية؛ أي إنها كانت قلعة حصينة، أما الملوك فإنهم استمروا في إقامتهم في الجنوب الأقصى متخذين بلدة «نخن» مقرًّا لهم، ولذلك كانت أهمية منف الإشراف على بلاد الدلتا التي فتحت حديثًا وضمت إلى ملك الصعيد، وقد كان لقرب منف من هذه البلاد التي ضمت حديثًا أهمية أخرى؛ إذ جعلتها مركزًا سهلًا لإدارتها، ولا شك في أن منف كانت ﻟ «مينا» وأخلافه مركزًا حربيًّا هامًّا لصد غارات اللوبيين الزاحفين من الجهة الغربية من الدلتا، وهؤلاء اللوبيون قد خضعوا بعد أن هزموا هزيمة منكرة، غير أن توحيد البلاد لم يكن قد تم إلا بعد أن توصل أحد أخلاف مينا إلى التغلب على الجزء الجنوبي الأقصى من بلاد النوبة، وهو الواقع بين السلسلة والشلال الأول، ويطلق عليه «تاستي»، وقد كان هذا الإقليم خارجًا عن حدود المملكة المصرية «الوجه القبلي» طوال مدة عصر ما قبل الأسرات، ولم يكن مسكونًا بالجنس الأسود كما هو الآن، بل كان يقطنه فرع من الجنس الحامي سكان البلاد الأصليين، والظاهر أن السود الذين يسكنون نوبيا العليا والسودان لم يظهروا في مصر إلا بعد عدة قرون؛ أي في عهد الأسرة الثالثة وبخاصة في نهاية الدولة القديمة، وذلك بعد التدهور الذي لحق البلاد بعد الأسرة السادسة.
ولقد حافظت مصر المتحدة في كل عهودها منذ حكم «مينا» على ذكرى انقسامها إلى مملكتين، ولم يكن في وسع إحداهما على مر الزمن أن تهضم الأخرى، بل بقيتا على قدم المساواة، ولذلك نجد أن ملك مصر المتحدة لا يحمل لقب ملك مصر، بل ملك الوجه القبلي وملك الوجه البحري، وكذلك كان يحمل لقب «رب الأرضين» وسيد «نسر» الجنوب وسيد «صل» الشمال، وكان في أول الأمر يحمل التاج الأبيض الخاص بالجنوب والتاج الأحمر الخاص بالشمال، ولم يحمل التاج المزدوج إلا في أواسط حكم الأسرة الأولى، وكذا نشاهد هذا التمييز في المصالح الحكومية، فمثلًا نجد أن الخزينة مزدوجة؛ أي خزينة الوجه القبلي وخزينة الوجه البحري وهكذا.
ومما يؤيد ما ذكره «مانيتون» من أن «مينا» هو أول ملك وحَّد الأرضين ما جاء على الآثار المعاصرة لهذا الملك وبخاصة لوحته التذكارية الإردوازية، التي وجدت في «هيرا كنبوليس» بالقرب من «العرابة»، وهي محفوظة الآن بالمتحف المصري. «هذا إذا سلمنا بأن «نعرمر» هو مينا»، ولهذه اللوحة وجهان محفوران حفرًا بارزًا يشهد لصانعها بالدقة والمقدرة، والجزء الأعلى من كِلَا الوجهين يحمل اسم «نعرمر» (مينا) مكتوبًا بالهيروغليفية بين رأسي بقرتين تمثلان الإلهة حتحور، وأحد الوجهين يشمل منظرين، أما الوجه الآخر فيحوي ثلاثة مناظر، فالمنظر العلوي على الوجه الأول يمثل الملك لابسًا التاج الأبيض «تاج الوجه القبلي» متبوعًا بحامل نعليه وقابضًا بيده اليمنى على دبوس له رأس على شكل كمثري يضرب به عدوه الراكع أمامه، بينما أمسكت يده اليسرى شعر هذا العدو المسمى «واش»، وقد ذكر فوقه ما يعني أن «حور» قد أحضر للملك أسرى من الدلتا «أرض نبات البردي»، والمنظر السفلي يمثل عدوين عاريين فارين. أما الوجه الثاني فالمنظر العلوي منه يمثل الملك لابسًا التاج الأحمر «تاج الوجه البحري» متبوعًا بحامل نعليه ومسبوقًا بأربعة من حملة الأعلام ثم بوزيره أيضًا، وأمام هؤلاء عشرة أسرى قطعت رءوسهم ووضعت بين أقدامهم، وقد كتب فوقهم أسماء البلدان التي فتحها «مينا»، أما المنظر الثاني فيمثل حيوانين عجيبين بينما يمثل المنظر السفلي ثورًا ينطح قلعة، وهذا كناية عن انتصار الملك على أعدائه.