مصادر التاريخ المصري القديم
- أوَّلًا: أخبار الحروب التي قام بها الملوك، ثم النقوش الدالة على تاريخ أفراد عظماء القوم وترجمة حياتهم، ثم المراسيم الملكية التي كانت تنتشر في طول البلاد وعرضها من عدة نسخ، وكانت تكتب على الحجر في معظم الأحيان وتوضع في المعابد والمدن.
- ثانيًا: الأوراق البردية التي كانت تحتوى على موضوعات إدارية أو قضائية أو أدبية، وخلافًا لهذه المصادر فإن كل ما عثرنا عليه متشابه وعلى وتيرة واحدة، وأعنى بذلك النقوش التي عثرنا عليها في المقابر والمعابد، وكانت ترمي إلى غرض شخصي، فمثلًا لم يكتب الملك على جدران معابده انتصاراته على أعدائه في حروبه إلا ليظهر قوته وسلطانه، ولم ينقش معاهدة صلح إلا ليظهر ما كسبه من أعدائه ونفوذه عليهم، وكذلك لم يسرد فرد من عظما القوم تاريخ حياته إلا ليظهر ما ناله من الحظوة عند مليكه لما قام به من الأعمال الجليلة له. أما باقي النقوش التي عثرنا عليها وهي الجزء الأكبر فكلها دينية محضة، وذلك لأنه لم يصلنا شيء من الكتابات الدنيوية إلا النزر اليسير، وسبب ذلك أن المصريين قد أقاموا في «الوجه القبلي» مقابرهم ومعابدهم في الجبال وعلى حافة الصحراء، وشيدوها من الحجر الصلد أو نحتوها في الصخر فبقيت لنا إلى الآن بما فيها من نقوش، أما مدنهم التي كانت تقام في الوادي المنزرع، والتي كانت تبنى باللَّبِن فإنها قد محيت آثارها إلا بقايا قليلة جدًّا، وانمحى معها كل ما خلفوه من الكتابات التي كانت تدون على البردي إلا بعض أوراق نعثر عليها من وقت لآخر.
ومن بين الوثائق الهامة في التاريخ المصري التي عثرنا عليها قوائم أسماء الملوك ويرجع معظمها إلى عهد الدولة الحديثة، وأقدم هذه القوائم يرجع عهدها إلى حكم الملك «تحتمس الثالث»، وقد عثر عليها في المبني العظيم الذي أقامه بالكرنك في مدينة الأقصر ويطلق عليه اسم «قاعة الأعياد»، وهذه القائمة مكتوبة على جدران حجرة يطلق عليها الآن حجرة الأجداد، وأحجار هذه القاعة محفوظة الآن في متحف اللوفر، وقد وجدت فيها أسماء ملوك لم تظهر على القوائم التي عثرنا عليها في عهد الأسرة التاسعة عشرة، على أن قائمة «تحتمس الثالث» لم تكن أقدم وثيقة، بل نعلم أن هنالك قوائم أخرى مشابهة لها، وهناك تواريخ أخرى أقدم، وهذه التواريخ قد كتبت على لوحات من الحجر ونصبت في أماكن عامة وبخاصة في المعابد، وقد حفظ لنا جزء من لوحة من هذه الآثار، وهي تعرف بحجر بلرم، ويرجع تاريخها إلى الأسرة الخامسة كما أسلفنا.
وأهم من قائمة تحتمس الثالث قائمتا «العرابة» المدفونة «أبيدوس» وسقارة، ويرجع تاريخ الأولى إلى عهد «سيتي الأول»؛ أي في أوائل الأسرة التاسعة عشرة، والثانية من عهد «رعمسيس الثاني».
وقد أراد سيتي الأول أن يخلد ذكرى أجداده في إحدى قاعات معبده الذي شيده في «العرابة» المدفونة — وهو لا يزال حافظًا لجزء عظيم من رونقه القديم — فبنى حجرة خاصة كتب على جدرانها قائمة بأسماء الملوك، وفي هذه القائمة تنتظم أهم ملوك مصر مبتدئة بالفرعون «مينا»، ويلاحظ في هذه القائمة أن في أسماء الملوك الذين ذكروا فيها قبل الأسرة الرابعة بعض الأخطاء، ولكن من بداية الأسرة الرابعة نجد الأسماء المذكورة على القائمة متفقة تمام الاتفاق مع الأسماء التي ذكرت في القوائم الأخرى. أما قائمة سقارة الملكية المحفوظة الآن بمتحف القاهرة، فإنها أقيمت في قبر الكاتب الملكي «تونوري»، وهذه القائمة لا تبتدئ باسم «مينا»، بل باسم خامس أخلافه «مربابا» أو «مربابن»، وهو الذي يطلق عليه اليونان اسم «ميبيس» في كتاب «مانيتون»، وهذه القائمة قد نقلت عن ورقة بردية، غير أنه لم يراعَ فيها الترتيب التاريخي لكثير من الأسرة المالكة.
وبجانب هذه القوائم المكتوبة على الأحجار، قد وصلت إلينا وثيقة أخرى يطلق عليها اسم ورقة «تورين»، وهي من عهد الأسرة التاسعة عشرة، ولم يكتف فيها كاتبها بذكر أسماء الملوك، بل ذكر السنين والشهور والأيام التي حكمها كل ملك، على أنه مما يؤسف له أن هذه الوثيقة لم تصل إلينا سالمة، ولو أنها وصلت كذلك لكانت تعد أهم وثيقة وصلت إلينا في هذه الناحية. بل حدث أنها مزقت إلى قطع عدة، ولم يتمكن العلماء إلى الآن من وضع كثير من قطعها في مكانها الأصلي من الورقة، وبرغم الفجوات التي نجدها في ورقة «تورين» فإنه قد ذكر فيها عدد عظيم من الملوك النكرات، لم يهتد العلماء إلى وضعهم في مكانهم التاريخي، وبخاصة الملوك الذين جاء ذكرهم في هذه الورقة بين الأسرة الثانية عشرة والأسرة الثامنة عشرة، ومن الأسف أن القوائم الأخرى قد ذكرتهم بطريقة مختصرة، ومهما يكن من شيء فإن أمثال هذه الورقة وغيرها من القوائم هي التي استعملها «مانيتون» السمنودي في القرن الثالث قبل الميلاد، وكذلك «أرستوستين».
وهنالك مصدر آخر وهو ما عثر عليه من آثار في الممالك المجاورة لمصر سواء أكانت هذه الآثار مصرية الأصل نقلت إلى هذه البلدان، أم كانت آثارًا خاصة بالبلاد التي وجدت فيها، وذكر فيها شيء عن مصر والمصريين، مثال ذلك: التي وجدت في جزيرة كريت من الأسرة الثانية عشرة، وكذلك الآثار التي عثر عليها في فلسطين، وسوريا من أوائل الدولة القديمة أو في بلاد ما بين النهرين وما وراءها من عهد الأسرة الثامنة عشرة، وسنشير إلى ذلك في موضعه.
بقيت المصادر التي يعتمد عليها في تدوين تاريخ مصر منحصرة فيما نقله لنا الكتاب الإغريق والرومان وغيرهم، إلى أن كشف «شمبليون» عن أسرار اللغة المصرية القديمة من النقوش التي على حجر رشيد عام ١٨٢٢، ومن ثم أخذ العلماء يستقون مصادرهم عن تاريخ مصر من النقوش مباشرة، وقد تكلمنا عنها سالفًا، والآن نتناول باختصار أهم هؤلاء الكتاب الذين زاروا مصر وكتبوا عنها، فأول مؤرخ إغريقي كتب عن مصر هو «هيكاته الملاطي» الذي عاش حوالي عام ٥٥٠ق.م وقد زار وادي النيل وتباحث مع الكهنة المصريين في «طيبة» عندما كان يضع شجرة الأنساب وتاريخه للوبيا.
وجاء من بعده «هيرودوت» حوالي عام ٤٥٠ق.م وقد خصص الجزء الثاني من تاريخه العام لوصف مصر وتاريخها، وقد بدأ بزيارة الدلتا ومكث في منف وعين شمس مدة، ثم صعد في النيل إلى أن وصل إلى أسوان «الفنتين» وفي عودته عرج على الفيوم، وزار الدلتا ثانية ثم غادر البلاد من القزم، وأهم الأسئلة التي وضعها للكهنة كانت منصبة على أصل خرافة الآلهة وعلى التاريخ، وقد أخبره الكهنة أن «مينا» هو أول ملوك مصر، ثم عددوا له نقلًا عن كتاب لديهم أسماء ٣٤٠ ملكًا، وقالوا له إن ما بين أول ملك وآخر ملك ٣٤١ جيلا من الناس، وإن كان ثلاثة أجيال تعادل مائة عام؛ أي إن تاريخ البشر عندهم يبلغ نحو ١١٣٤٠ عامًا، وقبل هؤلاء الملوك كان يحكم الآلهة مصر، وقد أضاف «هيرودوت» إلى ما سمعه ما شاهده بنفسه، والواقع أن وصفه جاء صورة حية للحياة الاجتماعية والآثار التي شاهدها، ويمكن الاعتماد عليها في معظم الأحيان، وفي أوائل عهد البطالسة ظهر المؤرخ «هيكاته الأبدري» في بلاد بطليموس الأول ووضع كتابًا غير أنه لم يصلنا منه غير مقتطفات قصيرة أشار إليها «ديدور» في كتاباته.
وحوالي أوائل القرن التاسع الميلادي ألف «جورج» المسمى «سينسل» كاتم أسرار بطريق الإسكندرية تاريخًا نقله عن مختصر «يوزيب»، و«سكستس» الأفريقي، وقد رأى هذا المؤلف أن كتاب «مانيتون» ينقسم ثلاثة أقسام وأن الملوك كانوا مقسمين إلى ٣١ أسرة كل منها تنسب إلى جهة معينة في البلاد حسب أصل كل منها: الأسر الطينية والمنفية والألفنتية والإهناسية والطيبية … إلخ، والمتن الأصلي يعطينا السنين والأشهر والأيام التي حكمها كل ملك ولا يذكر المختصر إلا الملوك المشهورين، وقد بقي ترتيب الأسرات الذي وضعه «مانيتون» الأساس الذي يعتمد عليه كل مؤرخ حديث في الكتابة عن مصر رغم الكشوف الحديثة، ويأتي بعد «مانيتون» مؤرخ عظيم اسمه «ديدور الصقلي» الذي ألف كتابًا عن مصر لم تمتد إليه يد الضَّياع، وقد وضع تاريخًا عامًّا، وعند كتابته عن أصل العالم قاده البحث إلى مصر التي تعد مهدًا للآلهة؛ لأن المصريين يقولون: إن بلادهم هي مهد بني الإنسان. على أننا نجد في كتاباته روح «هيكاته الأبدري» و«هيرودوت» يضاف إلى ذلك أنه زار وادي النيل حوالي عام ٦٠ق.م مما جعل مؤلفه ذا قيمة، ويلاحظ في كتاباته ميله إلى الأفكار الفلسفية والدينية، وقد جاء إلى مصر كثير من الجغرافيين الإغريق وبحثوا في بلاد النيل في عهد البطالسة، ومن هؤلاء «أرستوستين السيريني» الذي كان يعيش في الإسكندرية (٢٧٥–١٩٤ق.م).
والظاهر أنه وصل غليه من محفوظات كهنة طيبة قائمة بأسماء ٣٨ ملكًا من ملوكهم ترجمها من المصرية القديمة إلى الإغريقية، وحفظها لنا جورج سنسل، وهذه القائمة تشتمل على أسماء ملوك من الأسرة الأولى إلى الأسرة العشرين، غير أن هذه القائمة لها ميزة خاصة؛ إذ إنها تضيف إلى كل اسم علم جملة تدل على معناه.
وفي عام ٢٧م زار «استرابون» مصر ووصل إلى الشلال الأول، وقد وصف في الفصل السابع عشر من جغرافيته هذه الزيارة وصفًا ممتعًا، غير أن ما كتبه عن التاريخ لا يتخطى عصر البطالسة إلا نادرًا، وكثيرًا ما كان ينقل عمن سبقه من المؤرخين وينسب لنفسه مشاهدة ذلك.
أما المؤرخ «بلوتارخ» ١٢٠م فإنه كتب عن مصر كتاب «إزيس وأوزير»، وهو الكتاب الوحيد الذي وضع أمامنا بحثًا منظمًا عن الديانة المصرية، وبخاصة عن إزيس وأوزير ومعناهما الحقيقي، والواقع أن معلوماته كانت مستقاة من مصادر جديرة بالاحترام، إذ أنها تطابق في معظم الأحوال ما دوِّن على النقوش المصرية القديمة.