مقدمة
في مؤتمر الأمم المتحدة لمناهضة العنصرية والمنعقد في ديربان في جنوب أفريقيا خلال شهر أغسطس (آب) عام ٢٠٠١م، وقفت شعوب الجنوب تدعم بقوة الوقوف ضد العنصرية، وتطالب بإلحاحٍ بحقها في التعويض عن الاسترقاق والاستعباد، وعن جرائم «الإنسان الأبيض» ضد الشعوب الأصلية في الأمريكتين، وضد شعوب أفريقيا والاتجار بهم عبيدًا للسُّخرة، والمتعة، والقتل، وتجميع الثروات بفضل قوة عمل السُّخرة المجاني، وتهيأت للغرب إمكانات مهولة لفرض سطوته على بقية الشعوب غير البيضاء، ولكن الولايات المتحدة وإسرائيل انسحبتا من المؤتمر احتجاجًا على موقف هذه الشعوب، بينما عارضت أوروبا، وكشف الإنسان الأبيض في الحالَين عن التزامه بفكره العنصري، وعن خشيته من تحمُّل أعباء تعويض الشعوب المستعمرة سابقًا، والتي تعاني بسببه الفقر والجهل والمرض نتيجة قرون السُّخرة والاستعمار والاسترقاق.
معنى هذا أن الغرب لا يزال ينظر إلى نفسه باعتباره «الجنس الأبيض المتميز»، وأن بقية الشعوب فريسة مستباحة له … وبات يخشى مسيرة التاريخ بعد أن بدأت الشعوب المستضعفة تحتل مكانتها على الساحة العالمية، ويحاول الغرب بما يمارسه من قوة وغطرسة، وما يروِّجه من فكر «زائف» أن يواصل إحكام قبضته على فكر وعقل وعمل هذه الشعوب، ولهذا لم يكن غريبًا أن يطلق زعيم أفريقي في مؤتمر مناهضة العنصرية صيحةً مدوية ويعلن: «لنحرر عقولنا … ليس مطلبنا حرية سياسية واقتصادية فحسب، بل حرية فكر وعقل وفعل …»
ومؤلف هذا الكتاب أستاذ علم الأنثروبولوجيا، جامعة تيمبل، الولايات المتحدة الأمريكية، ومن مؤلفاته: «نحو تاريخ اجتماعي للأركيولوجيا في الولايات المتحدة»، و«الأركيولوجيا: التطور التاريخي للحضارات»، و«إمبراطورية الإنكا»، و«اصطناع تواريخ بديلة» … وغيرها من دراسات ترد الاعتبار لثقافات وتواريخ الشعوب ودورها الحضاري المكافح.
ويمثل توماس سي. روبرتسون مؤلف كتاب «الحضارة الغربية: الفكرة والتاريخ» واحدًا من أبرز مفكري ذلك التيار الحر والمتحرر، وتمثل مؤلفاته ومؤلفات مجموعة أخرى من كبار المفكرين في الولايات المتحدة جهدًا فكريًّا وعلميًّا متميزًا لكشف زيف فكر المركزية الغربية والتصدي له وبيان أنه فكر ذرائعي مناقض لحقائق التاريخ، وإنما استهدف تزييف وعي الشعوب وتيسير سُبل الهيمنة، ويبدو هذا واضحًا من العنوان الأصلي للكتاب وهو: «اختلاق فكرة الحضارة الغربية».
ونحن إذ ننقل كتابه هذا إلى العربية إنما نضيف حلقةً إلى سلسلة أعمال مماثلة تهدف إلى تعريف القارئ العربي بجهود مفكري هذا التيار الذي يضم أعلامًا من أمثال بيتر جران، وأندريه جوندر فرانك، وإدوارد سعيد وآخرين، وذلك في محاولة للتلاحم معهم في معركة المواجهة الفكرية، وأيضًا في محاولة لإثراء جهد تنويري عربي يسعى إلى الكشف عن حقيقة الزيف وتحرير فكرنا وعقولنا بعد أن صاغها إطار فكري غربي وأصبحنا معه وبسببه مغتربين أو مستلبين عن حقيقة وواقع تاريخنا …
يعرض الكتاب تاريخ نشأة فكرة «الحضارة» عن الغرب، وكيف أن الغرب اختلق الفكرة بهدف تأكيد التمايز بينه كجنس أبيض «متحضر» وبين بقية العالم كأجناس وأعراق «برابرة» و«همج». اختلق الغرب هذا التمايز ليبرر حملاته الاستعمارية العدوانية ضد الشعوب الأخرى، سواء لاستعمار البلاد أو للاتجار في أهلها رقيقًا. ووجد في هذا الفهم مبررًا يبرئ نفسه من آثامه، بل كما اعتاد أن يدَّعي دائمًا أنه استعمر هذه الشعوب لينقلها إلى «الحضارة»، أي لمحاكاة الغرب، وإن كانت في نظره و«نظرياته» أعجز عن ذلك بحكم طبيعتها وجبلَّتها.
ويكشف الكتاب أيضًا عن هلامية فكرة الحضارة لدى مفكري الغرب والصراع بينهم حول تحديد معناها والموقف منها، ولا يزال الغرب أو «الجنس الأبيض» — كما يثبت الكتاب — يتشبث بهذه الأقاويل غير العلمية عن معنى الحضارة وإن أطلقها في صورة نظريات عن الحضارة و«الذكاء» ليؤكد تميزه وتمايزه وحقه في الهيمنة والسيادة واستباحة حقوق وثروات وحياة الشعوب «الأدنى». ويروِّج، علاوةً على هذا، أن شعوبًا كثيرة غير بيضاء لا ترقى جِبلِّيًّا إلى مستوى الإنسان الأبيض عقلًا وحكمة وقدرة إبداعية وتحضُّرًا، وليس لها حق المساواة به أو معه.
ويعرض الكتاب نظرةً تاريخية نقدية مستشهدًا بنصوص مفكري الغرب وأفعال المستعمرين ومن يُسمَّون «المستكشفون»، ويستطرد مؤكدًا باستشهاداته أن مفكري الولايات المتحدة يحملون الآن بإصرارٍ لواء هذا التوجه العنصري، ومن بينهم صمويل هنتنجتون الذي يمايز «حضاريًّا» بين الغرب وبقية العالم، ويرى في بقية العالم خطرًا على الجنس الأبيض وعلى الحضارة، ولكن شواهد الواقع والتاريخ تؤكد أن الشعوب «غير المتحضرة» على الطريق لاستعادة أو لانتزاع حقوقها وامتلاك مصيرها بين أيديها.
إن توماس باترسون هنا يقبل مفهوم الحضارة التبريري الذي اختلقه الغرب عن عرشه بعد أن تربَّع عليه أكثر من قرنَين، ويكشف عن جذوره العِرقية والعنصرية والطبقية والجنوسية (أعني التمييز الثقافي الاجتماعي بين الجنسين)، ويبين واضحًا من الكتاب أن فكرة الحضارة فكرة صاغها القطب الأقوى سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا ليقهر بها فكريًّا عقول المستضعفين، ويغرس في نفوسهم مشاعر الدونية دفاعًا عن مكانته وعن تفرده بالسطوة والسلطان، وهربًا من التفسير الاجتماعي العلمي لأسباب التخلف.
ويعتمد المؤلف في كتابه على حصادٍ غني طويل الأمد من دراسات أكاديمية متميزة له في علم الإناسة أي في أنثروبولوجيا وأركيولوجيا المجتمعات والحضارات القديمة، ويتخذ من دراساته شاهدًا على اطراد سياسة التمييز العنصري فكريًّا عند الغرب «الأكاديمي» والسياسي تأسيسًا على مزاعم تحمل — زيفًا — صفة الفكر الأكاديمي. لقد اقترنت هذه المزاعم بصعود قوى الرأسمالية في عصر الصناعة، واطردت لتكون دعامةً لما يسمى «العالم الحر المتقدم».
ولكن مع انطلاقة مرحلة نهاية الاستعمار الصناعي السياسي وتحرر الشعوب سياسيًّا تأكدت التعددية الثقافية، وتأكد حق الشعوب في استرداد اعتبارها سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وإنسانيًّا أي حضاريًّا، ولكن بمعنًى إنساني شامل جديد يؤكد حق الشعوب جميعها على اختلاف ألوانها وعقائدها في البقاء في محيط إنساني عادل وكفءٍ مع إدانة أساليب التميز العنصري والاسترقاق في الماضي.
ويمثل الكتاب — علاوةً على مادته الفكرية العلمية — دعوةً إلى مفكري شعوب العالم عامة، وشعوب الجنوب خاصة، لكي يوحِّدوا جهودهم وينسِّقوا إسهاماتهم لتعزيز الفكر التحرري الذي يحمل عنوان فكر ما بعد الاستعمار، وأن يعملوا على صياغة إطار فكري إنساني جديد، وإعادة كتابة التاريخ في تساوق مع جهود التحول الحضاري الذاتي والأصيل ليكتمل ويصدق نداء: «لنحرر عقولنا …»
القاهرة، سبتمبر (أيلول) ٢٠٠١م