الفصل الأول

اختراع حضارة

الحضارة كلمة تثير في نفس المرء وعقله صورًا وعواطف قوية ومؤثرة، وتعلمنا نحن الأمريكيين أبناء الولايات المتحدة الأمريكية منذ نعومة أظفارنا وفي المدرسة الابتدائية فصاعدًا أن عددًا قليلًا من الشعوب القديمة — مثل المصريين أو الإغريق — كانوا متحضِّرين، وتعلمنا أيضًا أن الحضارة بلغت ذروة إنجازاتها وأعلى مستوياتها في التطور هنا في البلدان الغربية، وقيل لنا إن الحضارة خير منشود وصواب دائم، وإنها على وجه القطع واليقين أفضل من أن نكون غير متحضرين، وهكذا أضحت فكرة الحضارة تنطوي دائمًا وعلى نحوٍ ضمني على مقارنة تفضيلية؛ إذ الحكم بوجود شعب متحضر يعني ضمنًا أن هناك جمهرةً غير متحضرة وأدنى مستوًى، لأنهم غير متحضرين، وتكون الشعوب غير المتحضرة أحد اثنين: شعوب نقول لهم ليس باستطاعتكم أن تصبحوا متحضرين؛ فهذا قدركم، وشعوب ينبغي عليهم أن يتحضروا بأسرع ما يمكن ولديهم القدرة، والمعروف أن أكثر الشعوب التي حاولت، أو أُرغمت على المحاولة، عانوا الكثير نتيجة تقدم الحضارة، ونذكر من هؤلاء سكان جزيرة بكيني أتول١ المرجانية الذين هجَّرتهم الولايات المتحدة من وطنهم حتى يتسنى لها تفجير القنابل النووية في بحيرتهم بعد الحرب العالمية الثانية.

والحضارة فكرة تعلمناها في المدرسة، وهي بعد هذا فكرة نخبوية؛ إذ يلزم لتحديد معناها خلق تراتبيات هرمية للمجتمعات، أو للطبقات الاجتماعية، أو للثقافات، أو السلالات، والحضارة في نظر النُّخب الذين صاغوا الفكرة هي دائمًا تصور متعدد الطبقات، ومجتمعات قائمة على الدولة، وشعوب متحضرة تنتمي إلى تلك الطبقات صاحبة الوجود المتميز، ويكفل هذا الوجود المتميز مؤسسات وممارسات للدولة، أما الشعوب غير المتحضرة فإنها — بسبب هذه النظرة أيضًا — لا تنتمي إلى تلك الطبقات، أو أنهم يعيشون على هامش الحضارة حيث تضعف قدرة الدولة على السيطرة والتحكم في حياتهم.

ويتكرر استخدام كلمة الحضارة اليوم في وسائل الإعلام أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويُغالي الآن خبراء الإعلام في فضائل الحضارة، ويحذروننا في الوقت ذاته من أخطارها، ويذكِّروننا المرة تلو الأخرى أن من الخير أن يكون المجتمع متحضرًا، ويضيفون إلى هذا أن الشعب المتحضر مهذب كيِّس وأكثر من أسلافه ثراءً وسعادة، ولكن يحذرنا خبراء الإعلام من الجريمة والعنف وانحطاط المستوى التعليمي بالمدارس وتفسُّخ القيم مما يهدد الحضارة أو يشكِّل بوادر تحلل حضاري.

ويذهب نيوت جنجريتش، المتحدث باسم مجلس النواب الأمريكي، إلى أن بوادر التحلل الحضاري سالفة الذكر شاهد على أن الحضارة الأمريكية تعاني أزمةً هائلة، وتمثل الحضارة في واقع الأمر أحد الموضوعات الأثيرة لدى جنجريتش، إنه يستخدم الكلمة في كل حديث أو بيان تقريبًا، وهو لا يسوق الكلمة بمعنًى غامض، بل ولا يعني بها حتى الحضارة الغربية، وإنما يعني تحديدًا الحضارة الأمريكية؛ فالولايات المتحدة حضارة لها مبادئها الأساسية المتمثلة في القوة الذاتية، والمشروعات الحرة، وروح الابتكار والاكتشاف، وتفرد الخبرة الأمريكية، ويرى أيضًا أن هذه المبادئ وضعت الولايات المتحدة في مسار انطلاق مغاير لأوروبا على سبيل المثال.٢
ويعتقد جنجريتش أن أزمة الحضارة الأمريكية هي جزئيًّا نتيجة فشل المؤسسات والبرامج التي شكَّلت الأساس لبرامج المجتمع العظيم في منتصف الستينيات، ويقول في هذا الصدد: إن هذا أدى إلى «دمار الفقير» و«خلق ثقافة فقر وثقافة عنف، وهما يعدان عاملين في تدمير هذه الحضارة».٣ ويرى جنجريتش أن ثقافتي العنف والفقر تهددان مستقبل الحضارة الأمريكية؛ لأنهما يجسدان عادات وقِيمًا هي نقيض العادات والقيم اللازمة إذا ما أردنا لحضارة المعلومات للقرن الواحد والعشرين أن تزدهر، وعبَّر عن هذا صراحة: «يستحيل الحفاظ على حضارةٍ أبناؤها ينجبون أطفالًا وهم في الثانية عشرة من العمر، ومن هم في الخامسة عشرة يقتلون بعضهم بعضًا، ومن هم في السابعة عشرة يموتون بمرض الإيدز، ومن هم في الثامنة عشرة يحصلون على دبلومات لا يستطيعون قراءتها إلا بالكاد.»٤
ويعتقد جنجريتش أيضًا أن الحضارة الأمريكية يتهددها خطر التنوع الثقافي الذي ظهر في الولايات المتحدة في أواخر القرن العشرين، ويعتقد كذلك أن هذا التنوع جاء من ناحية نتيجة الهجرات الواسعة إلى داخل الولايات المتحدة منذ الستينيات، وكذلك نتيجة حركة الحقوق المدنية التي طالبت بالمساواة في المعاملة والحقوق بالنسبة للنساء والأقليات، ويذهب جنجريتش إلى أن الدولة يجب أن تسيطر على هذا التنوع وتنظمه حفاظًا على جوهر ما هو أمريكي:
«لكي تبقى أمريكا كحضارة، يجب أن تكون الإنجليزية لغتنا المشتركة، فإذا سمحنا بأن تكون الهيمنة لنموذج متعدد الثقافات في أمريكا ذات اللغات المتعددة، فإن هذا المجتمع مآلُه إلى التفكك.»٥

ويرى جنجريتش ومن سار على دربه أن الشعوب التي تتحدث الإسبانية في حاضرة ميامي ولوس أنجلوس والمجاورات التي تتحدث الفرنسية في المدن الصغيرة في نيو إنجلاند مثل ووترفيل ومين، أو المجاورات من أبناء هايتي الذين يتحدثون اللغة الكريولية في بروكلين، هؤلاء جميعًا مجرد وجودهم يمثِّل خطرًا يتهدد الحضارة الأمريكية.

ولنتوقف لحظةً لكي نفكر بدقة فيما يعنيه جنجريتش عندما يستخدم كلمة حضارة، أولًا: يجب على الدولة في المجتمع المتحضر أن تسن التشريعات بغية إنجاز أهداف بعينها، وأحد هذه الأهداف ضمان التقدم التكنولوجي بمعدل متسارع مطرد، نظرًا لأن مفتاح المستقبل بالنسبة للحضارة الأمريكية هو تطوير اقتصاد معلوماتي قائم على التكنولوجيا الراقية، وهكذا يتعين على الحكومة من حيث دورها كمستهلك لسلع التكنولوجيا الراقية أن تحفِّز الإبداع التكنولوجي الذي سيذهب إلى أسواق أوسع.

ويتصور جنجريتش كذلك أن الحضارة المتقدمة المرتكزة على التكنولوجيا الراقية هي مجتمع ضارب بجذور راسخة في حالة التباينات بين الأنواع المختلفة، ويريد على سبيل المثال من الدولة أن تمرر القوانين التي تعيد توزيع الدخل تصاعديًّا، وحيث إن الحضارة تتضمن ثقافةً وقيَمًا، فإنه يتعين على الدولة أيضًا أن تجيز القوانين التي تعزز أنواعًا بذاتها من القيم والسلوك، مثال ذلك أن تشترط أن تكون الإنجليزية وحدها لغة الكلام في الأماكن العامة، أما عن الممارسات التي تساعد النساء أو أبناء الأقليات، فيجب أن توضع تحت قوامة الرجال أو تقييدها أو تجريمها، ويرى جنجريتش أن الناس المتحضرين هم من يغرسون المعتقدات والقيم والأهداف التي تشجع على السلوك «المهذب»، ولكن أولئك الذين يرتضون أو يعجزون عن الالتزام بهذه المعايير فهم حسب التعريف المحدد: البرابرة، أو الطبقات الدنيا الذين يشكِّل وجودهم خطرًا على الحضارة.

ويتردد صدى مخاوف جنجريتش على لسان روجر كيمبال في تعليق له منذ بضع سنوات؛ إذ تحدث عن أخطار التعددية الثقافية، المنظور الذي يعترف بأن المجتمعات المختلفة لديها ممارسات وقيم ثقافية مختلفة، ويقول كيمبال: الاختيار الذي أمامنا الآن ليس بين ثقافة غربية «قمعية» وفردوس متعدد الثقافات، بل بين الثقافة والبربرية، إن الحضارة ليست منحةً أو هبة، بل هي إنجاز، وهي إنجاز هش بحاجة دائمة إلى موالاة والدفاع عنه ضد من يسعون إلى تطويقه من الداخل والخارج.٦
ويحدثنا جنجريتش عن فقدان المعايير، ويزعم أن مثل هذا الوضع يجد دعمًا وتأييدًا بفضل الحجج التي يطرحها ريتشارد هيرنشتاين وشارلس موراي مؤلِّفا كتاب المنحنى الناقوسي: الذكاء والبنية الطبقية في الحياة الأمريكية ١٩٩٤م، هذا على الرغم من أنهما يؤسسان دراستهما على منطق مغاير، إذ يؤكد هيرنشتاين وموراي على أن الفارق المتزايد في الدخول بين خريجي المدارس العليا والمعاهد يشير إلى أن القدرة المعرفية، وبالتالي، مع التوسع، القدرة على الاعتراف بهذه «المعايير الموضوعية» شائعة ومشتركة بين خريجي التعليم العالي ممن يتمتعون بمكانةٍ اجتماعية اقتصادية رفيعة، وأغلبيتهم من البيض، وفي رأيهما أن فجوة مقياس الذكاء بين البيض والآسيويين من ناحية والزنوج من ناحية أخرى، ثابتة إلى حد كبير، وغير قابلة للتغيير حتى على الرغم من أنها تكاد تتلاشى بين الجماعات ذات المكانة الاقتصادية الاجتماعية الراقية.٧ ويذهبان إلى أن سبب ذلك هو أن الدراسات الاجتماعية القديمة ذات النهج الدارويني ودراسات تحسين النسل كانت على صواب من حيث الأساس، وأن حوالي ٦٠ بالمائة من الذكاء البشري موروث، حتى وإن كانت الجينات المسئولة عن القدرة المعرفية لا تزال مجهولةً بعد قرن من البحث والدراسة والتمويل الجيد، ويؤكدان علاوةً على هذا أن الصورة زادت تعقدًا نتيجة برامج إجرائية إيجابية، ويذهبان إلى أن المخططين يضعون هذه الفوارق السلالية الوراثية الخاصة بالقدرة المعرفية في الاعتبار، ويصوغون سياساتهم التي سوف تسمح لكل فرد بأن يكون أخلاقيًّا كائنًا بشريًّا مستقلًّا ذاتيًّا.٨
ونجد في آراء جنجريتش رجع صدًى لآراء صمويل هنتنجتون، عالم السياسة بجامعة هارفارد، والذي دعمت خططه البحثية على مدى سنوات مهامًّا كثيرة لوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون»، وحقق هنتنجتون في منتصف السبعينيات شهرةً واسعة عندما قال إن قدرًا كبيرًا من الديمقراطية يشكِّل خطرًا، وإن قيادة الدول لا بد وأن تكون في أيدي النخبة المتعلمة،٩ ويرى أن في العالم اليوم سبع أو ثماني حضارات متنافسة: الحضارات الغربية، والكونفوشية، واليابانية، والإسلامية، والهندوسية، والسلافية، الأرثوذكسية، والأمريكية اللاتينية، وربما الأفريقية أيضًا، وينجم الخطر الحقيقي من أنها محصورة باحتمالات صراع حياة أو موت، أي صدام حضارات، وإذا كانت الصراعات الكبرى على مدى الفترة من تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب الباردة نزاعات داخل دائرة الحضارة الغربية، فإن الصدام الوشيك الذي يلوح في الأفق هو صراع بين الحضارة الغربية والعالم غير الغربي الذي يضم أجزاءً متحضرة.

والحضارات في نظر هنتنجتون هي كيانات ثقافية سوف يكون لها أهمية متزايدة باطرادٍ في النزاعات الراهنة والمقبلة؛ فالحضارة هي: أرقى تجمع ثقافي لشعب ما، وأوسع مستوًى للهوية الثقافية، والتي يتميز بها البشر وتمايزهم عن غيرهم من الأنواع، ويتحدد معناها على أساس كل من عناصر موضوعية مثل: اللغة، والتاريخ، والدين، والأعراف، والمؤسسات، أو على أساس التعريف الذاتي بالنفس.

ذلك أن الذاتية عند الناس لها عدة مستويات: إن ساكن مدينة روما يمكن أن يعرِّف نفسه بأنه: روماني، وإيطالي، وكاثوليكي، وأوروبي وغربي، وتعتبر الثقافة التي ينتمي إليها هي أوسع مستوًى للتعريف، والذي يعرِّف نفسه به بقوة وعاطفة.١٠
ويعتقد هنتنجتون أن الحضارة الغربية هي «الحضارة الكونية» بينما غيرها حضارات إقليمية، وحيث إنه يحدد معنى الحضارة على أساس الفوارق الثقافية فإن قائمة الحضارات عنده تعكس الفوارق الحقيقية بشأن اللغة والثقافة والتقاليد، ثم، وهو الأهم، الدين؛ إذ يراه القسمة الأهم في تمييز حضارة عن غيرها، ونتيجةً لذلك:
يكون لدى شعوب الحضارات المختلفة وجهات نظر متباينة عن العلاقات بين الرب والإنسان، وبين الفرد والجماعة، وبين المواطن والدولة، وبين الآباء والأبناء، وبين الزوج والزوجة، وكذلك وجهات نظر مختلفة عن الأهمية النسبية للحقوق والمسئوليات، والحرية والسلطة، والمساواة والتراتبية، وهذه الفوارق هي نتاج قرون، ومن ثم لن تختفي سريعًا.١١

ولقد تبنى العالم كله زخارف الحضارة الغربية، ولكن بشكلٍ سطحي، هذا بينما لم تتبنَّ الحضارات الأخرى المفاهيم الأساسية للحضارة الغربية، والتي تختلف جوهريًّا عن مفاهيم كل منها.

إن الأفكار الغربية عن النزعة الفردية، والليبرالية، والمؤسسية، وحقوق الإنسان، والمساواة، والحرية، وسيادة القانون، والديمقراطية، والأسواق الحرة، وفصل الدين عن الدولة، لا نجد لها في الغالب سوى صدًى ضئيل في الثقافات الإسلامية، أو الكونفوشية، أو اليابانية، أو الهندوسية، أو البوذية، أو الأرثوذكسية.١٢

واحتدمت التفاعلات فيما بين الشعوب المختلفة بعد أن أصبح العالم أصغر، وأدى هذا إلى زيادة إدراك كل فرد بكل من الفوارق بين الحضارات ومظاهر الاشتراك فيما بينها، ويزعم هنتنجتون أن هذه الألفة المتزايدة أفرخت مشاعر ازدراء، وأججت من جديد نيران عداوة قديمة مضت عليها قرون، ويزعم أيضًا أن الوعي الحضاري المتزايد في المستعمرات السابقة أفضى إلى تدهور النفوذ الغربي، نظرًا لأن النخبة في هذه البلدان، والمتعلمة تعليمًا غربيًّا، تبحث عن جذورها هي القديمة، فضلًا عن تزايد رفض الجماهير للسلع والأساليب الغربية.

ونظرًا لأن الأشكال الثقافية للحضارات المؤسِّسة للمستعمرات السابقة أشكال راسخة للغاية، فإن تغييرها أصعب كثيرًا من تغيير الخصائص الاقتصادية التي اكتسبتها هذه البلدان في الآونة الأخيرة، ولهذا فإن الوعي الحضاري يغدو ذا أهميةٍ خاصة خلال هذه الفترة من التحول الاقتصادي؛ لأنه يهيئ الأسس الثقافية لظهور مناطق اقتصادية جديدة، وفي رأيه أن الثقافة العامة المشتركة بين تايوان، وجمهورية الصين الشعبية، وهونج كونج، وسنغافورة، والصينيين فيما وراء البحار هي التي يسرت التوسع السريع للترابط الاقتصادي المتبادل فيما بينها.١٣

ويذهب هنتنجتون إلى أن أشد المشكلات وطأةً نجدها في البلدان متعددة الثقافات أو متعددة الحضارات، مثل المكسيك والدول التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا؛ إذ تألفت هذه البلدان «الممزقة» من أعداد كبيرة من شعوب تنتمي إلى حضارات مختلفة، أي إن مواطنيها يتحدثون لغاتٍ مختلفة، ويمارسون شعائر أديان مختلفة، ويؤكد هنتنجتون أنهم كانوا بنية خليط أو فسيفسائية من حضارات غربية وسلافية وأرثوذوكسية وإسلامية جمعت بينها الشيوعية، التي هي أيديولوجيا غربية وافدة، وعندما فقدت الشعوب ثقتها في الأيديولوجيا خلال السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، تفككت وانفرط عقدها واستطاعت كل حضارة من الحضارات المختلفة أن تعيد تأكيد ذاتيتها وتطالب باستقلالها السياسي الذاتي، ويفيد هذا ضمنًا أن تلك البلدان الممزقة بفعل المنافسات الحضارية الداخلية تكشف عن الأخطار الحقيقية للتعددية الثقافية: الصراع الطبقي والحرب الأهلية.

ويري هنتنجتون أن مواطني بلدٍ ما يمكنهم إراديًّا إعادة تحديد هويَّاتهم الحضارية، ويلزم لذلك توفر ثلاثة شروط، الأول: أن تكون النخبة السياسية والاقتصادية مؤيدةً ومتحمسة بوجهٍ عام لهذه الحركة، ثانيًا: أن يكون الجمهور راغبًا في ذلك، ثالثًا: أن تكون الجماعات المهيمنة في الحضارة المتلقية راغبةً في استيعاب المتحولين إليها.١٤
ولكن من الواضح أن ليس جميع البلدان الممزقة سوف تعيد تحديد هويَّاتها وتعتبرها غربيةً وتتبنى نسق القيم الذي يعضد الهيمنة السياسية للولايات المتحدة وغرب أوروبا، ذلك أن تحولها إلى القيم الغربية يعني أنها تستمد نفسها واقعيًّا في منافسة مباشرة مع الغرب، وليست ملحقةً به لأداء دور التابع، وهكذا، وحسب رأي هنتنجتون: فإن العقبات التي تواجه البلدان غير الغربية في سبيل الارتباط بالغرب تتباين تباينًا كبيرًا وواضحًا، وتصل هذه العقبات أدنى مستوًى لها بالنسبة لبلدان أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا، ولا تزال العقبات أكبر كثيرًا بالنسبة للمجتمعات المسلمة والكونفوشية والهندوسية والبوذية، واستطاعت اليابان أن تؤسس لنفسها وضعًا فريدًا … فهي من الغرب بالنسبة لبعض النواحي، وليست من الغرب بشكل واضح قياسًا إلى بعض الأبعاد المهمة.١٥

وبينما تعمل البلدان الغربية والروسية على خفض قواتها العسكرية، كما يزعم هنتنجتون، نجد عددًا من الدول — الصين، وكوريا الشمالية، والعراق، وإيران، وليبيا، والجزائر — تعمل على زيادة قدراتها العسكرية بما تستورده من أسلحة من عديد من المصادر الغربية وغير الغربية أو بتطوير صناعاتها الحربية، وإن هذه الدول غير الغربية «المدججة بالسلاح» تشكِّل تهديدًا لكلٍّ من توازن القوى الراهن ولهدف الغرب فيما بعد الحرب الباردة، والمتمثل في الحيلولة دون انتشار الأسلحة الذي يهدد هيمنته، كذلك فإن الرابطة الإسلامية الكونفوشية تشكل الآن تحديًا للمصالح الغربية، ويجري تحديد معنى القوة أساسًا وفق صلاحياتٍ حضارية، ويحذو هنتنجتون حذو أصحاب نظريات التحديث في الخمسينيات والستينيات، ويقترح علاجًا يتمثل في الحفاظ على تفوق الغرب عسكريًّا خاصةً في شرق وجنوب شرق آسيا:

«أن نستغل الخلافات والنزاعات بين الدول الكونفوشية والإسلامية، وندعم في الحضارات الأخرى الجماعات المناصرة للقيم والمصالح الغربية، ونعزز وندعم المؤسسات الدولية التي تعبِّر عن المصالح والقيم الغربية وتضفي عليها مشروعيةً وتشجع انضمام الدول غير الغربية في هذه المؤسسات. ١٦
وتحقيقًا لهذه الأهداف، يتعين على الغرب وعلى مدى المستقبل المنظور، أن يعترف بأن العالم سيكون عالمًا تتعايش فيه الحضارات المختلفة ويجب كذلك تطوير فهم أكثر عمقًا للآراء الدينية والفلسفية الأساسية التي تشكل قواعد لهذه الحضارات، وللطرق التي تتبعها شعوب هذه الحضارات للنظر إلى مصالحها، وسوف يكون لزامًا بذل جهد لتحديد عناصر المشاركة بين الحضارات الغربية وغيرها.»١٧

ويلتقط الحوار الذي يجريه هنتنجتون أبعادًا أخرى لفكرة الحضارة، إذ يرى أن الحضارات تتضمن بناء الهوية في إطار من الملابسات والظروف التاريخية والاجتماعية المميزة، وتتجاوز في الغالب حدود الدول الحديثة؛ لهذا فإن الحضارة الغربية كمثال نجدها في كل من الولايات المتحدة وفي بلدان غرب أوروبا معًا، ونلاحظ أن بعض الدول مثل المكسيك أو الاتحاد السوفييتي السابق هي بلدان متعددة الثقافات أو الحضارات، ولكنها ليست غربية، كما نلحظ أيضًا أن نسيجها الاجتماعي هش ضعيف بسبب الاحتمالات الكامنة لانفجار الصراع بين مكوناتها المختلفة.

ويشير هنتنجتون كذلك إلى العلاقة بين الحضارة والبِنية الطبقية لدولة بذاتها، ويرى أن النخبة السياسية والاقتصادية، أي الطبقة الحاكمة، تهيئ قوة الدفع لتغيير أو لإعادة تحديد الهوية الحضارية؛ إذ ما إن يقرروا إراديًّا التغيير، حتى يكون لزامًا عليهم محاولة إقناع الطبقات والمجتمعات المحلية التابعة بحكمة وصواب آرائهم قبل اتخاذ الإجراءات لتنفيذ نظرتهم الجديدة، ويذهب أيضًا إلى أن التغير الحضاري يمثل دائمًا عمليةً تسير في اتجاه محدد من القمة إلى القاعدة بدءًا من النخبة.

figure
صورة من رسالة مؤلفة من ١٢٠٠ صفحة أرسلها فيليب جوامان بوما إلى ملك إسبانيا عام ١٦١٥م، ونرى فيها مواطنًا هنديًّا من سكان البلد الأصليين في بيرو. وتهاجم الرسالة سلوك دولة بيرو الاستعمارية تجاه شعوب الإنديز، وتصور هنا المعاملة السيئة التي يلقاها العبيد السود على يد أبناء النخبة الاستعمارية.
وليست الولايات المتحدة وبلدان غرب أوروبا هي الدول الوحيدة التي تبعث من جديد فكرة الحضارة، ذلك أن المجتمع المدني، وهو فكرة وثيقة الصلة، محور نقاش واسع الآن داخل بلدان الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان الكتلة الاشتراكية سابقًا،١٨ وأعتقد أن السبب في ذيوع هذه المفاهيم من جديد هو أنها تمثل عناصر مهمة وضرورية في المناخ الأيديولوجي المرتبط بعمليتي تكوين الطبقة والدولة، ونظرًا لأن هاتين العمليتين رائجتان ومزدهرتان الآن على نطاق شبه عالمي، فإن المثقفين يستخدمون مصطلح الحضارة والمفاهيم ذات الصلة لابتكار صور متباينة للقصة ذاتها والتي انتظمت حول الفكرة القائلة إن التراتبية وعدم المساواة ليستا فقط ضروريتين، بل هما حالة طبيعية أيضًا.
وإن كل مجتمع مؤلَّف من طبقات ومرتكز على الدولة يبتكر تصوره الخاص المميز للحضارة، وإن الشيء المثير هو أوجه التماثل الواضحة بين الصور التي تم رسمها على مدى الزمان، مثال ذلك أن المثقفين الصينيين في أواخر القرن الثالث ق.م. حددوا النظام الاجتماعي لعالم وحضارة الهان في ضوء نظرية المناطق الخمس؛ إذ كان من رأيهم أن العالم مقسم إلى خمس حلقات ذات مركز مشترك، وأن هذه الحلقات منتظمة على أساس تراتبي، ويشغل مركز العالم المتحضر النطاق الملكي أو المملكة الوسطى، وأن الملك يجبي من المواطنين جزيةً على أساس حساب يومي، ويشغل السادة من عِلية القوم — اللوردات — النطاق التالي، ويحصل الملك على الجزية منهم على أساس شهري، يلي ذلك النطاق الهادئ الذي يدفع أهله جزيتهم كل ثلاثة أشهر، ويليه بعيدًا عن المركز أراضي الحدود التي يقطنها البرابرة المستأنسون أو الخاضعون للسيطرة، ويدفعون الجزية كل سنة، وتأتي أخيرًا الأراضي القفر والتي تقع وراء حدود الحضارة الصينية، ويسكن الأراضي القفر برابرة همج وربما يدفعون الجزية مرة على مدى الحياة.١٩
وكذلك حكام دولة الإنكا في بيرو في القرن الخامس عشر؛ إذ اعتبروا أنفسهم جزيرة الحضارة وسط بحر من البرابرة، وعلى عكس أباطرة الهان في الصين، زعم حكام الإنكا أنهم خُلقوا مستقلين بمعزل عن بقية البشرية، ونظرًا لأنهم سلالات مباشرة للشمس الإله، فقد منحهم الله حق السيادة على بني جلدتهم وعلى الشعوب المجاورة، ومن ثم فإن الواجب الملقى على عاتقهم هو تحقيق السلم والعدل والحضارة لشعوب الإنديز جميعًا، خاصةً بين الهمج الذين يعيشون على أطراف دولة الإنكا، وكان حكام الإنكا يطلبون، مقابل هذه المنح، أن تدفع الشعوب الخاضعة لسلطانهم جزيةً تجري جبايتها سنويًّا عن طريق وسطاء محليين، وإذا هددوا بالامتناع عن دفع الجزية المقررة للأسر الملكية أو لدولة الإنكا، فإن الدولة تهدد بالرد على ذلك باستخدام القوة: أن تشتت الأهلين، وتستولي على القطعان، بل وقد تدمر المحاصيل.٢٠

الكتاب وتنظيمه

يعتقد بعض المعلقين أن الناس ينجزون الحضارة عندما يحولون الطبيعة بجهدهم الشاق، ومن ثم وخلال هذه العملية يحسِّنون من أنفسهم ومن ظروف معيشتهم، ويرى آخرون أنها موروثة، أعني جزءًا من تراث تاريخي تناقلته أجيال النخبة جيلًا بعد جيل، ويذهب فريق ثالث إلى أن الحضارة مغروسة متأصلة في العلاقات الاجتماعية، ويرى غير هؤلاء أن الحضارة تعبير عن حالة تفوق بيولوجي.

والملاحظ أن الكُتاب الذين يغالون في إطراء فضائل الحضارة يستثيرون عادةً مفهومَين إضافيين لدعم آرائهم، الأول: مفهوم الطبيعة، والثاني: مفهوم غير المتحضرين، ويعرِّفون عادةً غير المتحضرين بأنهم تلك الجماعات التي تتبع غرائزها الطبيعية، متحررين من قيود القانون والنظام السائدَين بين المتحضرين، ويعمل المفهومان معًا لخلق ظل أو مرآة صورة الحضارة، وإذا كان قوام الحضارة مؤسسات مشذبة، وقيم أخلاقية وثقافات دول ونخبتها، فإن الطبيعة هي الشرط الجوهري (الطبيعي) الذي ظهروا منه، والذي يتعارضون معه، وتمثل الشعوب غير المتحضرة المراحل الأولية (البدائية) أو غير المهذبة للوضع الإنساني، ويقال إما إنهم تجنبوا هذا الوضع تمامًا أو مروا به في زمن باكر قديم، والأمر هنا رهن الصورة التي تصور بها الطبقات المتحضرة الحاكمة تاريخها.

وسوف يبين لنا في الفصول التالية أن الشعوب المتحضرة يؤرقها شعور إزاء جيرانها وأبناء عشيرتها غير المتحضرين، الذين يلقبونهم همجًا أو برابرة أو «العامة الغوغاء» الذين يفتقرون إلى ما يتحلون به من صفات الرقة والتهذيب والتأنق، ويقطن غير المتحضرين وراء الحدود، وينتقلون في موسم الهجرة الواسعة جماعاتٍ جماعات ليستقروا بينهم، ويتفاقم هذا الوسواس تجاه الشعوب غير المتحضرة في حالات بذاتها على نحو ما نجد في بلدان الديمقراطية الليبرالية المميزة للعصر الحديث، والتي جاء بعض أبناء الطبقة الحاكمة فيها من بين شعوب خاضعة، وأدنى حضارة، وأقل ثقافة، وأحط طبقة، أو من بين أجانب أو مهاجرين حديثي العهد بالبلاد.٢١
لذلك فإن التراتب الطبقي الاجتماعي يعتبر من بين القسمات الجوهرية المميزة للحضارة، بمعنى مجموعة من العلاقات التراتبية الهرمية والتي تسودها مشاعر الازدراء للآخر والخوف منه (علاوةً على مشاعر أخرى)، وتطول هذه المشاعر كلًّا من الحكام والرعايا وإن اختلفت مظاهر الإحساس بها ومعاناتها،٢٢ إذ تزعم الطبقات الحاكمة التي تصور نفسها على أنها عصب الحضارة أن آراءها أرفع مكانةً من آراء الرعايا الأدنى حضارة، وأسمى من معتقدات وممارسات الطوائف غير المتحضرة التي لا يُحكِمون السيطرة عليها، وتتلخص مخاوفهم في نهاية الأمر في صورة فقدان الثقة في الجماهير غير المتحضرة، ويساورهم خوف من اليوم الذي يرفض فيه الرعايا الإذعان لطلباتهم، ويقاومون تهديداتهم وأساليبهم القسرية، ويتحدون مشروعيتهم.
إن ثورة غضب الطبقات غير المتحضرة إنما هي نتيجةٌ لاستقلالهم، وتنبع مخاوفهم من إدراكهم عن يقينٍ أن ما تغتصبه الدولة منهم ربما يكون شديد الوطأة، ويرهق زملاءهم فيعجزون عن الوفاء بحاجتهم هم وأسرهم، ولهذا السبب يقترن صعود الحضارة آخر المطاف بنشوء الطبقات الاجتماعية وخضوع المرأة وظهور «آخرين» يتصفون بالمظهر أو السلوك أو غير ذلك من صفات منسوبة إليهم، ولهذا يتمثل وجود الطبقة ونزعة التمييز على أساس الجنس sexism والنزعة العِرقية جزءًا مكملًا لبنية المجتمع المتحضر مثل الظلم والاغتراب، وتمثل أيضًا قسمات متكاملة لجميع أوصاف الحضارة.
إن الحضارة ليست شيئًا، ولكنها فكرة أو مفهوم أو طريقة لتنظيم صورة الواقع، وسوف يركز هذا الكتاب على تطور فكرة واحدة فقط عن الحضارة، أو الحضارة الغربية تحديدًا التي بدأت صياغتها الافتراضية في أوروبا النهضة، ثم أعيد تشذيبها في عصر التنوير على أيدي المعلقين الاجتماعيين في شمال أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وقيل على مدى عقود إن الحضارة الغربية بدأت في اليونان القديمة، ثم روما من بعدها، وانتقلت إلى شمال أوروبا إبان عصر التوسع فيما وراء البحار وعصر التصنيع، وانتقلت أخيرًا إلى الولايات المتحدة حيث ازدهرت الحضارة الغربية ونضجت وحققت أعظم إنجازاتها في القرنين التاسع عشر والعشرين، وصاغ المفكرون أبناء النخبة فكرة الحضارة الغربية وسلَّموا بوجود حضارات أخرى مثل الحضارة السامية في شمال أفريقيا، وفي الشرق الأوسط، وحضارات الصين واليابان، وحضارات أو الثقافات العليا للإنكا والمايا في وسط وجنوب أمريكا، بيد أنهم مع هذا ذهبوا إلى أن أيًّا من هذه الحضارات لم يبلغ شأو إنجازات حضارة الغرب في روما أو اليونان القديمة والمجتمعات التي هي من سلالة هذا التراث.٢٣

ويعرض هذا الكتاب موضوع الحضارة التي تعني التراتبيات الهرمية الاجتماعية والثقافية وما تنطوي عليه من تفاوتات أو مظالم، ويتناول أيضًا نتائج التدرب على النظر إلى العالم بعيون النخبة، ونظرًا لأن أنصار الحضارة كانوا دائمًا وبشكل طبيعي معادين للديمقراطية؛ فقد عارضوا كذلك فكرة وجود مجتمعات لا طبقية أو تصور علاقات اجتماعية قائمة على مساواة حقيقية، وإن مجرد فكرة احتمال وجود مجتمعات بغير طبقات اجتماعية وبغير دولة، على نحو ما كانت صورة البرابرة على أبواب روما، تمثل تحديًا لذات الأسس التي ترتكز عليها أساليب حياة المتميزين في المجتمعات الطبقية.

واستهدفت من تنظيمي لفصول الكتاب أن أستكشف فكرة الحضارة وتداخلها مع أفكار أخرى مثل الثقافة، والتخلف، والتقدم، والحداثة، والتاريخ، والتراث، والطبيعة، وهذه جميعها تهدف إلى تأكيد مشروعية التراتبية الهرمية الاجتماعية، أما لماذا آثرت هذا النهج؟ فهذا ما سوف يتضح مع اطراد النص.

ويتناول الفصل الثاني أحد جانبي الدراسة عن الحضارة؛ إذ يعرض آراء المثقفين الذين احتفوا بالحضارة، وأشاعوا الفكرة التي بدأت مع المغامرات الاستعمارية في القرن السادس عشر، وينبع نفوذهم من علاقتهم بالطبقات الحاكمة، وذهبوا إلى أن الحضارة أصبحت نظريةً عن التاريخ تصف التغير ابتداءً من الظرف البدائي، أي الأولي أو النشأة الأصلية، وصولًا إلى وضعٍ أكثر تقدمًا من حيث التقدم المعنوي والفكري والاجتماعي، وسمح لهم هذا باعتبار مجتمعاتهم أكثر تقدمًا من الشعوب الأصلية من أبناء المستعمرات أو روما أو اليونان القديمة، وازدادت هذه الفكرة قوةً ودعمًا مع صعود الرأسمالية والثورتين العلمية والصناعية وظهور الدول الحديثة والتنوير، وصاغوا مصطلح «الحضارة» في ستينيات القرن الثامن عشر بهدف وصف تطور الأوضاع الاجتماعية الناجمة عن الرأسمالية وتكوين نخبة متعلمة، واعتاد أنصار الحضارة منذ عام ١٨٠٠م فصاعدا مقارنة حضارتهم بأنواع الحضارات في المجتمعات الأخرى مع محاولة تفسير القوى الداعمة للتطور.

ويعرض الفصل الثالث الجانب الآخر من الدراسة عن الحضارة؛ إذ طور النقاد ابتداءً من القرن السادس عشر فصاعدًا تقييماتٍ متباينةً وبعيدة عن الإطراء لصعود الحضارة الغربية، وانتقدوا أسلوب دول الغرب الأوروبي المتحضرة في التعامل مع رعايا المستعمرات، وانتقدوا كذلك الآثار المترتبة على صعود الحضارة في مجتمعاتهم هم في غرب أوروبا، مثل: زيادة التفاوتات ومظاهر عدم المساواة والزيادة المطردة لبؤس الجماهير وتبلور ثقافة نخبوية سائدة، ويدرس الفصل الانتقادات التي تركز على أسس نظرية مختلفة متطرفة ورومانسية وليبرالية وقومية وثقافية.

وينظر الفصل الرابع إلى صور الحضارة في المرآة، البرابرة وغيرهم من الشعوب غير المتحضرة الذين ابتكرتهم حضارة تعتمد أساسًا على العنصر الذكري؛ إذ تذهب إلى أن من استوطنوا المناطق الهامشية على أطراف العالم المتحضر هم أجانب يضمون النساء والطبقات الخاضعة داخل الحضارة ذاتها، وأن هذه الشعوب غير المتحضرة تعمد في فترات الهجرة الواسعة، مثلما هو حادث اليوم، إلى الإقامة بأعداد متزايدة وسط العالم المتحضر، مثال ذلك أنه في أثينا قديمًا كان البرابرة هم الأجانب الذين زودوا كتَّاب المسرح الإغريقي ببدائل الثقافة الأثينية، وزاد تباين وتنوع الشعوب غير المتحضرة مع التوسع إلى ما وراء البحار وإنشاء مستعمرات استيطانية ونمو تجارة العبيد وصعود الرأسمالية، وأصبحت الثقافة والجنوسة (التقسيم الاجتماعي التفضيلي إلى ذكر وأنثى) والطبقة والسلالة (وهي أفكار جديدة في أواخر القرن السابع عشر) هي أسس تحديد المجتمعات المحلية وتقسيم الأفراد باعتبارهم هم الآخر غير المتحضر.

والمألوف دائمًا نسبة الشعوب غير المتحضرة إلى أوضاع تابعة وثانوية في التراتبيات الاجتماعية المقترنة بالحضارة، وحيث إنهم يمثلون البديل الآخر للحضارة ذاتها، فإن استمرار وجودهم، بل وذكرياتهم عن وجودهم يشكِّل خطرًا يتهدد المجتمع المتحضر.

ويعرض الفصل الخامس آراء الشعوب التي كانت خاضعةً ومهمَّشة مع دمجهم في الصورة الأمريكية للحضارة الغربية، وتوفرت للرجال والنساء أبناء هذه الجماعات إدراكات وتصورات واضحة ومتجددة عن أوضاع القهر والاستغلال التي عاشوا فيها، وتحدَّوا عمليات التوصيف والتصنيف إلى فئات غير متحضرة من حيث السلالة أو الطبقة أو الجنوسة أو الفرد، والتي اخترعها أنصار ودعاة الحضارة، وتثير آراؤهم الشكوك في جدوى فكرة غير مشروطة أو غير نقدية عن الحضارة، ويدفعوننا قسرًا إلى التفكير فيمن المستفيد عندما نتمادى في استخدام فكرة الحضارة على نحوٍ غير نقدي أو غير جدلي.

جملة القول، إن هذا الكتاب معنيٌّ بفكرة الحضارة وكيف تحدث الناس من أبناء الشعوب المتحضرة عن أنفسهم وعن جيرانهم غير المتحضرين، ويدرس الكتاب تحولات الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي نتجت في رحابها وانتشرت الحضارة، وكيف اختلفت سبل الحضارات في بناء وتحديد مساراتها إزاء السلطة في الوقت الذي تعمل على خلق وضمان سرمدية التراث والصور الرمزية عن شعوب الماضي والحاضر، ويتحدى هذا الكتاب النظرة التي تنطوي عليها فكرة الحضارة ذاتها والتي تفيد أن الذكور، والبِيض عادةً، هم العناصر الفاعلة المهيمنة، وأن جميع من عداهم سلبيون خاملون.

١  جزيرة بكيني أتول Bikini Atoll المرجانية تقع في جزر مارشال غرب المحيط الهادي، حيث الموقع الذي أجرت فيه الولايات المتحدة تجاربها على القنابل الذرية عام ١٩٤٦م. (المترجم)
٢  David Remnick, “Lost in Space,” The New Yorker, 5 December 1994, pp. 79–86.
٣  Quoted in “Menace to Society,” Philadelphia Daily News, 12 November 1994, p. 1.
٤  Quoted in Catherine S. Mainegold, “Gingrich. Now a Giant. Aims at Great Society,” New York Times, 12 November 1994, p. A11.
٥  Quoted in Michael Posner, “Gingrich: English Must Rule,” Philadelphia Daiy News, 16 June 1995, p. 4.
٦  Roger Kimball, “‘Tenured Radicals’ A Postscript,” New Criterion (January 1991): 13.
٧  Richard J. Herrnstein and Charles Murray, The Bell Curve: Intelligence and Class Structure in American Life (New York: The Free Press, 1994) p. 288; see also Steven Fraser, ed., The Bell Curve Wars: Race, Intelligence, and the Future of America (New York: Basic Books, 1995).
٨  Herrnstein and Murray, ibid., p. 543.
٩  Michel J. Crozier, Samuel P. Huntington, and Joji Watanuki, The Crisis of Democracy: Report on the Governability of Democracies to the Trilateral Commission (New York: New York University Press, 1975), pp. 112-15, 161-64.
١٠  Samuel P. Huntington, The Clash of Civilizations?The Debate (New York: Council on Foreign Relations, 1993), p. 24.
١١  Ibid., p. 25.
١٢  Ibid., p. 40.
١٣  Ibid., pp. 26-28.
١٤  Ibid., p. 44.
١٥  Ibid., p. 45.
١٦  Ibid., p. 49.
١٧  Ibid., p. 49.
١٨  See the essays collected in John Keane, ed., Civil Society and the State: New European Perspectives (London Verso, 1988).
١٩  Yü Ying-shih, “Han Foreign Relations,” in Denis Twitchett and Michael Loewe, eds., The Cambridge History of China, vol. 1: The Ch’in and Han Empires, 221 B.C.—A.D. 220 (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1986), pp. 379-80.
٢٠  Thomas C. Patterson, The Inca Empire: The Formation and Disintegration of a Pre-Capitalist State (Oxford: Berg Publishers, 1991).
٢١  Zia Sardar, Ashis Nandy, and Merryl W. Davies, Barbaric Others: A Manifesto of Western Racism (London: Pluto Press, 1993).
٢٢  Pierre Clastres, Society Against the State Essays in Political Anthropology (New York: Zone Books, 1987), pp. 189-218.
٢٣  Martin Bernal, Black Athena: The Afroasiatic Roots of Classical Civilization, vol. 1, The Fabrication of Ancient Greece 1785–1985 (London: Free Association Books, 1987); and Thomas C. Patterson, Toward a Social History of Archaeology in the United States (Ft. Worth, TX: Harcourt Brace, 1995), pp. 33–68.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥