الفصل الثاني
الحضارة وأنصارها
شكَّلت فكرة الحضارة جانبًا رئيسيًّا من الأيديولوجيا
التي اقترنت بصعود الدولة الأوروبية الحديثة ووطدت أركانها،
١ وقد ظهرت الدولة الحديثة في رحم أزمة
الإقطاع، وهي الأزمة التي اتصفت بتدهور الدخول
الاقتصادية لأبناء الطبقة الحاكمة حتى خلال فترات
التوسع الاقتصادي،
٢ وبدأ ظهور الدولة الحديثة أثناء النهضة،
واكتسبت قوة دفع بعد عمليات نهب مهولة من الأمريكتين
ابتداءً من القرن السادس عشر، إذ ضمت الدول الأوروبية
آنذاك أشكالًا متباينةً من نظم الحكم: الملكيات المطلقة
في إسبانيا وفرنسا وإنجلترا، ودويلات تهيمن عليها
اتحادات من رجال الدين داخل الإمبراطورية الرومانية
المقدسة، أي أجزاء مما يعرف الآن باسم ألمانيا ووسط
إيطاليا، وكذلك جمهوريات بها جمعيات برلمانية، ومن
بينها ما نعرفه الآن باسم شمال إيطاليا وسويسرا.
وارتبط تكوين الدولة الحديثة أيضًا بظهور الطبقات
الاجتماعية التي صاغت علاقاتٍ جديدة بين الملوك
والنبلاء ورعاياهم، والمعروف أن النبالة، في النظام
الإقطاعي، كانت تستمد معاشها من الأراضي التي تم الحصول
عليها عن طريق الحرب ومن جهد وكرم الرعايا، وكذا السلع
التي يأخذونها منهم، وكان مجتمع وطبقة النبلاء هم
السلطة القضائية كلٌّ في نطاق سلطانه، وبدأ الأمراء
والملوك أثناء النهضة يؤجرون رجالًا متعلمين، مثقفين،
لمساعدتهم في إدارة إقطاعاتهم وعقاراتهم ولجباية
الأموال مما ساعد على تعزيز مركزية حكم الولاية، وظهر
هذا النظام داخل الملكيات المطلقة في مطلع القرن السادس
عشر، وعامل الملوك الولاية كمشروعٍ شخصي وامتداد محتمل
الربح لأملاكهم الخاصة.
ومع مطلع القرن السادس عشر شرع حكام إسبانيا وفرنسا
وإنجلترا في دعم وتعزيز سلطانهم السياسي بغية تحقيق
عوائد تمكِّنهم من تسيير دفة الحروب والدبلوماسية
والتجارة وعمليات الاستعمار، ومن ثم باعوا وظائف سياسية
للمتعلمين من النبلاء وسكان المدن «البرجوازيين» ورجال
الكنيسة، وطلبوا أقساطًا مالية مقابل زيادة الضرائب
المباشرة على سكان المدن والفلاحين، وهكذا تشكَّلت
البدايات الأولى لبيروقراطية الدولة، الذين عنوا أساسًا
بحكم وظائفهم بجباية الضرائب وعمل تعداد سكاني، وطبيعي
أن أفاد المديرون الجدد من وظائفهم، كما أن النبلاء
الذين اشتروا وظائف تلقوا عوائد مالية مقابل الخراج
الإقطاعي سواء في شكل عيني أو عمل.
وكان تدخُّل الدولة أهم قسمة مميزة للسياسات
الاقتصادية خلال هذه الفترة، واستطاعت الدول المركزية
الجديدة أن تدعم تطوير الأسواق الداخلية لتشجيع تصدير
السلع ولتحصيل فائدة الاثنين، وعمدت دول كثيرة — خاصةً
إسبانيا والبرتغال وفرنسا وإنجلترا وهولندا — إلى رعاية
المشروعات الاستعمارية فيما وراء البحار، والتي خلقت
أسواقًا لتجَّارهم وصُنَّاعهم ووفرت عوائد لحكَّامهم،
وحظرت هذه الدول كذلك تصدير سبائك الذهب؛ إذ كانوا
يعتبرونها المصدر الرئيسي للثروة.
ولم يمضِ وقت طويل حتى استأجر حكَّام الدول الجديدة
محامين مدربين في الجامعات لاستكشاف وتحديد طبيعة
العلاقات الاجتماعية الجديدة التي أخذت تتطور نتيجةً
لهذه التغيرات، وكان هؤلاء الرجال دارسين للقانون
الروماني الذي أعطاهم نموذجًا لاستبيان مظاهر التمايز
بين المواطنين والرعايا، وطبيعة علاقة هؤلاء وهؤلاء
بالدولة، وكيفية تنظيم أنشطتهم وعلاقاتهم الاقتصادية
بين بعضهم بعضًا، وهؤلاء الموظفون هم أول من بدأ في صوغ
فكرة الحضارة.
٣
وفي ستينيات القرن السادس عشر بدأ المحلفون الفرنسيون
من أمثال جان بودان ولويز لوروي في تحديد المعيار،
وهؤلاء المحلفون هم من سلالة أسر تجار أغنياء بنوا
شهرتهم وثروتهم على أساس علاقتهم الوثيقة بالملك،
واستخدموا كلمتي تحضر
civilisé وتهذيب
civilite عند وصف
الناس ممن هم على شاكلتهم الملتزمين بالعمل وفق أشكال
سياسية معينة، وتكشف فنونهم ووسائلهم عن درجة من
الكياسة والسمو، ويعتبرون أخلاقهم وسلوكياتهم أرقى من
أخلاقيات وسلوكيات غيرهم من أبناء مجتمعهم أو المجتمعات
الأخرى، ولم يعتبروا الفلاحين في مجتمعاتهم من الحضريين
أو سكان الحضر، ومن ثم ليسوا على قدر من الكياسة أو
المدنية أو التعلم، ورأوا أن هذه الأوصاف تصدُق أيضًا
على السكان الأصليين الذين يعيشون في براري المستعمرات
الجديدة، ولهذا، ومنذ القرن الحادي عشر فصاعدًا، شاع
وصف هذه الجماهير أو الشعوب غير المتحضرة بأنهم أجلاف
سذج، أي سكان الريف المحكوم عليهم بسبب وضعهم المتدني
في المجتمع، بالغباء والخشونة وسوء السلوك.
٤
وحيث إن مثقفي التاج ضليعون في دراسات القانون
الروماني القديم منذ كانوا على ألفة بالكلمات الفرنسية
ذات الجذور اللاتينية مثل الكلمتين اللاتينيتين
civis، وتعني مواطن
مدني أو حر، و civilis،
وتعني مديني أو ما يخص المدينة أو الدولة أو يتصرف على
نحو ما ينبغي أن يكون سلوك ساكن المدينة، وغيرهما من
الكلمات المشتركة في جذر الكلمة، ونعرف أن الكلمات
اللاتينية في سياقها التاريخي نقلت مجموعةً من المعاني
المترابطة، ومن بينها: الزمالة بين أبناء المدينة،
القانون المطبَّق على المدنيين مع التزامهم به، والسلوك
بالنسبة للشخص أو المواطن العادي؛ والنطاق التشريعي
مقابل العسكري، والسياسة والارتباط بإدارة الدولة،
والطائفة المنظمة التي ينتمي إليها المرء كمواطن
للدولة، معنى هذا بعبارة أخرى أن الحضارة ركيزتها
الدولة وبنيتها متعددة الطبقات ويسودها القانون؛ وأن
المتعلمين فيها إما أنهم ينتمون إلى الطبقة الحاكمة، أو
يشغلون مناصب مهمة في جهاز الدولة.
التوسع فيما وراء البحار
صيغت فكرة الحضارة في سياق التوسع الاستعماري
الأوروبي فيما وراء البحار في أفريقيا وآسيا
والأمريكتين وأيرلندا، وجرى المصطلح على ألسنة
أبناء النخبة في الدول الأوروبية التي انطلقت في
مغامراتها هذه، واستهدفوا التمييز بين أنفسهم وبين
الشعوب التي التقوا بها، وما إن انتقل الأوروبيون
إلى ما وراء البحار حتى استخدموا التصنيفات الفئوية
الشائعة آنذاك، مثل عبارات: المتوحشين والهمج
والوثنيين والكفار والبرابرة … إلخ، لوصف أبناء
الشعوب الذين التقوا بهم ولا يعرفون الكتابة أو
أساليب إدارة الحكم المنظم، ولا التكوينات الطبقية
الاجتماعية، أو ليست لهم أماكن إقامة
مستديمة.
واتخذت إنجلترا من احتلالها واستعمارها لأيرلندا
في سبعينيات القرن السادس عشر نموذجًا لها
لمغامراتها الاستعمارية التالية في أمريكا
الشمالية، وكان هدف سير توماس سميث، وزير الخارجية
وتلميذ الإمبريالية الإسبانية، في الأمريكتين هو
تحويل أيرلندا إلى مستعمرة لاستغلال عمال أيرلندا،
أو جعل الأيرلنديين معتمدين بشكل دائم على
المستوطنين الإنجليز، واقتضى هذا إخضاع اللوردات
الأيرلنديين الذين يحكمون القطاع الأكبر من
الجزيرة.
لذلك كان الهدف السافر من مغامرة سميث
الاستعمارية تكوين تراتبية اجتماعية والحفاظ عليها،
بحيث يحتل المستوطنون الإنجليز قمة السلم
والأيرلنديون أدناه، وخطط لبلوغ هدفه هذا عن طريق
إخضاع الأيرلنديين اقتصاديًّا وسياسيًّا
واجتماعيًّا:
«سوف يكون محظورًا على أي
أيرلندي أن يرتدي أي لباسٍ إنجليزي، أو أن يحمل
سلاحًا بريطانيًّا، وإلا تعرض لأقصى العقوبات
وهي الإعدام، ومحظور على أي أيرلندي مولود من
سلالة أيرلندية، ونشأ تنشئةً أيرلندية أن يشتري
أرضًا، أو يتولى مسئولية عمل، أو أن يقع عليه
الاختيار ليكون محلفًا، أو أن يُسمح له
بالشهادة بالنسبة لأي إجراء أو تصرف واقعي أو
شخصي، ولا أن يتتلمذ لتعلُّم أي فن أو علم يمكن
أن يعرِّض رعايا جلالة الملكة للخطر.»٥
واستخدم سميث مفهوم الحضارة لتبرير هذه التصرفات
التي تتسم بالقسوة والإخضاع القسري، واعتقد سميث أن
الإنسان الإنجليزي هو الوحيد، شأن الرومان في
المجتمع الكلاسيكي القديم، الذي قدَّم للمستعمرة
نظام سيادة القانون والسلم والسلوك المهذب، وعنده
أن سكان أيرلندا خبثاء وبرابرة وغير متحضرين والبعض
إسكتلنديون والبعض أيرلنديون متوحشون،
٦ واستقر في نفسه حقيقة اعتقاد بأن من
المستحيل أن يصبح الأيرلنديون بشرًا متحضرين، لقد
كانوا بدوًا رُحَّلًا يرعون قطعانهم، ولهذا فهم
برابرة؛ ذلك لأن الشعوب المستقرة هم وحدهم يمكن أن
يتحضروا، علاوةً على هذا، فإن سميث الذي عاش في
وسطٍ صاغَته حروب الإصلاح الديني، رأى أن
الأيرلنديين أفضل قليلًا من الوثنيين أو الكفار حتى
وإن اعترفوا بأنهم كاثوليك.
وحوالي هذه الفترة نفسها، كان المبشر الجيزويتي
خوسيه دي أكوستا في بيرو يستكشف العلاقة بين الشعوب
المتحضرة والبرابرة والهمج في الأمريكتين. وصل
أكوستا إلى بيرو عام ١٥٧٢م، واعتقد أن التعاليم
المسيحية لم تُفد كثيرًا لاستئصال المعتقدات
والممارسات الوثنية لدى شعوب الإنديز، والحقيقة أن
لغة كويتشوا
Quechua، وهي
لغة البلاد الأصلية، ليس بها مفردات تساعد على نقل
دقائق المسيحية، وألَّف أكوستا في أواخر سبعينيات
القرن السادس عشر كتاب «طبيعة العالم الجديد»، وضع
فيه تصنيفًا فئويًّا للمجتمعات غير المسيحية
تأسيسًا على أنواع المعتقدات الوثنية التي يمارسها
أهلها وعلى طرق تحويلهم عن عقيدتهم، مثال ذلك أنه
لم تكن هناك ممالك غير مسيحية مثلما هو الحال في
الصين واليابان، والتي تعتمد على حكومات ولديهما
لغة مكتوبة، ورأى أن تحويل أبناء هذه العقائد إلى
المسيحية إنما يكون بالتعليم السلمي، وأشار إلى أنه
كان هناك برابرة أُمِّيين مثل شعوب الإنكا والأزتيك
ممن لديهم حكومات وأماكن إقامة دائمة، ولكن أهلها
يفتقرون إلى الذكاء وإلى القدرة على الاستدلال
العقلي الذي كان لدى قُدامى الإغريق والرومان،
ولهذا فإن تحويلهم عن معتقداتهم يستلزم وجود حاكم
مسيحي قوي يفرض عليهم اتباع الدين المسيحي، وهناك
أخيرًا الهمج مثل شعوب حوض الأمازون، الذين يفتقرون
إلى القوانين والحكومات والمستوطنات الدائمة، وليس
بالإمكان تحويلهم عن معتقداتهم إلا بالقوة، وهو ما
يستلزم التعاون بين الجنود والمبشرين.
٧
ولا ترجع أهمية كتاب أكوستا إلى تصنيفه الفئوي
لمن أسماهم شعوبًا غير متحضرة، وإنما إلى الوضع
الذي احتله بعد ذلك؛ إذ شغل منصب ممثل ملك إسبانيا
لدى البابا، واستحق بفضل وضعه وخبرته الواسعة
بالأمريكتين أن يكون المرجع المعتمد والمقروء على
نطاق واسع بشأن الثقافات الهندية الأمريكية من
ثمانينيات القرن السادس عشر وحتى عام ١٧٨١م، وأصبحت
آراؤه مقبولةً ومعتمدة كحقيقةٍ واقعة من قبل
الكتَّاب المعنيين بالشعوب الأصلية في المستعمرات
وبالشئون الاستعمارية، وذلك على مدى قرنين
تقريبًا.
فكرة التقدم
الغالبية العظمى من كتَّاب القرن السادس عشر لم
يكونوا يؤمنون بأن تصنيفات البشر إلى نماذج على هذا
النحو تمثل تطورًا تاريخيًّا أو تسلسلًا للأنساب
تطور على مر الزمن، ولكن على العكس؛ إذ ظلوا على
إيمانهم بصدق واحدة من نظريتَين متنافستَين: أن
البشرية انحطت في مسيرتها ابتداءً من عصر ذهبي مضى،
أو أن التاريخ، تأسيسًا على نبوءات كتاب دانييل،
ينقسم إلى أربعة عصور هي: عصور الإمبراطوريات
البابلية، والفارسية، والمقدونية، والرومانية، وأن
هذه الأخيرة سوف تبقى إلى يوم الدين، ولكن لوروي،
مستشار ملك فرنسا، كان على دراية بزعم أفلاطون بأن
البشر الأوائل كانوا عراةً يسكنون الغابات، واستخلص
ما بدا له استدلالًا واضحًا وهو أن مستوطني أوروبا
في قديم الزمان كانوا بالضرورة أجلافًا غير متحضرين
مثلهم مثل الهمج سكان الغابات اليوم الذين اكتشفهم
البرتغاليون والإسبانيون في أفريقيا والأمريكتين،
وجدير بالذكر أن لوروي في كتابه «عن النشأة الأولى
والعصور القديمة والتقدم والتفوق وفائدة الفن
السياسي» (١٥٦٨م) استخدم الفعل يتحضر
civilises لوصف
عملية التحول من الوضع البدائي الطبيعي إلى وضعٍ
أكثر تقدمًا تحقق بفضل التقدم الأخلاقي والفكري
والاجتماعي، واعتقد لوروي وغيره من مثقفي البلاط أن
الحياة الراهنة أرقى بشكلٍ أوضح من الحياة في الزمن
الماضي، وذهبوا إلى أن التغير عمليةٌ تراكمية تسير
في اتجاهٍ واحد ومستصوبة.
٨
وأفاد جان بودا، المفكر السياسي ومستشار ملك
فرنسا، من عقيدة التقدم هذه، واستخدمها ليفسر بها
من جديدٍ مسار تاريخ البشرية، ونراه في كتابه «كتب
الجمهوريات الست» (١٥٧٧م) يرفض النظريتين
المتنافستين، ويدفع بأن التاريخ البشري مقسَّم إلى
ثلاثة عصور كل منها أكثر تحضرًا من سابقه، وقال: إن
كل عصر تهيمن عليه شعوب منطقة جغرافية بذاتها،
فشعوب الشرق، البابليون والفرس والمصريون، تحققت
لهم الهيمنة على مدى الحقبة الأولى ومداها ألفا
عام، وذلك بفضل ابتكاراتهم في الدين والفلسفة
والرياضيات وقدرتهم على اكتشاف أسرار الطبيعة؛ أما
شعوب البحر المتوسط، أي الإغريق والرومان، فقد
انعقد لهم لواء السيطرة على الحقبة التالية وطولها
ألفا عام، وذلك بفضل معارفهم العملية ومواهبهم في
إدارة الدولة والسياسة. وأخيرًا ظهرت في الصدارة
أمم الشمال بفضل مهارتهم في الحروب وابتكاراتهم
الميكانيكية؛ معنى هذا أن بودا يعتقد بأن انتقال
مركز التاريخ البشري جاء نتيجة ظروف طبيعية تؤثر
على الشعوب بفضل ما لها من مظاهر قوة أو ضعف متباينة.
٩
وهكذا، وضع بودا وغيره ممن كتبوا عن التواريخ
العالمية أسس نظرية التطور التاريخي للحضارة
الغربية وهي النظرية المهيمنة اليوم: بدأت الحضارة
في الأراضي المقدسة، وانتقلت منها إلى اليونان
القديمة وروما، ثم بلغت أوجَها في أمم شمال أوروبا،
(وبعد ذلك الولايات المتحدة)، وحسب هذه النظرة، فإن
الوضع البشري تحسَّن ببطء، ولكن باطراد وثبات من
مرحلة إلى المرحلة التالية، ووسعت شعوب الشمال
الأوروبي (المجتمع الحديث) من إنجازات ومعارف
السلطات القديمة، وذلك عن طريق الملاحظة والتجربة
وليس الانتماء المتزمت لهذه الآراء، وأفادوا أيضًا
من الاختراعات، مثل البوصلة التي مكَّنتهم من توسيع
آفاقهم التي تجاوزت آفاق سابقيهم من البابليين أو
الرومان، وضمنت لهم هذه المخترعات وغيرها إنجازاتٍ
متقدمة في مجال التجارة، وأرست الأسس لعالم متوسع
أبدًا؛ حيث أصبحت الأمم يرتبط بعضها ببعض عن طريق
مشروعات الأعمال والتجارة وليس العقيدة.
١٠
العقل والعلم وبدايات الحداثة
اتسع نطاق فكرة التقدم على أيدي اثنين من مثقفي
التاج، أحدهما فرنسي والآخر إنجليزي، وذلك خلال حرب
الثلاثين عامًا (١٦١٨–١٦٤٨م) والحروب الأهلية التي
أعقبتها، اعتقد فرنسيس بيكون ورينيه ديكارت أن
العقل خاصية بشرية فريدة تمايز الناس عن الحيوانات
والطبيعة، وأوضحا أن الحيوانات والطبيعة آلات بغير
عقول، ويمكن وصفها رياضيًّا، وذهبا إلى أننا إذا ما
استخدمنا العقل على نحوٍ نَسَقِي منهجي فسوف يكون
يسيرًا علينا التخلص من الخرافة والتقليد، وأن
ننتصر على الطبيعة ونحسِّن من المؤسسات الاجتماعية،
وأن العقل مهارة مجردة لا تعتمد على أجسام بذاتها
لها بنيتها المادية؛ إنه أداة يمكن لأي إنسان أن
يطبقها إذا ما تعلم المنهج العلمي وفق
أصوله.
وتأسيسًا على البنية الطبقية القائمة آنذاك
ومحدودية التعليم، اعتقد بيكون وديكارت أن العقل
مجال النخبة، ومن ثم هم القادرون على الانتقال إلى
عصر جديد في تاريخ البشرية، عصر تكتسح فيه
العقلانية التقليد.
وإن بيكون، الذي عمل ذات يوم كاتبًا في المحكمة
الملكية الإنجليزية سيئة السمعة بسبب إجراءاتها
القاسية في التحقيقات، أكد أن استخدام العقل سوف
يحل المشكلات القانونية والسياسية التي تواجه رجال
الدولة، وسوف يجعل من العلم مشروعًا ملكيًّا يفيد
من غزو الطبيعة والانتصار عليها، وكان بيكون يؤمن
بقيام ملكية إمبريالية وأن العلم سوف يزود الملك
بعوائد مالية مما يعزز من قوة الدولة الإمبريالية،
وعرض في كتابه «الأداة الجديدة»
Novum Organum
(١٦٢٠م) اقتراحين للوصول إلى هذا الهدف، الأول:
مجموعة من الإجراءات التي نعرفها الآن باسم المنهج
العلمي، والتي تشبه قاضيًا ومحلفين يفحصون أكداسًا
من المعلومات بغية الوصول إلى الحقائق المتعلقة
بحالة بذاتها، والثاني: يقضي بإنشاء مجموعة من
مؤسسات الدولة التي تضم أعدادًا كبيرة من الناس،
وتكون مهمة البعض جمع المعلومات بطريقة منهجية،
ومهمة الآخرين ممن درسوا جيدًا المنهج العلمي
اكتشاف الحقائق وتأويل معناها.
١١
وأكد ديكارت أهمية العقل بأسلوب مختلف قليلًا،
ففي كتابه «مقال في المنهج» (١٦٣٧م) أشار إلى أن
أنصاف الهمج بدءوا في التصرف على نحوٍ عقلاني عندما
سنُّوا الشرائع والقوانين لتنظيم الجرائم
والمشاحنات، وأصبحوا عند هذا الحد «متحضرين»، أو
بعبارةٍ أخرى فإن استخدام العقل عملية تحضر، وأكد
بعد ذلك أن المجتمعات المتحضرة (أو الحديثة) تميزت
بأنها منظمة عقلانيًّا ومتفوقة على أسلافها
ومعاصريها الأدنى عقلانية؛ إذ استخدم أبناء
المجتمعات المتحضرة العقل هاديًا للتغيير والتقدم
على عكس البرابرة والمتوحشين في مجتمعاتهم السكونية المتخلفة.
١٢
ورأى كل من بيكون وديكارت أن نمو دور العقل هو
المحرك للتقدم، ومايَزَا بين الأمم الحديثة في شمال
أوروبا وبين أسلافها، وكذلك بينها وبين أمم الهمج
المعاصرة، حرر العقل الناس من قيود التقليد، وذهبَا
إلى أن تزايد أهمية دور العقل في شئون الشعوب
المتحضرة هو الذي عزز عملية التوسع إلى ما وراء
البحار والإبداع التِّقاني على نحو ما يبين في
إنجازات متقدمة مثل الطباعة والتنظيم العسكري
وأدوات الملاحة البحرية، وطبيعي أن نمو دور العقل،
أي زيادة عقلانية الشعوب المتقدمة، سوف ييسر، في
رأيهما، قهر الطبيعة، وسوف يؤدي هذا بدوره إلى
إطلاق عنان التغير السريع المفيد والمربح، وطبيعي
أن النظر إلى نمو دور العقل باعتباره القوة المحركة
للتقدم يعني أن المستقبل يَعِد المجتمعات المتحضرة
بفرصٍ غير محدودة للتقدم.
واستوعب موظفو ومثقفو التاج في القرن السابع عشر
هذا الرأي ومضوا به إلى غايته المنطقية: العقلانية
المبرَّأة من العواطف أو الأخلاق أو من الاعتبارات
البشرية هي السمة المميزة للحضارة الحديثة، وأن هذه
الحداثة هي الهدف الذي يتعين دائمًا العمل على
إنجازه، وما إن انعقد لهذه الرؤية لواء الهيمنة
سياسيًّا حتى بدأ استخدام الإجراءات والنماذج
العلمية المستحدثة في الفيزياء أو في الفلك بهدف
استكشاف العلاقات السببية في مجالات بحث أخرى بما
في ذلك دراسة المجتمع البشري، والملاحظ أن أنصار
هذه النظرة الميكانيكية إلى العالم بدءوا يعملون
وبشكلٍ متزايد على تصوير المجتمع في صورة آلة تشبه
ساعةً ضخمة، وهكذا انتزعوا المجتمع من سياقه
التاريخي، ومن ثم انتزعوا محتواه ومضمونه بعيدًا،
وأصبح المجتمع البشري تجريدًا خلوًا من أي سياق أو
مضمون. وهنا، ولهذا السبب، بدأ وضع المناقشات بشأن
المجتمع المدني والدولة والإنسان المتحضر داخل إطار
من المصطلحات المجردة والتي يزداد طابعها التجريدي باطراد.
١٣
الكياسة والمجتمع المدني والدولة
في القرن السابع عشر عمد رجال الحكم ومن
استخدموهم من المثقفين إلى الربط بين فكرتي الكياسة
والمجتمع المدني وبين أسطورة الحكم،
١٤ كانت أفكارهم مشروعًا أيديولوجيًّا
أفاد في وضع صبغة شرعية على أنواع الدولة التي بدأت
تظهر في غرب أوروبا؛ فالمجتمع المدني حسب رأيهم لا
يزدهر إلا حيث ومتى كانت هناك حكومة، معنى هذا أن
النشر والإعلان عن القوانين الخاصة بتنظيم الجريمة
والمنازعات يمثل، كما اقترح ديكارت، جوهر عملية
التحضر الاجتماعي، واعتقد ديكارت ومعاصروه أنه دون
حكومة سوف ترتد المجتمعات، بما في ذلك الشعوب
المتحضرة، إلى حالة الهمجية، وتلزم عن هذا نتيجة
منطقية وهي أن التفوق الأوروبي مردُّه تحديدًا إلى
نظام الحكم والوسط الاجتماعي الذي يعزز تطور الفنون
والعلوم، وأنه دون الحكومة سوف يتوقف محرك التقدم،
بل وسوف يرتد إلى اتجاهٍ معاكس.
واستخدم مفكرو الدولة في إنجلترا، ومن أبرزهم
توماس هوبز وجون لوك، أسلوبًا منطقيًّا (وليس
تاريخيًّا) لوضع تصور جديد لحالة الطبيعة بغية وصف
العلاقات بين الحكومة والقانون والمجتمع المدني،
وهكذا نجد هوبز في كتابه «التنين» (١٦٥١م) يصور
الوضع الطبيعي للبشرية باعتباره حالة حرب، حيث
الحياة حياة ارتحال منفرد ووحشية وحياة قصيرة، وكان
البشر في هذه الحالة الطبيعية أفرادًا منعزلين عن
بعضهم، لا تحركهم سوى الحاجة إلى إشباع شهواتهم
الطبيعة والانفعالية، ولم يكن ثمة مخرج للخلاص من
هذا الوضع المؤسف (الذي تصور أنه يشبه وضع
المجتمعات الهندية الأمريكية) سوى العمل على
استتباب حالة من الأمن والسلم، وهذا بدَوره لا يمكن
أن يتحقق إلا إذا تسنى الانتصار على الأفراد
وهزيمتهم أو أن تئول السلطة إلى من ينعقد له لواء
السيادة ويستطيع بدوره أن يكفل الأمن والسلم والعدل
والسلوك الحسن، وذهب هوبز إلى أن المجتمع المدني
تشكَّل عن طريق تأسيس الحكومة التي هيأت القوانين
وصاغت لمواطنيها أشكال السلوك الملائم، وهكذا خلق
المجتمع المدني الظروف والشروط اللازمة لتطوير
الصناعة والفنون والمعارف.
١٥
وقدَّم لوك نظرةً بديلة عن بداية ونشأة المجتمع
المدني والدولة في كتابه «رسالة ثانية عن الحكم»
(١٦٩٠م)، وذهب إلى أن عملية تراكم الملكية بدأت
أثناء سيادة الحالة الطبيعية، وأن الرغبة في
التراكم كانت جزءًا من الطبيعة البشرية، ورأى أن
غرض المجتمع السياسي، أي الدولة، هو الحفاظ على
الحق الطبيعي للبشر في الحياة والحرية والملكية،
والتي تراكمت على مدى تاريخ البشرية، وهكذا اعتقد
لوك، على عكس هوبز، أن المجتمع موجود قبل اتفاق
البشر على الانتقال إلى العمل من خلال الحكم على
تنظيم حق فرض القانون والنظام وحماية المجتمع ضد
العدوان، وإذا ما أراد البشر الإفادة بميزة
المواطنة المدينية، التي هيأت للمواطنين المسئوليات
والحقوق والسلطات، فلا بد وأن يتوفر لديهم وقت
فراغ، وأن ينالوا حظًّا من التعليم، وحسب هذه
النظرة، فإن المجتمع المدني حافظ على تقاليد
المجتمع السياسي، ولقد كان المجتمع السياسي هو
القيِّم المسئول عن السلوك والأخلاقيات والمعارف
الملائمة للمواطنين الملزمين بفهم واحترام القانون
وتطوير حسٍّ بالهوية المشتركة بغية سن التشريعات
اللازمة لكي تسمح لهم بتطوير مصالحهم هم الذاتية،
والتي كانت بطبيعة الحال: الحياة والحرية والسعي من
أجل الملكية (أو السعادة وفقًا لمواثيق إعلان الاستقلال).
١٦
ولقد كان من الأهمية بمكانٍ بالنسبة لرجال الدولة
الرسميين والعاملين معهم من المفكرين أن يبين لهم
كيف يمكن للفرد أن يسلك ويعمل في شراكة مع الآخرين،
ويمثل هذا جوهر الكياسة؛ ذلك أن الكياسة تحدد قواعد
السلوك التي يلتزم بها المواطن الصالح، كما تحدد
شروط الانتماء إلى الأوساط الداخلية للسلطة،
ونتيجةً لهذا، عني لوك عنايةً فائقة بمسألة التعليم
وبيان كيف تنتقل المثل العليا للفضيلة والصناعة
والشهرة إلى الجيل الجديد من أبناء الطبقات الراقية
بغية إعدادهم للحياة في مجتمعٍ مهذب، ولكن الخطوط
الإرشادية العامة التي صاغها استهدفت تشكيل
العلاقات المتبادلة بين المواطنين، وليس علاقات تلك
الطبقات أو الناس الموجودين خارج دوائر السلطة.
١٧
الاقتصاد السياسي والفلسفة الأخلاقية
والتنوير
دفع كثير من فلاسفة القرنين السادس عشر والسابع
عشر بأن الدولة كانت ضرورةً لحفظ النظام الاجتماعي
الذي سمح بدوره بازدهار الكياسة والعقل، ولكن وسيلة
المفكرين في وصف أصول المجتمع المدني وعلاقته
بالدولة بدأت تتغير مع مطلع القرن الثامن عشر،
ويصدق هذا بوجهٍ خاص في إسكتلندا التي كانت تتعرض
لتغير اجتماعي مكثف وشامل، ذلك أن شعوب الأراضي
العليا كانت قبل الاتحاد مع إنجلترا عام ١٧٠٧م
تنتظم في صورة عشائر تربط بين أعضائها رابطة الدم
ويعيش سكانها أساسًا على الزراعة وصيد الأسماك أو
قنص الحيوانات، معنى هذا أنهم كانوا يعيشون حياة
اقتصاد الاكتفاء الذاتي وينتجون السلع التي يحتاجون
إليها، ولهذا لم يكونوا مضطرين إلى شراء ضروراتهم
من السوق، بيد أن هذا المجتمع بدأ يتهاوى بعد
الاتحاد؛ إذ بدأ رؤساء العشائر يبيعون قطعانهم
ويحولون أراضيهم الزراعية إلى مراعٍ والتخلي عن
قرابة الدم والجوار أثناء عملية التحول، واضطر
المعدمون الجدد، حرصًا منهم على البقاء على قيد
الحياة، إلى جمع وبيع عشب البحر، أو البحث عن عمل
مأجور في مصانع النسيج الجديدة، وسرعان ما تحول
أسلوب الحياة القديم وحل محله مجتمع مرتكز على
التجارة والصناعة.
وحاول رجال الدولة الرسميون الإسكتلنديون، وكذلك
المفكرون العاملون لدى الدولة من أمثال دافيد هيوم،
وجيمس ستيوارت، وآدم سميث أن يفسروا هذه التغييرات
على أساس الفصل بين السياسة والاقتصاد، مثال ذلك أن
هيوم رأى أن الدولة عنصر ضروري للمجتمع لتنظيم
العلاقات الاقتصادية بين الناس عن طريق فرض مبادئ
العدالة، والتي يفهمونها بأنها تعني حماية الملكية
والتجارة والعقود، بيد أنه تساءل أو تشكك في حكمة
سياسات الدولة، مثل التعريفات الجمركية، وأوامر
الحظر واللوائح التنظيمية لخلق ميزانٍ تجاري
مُواتٍ، واختص بالبحث والتساؤل هذه المسائل التي
رأى أنها تتداخل مع التجارة الدولية التي اعتقد
أنها أهم وسائل الدولة لزيادة ثروة البلاد وأساس
التقدم الاقتصادي، وأيَّد تطوير الصناعة والتجارة؛
لأنهما ستحفزان الإنتاج الزراعي، وتوسعان من نطاق
الاستهلاك، وتدعمان عمليات التهذيب الفكري
والثقافي، وتعززان سلطة الدولة ذاتها.
١٨
ودفع جيمس ستيوارت، المعاصر لهيوم، بأن الدولة
وليست السوق هي مصدر التقدم الاقتصادي، وذهب إلى أن
الفقراء لا حول لهم ولا طول في اتخاذ قرارات
لصالحهم؛ لهذا حريٌّ بالدولة أن تؤمِّن تراكم
الثروة، وتصون التراتبية الاجتماعية القائمة،
واقترح وسيلةً لتحقيق ذلك:
«لا شيء مستحيل على رجل
الدولة القدير؛ إذ طالما كان الناس على استعداد
لقتل زوجاتهم وأطفالهم، وإحراق أنفسهم دون أن
يستسلموا ويخضعوا لعدو أجنبي، وطالما كان
بوسعهم الاقتناع ببذل أقصى وأثمن جهودهم وحليهم
ونفائسهم من الذهب والفضة في سبيل دعم ومساندة
قضيةٍ مشتركة … فإنني أتجاسر وأقول إنه لا شيء
يستحيل إنجازه إذا عرفنا كيف نسوس وندير روح
الناس على النحو الصحيح.»١٩
وصاغ آدم سميث، شأن كثير من معاصريه في إسكتلندا،
رؤيةً تاريخية رأى أنها تفسر صعود المجتمع التجاري،
وفي رأيه أن التقدم الاجتماعي كان عمليةً طبيعية
لها قانون يحفِّز حركتها، وأنه مرتبط بتغيرات في
نمط إنتاج أسباب العيش، ودفع سميث بأن المجتمعات
الأولى تألفت من أعدادٍ صغيرة من الأفراد زودوا
أنفسهم بما يحتاجون إليه عن طريق الصيد ونهب الطعام
من مصادر مختلفة، وبعد أن زاد عددهم عمدوا إلى
استئناس الحيوانات واحترفوا تربية قطعان المواشي،
وزاد عددهم أكثر فأكثر، وهنا تحولت المجتمعات
المستقرة في بيئات مواتية ومعتدلة الحرارة إلى
احتراف الزراعة، وأفضى هذا إلى زيادةٍ مهمة في
تقسيم العمل بين صناع حرفيين كفُّوا عن إنتاج
طعامهم بأنفسهم، واستقروا في المدن لمتابعة حرفهم
ومقايضة سلعهم أو بيعها نقدًا، وتمثلت نقطة النهاية
لهذه العملية فيما يشبه المجتمع التجاري والمدني
الذي كان قد بدأ يظهر في كثير من البلدان الأوروبية.
٢٠
ورأى سميث أن المجتمع البشري انتظم على نحو ما
ينتظم المصنع، وأن تزايد تقسيم العمل الذي يمثل
خاصيةً مميزة للمجتمع التجاري في أوروبا ظهر نتيجة
استعداد البشر الفطري للمقايضة والمبادلة، وأفضى
هذا الميل إلى إحكام تفاصيل عملية تقسيم العمل وإلى
تغيرات في نمط الإنتاج، وهي تحولات اقترنت بصعود
المجتمع التجاري.
وجاء المجتمع التجاري كنتاجٍ لعلاقة مركَّبة بين
السياسة والاقتصاد، وأجرى سميث دراساتٍ تاريخية
حفَّزته إلى الاعتقاد بأن «اليد الخفية للسوق»، وهي
جهد البشرية المطرد لخلق شبكة متزايدة الكثافة من
العلاقات الاجتماعية عن طريق التبادل، إنما تعمل
فقط حين يكون التبادل ممكنًا ومتحررًا قدر الإمكان
من سيطرة الدولة، بيد أن الدولة لازمة لحفظ النظام
الاجتماعي وضمان الاستقرار اللازم لتوسيع نطاق
تقسيم العمل، ومن أجل تراكم رأس المال وحماية
الأشكال المختلفة للملكية العقارية التي ظهرت مع
المجتمعات التجارية، وطبيعي أنه في مجتمع مقسم إلى
طبقات، فإن من يحظون بأكبر قدر من الحماية هم أبناء
الطبقة المحظوظة أكثر من سواها، وحيث إن الحكومة
أصبحت أكثر فأكثر هي نطاق هذه الطبقة، فإنها لم تعد
أقل استجابةً فقط لمشاعر الطبقات الأخرى، بل أصبحت
أكثر فأكثر أداةً لقهرها.
٢١
وبينما اعترف سميث بالتناقضات الملابسة لدور
الدولة في المجتمع التجاري، إلا أنه شايع في
النهاية شكلًا للحكم من شأنه، حسبما رأى، أن يكفل
النظام والسلام الاجتماعيَّين بدلًا من حكم من شأنه
أن يخفف من وطأة ظروف الطبقات العاملة، وذهب إلى
أنه لكي يحدث نمو اقتصادي يتعين حماية الحريات
الفردية وضمان تآزرها، كما يتعين توفير أكبر قدر من
الحرية للنزعات الطبيعية لدى البشر من أجل المقايضة
والمبادلة، ودفع بأن هذا الوضع تحقق على أحسن ما
يكون عن طريق نظام حكم متصل بين السلطتين القضائية
والتنفيذية، وأن هذا بدوره يدعم مسيرة التقدم في
التجارة والصناعة مع الحفاظ على الحرية والأمن
الشخصيَّين وسيادة القانون، بيد أن هذا أيضًا سوف
يعزز التراتبية الاجتماعية القائمة، حيث تظل
الطبقات الفقيرة غير المتعلمة في قاع المجتمع،
بينما الطبقة الثرية المتعلِّمة في القمة.
الحضارة والصناعة والتقدم
سكَّ رجال الاقتصاد السياسي الفرنسيون
والإسكتلنديون كلمة حضارة في ستينيات وسبعينيات
القرن الثامن عشر بهدف تفنيد اتهام جان جاك روسو
الزاعم بأن الناس فسدوا أخلاقيًّا بسبب الحياة في
مجتمع متحضر، وأن الوضع الإنساني لم يتحسن لدى شعوب
دون شعوب بسبب تحصيلهم مزيدًا من التعليم ولا حتى
الرغبة في أن يكونوا أحسن من سواهم، واعتقد رجال
الاقتصاد السياسي أن «المجتمع التجاري المعاصر هو
أرفع وضع يمكن أن يتطلع إليه إنسان، وأن مثل هذا
المجتمع هو نتاج ممكن، ممكن لجميع الشعوب في أي
مكان، لعملية تاريخية محددة وذكية وخاضعة لدرجة من السيطرة.»
٢٢
وفي ضوء هذا الاستعمال لكلمة حضارة، أصبح المجتمع
المهذب أو المدني متمايزًا عن سواه وإن ظل معتمدًا
على الدولة، وجدير بالذكر أن أول استعمال للكلمة
(عام ١٧٦٦م) أفاد بأنه «حين يصبح شعب همجي متحضرًا،
يجب ألا نضع حدًّا ونهايةً لعملية التحضر بأن نفرض
قوانين جامدة صماء غير قابلة للتغيير أو الإلغاء،
وإنما يجب علينا أن نجعلها تبدو وكأن التشريع
المسبغ عليها يعبر عن عملية تحضُّر مطردة.» وبعد
ذلك بعامٍ كتب آبي بودو Abbé
Buedeau: «إن ملكية الأرض،
تشكل خطوةً مهمة في اتجاه أكمل شكل للتحضُّر.» وفي
عام ١٧٧٠م كتب جويوم راينال
Guillaume
Raynal: «الناس الذين بزُّوا
كل من سواهم لما تميزوا به من صقل وتهذيب (تحضروا
أو متحضرين) هم التجار.» وفي عام ١٧٧٣م، أكد بارون
دوهولباخ:
«تتحضَّر الأمة من خلال
التجربة، الحضارة الكاملة للشعوب وللقادة الذين
يحكمونها، وكذلك الإصلاحات المطلوب إدخالها على
نظم الحكم والأخلاق والانتهاكات لا يمكن إلا أن
تكون ثمرة عمل ممتدٍّ قرونًا، ونتيجة جهود
دءوبة تبذلها الروح البشرية علاوةً على التجارب
المتكررة للمجتمع.»
٢٣
معنى هذا، بعبارةٍ أخرى أن الحضارة من خلق البشر،
وتتضمن تطوير وضعهم الاجتماعي مع تشذيب قدراتهم
الفكرية.
وسرعان ما أصبحت الفكرة والكلمة جزأين من بنية
المفردات الجارية على لسان المثقفين الفرنسيين
والإسكتلنديين، حتى إنه في عام ١٧٩٢م أنجب نائب
فرنسي طفلةً فأطلق عليها من باب التفاؤل اسم
«حضارة»، وفي مطلع القرن التاسع عشر بدأ المفكرون
يرون أن الحضارة تجمع ما بين كونها عملية ووضع
منجز، وتتميز بخصائص النظام الاجتماعي والأخلاقيات
المشذبة والسلوك المهذب، علاوةً على التراكم
المعرفي، وأضحت تعكس تطور كلٍّ من الوضع والعقل
الإنسانيَّين، ولكن مع نهاية العقد الثاني من القرن
التاسع عشر تساءل المعلقون الفرنسيون عما إذا كان
ثمة شيء يمثل التقدم على طريق حضارة كونية، أم أن
الحضارة هي نتاج شعوب أو أمم بذاتها في أزمنة
وأماكن مختلفة، وسرعان ما أدت صياغة السؤال على هذا
النحو إلى عقد مقارنات بين حضارات الماضي والحاضر،
ودارت حوارات بشأن حضارات قدامى الإغريق وفرنسا
الحديثة أو أوروبا النهضة،
٢٤ وشاع استعمال كلٍّ من الكلمة
والفكرة.
وبحلول عام ١٨٣٠م، تجلَّت بوضوحٍ في بلدان غرب
أوروبا التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن
تزايد أهمية التصنيع؛ إذ انتشرت على الساحة من جنوب
إسكتلندا ووسط إنجلترا وحتى وادي الرور المصانع
المنتجة للسلع اللازمة للسوق المحلية والخارجية،
وأدت الزيادة السريعة في السكان إلى حفز الطلب على
كل من الملابس والسلع الأخرى المعروضة في الأسواق،
وامتدَّت الطرق فزادت على سبيل المثال في إنجلترا
من ٢١٠٠٠ ميل عام ١٨٠٠م، إلى ١٧٠٠٠٠ ميل عام ١٨٥٠م،
وأصبح الناس يتحركون ويتنقلون على نطاق واسع غير
مسبوق؛ إذ هاجر أربعة ملايين أوروبي إلى الأمريكتين
فيما بين عامَي ١٨١٦م و١٨٥٠م، وانتقل عدد أكبر من
هؤلاء ما بين بلد أوروبي وآخر.
٢٥
واستخدم المفكر الاشتراكي الطوباوي الفرنسي هنري
سان سيمون مصطلح المجتمع الصناعي لوصف النظام
الاجتماعي الجديد، وتقضي وجهة نظره بأن النظام
الصناعي، غير أشكال الإنتاج السابقة عليه، أقيم حول
مؤسسات المجتمع المدني وليس الهياكل السياسية
المركزية للدولة، لذلك كان المجتمع المدني والدولة
منفصلَين، ووظيفة السياسة إقامة توازن بين المؤسسات
الاقتصادية والسياسية والحفاظ على هذا التوازن،
ونظرًا لأن المجتمع الصناعي منظم على أساس تراتبي،
ظهر من أكد أن التنظيم الاجتماعي يتعين أن ينبثق عن
مركزٍ أخلاقي، أي عن نخبة مؤلَّفة من العلماء ورجال
الصناعة، ويقوم هؤلاء المهندسون الاجتماعيون
بالإشراف على عمليات التخطيط والتنظيم والإنتاج.
٢٦
وجدير بالذكر أن بعض أفكار سان سيمون سبق أن
تناولها بالدراسة سكرتيره السابق أوجست كونت، والذي
أصبح فيما بعد مؤسس المذهب الوضعي وعلم الاجتماع
الحديث في القرن التاسع عشر، ارتاع كونت بسبب
تصرفات الثوار الفرنسيين الذين هاجموا القيَم
التقليدية للسلطة والأخلاق والدين والأسرة، وكان
هدفه تجديد الحضارة الأوروبية، بيد أنه أدرك
استحالة العودة إلى النظام القديم بسبب التغيرات
الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت، وبسبب العلاقات
الاجتماعية الجديدة التي نشأت واستقرت بدلًا عن
سابقتها، وبات لازمًا أن يأتي الدافع إلى التجديد
من الحكومة، ذلك لأن مفكريها (الذين لم يعودوا
يعملون مستخدمين لدى الملك، بل أصبحوا يمثِّلون
الطبقات الوسطى البازغة) هم أفضل من يستطيع بحكم
موضعهم الجديد أن يدعموا الأخلاق، وأن يفرضوا
الطاعة ويحفظوا النظام الاجتماعي.
٢٧
ويرى كونت أن مفكري الدولة من شأنهم كذلك، بفضل
تصرفاتهم وسياساتهم أن يعززوا تطور الحضارة
المرتكزة على التقدم، وذهب أيضًا إلى أن الحضارة
الأوروبية الغربية تحتل موقع القمة في تراتبية
المجتمعات التي يمتد تاريخها إلى زمن ماضٍ حيث كان
وضعها يتفوق بالكاد على وضع مجتمع من القردة العليا،
٢٨ ولكي يتحقق تقدم، يجب أن يسود نظام
اجتماعي، وأدى التقدم الحادث إلى مزيد من التضامن
والتلاحم لبنية المجتمع، مما سمح له بالازدهار،
ولهذا يتعين على الطبقات الدنيا في غرب أوروبا أن
ترضى بواقع أن تبعيتها الاجتماعية إنما هي نظام
فرضته الطبيعة، ومن ثم تعترف بتفوق حكامها.
التطور الاجتماعي والحضارة
دخل التصنيع طورًا جديدًا خلال خمسينيات وستينيات
القرن التاسع عشر في كل من أوروبا والولايات
المتحدة، وتميز بإنتاج الصلب على نطاق كبير، والذي
استخدم لصناعة قضبان السكك الحديدية والقاطرات
والآلات المستخدمة آنذاك لإنتاج سلعٍ أخرى، ودعم
تركز وتمركز رأس المال ارتفاع كلفة هذا الشكل من
الإنتاج، ونذكر أن نفقات الحكومة الفيدرالية في
الولايات المتحدة خلال وعقب الحرب الأهلية أسهمت في
تراكم رأس المال، مما هيأ إمكانية للتطور الصناعي
الكثيف، وكان منتصف القرن التاسع عشر أيضًا فترة
توسع إمبريالي، مثال ذلك أن المكسيك فقدت حوالي نصف
أراضيها لحساب الولايات المتحدة نتيجة حرب انتهت
عام ١٨٤٨م، وجرى تحت شعار «المصير الواضح» تصوير
التوسع غربًا بأنه تحقيق لمشيئة ربانية على أيدي
أبناء شعب مختار ومتفوق عرقيًّا، المسيحيون البيض
الأنجلوساكسون؛ إذ اختارهم الله للانتصار على
الطبيعة ونقل الحضارة إلى القبائل الهندية التابعة
المقيمة عند الحدود وفي داخل الأقاليم الهندية.
٢٩
واعتقد كثير من المفكرين في غرب أوروبا وفي
الولايات المتحدة أن تفوق الحضارة نتاج العملية
الطبيعية للتطور الاجتماعي، معنى هذا أن المجتمعات
الصناعية التي يتزايد تعقُّد بنيتها خلال القرن
التاسع عشر قد تطورت ببطء وباطراد وعلى نحوٍ مختلف
عن المجتمعات الأبسط تركيبًا في الأزمنة السابقة،
٣٠ ودفع التطوريون الاجتماعيون من أمثال
هربرت سبنسر في إنجلترا أو لويس هنري مورجان في
الولايات المتحدة بأن كلا العالمَين الطبيعي
والبشري يخضعان لقوانين التطور ذاتها، وهي قوانين
لا تقبل التغير، وحددوا التقدم بأنه تغير هادف،
عملية بطيئة ومطردة بثبات وتتكشف على نطاقٍ عالمي،
بيد أنهم اعتقدوا بأن التطور غير متساوٍ بمعنيَين
اثنين؛ فالمجتمعات والسلالات المختلفة تتقدم بسرعات
مختلفة، وأن وتيرة تطور مجتمع بذاته تختلف باختلاف
مراحل تطوره، ومايزوا بين المجتمعات المتحضرة وبين
تلك التي تفتقر إلى مؤسسات الدولة والهياكل
الطبقية، وزعموا أن الأولى أسمى أو أكثر تقدمًا من
الثانية، واستخدموا هذا الزعم لتأسيس ودعم زعم آخر:
أن هناك تراتبيات هرمية اجتماعية وثقافية
وعِرقية.
واكتسبت هذه الفكرة أنصارًا كثيرين مؤيدين لها
داخل الأقطار الصناعية في غرب أوروبا والولايات
المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، وتأسست الفكرة
في صورة اعتقاد بأن مثل هذه التراتبيات هي نتيجة
طبيعية للتطور، ومن ثم التقدم، واعتقدوا أيضًا أن
بلدان شمال أوروبا والولايات المتحدة هي أكثر الأمم
تقدمًا: حتى إن أحد خريجي جامعة ييل دفع بأن
الأوضاع المميزة التي عززت نشوء وتطور أسمى مستويات
الحضارة إنما توجد فقط في الأنحاء المحيطة بكليته
الأم.
والجدير بالذكر أن لويس هنري مورجان الذي كان
معنيًّا أساسًا بتطور المجتمع البشري، رأى أن
التعاقب التطوري من الحالة الهمجية وعبر البربرية
وصولًا إلى الحضارة إنما يمثل قانونًا عامًّا
للتاريخ البشري؛ معنى هذا أن المجتمع البشري لم
يتطور فقط على هذا النحو، بل ما كان له أبدًا أن
يتطور على نحوٍ آخر، وجاء التقدم، أي الحركة من
مرحلة إلى المرحلة التالية لها، نتيجة الإبداعات
التكنولوجية التي حولت أنماط العيش والمؤسسات
الاجتماعية المرتبطة بها لزومًا، ولكن، بينما اعتقد
مورجان بأن التقدم العلمي حتمي ومفيد في نهاية
الأمر، ذهب أيضًا إلى أن صعود الحضارة دمَّر شيئًا
قيِّمًا: وهو قيم شعوب الماضي والحاضر الذين لم
يعرفوا لا حافز التملك ولا حافز الربح.
٣١
ولكن هربرت سبنسر وأشياعه لم يضعوا مثل هذا
التمييز الواضح بين كلٍّ من المجتمع البشري
والطبيعة والكون؛ إذ اعتقدوا أنهم جميعًا خاضعون
للقوانين الصارمة والأبدية ذاتها، ورأوا نتيجةً
لهذا أن تطور المجتمع البشري، أي ظهور الحضارة، ليس
إلا وجهًا واحدًا لنزوعٍ عامٍّ نحو التقدم في الكون
كله، وحذوا حذو مورجان، وفسروا التقدم بأنه تغير
هادف في اتجاه واحد، حركة بطيئة متصلة ومطردة من
البسيط إلى المركب، وتتميز بالزيادة المطردة لمظاهر
الاختلاف على نحو ما تحول التجانس إلى تغاير، واتسم
التقدم في النطاق البشري بزيادة تقسيم العمل
والاعتمادية المتبادلة وظهور النزعة الفردية،
واعتقدوا أن هذه العملية شكَّلتها مكونات إيكولوجية
واجتماعية واسعة للبيئة، وهي التي حددت الخصائص
الفيزيقية والعقلية البشرية، تأسيسًا على السماح
باستعمالها أو تقييدها، واعتقدوا كذلك أن تصنيع
بلدان الغرب الإمبريالية سمة مميزة لأوج أو اكتمال
السعادة البشرية.
٣٢
ووضع سبنسر خطًّا حادًّا فاصلًا مايز بين الإنسان
البدائي والمتحضر، ففي رأيه أن سلوك وعواطف عقل
الإنسان البدائي مختلفة عن نظيرتها لدى الإنسان
المتحضر؛ إذ كانت تعكس وبشكل وثيق البيئة الطبيعية،
ورأى أن البدائيين افتقروا إلى الفضول المعرفي وإلى
الخيال وإلى القدرة على التفكير المجرَّد؛ ونزعوا
إلى السلوك وفق ما تمليه دوافعهم، وكانوا نافرين من
الحياة الاجتماعية مع الالتزام الراسخ بالتقليد،
وسبب ذلك، في رأي سبنسر، أنهم يمتلكون جهازًا
عصبيًّا أبسط تركيبًا، وذلك نتيجةً لأسلوب حياتهم
الهمجية، ولكن الإنسان المتحضر فهو على النقيض من
كل ما افتقر إليه البدائي: فضولي، وصاحب خيال،
ويملك قدرةً على الفكر المجرد؛ وكان اجتماعيًّا
وقابلًا للتغيير، ورأى سبنسر أن الطفل المتحضر يعيد
بإيجاز خلال مرحلة النضج، جميع السمات الفيزيقية
والعاطفية والفكرية التي كانت تميز الإنسان
البدائي.
الداروينية الاجتماعية والحضارة
حظيت آراء سبنسر بنفوذٍ كبير جدًّا في كل من
الولايات المتحدة وأوروبا، وبدا هنا نوع من
المصادقة العلمية على المعتقدات التي اعتبرت
الفوارق بين الأفراد والمجتمعات والأعراق والأمم بل
وبين الشركات، إنما هي فوارق ضاربة بجذورها في
الطبيعة، وفسرت هذه الأيديولوجيا، التي عُرفت باسم
الداروينية الاجتماعية، العالم في ضوء البقاء للأصلح،
٣٣ وكان لها نفوذها الكبير فيما بين
ثمانينيات القرن التاسع عشر والحرب العالمية
الأولى، وأعيد إحياؤها ثانيةً في سبعينيات القرن
العشرين تحت اسم البيولوجيا الاجتماعية، وإذا كانت
الداروينية الاجتماعية ليست هي نظرية شارلس داروين
نفسها عن التطور البيولوجي، إلا أن النظريتين
مبنيَّتان على آراء توماس مالتوس.
اعتقد الداروينيون الاجتماعيون أن جميع الموجودات
ابتداءً من الكائنات العضوية الحيوية، وحتى
المجتمعات البشرية تقدمت طبيعيًّا من الأدنى إلى
الأرقى أو إلى أكثر الأشكال تقدمًا، وافترضوا
أنواعًا متباينة من التراتبيات الهرمية لتصوير أو
لتمثيل العلاقات التطورية للكائنات العضوية الحية
أو المجتمعات البشرية، ونجد في المنطق الدوري
لآرائهم أن الأشكال «الأصلح» تحتل قمة هذا
التراتبيات، وهو ما يعني أنها إما الأكثر كمالًا،
أو أنها أكثر تقدمًا على سلَّم التطور، مثال ذلك أن
شارلس داروين نفسه أشار إلى أن «أمة ما أنتجت على
مدى فترة طويلة من الزمن أكبر عدد من البشر ذوي
المستوى الرفيع عقلًا وطاقة وحماسة وشجاعة ووطنية
وأريحية، سوف تكون لها السيادة بعامة على أمم دونها
حظًّا.» (أي أقل تحضرًا)،
٣٤ وجدير بالذكر أن سفيرًا للولايات
المتحدة لدى إنجلترا، أعلن في مطلع العقد الرابع من
القرن التاسع عشر أن «العِرق الأنجلوساكسوني الذي
انحدرنا منه نحن الأمريكيين، لم يتجاوزه أحد في
تاريخ الوجود.»
٣٥ وزعم جون د. روكفلر، وهو دارويني
اجتماعي حتى النخاع، أن «نمو مشروعات الأعمال ليس
إلا بقاءً للأصلح … إنه مجرد إنفاذ لقانون الطبيعة
وقانون الرب.»
٣٦ وهكذا، رتب الداروينيون الاجتماعيون
الأمم والأعراق والشركات في تراتبيات هرمية.
ويردد الداروينيون الاجتماعيون أصداء نظريات
هربرت سبنسر وشارلس داروين، وذلك باعتقادهم أن
الحضارات ابتدعها أبناء النخبة الذين نجحوا في
معرفة كيف يهيمنون على الطبقات والمجتمعات التابعة،
وتناغمت آراؤهم في الولايات المتحدة حتى كادت أن
تتطابع مع آراء السياسيين ورجال الأعمال الذين
شيدوا المتاحف وشملوا برعايتهم الأسواق العالمية،
واستخدموا قالب المجتمع الهندي الأمريكي غير
المتحضر والمتجانس «خطًّا أساسيًّا لقياس مدى
التقدم المادي الذي حققوه هم».
٣٧
واستُخدمت أيديولوجيا الداروينية الاجتماعية
لإضفاء مشروعية علمية على البِنية الطبقية القائمة
والتراتبية الاجتماعية السائدة، واستخدمها
الأمريكيون في الولايات المتحدة لتبرير مزاعم
التفوق الأنجلو-أمريكي ومشاعر معاداة الهجرة إلى
الشمال، وكذا لتبرير السياسات العنصرية في الجنوب،
وبررت أيضًا النداءات من أجل شن حروب إمبريالية،
وهي تلك الحروب التي بدأت أول ما بدأت ضد
الأمريكيين من أبناء البلد الأصليين في الأقاليم
الهندية، ثم بعد ذلك لاكتساب أراضٍ جديدة في منطقة
الكاريبي والمحيط الهادي، وأضحت عقب الحرب العالمية
الأولى أساسًا لتشريعات الكونجرس التي فرضت القيود
على الهجرة.
النمو الاقتصادي والتطور الجديد
والحضارة
انحسر بعد الحرب العالمية الأولى استخدام التطور
والتقدم كاستعارتين لوصف المجتمع البشري، ذلك أن ما
جرَّته الحرب من وحشية ومعاناة بشرية جعلت من الصعب
الحديث عن تقدم بشري، ومع هذا، بُعثت هاتان
الاستعارتان من جديد عقب الحرب العالمية الثانية،
خاصةً في الولايات المتحدة التي كانت واحدةً من بين
عدد قليل من الاقتصادات الصناعية التي لم تخربها أو
تدمرها الحرب، وبعد عام
١٩٤٥م، استخدمت الولايات المتحدة حججًا ودراسات
هي رجع صدًى لحجج ودراسات الداروينيين
الاجتماعيين التي انطلقت منذ أكثر من نصف قرن،
وبدأت الولايات المتحدة تقدم نفسها باعتبارها
المركز وقوة الدفع للحضارة
الغربية.
وفى مارس ١٩٤٨م، أبلغ الرئيس هاري ترومان
الكونجرس الأمريكي أن الاتحاد السوفييتي يشكِّل
خطرًا على أمن الولايات المتحدة، وأن على الولايات
المتحدة أن «تساند الشعوب الحرة التي قاومت محاولات
إخضاعها على أيدي الأقليات العسكرية أو عن طريق
ضغوط خارجية.»
٣٨ وعقب هذا بشهر واحد وصف بيرنارد باروخ،
رجل المال والسياسة، علاقة العداء بين الولايات
المتحدة والاتحاد السوفييتي بأنها «حرب باردة»، وهو
مصطلح سرعان ما التقطته واستخدمته وسائل الإعلام،
وحققت في الوقت ذاته النسخة المختصرة من كتاب
أرنولد توينبي «دراسة عن التاريخ» (١٩٤٧م) ذيوعًا،
وأضحت من أوسع المبيعات انتشارًا؛ إذ لم تبقَ لأكثر
من بضعة شهور، وأضحى توينبي متحدثًا ذائع الصيت
يُلقي محاضراته هنا وهناك ويُحكِم صوغ آرائه عن خطر
«البربرية» والأزمات التي أفضت إلى صعود وأفول
الحضارات، واعتقد كثير من مستمعيه أنه كان يتحدث عن
الحرب الباردة وخرجوا من محاضراته بانطباع أن هذا
النزاع يهدد وجود الحضارة ذاته.
واعتقد كثير من الرسميين
في حكومة الولايات المتحدة أن رسالتهم ليست
قاصرةً على الحفاظ على الحضارة، بل وأيضًا
العمل على نشرها إلى أبعد أركان المعمورة،
واستلزم هذا أن يتوفر لدى جميع الأمريكيين
تقييم وتقدير عميقان للرأي القائل إن مجتمعهم
ليس فقط مجتمعًا استثنائيًّا فريدًا، بل وإن
أبناء هذا المجتمع أيضًا هم «شعب مختار»،
اختاره الرب لمهمة إنجاز رسالته، سبحانه، لنشر
الحضارة، ونجح المواطنون الأمريكيون، بفضل
تاريخهم هذا، أن يفصلوا أنفسهم عن الحضارة
الأوروبية التي أضحت أطلالًا عقب الحرب، ووقفت
أمريكا، نتيجةً لذلك، على شفا عملية تأسيس جديد
للحضارة على صعيد جديد وأرقى مرتبة،٣٩ واقتنع كثير من الأكاديميين ورجال
الدولة في الولايات المتحدة بخطاب الحرب
الباردة، صدقوا أن الحضارة الأمريكية والغربية
حضارة تقدمية، وأن خصومها وأولهم الاتحاد
السوفييتي نظام شرقي استبدادي غير متحضر،٤٠ واعتبروا كل المجتمعات الموجودة
خارج الفلك السياسي للولايات المتحدة وحلفائها
مجتمعات متخلفة يماثلون المراحل الأولى في
تاريخ التطور الاجتماعي للغرب، لقد تجمدت هذه
المجتمعات في زمنها القديم نتيجة مقاومتها
للقيم الرأسمالية أو لعجزها عن شراء السلع،
وبدت الرأسمالية الصناعية على النقيض، أرقى
تطور للحضارة بالمعنيَين المادي والمعنوي،
وأصبح المعيار الذي نقيس به التقدم هو النمو
الاقتصادي دون سواه، والذي يرتكز على إعادة
بناء قوى الإنتاج والتوسع فيها، وتأسيسًا على
هذا المنطق يتعين على الولايات المتحدة أن تقدم
المساعدات الخارجية لإعادة بناء الاقتصاد
الصناعي في كل من اليابان وغرب أوروبا لضمان
اطراد تقدم الحضارة الغربية.
وصادف المشروع دعمًا وتأييدًا من النظريات
التطورية الجديدة التي ترى أن التغير الاجتماعي
يتحرك في اتجاه واحد فقط، وأن المجتمعات تتباين
باطراد أكثر فأكثر عن بعضها، وعلى عكس النزعة
التطورية في القرن التاسع عشر، التي اعتادت أن تركز
في الغالب على التغيرات التي أثرت في البشرية في
مجموعها، نجد التطوريين الجدد معنيين بتطور كل
مجتمع أو كل حضارة على حِدة، وبالآليات السببية
التي يرتكز عليها هذا التطور، واستحدثوا نظريات
تاريخية محكمة الصياغة عن صعود الحضارة، مثال ذلك
أن عالم الأنثروبولوجيا جوليان ستيوارد وصف الآليات
السياسية الاقتصادية التي ربطت بين الحضارات
القديمة والحديثة بقوله:
«إن صعود وانهيار الممالك في مراكز
الحضارة القديمة في مصر وما بين النهرين
والهند والصين وأمريكا الوسطى والإنديز،
يوصف في الغالب بأنه صعود وانهيار الحضارة،
حقًّا إن الأنواع المميزة للمجتمعات التي
نشأت في هذه المراكز لم تبقَ على قيد
الحياة، ولكن الغالبية العظمى من الإنجازات
الثقافية الأساسية والقسمات الجوهرية
للحضارة انتقلت إلى أمم أخرى، والملاحظ في
كل من هذه المراكز أن كلًّا من الثقافة
والمجتمع تغيرت كثيرًا خلال الفترات
الأولى، وأن العمليات التطورية كانت واحدةً
تقريبًا في كل الأنحاء؛ إذ نشأت أول الأمر
مجتمعات محلية صغيرة من الفلاحين
المبتدئين، وبعد ذلك تعاونت المجتمعات من
أجل تشييد أعمال الري، وأصبح السكان أكثر
عددًا واستقرارًا، وكبرت القرى وتحولت إلى
دول خاضعة لحكام دينيين … وأخيرًا توقفت
الثقافة عن النمو ودخلت دول كل منطقة في
منافسة مع بعضها …
وأعقبت هذا حقبة غزو واحتلال دوري،
وتطابقت عمليات الغزو مع نمط ثابت تقريبًا
… إذ بدأت كل دولة في منافسة الدول الأخرى
من أجل الحصول على الخراج والمزايا، ونجحت
دولة أو أخرى في الهيمنة على سواها، أي
نجحت في إقامة إمبراطورية، بيد أن هذه
الإمبراطوريات أكملت مسيرتها وانهارت بعد
عدد من السنين … لكي تخلفها إمبراطورية
أخرى لا تختلف كثيرًا عن سابقتها.»
ويرى المؤرخ أن هذه الحقبة من الغزوات الدورية
زاخرة برجال عظام، وبالحروب، واستراتيجيات المعارك،
وبتحول في مراكز القوى، وغير ذلك من أحداث
اجتماعية، ويرى مؤرخ الثقافة أن التغيرات أقل
أهميةً بكثير من التغيرات التي شهدتها حقب سابقة
وقتما نشأت وتطورت الحضارات الأساسية أو حضارات
الشرق الأدنى في العصر الجديد التالي لها عندما
تغيرت الأنماط الثقافية للمرة الثانية وانتقلت
مراكز الحضارة إلى مناطق جديدة …
وأحدثت الثورة الصناعية تحولًا ثقافيًّا عميقًا
في غرب أوروبا، وأشعلت المنافسة على المستعمرات
ومناطق الاستغلال، ودخلت اليابان حلبة المنافسة فور
اكتسابها النمط العام، وأعيد ترتيب مراكز القوى على
أثر الخسائر التي مُنيت بها ألمانيا في الحرب
العالمية الثانية وكانت عمليات إعادة ترتيب القوى
تتعلق بالنظام الاجتماعي، وسوف تتضح ماهية الأنماط
الثقافية الجديدة المترتبة على هذا.
ويوحي الافتراض العام اليوم بأننا على ما يبدو
إزاء خطر حدوث تحولات ثقافية أساسية نتيجة انتشار
الشيوعية، حققت روسيا بشكل متطرف أنماطًا ثقافية
جديدة ناجمة عن ثورتها، ولكن هل الشيوعية تحمل
المعنى ذاته في البلدان الأخرى؟ فهذا ما لا يزال
بحاجة إلى بيان وسوف تكشف عنه الأيام.
٤١
واتضحت في منتصف خمسينيات القرن العشرين
الاحتمالات السياسية لمثل هذه النظريات التطورية
الجديدة عن النمو الاقتصادي؛ ذلك أنه بعد إعادة
تعمير وبناء اقتصادات اليابان وغرب أوروبا، انتقل
مركز اهتمام المساعدات الخارجية للولايات المتحدة
إلى أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وفي هذا السياق
احتلت الصدارة مسائل إنهاء الاستعمار والتنمية
الاقتصادية، وأصبحت لها الأولوية دون إعادة
التعمير، وتغيرت سياسات الولايات المتحدة كما تغير
فهمها للتقدم عندما ظهر الاتحاد السوفييتي السابق
آنذاك كمصدر ثانٍ للمساعدة الخارجية، وحين بدأت
الأمم التي شاركت في مؤتمر باندونج الدعوة إلى موقف
«عدم الانحياز» إزاء الغرب الرأسمالي والاتحاد
السوفييتي الشيوعي، والملاحظ أنه في هذا الوسط، لم
يعد مجرد تنمية قوى الإنتاج ضمانًا يكفل للأمم
المتخلفة وغير المنحازة أن تتبع طريق التطور
الرأسمالي؛ إذ كان ثمة شيء آخر ناقصًا ويلزم
تحقيقه.
التحديث ونقطة الالتقاء والحضارة
أطلق اسم «التحديث» على عملية نشر الحضارة
الرأسمالية في العالم الثالث، وتعني الكلمة التنمية
الصناعية الرأسمالية، كما تعني أيضًا تحويل وإبدال
المعايير والممارسات التقليدية في تلك المجتمعات،
ويصبح من المتوقع أن يسود هنا الإنتاج من أجل
الربح، وتركز قوى العمل في مناطق الحضر وتأكيد دور
العقل والعلم واستخدامهما في مجال الإنتاج، وكذلك
إضفاء طابع البيروقراطية والاعتماد على المبادرة
الفردية، ومن المتوقع كذلك تزايد مطرد للتوزيع غير
المتعادل للثروة بين مختلف الطبقات، وفي محاولة
لضمان تحقق هذا التحديث عمليًّا حدد المفكرون من
أمثال والتر روستو أو كليفورد جيرتس طبيعة تلك
الطبقات في بلدان العالم الثالث المنوط بأبنائها
دفع وتعزيز عملية التحديث تأسيسًا على عمليات
التفضيل وأنماط الاستثمار، وهؤلاء هم الجماعات التي
تلقت من الولايات المتحدة المساعدات وغيرها من
أشكال الدعم والمساندة.
٤٢
وفي ضوء هذا المنظور، أصبح
التحديث في حقيقته وجوهره عمليةً توسعية أو
عولمة، والتي سوف تدمج المزيد والمزيد من هذه
المناطق الجغرافية، وإذا كانت الحداثة ظهرت أول
ما ظهرت في المجالات الاقتصادية والسياسية إلا
أنها سرعان ما بلغت أعماق المجتمع التقليدية
وأثرت على كل شيء فيها حتى أدق مظاهر الحياة
اليومية، مثل المعتقدات الدينية والأذواق
وأنشطة أوقات الفراغ، لقد كان التحديث حسب
التعريف المحدد، جهدًا لإعادة إنتاج العلاقات
الاجتماعية والثقافية الرأسمالية في بلدان
العالم الثالث، ولكنها وبسبب انبعاثها أو
صدورها من بلدان رأسمالية صناعية في الغرب أضحت
عملية تجنيس، أي تهدف إلى جعل بلدان العالم
الثالث أكثر شبهًا وتجانسًا بالحضارات
الرأسمالية الغربية في مظاهرها، وفي أواخر
ستينيات القرن العشرين، صاغ روستو وصمويل
هنتنجتون وآخرون مصطلح التلاقي للإشارة إلى
نتائج التجنيس، وليس التسوية أو التكافؤ،
الناجمة عن التحديث.
٤٣
وبدأ انتقاد نظرية التحديث خلال سبعينيات القرن
العشرين، وانطلق النقد من العالم الثالث، ولا غرابة
في هذا؛ إذ لم ينطلِ على أحد ولم يصدق التنبؤ بأن
البلدان المتخلفة سوف تماثل المجتمعات الغربية؛ إذ
رأت بلدان العالم الثالث نفسها، بدلًا من هذا،
تندمج أكثر فأكثر في الاقتصاد الرأسمالي الكوكبي
ليكون لها دور التابع المعتمد عليه، وتبين علاوةً
على هذا أن ثمة سبلًا كثيرة للتحديث، وأن البلدان
التي انطلقت من نقاط مختلفة حققت خبرات وتجارب
مختلفة، هذا بينما نظرية التلاقي التي نظرت إلى
الاقتصاد والسياسة والثقافة كل على حدةٍ في انفصال
عن بعضها، تفيد بأن الهياكل الاقتصادية المتماثلة
يمكن أن تتعايش مع نظم حكم مختلفة عن بعضها
سياسيًّا وثقافيًّا، أخيرًا فإن آليات إنجاز
التحديث والتي اقترحها دعاة نظرية التلاقي تشبه
الحتمية المنطقية، ولم تجد ما يدعمها ويكفل لها
البقاء والاستمرار في ضوء المسار الفعلي للأحداث في
تلك البلدان، ونتيجةً لهذه الانتقادات، سرعان ما
أسقطَت نظريتا التحديث والتلاقي كسبيلَين لوصف
التنمية، وذلك في مطلع ثمانينيات القرن
العشرين.
وعادت إلى الحياة مرةً أخرى نظريتا التحديث
والتلاقي، وذلك عقب تفكك الاتحاد السوفييتي والكتلة
الشرقية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وانحسر
الخطاب الذي يحدثنا عن «إمبراطوريات الشر» التي
تهدد الحضارة العالمية، وانبرى من جديد مفكرو
الدولة في الولايات المتحدة من أمثال هنتنجتون
ليؤكدوا أن نظرية التحديث قد تمثل نموذجًا مفيدًا
للمجتمعات الاشتراكية ابتغاء تبنِّي الرأسمالية
ودخولها أعضاء ضمن بلدان الغرب، ويتمثل الاختلاف
الحاسم والجذري بين هذه البلدان وبلدان العالم
الثالث في نقطة الانطلاق في هذه العملية؛ إذ بينما
نجد أكثر بلدان العالم الثالث مغروسةً بجذورها إلى
الأعماق في النظم الاجتماعية التقليدية، نجد عددًا
من البلدان الاشتراكية تم تصنيعها بالفعل علاوةً
على نبذها للنزعة التقليدية حتى وإن كانت لا تزال
تفتقر إلى الحداثة، أي النظرة العامة الحديثة التي
لا تتهيأ لمجتمعٍ ما إلا في وسط من صنع القيم
والثقافة الرأسمالية، وهكذا، وفي هذا السياق، تعني
نظرية التلاقي الجديدة، أن البلدان الصناعية يمكن
أن تتماثل مستقبلًا، ولكنها ستتباعد أكثر فأكثر عن
أمم العالم الثالث غير الصناعية أو شبه الصناعية،
وتفيد كذلك نظرية التلاقي الجديدة بأن المشكلات
الحقيقية في عالم اليوم لن تكون هي تلك المشكلات
بين الشرق والغرب، بل تلك المشكلات الآخذة في
التطور بين بلدان صناعية لديها وفرة في الشمال،
وبلدان فقيرة في الجنوب.
٤٤
•••
استكشفنا في هذا الفصل
فكرة الحضارة، وكذا الوسط الاجتماعي والاقتصادي
السياسي الذي ظهرت في كنفه فكرة الغرب عن
الحضارة، وتبين لنا أن فكرة الحضارة تكمن في
رحمها نظريةٌ عن التاريخ حاولت تفسير ما سمي
التغيرات التقدمية المطردة من وضع أولي أو أصلي
(بدائي) إلى وضع أكثر تقدمًا عن طريق التقدم
الأخلاقي والفكري والاجتماعي، ولقد صيغت فكرة
الحضارة في مجتمعات يسيطر على طبقاتها الحاكمة
هوس التراتبية الهرمية وأرادت ضمان اطراد
وأبدية مظاهر عدم المساواة.
والملاحظ أنه على مدى خمسة قرون تقريبًا التمس
مفكرو الطبقة الحاكمة، ابتداءً من جان بودان وحتى
نيوت جنجريتش، سبيلًا لكي يفسروا لأقرانهم كيف نشأت
علاقات القوى القائمة، ولماذا هي علاقات مشروعة،
وزودونا بتفسيراتٍ تاريخية لتطور المجتمعات
المتمايزة طبقيًّا، والتي اتصفت بخصائص سيادة
القانون والفنون والآداب المتقدمة وانحسار التقليد،
وأكدوا لنا أن أخلاقيات وسلوكيات الطبقات العليا
لهذه المجتمعات أرقى من الطبقات الأخرى غير
المتعلمة في هذه المجتمعات ذاتها، ومن أبناء
المجتمعات غير الطبقية التي تعيش على الطبيعة، أي
التي تعيش في البراري على حدودهم.
وتبين لنا أن مؤيدي وأنصار
الحضارة الغربية عملوا منذ بداية القرن السابع
عشر إلى النظر إلى مجتمعاتهم باعتبارها أكثر
تقدمًا من مجتمعات العالم القديم، والتمسوا
تحديد وتفسير القوى المحركة المسئولة عن تطور
المجتمع الرأسمالي، وما فتئت النظريات الرائجة
الآن عن الحضارة بما في ذلك آراء نيوت جنجريتش
تؤكد على قسماتها الإيجابية، أي التحسن المادي
والتقدم والحداثة، وعلى الأوضاع التي تدعمها،
ولكن القسمات السلبية، مثل تزايد الاغتراب
الروحي والإفقار الاقتصادي لأعداد كبيرة من
الناس، فقد صوروها على أنها ظواهر عابرة يمكن
القضاء عليها، إما عن طريق إزاحتها عن مجال
رؤيتهم، أو عن طريق بناء السجون والمعتقلات
ليودِعُوا فيها القطاعات السكانية التي لم تفِد
من تطور الحضارة الرأسمالية المرتكزة على أسلوب
حياة استهلاك السلع.
ولكن، لم يرَ الجميع صعود الحضارة في ضوءٍ
إيجابي، ذلك أن كثيرًا من المفكرين الغربيين
انتقدوا الحضارة والدولة معًا، لقد كشفوا عن
القسمات السلبية والتناقضات، ومن ثم ازداد شكهم
باطراد بشأن منافع الحضارة الغربية التي قيل إنها
جلبتها معها منذ بزوغها.