الفصل الثالث
الحضارة ونقد الحضارة
زعم أبطال الحضارة أن مؤسسات وممارسات الطبقات
الحاكمة والدولة أمور مرغوب فيها وضرورية لأنها تحافظ
على النظام، وتدعم جهود الانتصار على الطبيعة. ودفعوا
بأن القيم والممارسات التي تغرسها مؤسسات النخبة
والدولة تعزز دور العقل وتدعم العقلانية اللازمة للتغلب
على الحدود والقيود التي تفرضها الطبيعة والمعتقدات
التقليدية. وتمثل الحضارة، حسب هذه النظرة، أعلى مراحل
التطور الاجتماعي، نهاية التاريخ كما قيل، كما أن عملية
التحضُّر تجعل العالم مكانًا أفضل للعيش فيه، ولكن فكرة
الحضارة لم تأسر كل المفكرين على نحو ما ذهب دعاتها في
الفصل الأخير.
أدرك على الفور النقاد، على اختلاف وتباين وجهات
نظرهم، أن ظهور الحضارة كانت عمليةً تعج بالمتناقضات،
ولذلك فإنه بحلول منتصف القرن السادس عشر شرعوا في
توجيه الاتهامات ضد النظام الاجتماعي البازغ، فقد
أدانوا من ناحيةٍ أسلوب تعامل الحضارات مع رعايا
المستعمرات، وبالتالي تعاملها مع الطبقات الخاضعة داخل
بلدان المتروبوليتان، وجرَّموا ممارسات الإبادة للأعراق
والأجناس التي أقرتها السياسة الاستعمارية، وأجرَوا من
ناحيةٍ أخرى دراسةً استقصائية للمعضلات التي صاحبت ظهور
الحضارة: زيادة الظلم مقترنة بزيادة مطردة لمشاعر
الاغتراب، وتفاقم مظاهر البؤس وقمع الرغبات، واستكشفوا
الفوارق الثقافية التي تفصل الشعوب المتحضرة عن غير
المتحضرة لبيان بربرية الحضارة ذاتها.
وعمد النقاد في الغالب إلى نسج ضفيرة من الخطَّين
معًا، وصاغوا خلال هذه العملية دراساتٍ نقديةً كاسحة،
تزايدت باطراد ضد النظام الاجتماعي الجديد، وتبين أن
هناك دائمًا معاني كثيرة بديلة لمصطلح الحضارة، وكان
لكثرة هذه الآراء أثرها الواضح من حيث إنها تعبر عن
مشاعر الناس الذين يرون عالمهم بصورةٍ مغايرة عن صورة
من يحتلون سُلَّم التراتبيات الاجتماعية المختلفة التي
أبرزتها الحضارة الغربية وتحرص على تخليدها.
رؤية نقدية في القرن السادس عشر عن المستعمرات
الاستيطانية
علم كولومبوس إثر عودته إلى إسبانيولا عام ١٤٩٥م
أن المواطنين أجهزوا على رجاله الذين خلَّفهم وراءه
وقتلوهم عن بكرة أبيهم. حدث هذا وقتما حاول
الإسبانيون جباية جزية من المجتمعات المحلية لأبناء
البلد الأصليين، وكان قد صارع كولومبوس وقواته
لاستعادة النظام فوق الجزيرة خلال الأشهر التسعة
التالية وأسروا أثناء ذلك مئات من المتمردين،
رجالًا ونساءً وأطفالًا، وتم شحنهم بعد ذلك إلى
أسواق العبيد في جزر الكناريا وأوروبا. وبحلول عام
١٥٠٠م، أرسل كولومبوس أكثر من ٢٠٠٠ هندي أمريكي إلى
أسواق العبيد لأنهم هددوا أو قاوموا جهوده لإقامة مستعمرة.
١
ورأى المستوطنون الإسبان الذين وصلوا حديثًا من
أوروبا ويستنكفون العمل بأيديهم، أن تجارة العبيد،
علاوةً على مقاومة الوطنيين، تسبب نقصًا في الأيدي
العاملة داخل المستعمرة، واستخدموا مِنحًا وقتية
منحها لهم التاج باسم إنكومينداس
encomiendas
لإرغام الهنود المحليين على العمل في خدمتهم،
وعيَّن الإنكوميندوريون — المستوطنون الحائزون على
هذه المنح — فريقًا من الهنود يكون أداتهم، ويحصلون
عن طريقه على الجباية من المال والعمال، وأصبحوا هم
المسئولين، مقابل المنحة، عن الدفاع عن المستعمرة،
وحماية الرعايا من المواطنين، وتعليمهم الديانة
المسيحية، وسرعان ما التمس الإنكوميندوريون سبيلًا
لجعل المنح وراثية.
٢
وحاول ملك إسبانيا عبثًا دون تطبيق نظام المنح
(الإنكومينداس) في المكسيك وفي المستعمرات الأخرى
خلال العقدين الثالث والرابع من القرن السادس عشر،
وعارض الملك النظام لأنه أدى إلى ظهور نبلاء
إقطاعيين لهم قواعد سلطة مستقلة ومصدر للدخل في
المستعمرات، وقاوم المستوطنون المستمتعون بنظام
المِنَح السلطة الملكية، وبدَّدوا بإسرافٍ جميع
الدخول والعوائد التي يحتاج إليها التاج، وشرع
الملك في شن هجوم جديد على نظام المِنَح في
أربعينيات القرن السادس عشر، ولكنه في هذه المرة
يشن هجومه من موقع قوة أكبر. ذلك أن القوانين
الجديدة التي صدرت عام ١٥٤٢م ساندتها دراسات
قدَّمها الراهب الدومينيكاني بارتو لومي دولا
كازاس، الذي يحظى بحماية الملك. انتقد الراهب وحشية
وغلو المستوطنين خلال العقدين الثاني والثالث من
القرن السادس عشر. وقضت القوانين الجديدة بإلغاء
عبودية الهنود والإقرار بحرية المواطنين وأنهم
رعايا التاج. وحظرت القوانين أيضًا على الموظفين
الرسميين العاملين في المستعمرات وكذلك على
المستفيدين الجدد من المِنَح حيازة هذه المنح، كما
حظرت إنشاء نظام مِنَح جديد، ونصَّت القوانين على
ضرورة أن تئول المِنَح القائمة إلى التاج بوفاة
الحائزين عليها.
٣
أثارت «القوانين الجديدة» جدلًا سياسيًّا حادًّا،
وكان المتحدث باسم المستوطنين الحائزين على المِنَح
هو جوان جيني دي سيبولفيدا، القسيس الخاص بالملك،
والمؤرخ الرسمي. ودفع بأن النظام عادل، وأن على
المستوطنين الحائزين على المِنَح (الإنكومينديروس)
مواصلة تعليم السبل المتحضرة والمسيحية للمواطنين.
وزعم أن الهنود برابرة، بشر قبل المرحلة
الاجتماعية، وهم أشبه بمستعمرة من النحل وليسوا
مجتمعًا مدنيًّا، وأنهم، بسبب هذا، يفتقرون إلى
القوانين وإلى الملكية الخاصة، وانتهكوا أو أساءوا
استعمال كل ما كان في حيازتهم من ممتلكات، نظرًا
لممارستهم أكل لحوم البشر والأضحية البشرية،
واستخدموا المعادن النفيسة لصنع الأوثان، وذهب إلى
أن المجتمعات الوطنية، بما في ذلك مجتمعات الأزتيك
ذات البِنْية الطبقية، كانوا عبيدًا للطبيعة، ومن
ثم، فهم أدنى مرتبةً من المستعمرين الإسبان المتحضرين.
٤
وعرض لاس كازاس وفرانسيسكو دي فيتوريا وجهة نظر
التاج، وفصلوا حقوق المستعمرين عن موضوع الحاجة إلى
تثقيف، أي إلى تحضُّر الهنود، وانطلقا من رؤيةٍ
مغايرة عن الهنود؛ إذ رأيا أن الشعوب الوطنية
الأصلية برابرة، ليس لأنهم عبيد طبيعيون على نحو ما
أكد سيبولفيدا، بل لأنهم ليسوا مسيحيين ويفتقرون
إلى لغةٍ مكتوبة. وذهبا في رأيهما إلى أن الهنود
بشر لهم كل حقوق وعليهم كل واجبات الكائنات البشرية
العاقلة. وسوف يصبحون متحضرين حال اعتناقهم
المسيحية. وتضمنت السياسات التي اقترحها لاس كازاس
أربع نقاط رئيسية، الأولى: ألا يستمتع المستعمرون
بحقوق اقتصادية وسياسية خاصة. ثانيًا: ليس لهم حق
التدخل في حياة الشعوب الوطنية الأصلية. ثالثًا:
يجب إعادة تأسيس نظم الإدارة والحكم المتَّبعة لدى
الوطنيين الأصليين مع إخضاعهم لسيطرة التاج.
رابعًا: أن يكون للكنيسة حق خاص في تعليم المجتمعات
الوطنية المحلية وتحويلهم إلى العقيدة المسيحية.
٥
والجدير بالذكر أن الجدل الإسباني بشأن المؤسسات
والممارسات في المستعمرات امتد أثره إلى خارج
إسبانيا ذاتها. ذلك أن المفكرين الإنجليز المعنيين
بتوسيع نطاق النفوذ الإنجليزي نظروا بإيجابية إزاء
المسائل المتعلقة بالآراء والسياسات الفجة القاسية
التي يتبعها المستوطنون (الإنكومينديروس). ولعلنا
نذكر ما ورد في الفصل الثاني عن أن سير توماس سميث
أحد مؤسسي السياسة الاستعمارية الإنجليزية خلال
القرن السادس عشر، رأى أن الأيرلنديين «شعب بربري
غير متحضر» عاجز عن أن يصبح شعبًا متحضرًا،
وصوَّرهم بنفس الصورة التي صوَّر بها سيبولفيدا
الأمريكيين الوطنيين. ولعل مقتل سميث على أيدي
خادميه الأيرلنديين عزز نظرة الأرستقراطية
الإنجليزية القائلة إن الأيرلنديين خطرون حقًّا،
وبرابرة غير مدنيين.
٦
ومع تدهور علاقات إنجلترا الدبلوماسية مع إسبانيا
في نهاية القرن السادس عشر ترجم رجال الدعاية فيها
انتقادات لاس كازاس لوحشية المستوطنين الإسبان، دون
الإشارة إلى أن إنجلترا اتبعت بالفعل السياسات
ذاتها في أيرلندا.
وفي سبعينيات القرن السادس عشر، تمرد سكان
الأراضي الواطئة (هولندا، وبلجيكا، ولوكسمبورج) ضد
سياسات فيليبس الثاني، الذي حاول تعزيز سيطرة
إسبانيا على المنطقة وشعوبها، وأججت نيران التمرد
مشاعر مناهضة لإسبانيا وللكاثوليكية والإقطاع،
وأفاد المتمردون من دراسات لاس كازاس التي أدانت
الإمبريالية الإسبانية؛ إذ رأوا أنفسهم رعايا
مستعمرات مثلهم مثل الأمريكيين الأصليين. وأصدروا
في عام ١٥٧٨م ترجمةً باللغة الفلمنكية لدراسة لاس
كازاس المعنونة: «رواية موجزة عن تدمير جزر الهند».
وصدرت طبعة ثانية باللغة الفلمنكية بعنوان: «مرآة
الطغيان الإسباني»، وظهرت بعد عام واحد في ذات
الوقت الذي صدرت فيه ترجمة باللغة الفرنسية في
أنتويرب. وأججت الترجمتان لدراسة لاس كازاس، علاوةً
على الأنماط الشعبية والأشعار والمنشورات، كلًّا من
مشاعر العداء لإسبانيا والكاثوليك في الأراضي
الواطئة أثناء الصراع من أجل الاستقلال.
٧
وخلال سبعينيات القرن السادس عشر، وصف الحاكم
الإسباني في الأراضي الواطئة فئة النبلاء بأنهم
«شحاذون»، والجدير بالذكر أنه حين استخدم الكلمة لم
يكن يقصد الإشارة إلى طلبات استجداء، وإنما كان
يعني أنهم يتصرفون بطريقةٍ فظة غير متحضرة، واستخدم
النبلاء الهولنديون هذه الكلمة الازدرائية واتخذوها
اسمًا لهم ولأتباعهم المناهضين لإسبانيا
وللكاثوليكية. وأصبحت الكلمة صيحة معركة وصيغة
تعريف تتردد في أغنيات الشوارع وعلى لسان رجال حرب
العصابات آنذاك.
٨
رؤية نقدية من القرن السادس عشر للمجتمع
المدني
امتد الدمار في كل أنحاء أوروبا بسبب الحروب
الأهلية التي انتشرت هنا وهناك خلال سبعينيات
وثمانينيات القرن السادس عشر، واستثارت بكل ما
تعنيه الكلمة فئة النبلاء ضد الملك وسكان المدن
والفلاحين. وكانت أيضًا حروبًا دينية شنَّها
المناهضون لحركة الإصلاح الديني والتي حرَّضت
الكاثوليك ضد البروتستانت. وتدخلت إسبانيا في الحرب
الأهلية الفرنسية لأنها آثرت وجود ملكية ضعيفة مع
هزيمة الهوجونوت البروتستانت، وانحازت إنجلترا
المعارضة لتدخل إسبانيا إلى صف الهوجونوت، وانتشر
الخراب في كل مكان نتيجة اجتياح الجيوش الأجنبية
والملكية لأراضي الريف الفرنسي زحفًا وتراجُعًا.
وفي أغسطس ١٥٧٣م، وقعت مذبحة، قُتل فيها أكثر من
عشرة آلاف بروتستانتي من سكان المدن في باريس وروين
ومدن أخرى خلال أسبوعٍ واحد. وهذه هي الظروف
والأوضاع التي استثارت جان بودان، مستشار الهوجونوت
لدى الملك (الذي ذكرناه في الفصل السابق) فكتب
دراسته: «الكتب الست عن الجمهورية» (١٥٧٧م)، ودافع
فيها عن السلطة المُطلَقة للملك.
٩
ولكن لم يكن بودان الكاتب الوحيد الذي علَّق على
موضوع المجتمع المدني خلال سبعينيات وثمانينيات
القرن السادس عشر، ذلك أن الدعاة الكاثوليك
والهوجونوت أصدروا آلاف المنشورات والكتب، والتي
صدر أغلبها باللغة الفرنسية العامية وليس
اللاتينية؛ لتوضيح آرائهم وخططهم. ولعل أهم كتابات
هذه المرحلة كتاب الفيلسوف ميشيل دي مونتيني
«المقالات»، والمعروف أن أجداده كانوا تجار سمك
ونبيذ دوليين، واشتروا إقطاعية قرب بوردو في مطلع
القرن السادس عشر. وكان مونتيني مثل أبيه موظفًا في
الإقليم. واتصفت أسرته بتباين تركيبتها؛ إذ كان
مونتيني نفسه كاثوليكيًّا، بينما أسرة أمه يهود
إسبانيون، والعديد من إخوته وأقربائه هوجونوت. وكان
مونتيني مؤمنًا بالتسامح إزاء الاختلافات بين
الأديان. كما عارض مظاهر الغلو من جانب الفرق
الدينية المختلفة. وقاده هذا إلى أن اتخذ لنفسه
موقعًا وسطًا حرجًا أثناء الحروب الأهلية. وعزز
تسامحه فضول معرفي نهم لا يشبع إزاء أعراف وعادات
الهنود الأمريكيين، وقرأ الروايات المنشورة عنهم،
وزار هنود توبينامبا
Tupinamba من
البرازيل، الذين جيء بهم إلي روين خلال خمسينيات
القرن السادس عشر، وقد تم عزلهم في معزلٍ خاص بهم
حيث يتولون هم إعالة أنفسهم ليصبحوا أشبه بنوع من
حديقة عِرقية على حافة المدينة.
١٠
انتقد مونتيني المجتمعات المتحضرة في أوروبا
عندما قارن بينها على سبيل المعارضة والنقد، وبين
الأوصاف التي قدمها الرحالة عن الهنود الأمريكيين،
ووصفهم بالكرم والأمانة، وليس بالطمع فيما يملك
الآخرون من سلع. وذهب إلى أن هؤلاء الهمج النبلاء
يشبهون المجتمع البشري الأول. واستخدم في كتابه
«المقالات» كلمة «العري» كنايةً عن المجتمعات
الأصلية الأولى التي عاشت في حريةٍ وفقًا للقوانين
الأولى للطبيعة. هذا بينما اللباس علامة العالم
الزائف للمجتمعات المتحضرة، حيث العلاقات
الاجتماعية تختفي وراء قناع وتتسم بالخداع. وخاطب
مونتيني الشرائح المتعلمة من الطبقة الوسطى في
المجتمع الفرنسي وقال:
«أؤكد لكم أنني لو كنت ظهرت بين هذه
الأمم التي يقال عنها إنها لا تزال تعيش
وفق الحرية التي تمنحها القوانين الأولى
للطبيعة، لمثلت أمامكم وأنا شديد الغبطة
والسعادة عاريًا تمامًا بغير لباس.»
١١
ورأى مونتيني أن تدمير
المجتمعات الهندية الأمريكية وتفكك مجتمعه إنما
هما علامتا مرضٍ أصاب المجتمع المتحضر الذي لا
يفتأ يداري نفسه وراء عباءة من الأكاذيب التي
تخفي الحقيقة وتشوه قوانين الطبيعة. إن مظاهر
الزيف التي تغطي المجتمع المتحضر هي نُذُر
«المرحلة الأولى في فساد الأخلاق والتي تتمثل
في إهدار الحق والصدق».
١٢
وقارن مونتيني أيضًا بين التوبينامبا الثقافة
الهندية البرازيلية التي جرى وضعها لأول مرةٍ خلال
خمسينيات القرن السادس عشر، وبين المجتمع المتحضِّر
المثالي الذي افترضه أفلاطون في كتابه
«الجمهورية»:
«أخالني أقول لأفلاطون:
هذه أمة لا يوجد بها أي نوع من المرور، ولا
تعرف الآداب، ولا علم الأعداد، ولا تعبأ لحاكم
وسلطة ثقافية، ولا نظام خدمة عبودية، ولا
أغنياء أو فقراء، ولا عقود ولا خلافة ولا
تقسيمات، ولا وظائف غير أوقات الفراغ، ولا
اعتبار لأي شيء سوى رابطة القرابة والدم، ولا
ملابس أو معادن، ولا تستخدم النبيذ أو الحنطة،
ولا تسمع حتى مجرد الكلمات التي تعني الكذب
والبخل والحقد ولا الاستخفاف أو الاستهزاء أو
السخرية، ترى ما أبعد هذا كله عن صعيد الكمال
الذي تصوره في «الجمهورية».»
١٣
ولحظ مونتيني أيضًا أن
البرابرة هم أي شعب كان في أصله ونشأته أي شيء
إلا أن يكونوا إغريقًا. واستخدم معاصروه هذا
الفهم لإنشاء فاصلٍ واضح لا لبس فيه بين
مجتمعهم هم المتحضر، وبين الأمم الأخرى التي
صوروها نموذجًا للمجتمعات المتوحشة أو القاسية
أو الضارية. وأكد ضرورة استخدام العقل دون
التحيز للحكم على ما تتألف منه البربرية،
وتساءل عما إذا كانت عادة أكل لحوم البشر في
مجتمعات ثقافة التوبينامبا، التي تتضمن طقوس
أكل الإنسان بعد وفاته، هل هي بربرية ومروعة
شأن الممارسات الأوروبية؟
وأعلن:
«أحسب أن هناك قدرًا أكبر من البربرية في
عادة أكل الإنسان حيًّا عن أكله ميتًا، وفي
تمزيق جسده تعذيبًا، وفي الألم المبرح الذي
يشعر به الجسد وهو لا يزال حيًّا، وفي شواء
إنسان قطعةً قطعة، وفي تركه لتنهشه وتمزقه
الكلاب والخنازير إربًا إربًا (وهو ما لم
نقرأ عنه فقط بل شاهدناه ولا تزال الذاكرة
حية، وليس بين أعداء قدامى بل وسط جيران
وأقران من المدنيين. ولعل ما هو أسوأ أن
هذا كله حدث باسم الشفقة والدين) إن هذا
كله أشد بربريةً من شيِّ وأكل إنسان قد مات.»
١٤
واختتم مونتيني مقاله المُعنوَن: «عن أكَلة لحوم
البشر» بتعليقات على لسان ثقافة توبينامبا في روين.
ورسخت في ذاكرته ملاحظتان:
«… ظنوا أنه سيكون شيئًا شديد الغرابة أن
رجالًا كبارًا ناضجين ملتحين أشداء مسلحين،
ممن كانوا يحيطون بالملك … عليهم أن
يستسلموا بالطاعة لطفل (الملك) … ولحظوا
أنه كان بيننا رجال أثقلتهم وأتخمتهم سلع
من مختلف الأصناف والأشكال، بينما نِصفهم
الآخر أي زوجاتهم على الأبواب يتسولن وقد
أضناهن الجوع والفقر. وبدا لهم مدى غرابة
أن هاته الزوجات بإمكانهن تحمُّل مثل هذا
الظلم، ولم يمسكن الآخرين من الرقاب أو
يشعلن النار في بيوتهم.»
١٥
وإن مقارنة مونتيني لثقافة توبينامبا بثقافة
أوروبا تمثِّل طعنًا وتحديًا لأي افتراض عفوي
يحدثنا عن تفوق المجتمع المتحضِّر.
نقد متشدد للمجتمع المدني في إنجلترا القرن
السابع عشر
فاقم ارتفاع الأسعار وسوء المحاصيل الزراعية
وثِقل أعباء الضرائب في أواخر الأربعينيات من القرن
السابع عشر من الآثار الناجمة عن الحرب الأهلية في
إنجلترا. كانت الحرب أكثر من صراع غير محسوم بين
الملك وجناح البرلمان الممثل لمصالح التجار
الأغنياء ومُلَّاك الأراضي الساخطين. وأفضت كذلك
إلى ظهور آراء لطوائف دينية جديدة ورجال ونساء
جوَّابين هائمين (بغير والٍ أو حاكم) انتُزعوا من
بيوتهم وعاشوا مشردين. ووصف أوليفر كرومويل زعيمُ
فريق النموذج الجديد للجيش في البرلمان هذه
الجماعات المشردة، خاصةً من أطلقوا على أنفسهم اسم
«دعاة المساواة» و«الحفارون» بقوله: «إنهم أشخاص
يختلفون قليلًا جدًّا عن البهائم.»
١٦
طوَّر جيرارد ونستانلي، الذي أصبح المتحدث
والمدافع الأول عن دعاة المساواة والحفارين، نقدًا
كاسحًا للمجتمع المدني في أواخر أربعينيات القرن
السابع عشر. والمعروف أن ونستانلي وغيره من
الحفارين الذين وضعوا أيديهم على أراضٍ في تل سانت
جورج، شرعوا في حرث أراضٍ جماعية منذ أول أبريل
١٦٤٩م لاكتشاف الكنز المشترك الذي خسره نتيجة تخصيص
الأرض. وعقب ذلك بأيام، هاجم السكان المحليون
الحفارين بدنيًّا وقانونيًّا، وشجعهم على هذا أبناء
الأرستقراطية ورجال الدين. وهنا أكد
ونستانلي:
«جميع الناس متساوون في
الحرية التي منحها لهم الخالق لحرث الأرض
وللسيطرة على حيوانات الحقل، وطيور السماء،
وعلى السمك في البحار.»١٧
وذهب ونستانلي إلى أن هذا الحق ضاع مع تطبيق
الملكية الخاصة، وأن العامة من الناس هم الذين
يدَّعونه بفضل الترتيبات الاجتماعية والسياسية التي
حددها الغزو النورماندي. وقال لأرستقراطية ملاك
الأراضي إن:
«سلطة تطويق الأراضي
وامتلاك العقارات إنما ظهرت إلى الوجود بقوة
السيف على أيدي أسلافكم. وهؤلاء قتلوا أولًا
زملاءهم من المخلوقات، البشر، وارتكبوا من
أعمال النهب وسرقة الأراضي الكثير، ثم خلفوا
هذه الأراضي ليتوارثها أبناؤهم جيلًا بعد جيل.
لذلك، وعلى الرغم من أنكم لم تقتلوا أو تسرقوا،
إلا أنكم تحملون بين أيديكم هذا الشيء اللعين
بقوة السيف، ولهذا تبررون أفعال آبائكم
الخبيثة. وإن خطيئة آبائكم سوف تقع على رءوسكم
ورءوس أبنائكم حتى الجيل الثالث والرابع ومن
بعدهما، إلى أن يتم استئصال سلطانكم القائم على
سفك الدماء والسرقة وتطهير الأرض
منكم.»
١٨
وانطلق ونستانلي مؤكدًا أن الملكية الخاصة أفقرت
العامة من الناس ودفعتهم إلى الجريمة:
«هذه الملكية الخاصة التي
أمتلكها أنا وأنت هي عِلة كل مظاهر البؤس لدى
الناس. ذلك أولًا: لأنها خلقت المناسبة لكي
يسرق الناس بعضهم بعضًا. ثانيًا: جعلت القوانين
تشنق السارقين، إنها تغري الناس بفعل الشر، ثم
تقتلهم لأنهم فعلوا ذلك.»
١٩
وترتبت على الملكية الخاصة في رأيه، نتائج مختلفة
بالنسبة للأغنياء والذين صدقوا أن حقهم في الهيمنة
على الآخرين جزء من القانون الطبيعي:
«يقضي الإنسان صاحب الشهوات بأن من الصواب أن
يكتسي بعض الناس بخيرات الأرض ومن ثم يسمون أغنياء،
سواء حصل المرء على هذه الخبرات عن حق أم عن باطل.
ويعطيه هذا الحق في أن ينصِّب نفسه قاضيًا للحكم
على الفقراء، وأن على الفقراء أن يكونوا خدمًا بل
عبيدًا للغني.»
٢٠
وأكد ونستانلي أن القانون يعمل على الحفاظ على
العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمع المنظم
تراتبيًّا حيث الأرض مملوكة ملكيةً خاصة
والامتيازات موزعة دون مساواة.
يسن الملك بحكم سلطته القانون؛ والحكومة ملتزمة
بالعمل به. وهنا العدالة تظاهر وادعاء. ولكن كل
سلطة القانون مسخَّرة لدعم السيف الغالب وللحفاظ
على الملكية التي هي سليلته … إذ على الرغم من
ادعائهم بأن القانون سوف يعاقب، إلا أن القانون ليس
شيئًا آخر سوى القوة والحياة ونخاع السلطة الملكية
التي تدعم الغلبة دائمًا، ويُبقي على البعض داخل
الأرض، ويضع البعض خارجها، يمنح الأرض للبعض،
وينكرها على آخرين، وهو ما يتناقض تمامًا مع قانون
الاستقامة الأخلاقية الذي جعل الأرض في أول الأمر
حرةً أمام الجميع على السواء.
٢١
ودفع ونستانلي بأن الحكم
لا يستقر على القهر وحده، وإنما يشتمل أيضًا
على ضمان اطراد النظام الاجتماعي. ورأى، حسب
منظوره، أن رجل الدين مسئول أساسًا عن حرمان
العامة من التعليم، وعن تعليمهم، والرضى
بنصيبهم في الحياة تعبيرًا عن إرادة الرب.
وأشار بعد ذلك إلى أن رجال الدين بأعمالهم
أنكروا دائمًا وأبدًا المبادئ الأساسية
للمسيحية ونالوا ثوابهم من النبلاء
والدولة. وذهب أيضًا إلى أن هناك
نوعًا من الاتحاد أو الكونفيدرالية بين رجال الدين
والتنين الأحمر الأعظم (أي الطبقة الحاكمة والدولة).
٢٢ وعلى الرغم من انتقادات ونستانلي
الشديدة لرجال الدين، إلا أنه استمد إلهامه من
الكتاب المقدس، وأطلق على المسيح اسم «الحفار
الأول»، وقال: الفقير هو المضطهد المشرد الغريب في
أرض غريبة.
٢٣
واعتقد ونستانلي أن حل مشكلات إنجلترا الاجتماعية
يستلزم إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج
ومنتجاتها. ودفع بضرورة أن تتحول هذه إلى ملكية
عامة وتوزيعها بحرية، ولكن سرعان ما صمتت حججه
وآراؤه مع انبعاث حركة الإصلاح التي كانت في جوهرها
حلًّا وسطًا للطبقة الأرستقراطية وللطبقات الوسطى
بأن تستثمر فرصًا اقتصادية لصالحها، ومنعت الأسرة
المالكة والكنيسة من إعاقة مسيرة التقدم.
روسو والنقد الرومانسي للحضارة
صاغ كلمة الحضارة في ستينيات القرن الثامن عشر
دعاة التنوير؛ إذ زعموا «أن المجتمع التجاري
المعاصر يمثل أرقى وضع يمكن أن يتطلع إليه إنسان،
وأن هذا المجتمع نتاج ممكن، ممكن لجميع الشعوب
حيثما كانوا، لعملية تاريخية محددة ومعقولة ويمكن
إلى حد ما التحكم فيها.»
٢٤ وتميز عصر التنوير بأنه عصر سعى فيه
أبناء النخبة من المكسيك وحتى موسكو إلى قطع
الالتزامات المألوفة والمعترف بها من جميع الأطراف
المعنية والتي يلتزمون بها تجاه أبناء الطبقات
الأدنى وإبدالها بمجتمعٍ مدني، مجتمع من المفترض أن
ترتكز فيه العلاقات الاجتماعية على المبادئ
الأساسية للتبادل السوقي. وبينما اتفق المفكرون
العاملون لدى هذه النخبة في انتقاداتهم للنظام
الاجتماعي القديم، فإنهم اختلفوا بشأن كيفية
التغيير، وأنواع هذا التغيير. ودعا فريقٌ ناصر
أعضاؤه ليبرالية جون لوك إلى أشكال برلمانية للحكم
من شأنها أن تؤمِّن وتحمي حقوق الملاك والأفراد.
وناصر أبناء الفريق الثاني آراء فرنسيس بيكون
وفولتير اللذيْن دعيا إلى نظامٍ استبدادي مستنير،
مجتمع قائم على التخطيط ويحكمه الخبراء.
٢٥
واختلف الناقد الاجتماعي جان جاك روسو مع
الفريقين، وجازف باتخاذ موقفٍ ثالث كان صدًى لآراء
مونتيني وونستانلي، وصاغ على نحوٍ فعال الإطار
العام للحوارات الحديثة التي دارت بشأن الحضارة.
وجدير بالملاحظة أن جان جاك روسو في كتابه «مقال عن
الآثار الأخلاقية للفنون والعلوم» (١٧٥٠م)، قال إن
حياة الناس في المجتمع المتحضر أفسدتهم أخلاقيًّا،
وإن الوضع الإنساني لم يتحسن لا بتأثير التقدم في
التعليم، ولا الرغبة في أن يكون المرء أفضل من
الآخرين: «كان السياسيون في العالم القديم لا
يكفُّون عن الحديث عن الأخلاق والفضيلة، ولكن
سياسيِّينا لا يتحدثون عن شيء سوى التجارة والمال.»
٢٦
وطالما أن الحكومة والقانون يكفلان الأمن والرفاه
للبشر في حياتهم العادية، فإن الفنون والآداب
والعلوم، وهي أقل استبدادًا، ولكنها قد تكون أكثر
سطوةً وقوة، تلقي أكاليل الزهر فوق الأغلال التي
تثقلهم، إنها تخنق في صدور البشر الإحساس بالحرية
الأصيلة … وتجعل منهم ما نسميه بشرًا
متحضرين.
الضرورة أقامت العروش، والفنون والعلوم جعلتها
قويةً مكينة. وإن قوى الأرض تكبر جميع المواهب
وتحمي من يغرسها ويرعاها. ويغرس الشعب المتحضر مثل
هذه الجهود: فأنتم، أيها العبيد السعداء، مدينون
لهم بتلك الرقة ورفاهة الذوق الذي هو خير ما
تتباهون به، تلك الحلاوة التي تصف الميول والنزعات،
ومدنيَّة السلوك التي تجعل من العلاقات المتبادلة
أمرًا شديد اليسر والقبول بينكم، أو في كلمة واحدة
مظهر جميع الفضائل دون امتلاك أي منها.
٢٧
وخلال السنوات القليلة التالية ركَّز روسو على
مسألة عدم المساواة وتجلياتها، وذهب في تفكيره
إلى:
أن المصدر الأول للشر هو
عدم المساواة. فمن عدم المساواة تولدت الثروة،
لأن كلمة غني وفقير نسبيتان. وتولَّد عن الثروة
الترف والتعطل … وتولَّدت عن الترف الفنون
الجميلة، وعن التعطل العلوم …٢٨
وفي دراسته «مقال عن أصل عدم المساواة» المكتوبة
عام ١٧٥٥م، أشار إلى أن تطور الحضارة: هيَّأ
للأغنياء قوًى جديدة، التي دمرت الحرية الطبيعية
على نحوٍ لا سبيل إلى إصلاحه، وخلَّدت قانون
الملكية وعدم المساواة، وحوَّلت الاغتصاب البارع
إلى حق لا يقبل النقض والتغيير. ووفاءً لمصلحة حفنة
من الأفراد الطامحين أخضعت كل البشرية ضحيةً لكدح
لا ينتهي وللعبودية والبؤس.
٢٩
وأشار إلى أن عملية التحضر لها آثارها المتباينة
على أبناء الطبقات الدنيا والنخبة الحاكمة، ودفع
بأن الحضارة لها معانٍ ضمنية مختلفة لكل
منهم:
الفريق الأول يتنفس فقط
السلم والحرية، إنه يرغب فقط في أن يعيش وأن
يكون متحررًا من العمل … والإنسان المتحضر، من
ناحية أخرى، في حركة دائمة، يعرق ويكدح ويعتصر
فكره في سبيل أن يهتدي إلى أعمالٍ تستلزم منه
جهدًا أكثر … يتودد لأهل السلطة الذين يكرههم،
وللأثرياء الذين يحتقرهم. ولا يتوقف عند حدٍّ
في سبيل أن يحظى بشرف خدمتهم. إنه لا يخجل من
أن يقيِّم نفسه على أساس من وضاعته هو وحمايتهم
هم، ويزهو بعبوديته، ويتحدث باحتقار عن أولئك
الذين حُرموا من نيل شرف مشاركته هذه العبودية
… إن مصدر جميع هذه الاختلافات هو … الزعم بأن
الإنسان المتحضر وحده هو الذي يعرف كيف يعيش
بفكر الآخرين.
٣٠
وهكذا، كان نقد روسو للنظام الاجتماعي البازغ،
ولا يزال، حكمًا كاسحًا للحضارة. لقد تحدى المزاعم
القوية عن المنافع المدَّعاة التي نحصدها عن طريق
غزو الطبيعة وتطوير حضارة صناعية متنامية، في نفس
اللحظة التي كانت فيها الرأسمالية الصناعية، وكان
مجتمع سوق الملكية يبدآن طور نمو متفجر في شمال غرب
أوروبا. كان روسو مرتابًا في كل التأكيدات التي
ذهبت إلى أن الحضارة مفيدة ونافعة، أي أنها حسَّنت
وضع البشرية. ونراه على النقيض يلفت الأنظار إلى
القيم التي ضاعت وفقدها العالم مع ظهور الحضارة
التي جلبت معها عدم المساواة والاغتراب. وإن ذكرى
تلك القيم، وذكرى العالم المفقود الذي لم يعرف
المظالم ومظاهر عدم المساواة والاغتراب، أو كانت
محدودةً قليلة جدًّا، لا تزال ذكرى حية في أذهان
الرجال والنساء الذين قهرتهم عملية الحضارة، ولكن
نجد في الوقت ذاته أن تلك القيم تحظى بالالتزام
والحماية على أيدي البرابرة الذين لم يعانوا بعدُ
من الآثار الكاسحة المدمرة للحضارة. وحري ألا نسيء
فهم مقال روسو ونظنه تعبيرًا عن رغبةٍ محمومة في
العودة إلى ماضٍ يسوده التعطل.
نقد قومي للحضارة في أواخر القرن الثامن
عشر
جوهان هيردر مدرس ثانوي أسست كتاباته أسس النزعة
القومية. كان شديد الانتقاد لنظرة التنوير السائدة
عن الحضارة. ودفع بأن هذه النظرة دمجت «الثقافة
والحضارة والتقدم الفكري في معارضة أو مقابلة
للبساطة الأصلية الطبيعية.»
٣١ فالثقافة التي كانت تعني أصلًا فن
التثقيف أو تنمية شيء ما في التربة أضحت كلمةً
مجازية تشير إلى عملية تثقيف العقل البشري في القرن
السابع عشر. وبحلول القرن التاسع عشر أصبحت الثقافة
تشير إلى كلٍّ من العملية والوضع الذي حدث عندما
أصبح الناس رجالًا ونساءً مهذبين أو صقلهم التعليم
(عملية التحضُّر)، وهكذا فإن كلمة مثقف لها مفادها
الطبقي المحدد، حيث إن أصحاب الامتيازات الاجتماعية
الذين يملكون وسائل التمويل ولديهم وقت فراغ هم
القادرون على ممارسة الأنشطة الجمالية والأخلاقية
والفكرية في بحثهم عن الكمال.
٣٢
وتنبعث انتقادات هيردر للحضارة من واقع خبراته في
الدويلات المتحدثة بالألمانية في وسط أوروبا خلال
سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر. وأضحت جزءًا
متكاملًا مع نقد أوسع نطاقًا للأوضاع الاجتماعية
والسياسية التي سادت في المناطق المتحدثة
بالألمانية. وكان هدفه الرئيسي الإقطاع والنبالة
المتوارثة والرقابة والدولة. وفي عام ١٧٨٩م كان
هيردر مؤيدًا صريحًا للثورة الفرنسية ولإعلان حقوق
الإنسان ولمطلب إلغاء الإقطاع وتفكيك الملكية
المطلقة. وفي سبتمبر من العام نفسه شارك هيردر في
آرائه عن الثورة … أعضاء طبقة النبلاء الألمان.
ووصف البلاط بأنه «رأس أجرب ورجال البلاط قمل يرعى فيه.»
٣٣
وأبدى هيردر ضيقه بمفكري
التنوير الذين أضفوا شرعيةً على تبعية واستغلال
الشعوب غير الأوروبية بزعم تفوق الحضارة
الأوروبية. واستثاره بوجهٍ خاص المعلقون
الاجتماعيون من أمثال جون ميلر، الذي صور في
كتاباته التاريخية الحضارة الأوروبية في عصر
التنوير بأنها أعلى مراحل التطور الاجتماعي،
وكتب يقول إنهم بذلك يدعمون القهر ويعملون من
أجل الحفاظ على الوضع
القائم.
«إن الرداء الشامل للفلسفة ونزعة حب البشر يمكن
أن يحجب قهر وانتهاكات الحرية الشخصية والبشرية
والمحلية والمدنية والقومية الحقيقية تمامًا مثلما
شاء لها سيزار بورجيا.»
٣٤
وعلى عكس ما ذهب إليه رأي التنوير السائد آنذاك،
مايَز هيردر بين الحضارة والثقافة. كان الرأي
السائد يرى الحضارة شيئًا مرتبطًا آليًّا بالدولة،
وأن عملية التحضر محت معارف البشر وخبرات الحياة
اليومية. مثال ذلك أن الدولة حاولت فرض الفرنسية،
لغة البلاط، على مجالات أخرى للحياة اليومية.
واعتقد هيردر أن اللغة أساسية للتفاعل الاجتماعي
وللتعلم. إنها الوسيلة التي أصبح الأفراد بفضلها
مدركين لأنفسهم وبمكنون ذواتهم، وواعين بالآخرين
الذين يتحدثون لغاتٍ مغايرة. وهكذا، فثمة رابطةٌ
وثيقة بين لغة مجتمع ما وأنماط فكره المشتركة بين
أبنائه وبين الحياة اليومية، أي مع الثقافة. أو
لنقُل بعبارةٍ أخرى إن ثقافة الجماهير مكون مشروط
ومركب، وإن اللغة أهم عنصرٍ أساسي لهذا البناء وأهم
نسخة مميزة للإرث الثقافي العام. وتميزت الثقافة،
على خلاف الحضارة، بالتلقائية والدنيوية والبساطة
الطبيعية.
وذهب هيردر إلى أن الثقافة تجمع بين كونها وحدةً
قومية ومجتمعًا محليًّا غير متعدد الشرائح نسبيًّا.
إنها تتألف من أولئك الذين كانوا خاضعين لسلطة
الحكم: المواطنين، الفلاحين والحرفيين والتجار وهم
أقل الجماعات تأثرًا بالحضارة، والمفكرين. ولم تضم
لا الأرستقراطيين الذين حكموا، ولا الرعاع، وإن لم
يكن لهم تعريف واضح إلا أنهم مميزون بجلاء، وموقعهم
على الطرف الآخر من مجموعة الطيف الاجتماعي. وإذ
كان هيردر قد عارض التراتبية الطبقية الوراثية، إلا
أنه أكد أن الزعماء الشعبيين «الرجال المؤمنين
بالشعب» نشأوا من بين الطبقة الوسطى، ويتعين لبثِّ
الحياة من جديد في كل الشعب أن ينتشر هؤلاء في
اتجاه الصعود واتجاه الهبوط في المجتمع.
٣٥ وحري بهؤلاء القادة الشعبيين أن
يكابدوا ويكافحوا لجعل النظام السياسي القائم أكثر
إنسانية؛ مما يمهد الطريق لحل الدولة كآلة إدارية،
ومن أجل ظهور تنظيم عضوي للحياة الاجتماعية، حيث
يكون مجالًا لتعاون نشط من شأنه أن يجعل كل صور
التقسيمات التابعة شيئًا باليًا وغير ذي دلالة.
٣٦
وانتقد الدولة لإخفاقها في مساعدة مواطنيها على
تطوير ميولهم واستعداداتهم البدنية والانفعالية
والفكرية والجمالية والأخلاقية والسياسية. ذلك أن
الدولة حين أغفلت تثقيف رعاياها حرمت نفسها من
مصادر مهمة وقيِّمة، ومن ثم عرض وجودها في النهاية
للخطر:
«إن الدولة إذ أخفقت في
الإفادة بالمواهب الإلهية والنبيلة التي حظي
بها الإنسان وتركتها لتصدأ، ومن ثم تسود مشاعر
المرارة والإحباط، فإنها بذلك لم تقترف فقط
عملًا من أعمال الخيانة ضد البشرية، بل ارتكبت
أشد الأخطاء التي يمكن أن تُلحِقها دولة
بنفسها. ذلك لأن الخسارة هنا بسبب هذه الأصول
«الميتة» و«المدفونة» ليس مجرد خسارة رأس المال
وفوائده. إن هذه الأصول في الحياة العملية هي
قوى الحياة، ولهذا فإنها تتحدى أبدًا دفنها
وتنزع إلى التسبب في ظهور حالة جسيمة من الفوضى
والاضطراب في جسد السياسة. إن إنسانًا عاملًا
لا يمكن أن يستقر به حال؛ لسبب بسيط جدًّا وهو
أنه كائن حي، وأنه في حالة إحباطه قد يتجه إلى
الإفادة بمواهبه من أجل غايات هدَّامة. وهنا
ستكون الفوضى الاجتماعية والسياسية هي النتيجة
الحتمية لهذه المأساة البشرية.»
٣٧
لقد كان واعيًا بحدة بالروابط بين حتمية التعليم
والفرص الاقتصادية واحتمالات الفوضى
السياسية.
واعتقد هيردر أن الدولة
حري بها أن تضطلع بمسئولية أنسنة، أي إسباغ،
الطابع الإنساني على رعاياها. معنى هذا أنه
يتعين على الدولة أن توفر التعليم وتكفل مستوًى
معينًا من الرفاه. ويقول بنص كلامه: «البلد ليس
بحاجة فقط إلى الآداب، بل والخبز أيضًا.»٣٨ وتتضمن عملية الأنسنة تطور الذات،
ليس فقط من حيث هي فرد، بل، وهو الأهم، من حيث
هي عضو في مجتمع. إذ يتعين على الأفراد، لبلوغ
أقصى إمكاناتٍ متاحة لهم، أن يتعاونوا بنشاط مع
بعضهم بعضًا ومع المجتمع على أوسع نطاق. وحري
أن يقود عملية الأنسنة هذه «رجال الشعب» وليس
الدولة وطبقتها الحاكمة. وإن وظيفة هؤلاء
الرجال «اختصار الدرب … وليس محاولة إرغامنا
حتى لا نُصاب بالشلل.»٣٩
واتخذ هيردر هدفًا له عالمًا متعدد الأمم، كل أمة
شعب له ثقافته وخبراته المميزة. وكان نموذجه
المجتمع القبلي.
٤٠ ورأى ضرورة دمج هذه الأمم عن طريق
نشاطٍ تعاوني مشترك بينها مرتكز على وعي أخلاقي لدى
أبنائها وليس عن طريق التوجيه الذي تفرضه الدولة
بالقانون. ورأى أن هذه الخطوات، على عكس الحضارات،
من شأنها أن تعزز الأنسنة داخل الأمة وبين الأمم
المختلفة.
وعمد المفكرون الذين تأثروا بفكر هيردر (وروسو)
إلى استكشاف المزيد من الروابط بين الحضارة
والثقافة تأسيسًا على المقارنات التي عقدوها. ففي
عام ١٨٣٠م، قدَّم صمويل تايلور كولريدج — الشاعر
الرومانسي الإنجليزي، والناقد الاجتماعي — وصفًا
لما سمَّاه ورطة الشباب غير المثقف مع الغلو
الحضاري، وقال: «أي أمة لا يمكن أن تكون مثقفةً
مفرطة في ثقافتها، ولكن يمكن أن تتحول بسهولة إلى
سلالة مغالية في تحضرها، إن دوام بقاء الأمة …
وتقدُّمِيتها وحريتها الشخصية … رهن حضارةٍ متصلة
مطردة التقدم، ولكن الحضارة ذاتها خير مختلط، إن لم
نفرط في القول وأضفنا أنها عامل مؤثر مفسد، وحمَّى
المرض، وليست عنوان الصحة. وإن أمةً ميزتها هذه
الصفات أليق بأن نسميها شعبًا زيَّنه طلاء، وليس
شعبًا صقلته ثقافة، نظرًا لأن هذه الحضارة ليست
راسخةً في عملية التثقيف وفي التطوير المتناغم
للصفات والملكات التي تميز الإنسانية.»
٤١
وعمد النقاد الاجتماعيون الألمان منذ ثلاثينيات
القرن التاسع عشر إلى بذل المزيد من الجهد المخلص
للحفاظ على التمييز بين الثقافة والحضارة. وفاقوا
في هذا معاصريهم من الفرنسيين والإنجليز
والأمريكيين.
ماركس وإنجلز والنقد المتطرف للحضارة
رأى كلٌّ من كارل ماركس وفريدريك إنجلز أن
الحضارة شكل مميز للمجتمع، يتصف بخصائص محددة وهي
التقسيمات الطبقية وجهاز دولة يعمل على الحفاظ على
علاقات عدم المساواة القائمة. وشرعَا في نقد
الحضارة الرأسمالية خلال أربعينيات القرن التاسع
عشر. ووصفَا في «بيان الحزب الشيوعي» (١٨٤٨م) أثر
التطور الرأسمالي على الحضارة في الداخل وفي
الخارج:
«جميع الصناعات القومية
التي تأسست قديمًا أصابها الدمار أو يلحق بها
الدمار يومًا بعد آخر. لقد أزيحت لتحل محلها
صناعات جديدة أصبح إدخالها مسألة حياة أو موت
بالنسبة لجميع الأمم المتحضرة. وحلَّت محلها
صناعات لم تعد تستخدم المواد الخام المحلية، بل
مواد خام مجلوبة من أقصى المناطق. واستهلاك
منتجات هذه الصناعات ليس قاصرًا فقط على السوق
المحلية داخل البلاد، بل يمتد إلى كل أرجاء
المعمورة. وبعد أن كانت الاحتياجات القديمة تجد
إشباعها في منتجات البلاد، ظهرت احتياجات جديدة
يستلزم إشباعها منتجات في بلدان وأجواء مناخية
نائية. وبدلًا عن العزلة والاكتفاء الذاتي
محليًّا وقوميًّا كما كان في السابق، أصبح لنا
اتصال وتداخل في كل اتجاه، وأصبحت الأمم تعتمد
على بعضها على صعيدٍ عالمي. وما حدث في مجال
الإنتاج المادي حدث أيضًا في مجال الإنتاج
الفكري. إذ أصبحت الإبداعات الفكرية للأمم
ملكيةً عامة مشتركة، بعد أن كانت إبداعاتٍ لكل
أمة على حِدة. وأصبحت النزاعات القومية أحادية
الجانب وضيقة الأفق أمرًا مستحيلًا أكثر فأكثر،
وانبثق أدب عالمي من بين الآداب المحلية
والقومية العديدة.
واستطاعت البرجوازية بفضل
التحسُّن السريع في أدوات الإنتاج، وبفضل
التيسير المهول لوسائل الاتصال أن تجر جميع
الأمم بما في ذلك أكثرها بربريةً إلى الحضارة.
وتمثل الأسعار الزهيدة لسلعها المدفعية الثقيلة
التي تجتاح بها جميع الأسوار الصينية وتقهر بها
مشاعر الحقد العنيدة والكثيفة لدى البرابرة ضد
الأجانب، وترغمهم على الاستسلام، وتدفع جميع
الأمم قسرًا، خوفًا من الانقراض، إلى تبني
نموذج البرجوازية للإنتاج، وتضطرها إلى إدخال
ما تسميه حضارةً؛ ليسود بين صفوفهم، أي لكي
يصبحوا برجوازيين. إنها بكلمة واحدة تخلق
عالمًا على صورتها …
المجتمع البرجوازي الحديث،
أصبح يملك علاقات الإنتاج والتبادل والملكية،
إنه مجتمع استحدث وسائل عملاقةً جبارة للإنتاج
والتبادل، وأصبح بصفته هذه أشبه بساحر، لم يعد
قادرًا على التحكم في قوى العالم السفلي التي
استدعاها واستحضرها بالرُّقَى
والتعاويذ.
وظل تاريخ الصناعة
والتجارة على مدى عقود كثيرة، خلت تاريخَ ثورةِ
قوى الإنتاج الحديثة، ضد أوضاع الإنتاج
الحديثة، وضد علاقات الملكية التي هي أوضاع
وجود البرجوازية ونظام حكمها. ويكفي أن نذكر
هنا الأزمات التجارية التي توافرت على مراحل
متوالية على سبيل التجربة كانت في كل مرة تمثل
خطرًا أكبر من السابق ويتهدد وجود المجتمع
البرجوازي بأكمله. والمشاهد في هذه الأزمات أنه
مع كل مرحلة تم تدمير جزء كبير ليس فقط من
المنتجات القائمة، بل وأيضًا من قوى الإنتاج
السابق اختراعها. وتنطلق مع كل أزمةٍ من هذه
الأزمات عدوى وبائية كانت تبدو في جميع العصور
السابقة نوعًا من العبث، ونعني به وباء زيادة
الإنتاج. ويجد المجتمع نفسه فجأةً ارتد إلى
حالةٍ من البربرية وشيكة الوقوع. ويبدو وكأن
مجاعة أو حرب كونية تشيع الدمار والخراب وتقطع
سُبل الإمداد بأي وسيلة للعيش! إذ يبدو وكأن
الصناعة والتجارة لحقهما الدمار، ولكن لماذا؟
لأن هناك قدرًا كبيرًا جدًّا من الحضارة،
ووسائل كثيرة جدًّا للعيش، وصناعة كثيرة جدًّا،
وتجارة كثيرة للغاية.»٤٢
وأبرز ماركس وإنجلز في «البيان» أن الرأسمالية هي
آخر شكل للحضارة، وتوافق ظهورها في غرب أوروبا مع
تحلل العلاقات الاجتماعية الخارجية التي ميزت نظام
الإقطاع وعمدَا إلى تضخيم مناقشتهما للأشكال الأخرى
للحضارة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ودرس ماركس
دراسةً فاحصة الكتابات الإثنولوجية (دراسات الأعراق
البشرية) في عصره. وأصدر إنجلز كتابه «أصل العائلة
والملكية الشخصية والدولة» (١٨٨٤م).
٤٣ ووصف إنجلز، آنذاك، ظهور وصعود الحضارة
على النحو التالي: «الحضارة … هي مرحلة تطور في
مجتمع شهد ذروة النمو في تقسيم العمل والتبادل بين
الأفراد الناتج عن هذا التقسيم، وإنتاج السلع الذي
يجمع بين الاثنين، ويعمل هذا المجتمع على تثوير كل
المجتمع السابق.»
٤٤
وبات لزامًا الإطاحة بقوة وسلطة المجتمع البدائي.
ولكن أطاحت به المؤثرات التي بدت منذ بدايتها
الأولى في صورة انحطاط وسقوط وتخلٍّ عن العظمة
الأخلاقية البسيطة لمجتمع النبالة والمحتد القديم
(أي المنتظم حول رابطة الدم والنسب). واستهل
المجتمع الجديد المتحضر الطبقي وجوده بأدنى مستويات
المصالح، النهم في أحط صوره، والشهوات الوحشية،
والبخل الدنيء، والنهب الأناني للثروة المشتركة.
وهكذا تم تقويض مجتمع النبالة اللاطبقي القديم
وأطيح به بأكثر الوسائل خِسةً وشرًّا، وهي السرقة
والعنف والمخاتلة والخيانة.
٤٥
واستكشف إنجلز العلاقة بين تكوين الطبقات
الاجتماعية والدولة. ولحظ أن ثمة مجتمعات قامت بغير
دولة، وأن الدولة ظهرت عندما أصبحت المجتمعات
منظمةً على أساس تراتبي هرمي.
الدولة … لم تكن موجودةً منذ الأزل. إذ كانت هناك
مجتمعات أدارت شئون حياتها بدونها، ولم يكن لديها
فكرة عن الدولة أو سلطتها. وفي مرحلةٍ محددة من
التطور الاقتصادي، والذي اشتمل بالضرورة على تقسيم
المجتمع إلى طبقات، أصبحت الدولة ضرورةً بسبب هذا التصدع.
٤٦
وبعد أن أشار إنجلز إلى أن الرق والتجارة
والاستغلال بلغت أوجَها في ظل الحضارة، أضاف
قائلًا: «مرحلة إنتاج السلع التي بدأت بها الحضارة
تتميز اقتصاديًّا بإدخال: (١) النقد المعدني ومعه
رأس المال المالي والفائدة والربا. (٢) التجار
باعتبارهم طبقة الوسطاء بين المنتجين. (٣) الملكية
الخاصة للأرض ونظام الرهن. (٤) السُّخرة أو عمل
الرقيق كشكل مهيمن في مجال الإنتاج. كذلك فإن شكل
الأسرة المتوافق مع الحضارة والذي حدد بالتالي
طبيعة التفوق فيها، هو الزواج الأحادي، وقوامة
الرجل على المرأة، والأسرة الواحدة كوحدة اقتصادية
للمجتمع. وتمثل الدولة الرابطة المركزية في المجتمع
المتحضر. والدولة هنا في جميع المراحل ودون استثناء
دولة الطبقة الحاكمة، وتواصل في جميع الحالات العمل
لكي تكون أساسًا آلة تحكم وضبط الطبقة المقهورة المستغلة.»
٤٧
ولكن لم يقدم ماركس أو إنجلز تخطيطًا تفصيليًّا
لبدائل عن الحضارة الرأسمالية ولا كيف يتأتى
إنجازها، ولكنهما استطاعا بفضل دراستهما للتاريخ
والمتوسع الإمبريالي أن يدركا أن تقدمًا اجتماعيًّا
مطردًا سوف يتحقق وسوف ينطوي بالضرورة على صراع،
واستخدم كلاهما مرارًا فكرة العود الجدلي والتي
تتجلى في أوضح صورها في شكل الشيوعية: «عودة غياب
الملكية الشخصية والتقسيم اللاطبقي للعمل المميز
للمجتمعات البدائية، ولكنه هذه المرة قرين القدرات
الإنتاجية الرأسمالية.»
٤٨ وواقع الحال أن كلًّا من ماركس وإنجلز
اتجها باهتمامهما إلى المجتمعات المشاعية البدائية
والأولى قبل الرأسمالية في أعوامها الأخيرة، والتي
توافقت مع انفجار توسع أوروبا الإمبريالي في
أفريقيا، وتوسع الولايات المتحدة الإمبريالي في
أمريكا اللاتينية وفي الباسيفيكي، وفي الأقاليم
الهندية داخل أراضيها.
انتقادات ليبرالية ضد الحضارة
كان النقاد الليبراليون يتساءلون بالفعل عن نوع
المجتمع الآخذ في التبلور خلال منتصف القرن التاسع
عشر وقتما أعلن الداروينيون الاجتماعيون حتمية قيام
حضارة وحدوث تقدم محورهما الغرب. وفي ثلاثينيات
القرن التاسع عشر علَّق جون ستيوارت ميل الناقد
الاجتماعي والموظف لدى شركة الهند الشرقية
البريطانية على تجليات التطور الرأسمالي بالنسبة
للثقافة والحضارة الغربيتين:
«خذ كمثالٍ مسألة مدى
المكاسب التي حققتها البشرية من الحضارة، نجد
أحد المراقبين أصابه الذهول على الرغم من
إرادته إزاء تعدد مظاهر الراحة المادية. تقدم
المعرفة وانتشارها، انحسار الخرافة، تيسيرات
التواصل المتبادل، رقة الأخلاق، تراجع الحروب
والنزاعات الفردية، الحد باطراد من طغيان القوي
على الضعيف، الأعمال العظمى التي تحققت على
نطاق الكوكب بفضل التعاون بين أعداد غفيرة من
الناس … ونجد آخر يثبت انتباهه ليس على قيمة
هذه المزايا، بل على السعر المرتفع الذي يدفعه
مقابلها، واسترخاء الطاقة والشجاعة لدى الفرد،
وضياع الاستقلال القائم على الكبرياء والاعتماد
على النفس، واسترقاق جانب كبير من البشرية
لإنتاج احتياجات صناعية، ورتابة الحياة التي لا
تستثير سوى البلادة، والتفاهة المجردة من
العاطفة، وغياب أي فردية مميزة، والتباين بين
الفهم الميكانيكي الضيق الناتج عن حياةٍ انقضت
في سبيل إنفاذ مهمة محددة لا تتغير التزامًا
بقوانين ثابتة، وقوى الإنسان المتباينة في
الغابات حيث اعتمد عيشه وأمنه في كل لحظة على
قدرته على ملاءمة الوسائل مع الغايات، كل على
حِدة، والنتائج المدمرة للأخلاق الناجمة عن
مظاهر التفاوت الكبيرة في الثروة وفي المرتبة
الاجتماعية، ومعاناة الجماهير الواسعة في شعوب
البلدان المتحضرة الذين نادرًا ما يكون نصيبهم
في الوفاء بمتطلباتهم أفضل من نصيب الهمج،
بينما تقيدهم آلاف الأغلال بدلًا من الحرية
والإثارة اللذين يجدون فيهما عوضًا
لهم.»
٤٩
وبحلول مطلع القرن العشرين، كان النقاد
الليبراليون قد صاغوا رؤاهم تأسيسًا على استبصارات
ستيوارت مل بشأن تناقضات الحضارة الغربية. وتزايد
إيمانهم بأن التقدم الناجم عن إنتاج الثروة ليس سوى
وهمٍ تفاؤلي. وأوحت لهم حالات الركود الاقتصادي
الشديدة في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر
برأي بديل يؤكد أن إنتاج الثروة حدث خلال اندفاعات
قصيرة سرعان ما تعقبها حتمًا فترات ركود. ونتيجةً
لهذه الدورات امتلأت قارات الدنيا بأطلال الأمم
والحضارات المندثرة.
٥٠ وذهب بعض النقاد، خاصةً رجال الدين
الليبراليين في الولايات المتحدة إلى أن الحضارات
السابقة أخفقت، وأن الثروة الجديدة التي خلفتها هذه
الحضارات لم يجرِ توزيعها بالتساوي. هذا بينما أصبح
بعض أبناء هذه المجتمعات شديدي الثراء للغاية؛ ظلت
الغالبية الساحقة ترسف في مهاوي العبودية أو الفقر.
وعمد الأثرياء إلى حماية ممتلكاتهم التي انتزعوها
لأنفسهم على نحوٍ غير أخلاقي، بقوانين غير عادلة،
وبالمركزية السياسية وقهر الجماهير. وأدت مظالم
الحضارة إلى تدمير الأخلاق.
وذهب رجال الدين الليبراليون إلى أن الأمل الوحيد
في إعادة تجديد النظام الاجتماعي الحديث يتمثل في
إعادة تأسيس الوجود الأخلاقي. ويمكن أن يتحقق هذا
إذا ما استلهمت الكنيسة الحركات الاجتماعية، دون
محاولة السيطرة عليها، والتي كانت معنيةً في آنٍ
واحد بإعادة تقدير القيم وتعزيز الظروف التي تلائم
وتحبذ توزيعًا أكثر مساواةً للملكية والثروة. وتكمن
في هذا الرأي الأسس النظرية والسياسية للاهوت
التحرر في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
٥١
وتحقق سيجموند فرويد، وهو أحد مؤسسي مدرسة
التحليل النفسي، من أن المُثل العليا للحضارة
والتقدم البشري دمرتها بقسوةٍ وحشية الحرب العالمية
الأولى وما خلفته من معاناة. واستكشف في كتابه
«الحضارة وما أثارته من سخط» (١٩٣٠م) كيف أن
الإضافات الأخيرة التي أضافتها الحضارة نزعتها
الحرب لتكشف عن العنصر الهمجي أو العناصر البدائية
الكامنة حتى في أكثر المجتمعات تحضرًا.
٥٢ وأن العداوات المتبادلة بين البشر هددت
بالخطر نسيج الحضارة ذاته. وهكذا، وبعد أن حجبت
الانفعالات والأهواء تعزيز دور العقل وتغلبت عليه،
بات لزامًا على الحضارة أن تستخدم أقصى ما لديها
لكي تفرض حدودًا على الغرائز العدوانية لدى البشر
وتكبح جماح محاولتها الظهور …
٥٣
وفي رأي فرويد أن الحضارة تشتمل على استخدام
العلم والتكنولوجيا وكبح جماح الطبيعة وكذلك من أجل
ملاءمة العلاقات الاجتماعية مع النظام الاجتماعي.
لقد كانت:
هي جميع هذه الجوانب التي
ارتفعت بها الحياة البشرية على وضعها الحيواني،
وتشتمل من ناحيةٍ على جميع المعارف والقدرات
التي تيسرت للإنسان بغية التحكم في قوى الطبيعة
واستخلاص ثروتها لإشباع حاجات الإنسان، وتشتمل
من ناحيةٍ أخرى على جميع القوانين المنظمة
اللازمة لتوفيق علاقات البشر مع بعضهم البعض
وخاصةً توزيع الثروة المتاحة.
٥٤
وإن الحضارة ذات الأبعاد الطبقية والثقافية
المهمة كانت شيئًا مفروضًا على غالبيةٍ تبدي
مقاومة، وفرضته أقلية عرفت كيف تمتلك أسباب القوة والقهر.
٥٥ ونظرًا لأن تحكم الأقلية في الأكثرية
بات يمثل ضرورةً فقد أصبح الإرغام القسري أداةً لا
غنى عنها للطبقات الأكثر تحضرًا. ذلك لأن:
الجماهير كسولة وغير ذكية.
ليس لديهم حب للإقلاع الغريزي عن شيء ما،
وليسوا أهلًا للاقتناع بالحجة عن حتمية ذلك.
وأفرادها يدعمون بعضهم بعضًا لإطلاق نزعتهم إلى
اللانظام. وإن السبيل الوحيدة لحثهم على أداء
العمل وتحمل عبء الإقلاع عن شيء، وهما الأساس
الذي تنبني عليه الحضارة، إنما يكون عن طريق
ممارسة نفوذ أفراد يمكن أن يضربوا المثل وتعترف
الجماهير بهم قادةً.
٥٦
ولكن فرويد رأى أن الإرغام ينطوي على خطر؛ ذلك
لأنه قد يستثير حفيظة وعداء الجماهير، خاصةً: إذا …
لم تكن ثقافةٌ ما تجاوزت النقطة التي يتوقف إشباع
بعض أبنائها على قهر الآخرين، وربما العدد الأكبر
منهم، ومن المفهوم أن المقهورين سوف تتطور لديهم
مشاعر عداء شديد تجاه ثقافةٍ يصبح وجودها ممكنًا
بفضل جهدهم وعملهم، ولكن ليس لهم من ثروتها سوى
نصيبٍ شديد الضآلة.
٥٧
وذهب فرويد إلى أن المشكلة الرئيسية التي تواجه
الحضارة المعاصرة ظلت داخل مجال العلاقات
الاجتماعية: كيف يمكن تأسيس وصَون العدالة
والمساواة، قبل القانون، من أجل الشعوب المتحضرة.
ورأى أن المشكلة يمكن معالجتها عن طريق: إعادة
تنظيم العلاقات البشرية … وهو ما من شأنه أن يزيل
أسباب السخط عن طريق التخلي عن الإرغام القسري وقمع
الغرائز، وهكذا يمكن للبشر وقد تحرروا من مظاهر
النزاع الباطني الذي يثير اضطرابهم، أن ينذروا
أنفسهم لاكتساب الثروة وما يقترن بها من إمتاع.
٥٨
معنى هذا أن اللذة الناجمة عن تحقق حاجات البشر،
مثل النظام والنظافة، لم يعد بالإمكان إخضاعها
لمتطلبات الحضارة. وسوف يعني هذا أيضًا أن هذه
الجماعات التي تدخل المجتمع المتحضر سوف تقايض
الحرية الفردية بالأمن، وتقلع عن أشكال معينة من
اللذة. وسوف يحل محل قوة الفرد عقدٌ اجتماعي يضم
مجتمعًا بأكمله نذر نفسه لمبدأ العدالة … أي تأكيد
أن القانون ما إن يصدر فلن ينتهكه أحد لصالح فرد
ما. ولا علاقة لهذا بالقيمة الأخلاقية لمثل هذا
القانون … إذ ينبغي أن تكون المحصِّلة النهائية
سيادة قانون أسهم من أجله الجميع، دون أولئك الذين
عجزوا عن الانتماء إلى مجتمعٍ ما (أي المجنون
والمرأة والأطفال) وقد أسهموا بالتضحية بغرائزهم
ولا يدع أحدًا — مرةً أخرى مع الاستثناء ذاته — تحت
رحمة القوة الغشوم.
٥٩
وإن تشاؤمية فرويد إزاء آثار البنية الطبقية
للحضارة قادته إلى الاعتقاد بأنه: يبدو أن المسار
النهائي للتطور الثقافي ينزع في اتجاهٍ جعل القانون
يكف عن أن يكون تعبيرًا عن إرادة مجتمع صغير، طائفة
أو شريحة من الناس أو جماعة عِرقية، والذي يسلك
بدوره سلوك شخص عنيف إزاء آخر، وربما جماعات أكبر
عددًا من الناس.
٦٠
انتقادات ثقافية للحضارة
على خلاف تقييم فرويد الذي طابق بين الثقافة
والحضارة جاء تعليق فريدريك نيتشه على الحضارة
الغربية في ثمانينيات القرن التاسع في صورة نقدٍ
ثقافي. واستهدف في آنٍ واحدٍ العلم الحديث
والمسيحية والمفهوم السائد عن الثقافة الإغريقية
الكلاسيكية الذي ترتكز عليه الحضارة الغربية. ولقد
تشابكت هذه العناصر معًا على مدى القرون، بحيث
إنها، في رأيه، جمَّدت الحقيقة وجانستها لتخدم
مصالح الأمة والدولة. لقد ركدت الثقافة الغربية،
التي كانت يومًا قوةً تقدمية مكينة. ونتيجةً لهذا،
لم يعد من المفيد التشبث بقيمٍ ضاربة بجذورها في
التاريخ الأوروبي. وبينما كانت الثقافة الإغريقية،
قبل سقراط، ثقافةً أصيلة وموثوقًا بها، فإن ثقافة
الغرب الرأسمالي الحديث ليست كذلك. إنها بدلًا من
ذلك وحدةٌ مركبة من أجزاء تحوم في اتجاهات مختلفة،
تم أخيرًا ربطها ببعضها عن طريق رأي شعبي
مختلق.
ولسوء الحظ، حسبما رأى نيتشه، أن سماسرة الثقافة
الحديثة الذين اختلقوا حالة رضًا وقبول للحضارة
الغربية إنما هم مراءون، أي كانوا برابرةً خلطوا
نزعة التماثل بالثقافة الأصيلة واعتقدوا، بسبب
وعيهم الزائف، أنهم مثقفون مهذبون شأن النخبة
المتعلمة في الأزمنة الكلاسيكية. وواصلوا إعادة
مجموعة من القيم تزعم أن العالم والأخلاق ثابتان
غير متغيرَين وغير قابلَين للتغيير. بيد أن اللغة
والمفاهيم التي استخدموها لفهم أنفسهم وفهم الآخرين
اتسمتا بالمحدودية الشديدة، بحيث إنهما لم يوضحا أي
شيء، سواء لفهم أو تفسير العالم من حولهم. واقترح
نيتشه تحليل مزاعمهم؛ أوهامهم وأهوائهم التي أفادت
في تثبيت العلاقات الاجتماعية وترويج العدمية.
٦١
واعتقد نيتشه أن الغرب بحاجة إلى قيم جديدة من
شأنها أن تحمي الفرد الخلاق حقًّا، ولنا أن نجد هذه
القيم من خلال إعادة صياغة فلسفية لثقافة الإغريق
قبل سقراط. وعلى الرغم من أن نيتشه نفسه لم يقدم
بديلًا عن مزاعم سماسرة الثقافة، إلا أن الآراء
والمناهج التي استخدمها لكشف حقيقة لغتهم ومفاهيمهم
تبناها النقاد الاجتماعيون المعاصرون لنا من أمثال
ميشيل فوكو. ونتيجةً لذلك فإن أسباب اهتمامه وقلقه
بشأن النزعة النسبية وسياسة الأخلاق شكلت الأساس
عند كثير من النقاد بعد الحداثيين في نقدهم للثقافة
الغربية المعاصرة.
٦٢
وصاغ أرنولد توينبي، فيلسوف التاريخ والمحاضِر
ذائع الصيت، نقدًا ثقافيًّا للحضارة الغربية
مغايرًا لنقد نيتشه، وذلك خلال السنوات التالية
مباشرةً للحرب العالمية الثانية. وبنى أفكاره على
دراسة مقارنة لأكثر من عشرين حضارةً قديمة وحديثة.
وذهب توينبي إلى أن الحضارة نشأت ونمت عندما واجهت
أقلية إبداعية في المجتمع بنجاح وخلال مرات متعددة
تحديات بيئتهم، وعندما توقفت هذه العملية، وعادةً
تتوقف في كل مرحلة، انهارت الحضارة وبدأت تتفسخ.
وافترض توينبي أنه مع تفكك هذه الحضارات الْتمست
أقلياتها المهيمنة (الحكام) سبيلًا لتأسيس دول
عالمية قوية للغاية، هذا بينما العمال الكادحون في
الداخل «البروليتاريا» (غالبية السكان) حاولوا
تأسيس كنائس عالمية؛ تمثلها الأديان المختلفة. كذلك
فإن البروليتاريا الخارجية، أي المهمشين بفعل
انهيار الحضارة وصعود دول عالمية، قاوموا وهاجموا
الحضارة المتحللة من الخارج.
وبعد الخراب الذي خلفته الحرب العالمية الثانية،
دفع توينبي بأن العالم يعيش أزمة، وأشار عبر
المحرقة النازية إلى العدوان المتصل من جانب
الحضارة الغربية باعتباره المشكلة التي يجد بقية
العالم نفسه مدفوعًا للرد عليها، وأن الأمل في
الخلاص ينحصر فقط في تلاقي الأديان الكبرى للحضارات
الباقية: المسيحية، والإسلام، والهندوسية،
والبوذية. ويتأتى هذا التلاقي عن طريق بناء جسور
بينها. وأعرب عن مخاوفه؛ إذ دون ذلك لا جدوى من
التقدم الدولي والإبداعي، وربما تضطر شعوب العالم
إلى الاعتماد على الحوافز والغرائز التي حدثنا عنها
هوبز وفرويد.
٦٣
خلاصة
درسنا في هذا الفصل الانتقادات المتعددة للحضارة
والوسط الذي ظهرت فيه. بدأ النقاد صياغة تقييماتٍ
تخلو من الإطراء للحضارة الغربية في القرن السادس
عشر، أي في الوقت ذاته الذي ابتكر فيه فكرة الحضارة
دعاة ومشرِّعي المجتمعات المنظمة تراتبيًّا وثقافة
الطبقة الحاكمة. ولاحظنا أنه منذ أربعينيات القرن
السادس عشر فصاعدًا، ارتاب نقاد الحضارة وتساءلوا
عما إذا كانت الحضارة والثقافة والأخلاق في البلدان
الأوروبية أرفع مرتبةً عن نظيراتها لدى الشعوب غير
الأوروبية (البدائية) الذين التقوا بهم في
المستعمرات الأمريكية أو الأفريقية أو الآسيوية.
وأفاد النقاد بالدراسات الإثنوجرافية عن هذه
الشعوب، وأيضًا عن فلاحيهم في بلادهم هم للطعن في
ادعاء تفوق الطبقات والدول المتحضرة، وعمد أكثر
النقاد إلى وضع خطٍّ فاصل مميز بين الحضارة
والثقافة.
ورأينا كيف أن بعض النقاد (من أمثال ونستانلي
وهيردر) الذين اتخذوا موقفًا نقديًّا من الدين
المنظم، استمدوا صورًا من فصول الكتاب المقدس التي
تصف أعمال الرسل والمجتمعات التي استلهموها. ووجدنا
آخرين غيرهم بنوا نقاشهم للاستغلال والقهر في ضوء
ثقافةٍ أو نظريةٍ اجتماعية اقتصادية سياسية. هذا
بينما أكد النقاد الرومانسيون القوميون على دور
الإبداع والعفوية، وهو الاتجاه الذي ظهر مع نهاية
القرن الثامن عشر. واعتاد النقاد الليبراليون
التأكيد على الخطر الذي يسببه الاستغلال بالنسبة
للحفاظ على النظام الاجتماعي، والذي اقترن ظهوره
واستمر مع الرأسمالية الصناعية في القرن التاسع
عشر. وأكد النقاد المتشددون (الراديكاليون) على
حالة الاستغلال والعلاقات الاجتماعية غير المتكافئة
داخل المجتمع، والتي ظهرت خلال هذا الوقت ذاته،
وركز النقاد الثقافيون للحضارة على الحداثة وعلى
أنشطة دعاة وأنصار الحضارة والتي بدأت قرب نهاية
القرن التاسع عشر.