الفصل الرابع
اختراع البرابرة وشعوب أخرى غير متحضرة
الحضارة كما تبين لنا، تشتمل دائمًا على علاقاتٍ
اجتماعية وثقافات منظمة على نحو تراتبي هرمي، ومن ثم
الحضارة مجتمع مقسم طبقيًّا إلى شرائح، ذلك لأن
«الحضارة نشأت عن طريق الغزو من الخارج والقهر في الداخل.»
١ وارتبط ظهورها على نحوٍ وثيق بتكون الطبقات
الاجتماعية وجهاز الدولة. والملاحظ كجزء من عملية
التحضر الاجتماعي أن الجماعات المهيمنة سياسيًّا تعمل
جاهدةً من أجل تمييز نفسها اجتماعيًّا وثقافيًّا سواء
عن الطبقات التي يخضع لها أبناؤها في الداخل وكذلك عن
المجتمعات الواقعة خارج الحدود. ويصورون أبناءهم على
أنهم مهذبون مثقفون أنقياء. هذا بينما أبناء الطبقات
الخاضعة والمجتمعات الخارجية فهم في صورةٍ على النقيض،
غير متحضرين أو برابرة أو أجلاف أو سُذج، أو همج أو
متوحشون. والملاحظ أن التشخيص الدقيق والمحدد متغير
تاريخيًّا؛ إذ يتباين من حضارةٍ إلى أخرى.
وإن أهم تجليات هذه الأوصاف أن الجماعات المهيمنة
تنزع إلى تجنيس أو إضفاء تجانس بين الطبقات والمجتمعات
الأخرى، فهم جميعًا سواء، ولكن مع التأكيد فقط على
بُعدٍ واحد يرونه الجوهر المميِّز لهم. ويحرص المتحضرون
خلال هذه العملية على أن يكون فهمهم هزيلًا بشأن هذه
الجماعات الأخرى، وحجب أي علاقة تربطهم بهم. ويفضي هذا
في النهاية إلى إثارة مخاوفهم من هذه الجماعات التي
تغتصب سلعهم وجهدهم في العمل.
واعتاد كلٌّ من دعاة الحضارة أو منتقديها على مدى
القرون الخمسة الماضية أن يستمدوا تصوراتهم عن الشعوب
غير المتحضرة من انطباعات ودراسات المرجعيات السابقة،
بما في ذلك الكتاب المقدس والكُتاب الكلاسيكيون من
أمثال أرسطو. ونعرف أن هذه المصادر القديمة ناقشت نظام
الحكم، والخير والشر، والسلم والحرب، والنظام والفوضى.
وكتبت عن الطبيعة، والإنسان، والمجتمع، وصاغت استعاراتٍ
غنيةً بمعناها، مثل البرابرة، أو الفراديس، أو الأطلال،
أو البراري، والتي لا تزال تستثير صورًا قويةً للإيحاء
حتى يومنا هذا. وعندما استعاد المفكرون هذه المصادر
وبعثوا فيها الحياة اعترفوا بمكانتها المرجعية كسلطةٍ
فكرية وترجموها إلى اللغات الدارجة بين شعوب أوروبا
الغربية. وأكدوا أن الكتاب المقدس والكتَّاب
الكلاسيكيين سيواصلون دَورهم المهيمن في مجال الحوارات
الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية الدائرة
اليوم. وهكذا بعثوا إلى الحياة من جديد المرجعيات التي
ماتت من زمنٍ طويل، والتي كتب أصحابها في حياتهم عن
مجتمعاتهم هم، وأصبحوا دعامةً يرتكز عليها أنصار ونقاد
الحضارة تأسيسًا على مجموعةٍ من الأفكار والصور
والاستعارات التي تسنَّى لهم استخلاصها والركون إليها
وإعادتها مرات.
لم تكن لدى السلطات المرجعية القديمة نظرةٌ أحادية.
وأحد أسباب ذلك أن الحضارة قبل أي شيء آخر كلٌّ مركب
مُؤلف من جماعات وطبقات ومجتمعات متباينة وتربطها
بالسلطة علاقات مختلفة. وطبيعي أن المفكرين إذ يعبِّرون
عن مشاعر ومدركات مجتمعاتهم الخاصة المتباينة تكون لهم
في العادة مدركات متباينة عن البنية الكلية.
سبب ثانٍ: أن بعض المصادر القديمة هي في الواقع
تجميعات وتصنيفات لآراء جماعات مختلفة. وربما كان
الكتاب المقدس، وهو الأقوى سلطةً بين جميع المراجع
القديمة، هو المصنف الأكثر شيوعًا وانتشارًا على لسان الكتَّاب.
٢ ونتيجةً لذلك:
«قد يعني الكتاب المقدس أشياء
مختلفةً لدى ناسٍ مختلفين في أزمنةٍ مختلفة وفي
ظروفٍ مختلفة. وهناك أفكار قليلة لا نجد لها سندًا
يدعمها في الكتاب المقدس، ولكن الكثير يمكن قراءته
من بين السطور.»
٣
سبب ثالث: أنه بالنسبة لأي جيل من الأجيال نجد الظروف
والملابسات والممارسات تربط القراءة بهذه النصوص على
نحوٍ خاص وبطرق مميزة تصوغ أسلوب فهمهم لها. ذلك أن
القراء الذين يؤوِّلون النص إنما يقومون بدور الناقد،
ويرون النصوص من خلال عدسات مختلفة، ويدفعون العملية
التأويلية في اتجاهات جديدة أو مغايرة. ونتيجةً لهذا
يأخذ النص معاني كثيرة يتعين تقييمها في ضوء الظروف
والملابسات الراهنة.
٤
وسوف نتناول في هذا الفصل كيف أن السلطات المرجعية
ابتدعت وصقلت وأعادت تداول الأفكار عن البرابرة وغيرهم
من الشعوب غير المتحضرة.
الواضح أن كلمات الطبقة والجنوسة والعِرقية والعنصرية
هي تمييزات صيغت تاريخيًّا واجتماعيًّا وليست تصنيفاتٍ
طبيعية. بيد أنه من المفيد أن نتذكر أن كلًّا من دعاة
الحضارة ومنتقديها اتخذوا تقليديًّا موقفًا من اثنين:
إما مقابلة الحضارة بالطبيعة، أو الزعم بأنها تطورت عن
الطبيعة، والذي يحدث عادةً عبر سلسلة من المراحل أو في
ظل ظروفٍ معينة. ونتيجةً لذلك، فإن فكرة الطبيعة التي
لها دور مهم في كلا التصورين «تشتمل على … كمٍّ غير
مألوف من التاريخ البشري.»
٥ إنها فكرة معقدة كان لها ومنذ زمنٍ طويل
استعمالان يجريان على الألسن في آن واحد: (١) الطابع أو
الصفات الجوهرية الأصيلة لشيء ما. (٢) كثرة الأشياء أو
العمليات الحية … المنتظمة حول جوهر أو مبدأ واحد هو الطبيعة.
٦ وحيث إن المناقشات بشأن الطبيعة والعلاقة
البشرية معها تتمخض في النهاية عن المعرفة والسيطرة،
فإن من المتعذر فصلها عن مصالح واهتمامات الأفراد
والجماعات الذين اصطنعوها.
البهائم والبرابرة والمرأة في اليونان
القديمة
الإلياذة والأوديسا قصائد الشعر الملحمي البطولي
من نظم هوميروس في جزر بحر إيجة قبل ٧٠٠ق.م.
وتمثِّل هذه القصائد أقدم مصادر للمعلومات عن الفكر
الاجتماعي في اليونان القديمة. اعتاد أن يرويها
رواةٌ جوَّالون أمام تجمعات من الناس. وتعطينا هذه
القصائد لمحاتٍ عن الظروف الاجتماعية في منطقة بحر
إيجة قبل ظهور أول «بوليس»، أي الدولة-المدينة.
وظهرت أول ما ظهرت على الحدود الغربية للإمبراطورية
الآشورية الجديدة. وكان الأشوريون الجدد يسيطرون
آنذاك على القطاع الأكبر من الشرق الأدنى، المدن
الفينيقية المستقلة، حين كان ما يُعرف الآن باسم
لبنان وإسرائيل ومصر، التي ضعفت سياسيًّا.
وتصف الأشعار مجتمعاتٍ لا تعرف نظام المركزية
السياسية، وأيًّا كانت قوة الزعماء أو أمراء الحرب
أو الشيوخ، فإنها كانت تعتمد إلى حد كبير على قدرة
هؤلاء على إقناع أقاربهم وجيرانهم بأن الأعمال التي
يقترحونها عليهم هي أعمالٌ ملائمة هدفًا ومسارًا.
٧ ويتمايز البشر عن بعضهم على أساس
المكانة والجنوسة، وعن الآلهة بفضل أخلاقهم. وإن
قدرتهم على الكلام وما يتحلون به من ثقافة أو
مهارات في إنتاج الطعام وغير ذلك من سلعٍ امتازوا
بها على الحيوانات وعن الكائنات الخارقة، الكائن
الخرافي المعروف باسم القنطور، وعملاق السيكلوب
الأسطوري، والكائنات الأسطورية المسماة السيرانات،
وغيرها من حيوانات خيالية غير بشرية، وتسكن على
هامش العالم. ولم تفرض القصائد فواصل مميزةً كبيرة
بين الإغريق وجيرانهم المتحدثين بلغاتٍ غير
الإغريقية. وبعد ذلك بقرونٍ عديدة، عاد وأكد
ثوسايديدس أن عادة قدامى الإغريق لم تكن في الحقيقة
مختلفةً كثيرًا عن عادات المجتمعات المجاورة لهم،
وأن العادات والأعراف مايزت بينهم خلال الشطر
الأخير من القرن الخامس ق.م. وهي عبارةٌ عن تطورات
حديثة العهد.
٨
وسرعان ما تحوَّل العالم الذي صورته الإلياذة
والأوديسا، وذلك في أواخر القرن السادس ق.م. بعد
غزو الإمبراطورية الفارسية وابتلاعها «نينوى»
العاصمة الآشورية الجديدة، وتدمير الإمبراطورية
البابلية الجديدة، ثم شرعت بعد ذلك في تهديد
المجتمعات المتحدثة بالإغريقية المطلة على آسيا
الوسطى وبحر إيجة. وردَّ سكان هاتين المنطقتين
الأخيرتين على الخطر الفارسي بوسائل متباينة. مثال
ذلك أنه بحلول عام ٥٠٠ق.م. شكلت مجتمعات إقليم
أتيكا حِلفًا طبقيًّا مشتركًا أرسى أسس المدينة
الأثينية الديمقراطية التي لا تعتمد على نظام
الأسر. وأصبح جميع الرجال من أبناء المجتمعات
المحلية مواطنين أثينيين، بغض النظر عن مكانة أي
منهم. وتحدد هوية كلٍّ على أساس مواطنته وتأسيسًا
على أنه ليس أجنبيًّا ولا امرأة. وأعيدت صياغة أسس
التمييز بين الرجال والأجانب والنساء على أساس
تراتبية هرمية متزايدة باطراد، وتحقق هذا بفضل قوة
وتضامن المجتمعات المحلية التي ضمتها دولة أثينا
إليها، وبفضل أدوار الزعماء التقليديين التي آلت
إلى طغاةٍ من أمثال أوديب الأسطوري.
٩
واستخدم الإغريق انطباعاتهم عن الفرس وقد اتخذوهم
نموذجًا لهم، ومن ثم ابتدعوا فكرة البرابرة خلال
النصف الأول من القرن الخامس ق.م. وقالوا إن أعضاء
البلاط الإمبراطوري الفارسي يعيشون في ترف وبذخ ولا
يتحدثون الإغريقية، كما أن الحاكم الفارسي مستبد.
وأضافوا أن البرابرة انفعاليون قُساة خطرون،
ومتعددو الزوجات ويغشون المحارم، بل إن بعضهم مارس
التضحية بالبشر،
١٠ والأهم من هذا كله أن البرابرة لا
يعيشون في مدينة-دولة ديمقراطية، وأنهم في كلمةٍ
واحدة، نقيض الإغريق. وهكذا، وبعد أن تحددت في
نظرهم خصائص البرابرة، سرعان ما أصبحت صورهم
مألوفةً داخل الدولة-المدينة الإغريقية. وتأكدت هذه
الصورة بوجهٍ خاص بعد أن صوَّرهم كتَّاب المسرح، من
أمثال إيسخيلوس وسوفوكليس في صورٍ واضحة شديدة
التعبير، في تراجيدياتهم وكوميدياتهم التي جرى
تمثيلها كل عامٍ أمام حشود ضخمة.
١١
وظهرت كذلك في أثينا خلال القرن الخامس، علاقات
جنوسة (تمييز اجتماعي ثقافي بين الجنسين) جديدة
منظمة على أساس تراتبي. وذلك لأن القادة الذكور
التقليديين في المجتمعات المحلية شاءوا الاحتفاظ
بسلطتهم والإبقاء على وحدة المجتمع ضد تدخلات
الدولة. وبدأ هؤلاء القادة يؤكدون سيطرتهم القوية
على زيجات بناتهم. وبذلك كان للأب أن يقدِّم ابنته
زوجةً لرجل صاحب مكانة رفيعة، مما يعزز وضعها
القرابي، وربما يهيئ لها ثروةً ويسهم في الحفاظ على
مجتمعهم. ومع انهيار الاستقلال الذاتي للمرأة وحقها
في الاختيار، أصبح بالإمكان أن يزوجها أبوها طفلةً
أو مراهقة، وأن تبقى حبيسة بيت الزوجية لإنجاب
أطفال لعائلته. وعندما احتجَّت النساء على عزلتهن
وحاولن تأكيد حقوقهن التقليدية، احتقرهن كتَّاب
المسرح، ورأوا في ذلك عقوقًا أو تهورًا أو
لاعقلانية، أو خطرًا، وزعموا، بكلمةٍ واحدة أن
المرأة الأثينية تتصرف كما يتصرف البرابرة الذين
هددوا بتدمير أركان الحضارة.
١٢
مثال ذلك أن إيسخيلوس في مسرحيته أوريستيا، يصف
تحدي كليتمنسترا لسلطة أبيها على وجه الخصوص،
ولسلطة الرجال بعامةٍ عندما قتلت زوجها ليلة
زفافهما ووصفته بأنه طاغية في موقعه هذا منها،
وهزمت الرجال في مساجلةٍ كلامية. كذلك وصف سوفوكليس
في مسرحية أوديب زواج امرأة من بنات النخبة من رجل
أقل منها مكانة، وما يمثله ابنها أوديب من خطرٍ
يتهدد السلطات التقليدية، والنظام الأخلاقي السائد.
وصوَّر يوريبيدس الأميرة والساحرة والقاتلة
البربرية المسمَّاة ميديا بأنها حيوان خطر يهدد
بتدمير الأسرة والمدينة والثقافة.
١٣
ولم يكن لدى كُتاب الإغريق نظرة واحدية عن
البرابرة في النصف الثاني من القرن الخامس ق.م. كما
أنهم لم يعتادوا دائمًا تصويرهم في صورةٍ غير
مواتية. مثال ذلك أن هيرودوت، الرعية الفارسية من
هاليكارناسوس المدينة الإغريقية في آسيا الوسطى،
وصف العادات التي تمايز بين الفرس والمصريين
والليديين وغيرهم من الأجانب في كتابه «التاريخ».
واستخدم يوريبيدس صفاتٍ نمطية للبرابرة، مثل وصفهم:
بالجبن، والخيانة، والضِّعة، وعدم الثقافة، وأنهم
أدنى أخلاقًا مما لا يسمح لهم بالتعليق على المجتمع
الإغريقي. ونراه في مسرحيته «تروديس» و«المرأة
الطروادية» يقلب النظام التراتبي والتقليدي رأسًا
على عقب، والذي يصف الإغريق بالتفوق الأخلاقي،
ووضاعة البرابرة، ويؤكد للنظارة الأثينيين أبناء
بلده أن الأمر قد يصل إلى حد أن الأثينيين أنفسهم
يمكن أن يسلكوا سلوك البرابرة في مناسبات ما. ويضيف
في هذه الأمثلة أن الإغريق الذين يشبهون البرابرة
ويكون مسلكهم منتقدًا ليسوا مواطنين أثينيين، بل
وفدوا من دولةٍ مدينة أخرى، مثل طيبة التي حاربت
الأثينيين في حرب البليبونيز.
١٤
وربما كانت أثينا الديمقراطية، مع منتصف القرن
الرابع ق.م. أكبر دولة مالكة للعبيد في شرق
المتوسط. إذ كانت المؤسسات والممارسات الديمقراطية
لصالح جنودها المواطنين المتعلمين. واحتل هؤلاء
المواطنون الذكور بحكم مكانتهم مركز الحياة
اليومية، حيث كان يحيط بهم الأجانب والعبيد
والنساء. وإن أفلاطون، وهو أرستقراطي من أسرة
انهارت ثرواتها مع صعود الديمقراطية الأثينية، اتخذ
موقفًا انتقاديًّا من الديمقراطية. ونراه في
«الجمهورية» يدفع بأن الرجال الذين أرغمتهم ظروفهم
الاقتصادية على الانخراط في العمل الإنتاجي يجب ألا
نسمح لهم بأن يتولوا الحكم ولا حتى بأن يحظوا
بالمواطنة. وأكد أن هذه الحقوق يتعين تقييدها
وقصرها على من تمرَّسوا على السياسة، أي من يملكون
الموارد والوقت لينذروا أنفسهم لتعلم المهارات
اللازمة لشغل منصب أو تولي الحكم.
١٥
وبعد جيلٍ آخر، أعرب أرسطو في كتابه «السياسة» عن
خوفه من التنوع. وأفاد أرسطو، معلم الإسكندر
الأكبر، مواطنيه من أبناء الدولة المدنية الإغريقية
أن البرابرة، وهم تحديدًا الرعاة وقطاع الطرق وليس
الفلاحين، بحكم طبيعتهم المرشحون الأمثل للعبودية.
وأوضح أن النساء لا بد وأن يخضعن للرقابة؛ نظرًا
لأن الحقوق التي احتفظت بها نساء إسبرطة كانت هي
المسئولة عن الثقافة البائسة وعن انهيار تلك الدولة،
١٦ وهكذا يشغل المواطنون أعلى السُّلَّم
التراتبي الاجتماعي في أثينا، بينما يحتل الغرباء
والنساء والعبيد والحيوانات مواضع تابعةً وثانوية
على السُّلَّم الاجتماعي.
ونجد أن الكتَّاب الإغريق والرومان في العصر
الهلينيستي والذين حذوا حذو أرسطو طوَّروا بدَورهم
آراء ونظريات عن الفوارق بين الشعب المتحضر وبين
البرابرة. وزعم الكاتب الروماني ليفي أن البرابرة
بحكم طبيعتهم أعداءٌ للدولة. وصور شيشيرو الخطيب
والسياسي الروماني، الصراع بين الحضارة والبربرية
بأنه صدام بين أخلاقيات وأساليب الحياة. ووسَّع
شيشيرو أيضًا من فكرة البربرية لتشتمل على عمال
الحضر أو العامة الذين لا يشاركون في السياسة.
واعتادت الطبقة الحاكمة المميزة في روما النظر إلى
العامة على أنهم رعاع، غير متحضرين، وجهلة، ويسلكون
سلوكًا عنيفًا. واعتبرهم شيشيرو غرباء، شأن
البرابرة، سوى أنهم أقرباء وجيران بعيدون، وكان
يتعين تبعيتهم للدولة عند نشأتها. وذهب تفكيره إلى
أن الاثنين مثالان لطفولة الإنسانية في تخلُّفها
وفقدانها للتوجه السليم وقصور فكرها الرشيد؛ إذ ظهر
هؤلاء وأولئك قبل أن يبدأ الإنسان في تحقيق مكاسب
متميزة لنفسه بفضل خضوعه للقانون وممارسته للعقل.
١٧ ورأى أن هؤلاء البرابرة من السكان
الأصليين يقودهم الغضب اللاعقلاني والنزوة وخداع
النفس. لقد كانوا إما عاجزين أو عازفين عن الخضوع
للقانون المدني والطبيعي أو للأخلاقيات الحميدة أو
لحكم العقل. ووقفوا نتيجةً لذلك على الطرف النقيض
من الطيف المتنوع الأشكال الذي يضم السادة من البشر
المتحضرين. ونجد على النقيض تاسيتوس الذي يعظ
المواطن الروماني عن طريق وصف عادات البرابرة
الألمان. ونراه في كتابه «جيرمانيا» يمتدح الألمان
لحفاظهم على قيمٍ كانت قيم الرومان يومًا ما،
ولكنهم أغفلوها أو أصبحوا يجهلونها.
وعلى الرغم من أن القِدِّيس بول وغيره من قدامى
الكتَّاب المسيحيين كانوا يجهلون الحدود القديمة
الفاصلة بين المجتمعات المتحضرة وبين شعوب
البرابرة، إلا أن المسيحيين الرومان غيَّروا
تفكيرهم في القرن الرابع بعد أن أصبحت المسيحية هي
عقيدة الدولة الرسمية وتوحدت أهدافها وأهداف
الدولة. وهكذا انحسرت نزعة المواطنة العالمية عند
أسلافهم، وحلت محلها نزعة عِرقية وقبول غير نقدي
للثقافة العامة التي تروِّج لها وتدعمها الإمبراطورية.
١٨
استعادة الأفكار القديمة في عصر النهضة عن
الشعوب غير المتحضرة
خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر تحولت
التجارة في عالم البحر المتوسط، وتغير معها توزيع
الثروة والقوة السياسية في الإقليم. وحظيت الدراسات
التاريخية بميلاد جديد في كل من شمال أفريقيا
والمناطق الأوروبية المطلة على البحر المتوسط حيث
جاهد المفكرون من أجل تفسير ما حدث لنظامهم
الاجتماعي التقليدي.
١٩ ونجد ابن خلدون الدبلوماسي ورجل الدولة
في شمال أفريقيا يربط التحولات الاجتماعية
والثقافية في أواخر القرن الرابع عشر بالتحولات
التي طرأت على التجارة وهياكل الحياة اليومية.
٢٠ كذلك نجد ابتداءً من القرن الرابع عشر
وما بعده أن رجال الدين ورجال البلاط والقضاة
والسياسيين والتجار الذين درسوا الفكر الإنساني في
جامعاتٍ ذكورية فقط وفي أكاديميات دينية عكفوا على
دراسة النصوص والآثار القديمة المتبقية في روما
وفيرونا وغيرهما من الدول، المدن في شمال إيطاليا،
٢١ وتضمنت نظراتهم الجديدة التي صاغوها عن
العالم عناصر من الآراء الكلاسيكية واليهودية،
المسيحية التي كانت شائعةً آنذاك، علاوةً على عناصر
أخرى عثروا عليها مدفونة بعيدًا في أرشيفات
النسَّاخ في أديرة العصر الوسيط. وتفيد وجهة النظر
للنزعة الإنسانية أن النظام الاجتماعي الجديد
دينامي وفي حالة فيضٍ متصل، ومن ثم يمكن للبشر أن
يشرعوا في استعادة الحرية التي فقدوها خلال العصور
الوسطى، وذلك باسترجاع وتطوير القدرات التي كانت
لدى شعوب اليونان والرومان قديمًا.
وهكذا أصبحت السلطات المرجعية للقديم الكلاسيكي
بمثابة معايير الكمال وأهداف جديرة بأن تكون موضوع
دراسة واقتداء. وأصبحوا علاوةً على هذا ينبوعًا
للأفكار عن الحضارة وعن الشعوب غير المتحضرة. وهكذا
مع مطلع التوسع عبر الأطلسي في أواخر القرن الخامس
عشر اكتسبت الطبقة المتحضرة الأوروبية مفرداتٍ
جديدة غنية بأوصاف غير المتحضرين الذين التقوا بهم.
فالبرابرة خونة، قساة، أمِّيون وأجانب غير مثقفين،
يتحدثون لغاتٍ مختلفة ولهم عادات متباينة. وهناك
الوثنيون وهم ريفيون سُذج ظلوا على حالهم غير
مسيحيين وعبدة أصنام حتى بعد أن أصبحت المسيحية هي
عقيدة المدن الإمبريالية. ثم هناك الهمج، وهم
يؤمنون بتعدد الآلهة، أي إنهم ليسوا مسيحيين ولا
يهودًا ولا مسلمين. وهناك الكفار، وهم أهل دين يراه
المسيحيون مناقضًا لدينهم. ثم البدائيون، وهم
متوحشون أهل ضراوة وقسوة، يتعذر التحكم فيهم،
وعاطلون من الثقافة ولا يأبهون للسلوك الحسن.
واندمج هؤلاء مع فئة أخرى هم الضالون البريون.
وهؤلاء أفراد يكسو أبدانهم شعر كثيف وسقطوا إلى ما
دون مستوى البشر، ويعيشون في البرية شأن الحيوانات،
ويتحاشون البشر ويعتمدون على القوة البدنية والسلوك
العدواني من أجل البقاء. ويفتقر هؤلاء إلى القدرة
على الكلام والقدرة على تصوُّر الإله.
٢٢
ومايزت الطبقات المتحضرة الأوروبية بين أنفسهم
وبين الآخرين تأسيسًا على الجمع بين هذه الفئات
بوسائل متباينة. فالتتار يمكن وصفهم بأنهم برابرة
وهمج، والبربر من أبناء ساحل البربر يمكن وصفهم
بالبرابرة والضالين غير المؤمنين. واكتشف جيرالد من
ويلز، وهو من العاملين في خدمة ملك إنجلترا في
القرن الثاني عشر أن ثمة تشابهًا بين المسيحيين
الأيرلنديين الذين غزا الإنجليز بلادهم حديثًا
واستقروا هناك، وبين مجتمعات البرابرة التي وصفها
الكتَّاب الكلاسيكيون. وعرض تقييمًا للمجتمع
الأيرلندي خلوًا من أي إطراء، وسلبي التوجه، أشار
فيه إلى أن:
«هذا الشعب من الجماهير
التي تسكن الآجام والغابات، غير مِضيافين،
يعيشون على تربية الماشية، ويحيَون حياةً
بهيمية، شعب لم يتجاوز أهله مرحلة الرعي
البدائية. فالبشرية بوجهٍ عام تتقدم من حياة
الغابات إلى حياة الحقول، ثم إلى المدن وظروف
حياة مواطني المدن. غير أن هذه الأمة تحتقر
العمل في الزراعة، لا يغبطون أغنياء المدن ولا
يطمعون في أن يكونوا مثلهم، وينفرون من
القوانين المدنية، ويواصلون حياة أسلافهم في
الغابات والمراعي المفتوحة عازفين عن التخلي عن
العادات القديمة أو عن تعلُّم أي شيء
جديد.»
٢٣
وإن المشكلات التي تسبب فيها هؤلاء الأيرلنديون
للتاج الإنجليزي كانت كثيرةً من بينها مقاومة دفع
الضرائب أو سيطرة الحكومة.
تجارة العبيد
طرأت تغيرات على تجارة العبيد في العصر الوسيط
أدَّت إلى جلب أعداد غفيرة من أنحاء جديدة من
العالم إلى غرب أوروبا. مثال ذلك أنه ابتداءً من
أواخر القرن الثالث عشر وحتى منتصف القرن الرابع
عشر اشترى التجار من جنوة أسرى من إسكنديناوة، كما
اشتروا سلافيين من روسيا ومن شعوب البلقان في أسواق
العبيد عند البحر الأسود المقامة في القرم وقرب مصب
نهر الرون. وكاد هؤلاء جميعًا مع حلول عام ١٤٠٠م
يؤلفون غالبية العبيد في أوروبا. ولكن بعد أن احتل
الأتراك القسطنطينية عام ١٤٥٣م، فقد صار تجار
العبيد في غرب أوروبا وسيلة الوصول إلى أسواق البحر
الأسود. وابتداءً من منتصف القرن الخامس عشر
فصاعدًا قلَّت أهمية أسواق العبيد في جنوة
وفينيسيا؛ نظرًا لأن قشتالة والبرتغال صارعتا من
أجل الهيمنة على ساحل غينيا الأفريقي. وبدأ
تدريجيًّا جلب سكان عبيد جدد، غالبيتهم أفارقة إلى
لشبونة وفالنسيا وإشبيلية. ومع مطلع العقد السابع
من القرن الخامس عشر صدر في لشبونة مرسومٌ يمايز
بين «العبيد السود والعبيد البيض»، معترفًا جزئيًّا
بالأصول المختلفة التي بدأت تظهر داخل مجتمع العبيد
المحلي، على الرغم من أنه لم يكن يمثل بدقةٍ هذا التنوع.
٢٤
«ومع تسعينيات القرن
الخامس عشر، أصبح التجمع السكاني من العبيد في
شبه جزيرة أيبيريا أكثر تنوعًا. ذلك أنه تم أسر
أعداد كبيرة من اليهود والمسلمين واسترقاقهم
خلال الحملة التي شنتها الدول المسيحية
لاستعادة شبه الجزيرة، ولحق بهم في سوق النخاسة
في لشبونة وإشبيلية عدة آلاف من الأمريكيين من
أبناء البلاد الأصليين الذين جلبهم معه
كريستوفر كولومبوس، الذي ربما كان أكبر تاجر
عبيد على مدى هذا العقد. وبرر كريستوفر أعماله
بأنْ زعم أن الهنود الذين استرقَّهم هم أسرى
حرب عارضوا جهوده، بل وما هو أسوأ أنهم، كما
زعم، أكلة لحوم البشر.»
٢٥
والجدير بالذكر أن تجار قشتالة المرتبطين بتجارة
العبيد الأفارقة، وهي تجارةٌ وليدة، كشفوا عن
استيائهم للمنافسة التي فرضها كولومبوس، وأبدوا
خشيتهم من استبعادهم من سوق جُزر الهند الواعدة
بأرباح وفيرة. وفاز التجار، ومعهم رجال الدين،
بمرسومٍ أصدرته الملكة إيزابيلا عام ١٥٠٠م يحظر
استرقاق الهنود الأمريكيين. وبعد ذلك بثلاث سنوات
فقط، استطاع تجار جزر الهند إقناع الملكة بإلغاء
الحظر، وأصبحوا أحرارًا مرةً ثانية في أسر واسترقاق
الهنود، رجالًا ونساءً وأطفالًا، المتهمين
بأنهم أكَلة للحوم
البشر. ولكن بعد عامين فقط، أي عام ١٥٠٥م، وصلت
إلى جزر الهند (أمريكا) أول شحنة من العبيد
الأفارقة. وكان هذا يعني انتصارًا للملكة
ولرجال الدين الذين عارضوا استرقاق الهنود
الأمريكيين لأسباب لاهوتية، وكذلك
انتصارًا لتجار العبيد في قشتالة الذين اعتادوا
شراء أسرى الحرب على طول ساحل أفريقيا. وحقق التاج
عوائد مهمةً مقابل تصاريح الاستيراد اللازمة
لاستيراد عبيد من خارج جزر الهند (أمريكا). وحصل
تجار العبيد الأفارقة على حق الوصول إلى السوق
الأمريكية. واستطاع رجال الدين أن يضعوا أُسسًا
لتطبيق فكرة أرسطو عن العبودية الطبيعية لتنطبق على
الهنود الأمريكيين، وهي حُجة سيسوقونها مرارًا على
مدى الخمسين سنةً القادمة.
٢٦
الأمريكيون الأصليون وتكوُّن المجتمع
الاستعماري
حاول أبناء الجيل الأول من الإسبان إضفاء
مشروعيةٍ على هيمنتهم على الأمريكيين أبناء البلاد
الأصليين تأسيسًا على حجة أرسطو عن العبودية
الطبيعية. واتجهوا خلال عملية الغزو إلى ضمان تجانس
بين المجتمعات المحلية الأصلية على الرغم مما بينها
من تنوعٍ شديد وأطلقوا عليها جميعًا اسم جمهورية
جزر الهند، ولكن في المناطق التي تعرف من قِبل نظام
الدولة متعددة الطبقات، مثل المكسيك وبيرو، أرغمت
السلطات العامة الهنود على دفع ضرائب عمل وجزية
نوعية لعدد محدود من الإسبان، وعدد محدود من
النبلاء المحليين الذين كانوا يتلقَّون من إسبانيا
المنحة المعروفة باسم إنكومينداس خلال السنوات التي
أعقبت الغزو مباشرةً. وحصل العامة في مقابل ذلك على
العقيدة الدينية والحضارة، وأصبح هؤلاء يُعرفون
قانونيًّا باسم الإقطاعيين الأحرار التابعين للتاج
الإسباني، وليس لهم حق الدخول في تعاقدات قانونية
دون موافقة ولي أمرهم.
٢٧
وكانت السلطات الاستعمارية معنيةً بوجهٍ خاص
بالوضع القانوني والالتزامات المالية المتعلقة
بالمولَّدين، أي الزيجات القائمة بين المستعمِر
والمستعمَر (الأوروبي وبنات البلد الأصليين).
واختلفت معاملة المولدين وتباينت تباينًا كبيرًا
على نحوٍ عكس الفوارق في المكانة والثروة وهويَّة
الأبوين وشرعية زواجهما. مثال ذلك أن المولدين
الذين حصلوا على أرضٍ هندية عن طريق الشراء أو
مقابل الدُّوطَة لهم أن يحتفظوا بإقطاعاتهم علاوةً
على حرية السفر وحمل السلاح والانضمام إلى الطرق
الدينية، ولكن غير الشرعيين منهم أو من كانت أصولهم
مختلفة فإن السلطات تنظر إليهم برِيبة. ويُحرم
هؤلاء من الوظيفة ويحظر عليهم الاشتغال في مهن
بذاتها، ويُحرمون من ثروة وجزية المجتمعات المحلية.
وكانوا من ناحيةٍ أخرى معفيين من ضريبة العمل
والتزامات دفع الجزية.
وعاش المولدون أساسًا في مراكز حضرية ومراكز
التعدين. وكان بعضهم من صغار الفلاحين أو التجار أو
البقالين. واعتاد من يعمل منهم عملًا هامشيًّا أن
يُعيل نفسه بعملٍ آخر مؤقت، أو التسول، أو
المغامرة، أو السرقة، أو الدعارة، أو قطع الطرق.
وتصدُق هذه الصورة أيضًا على أكثر من نصف الإسبان
المقيمين في المستعمرات في منتصف القرن السادس عشر،
وعلى آلاف لا حصر لها من الهنود الذين اضطُروا لسبب
أو لآخر إلى ترك مجتمعاتهم المحلية التي وُلدوا
فيها أو أُبعدوا عنها.
٢٨
ولم تكن المكانة الاجتماعية في المجتمع الأمريكي
اللاتيني الاستعماري مكانةً ثابتة غير قابلة
للتغيير. وكانت إحدى وسائل الحراك الاجتماعي
المفتوحة لمن هم شديدو الثراء من غير النبلاء من
الهنود والمولدين والسود؛ هي شراء ما يُسمى شهادة
نقاوة الدم certificados de limpieza de
sangre من
الكنيسة. وأكدت هذه الوثائق التي يرجع تاريخها إلى
القرنين السابع عشر والثامن عشر أن المشترين هم
«النسل النقي الدم من الأسر المسيحية الإسبانية
القديمة، وأن أحدًا من أسلافهم لم يكن يهوديًّا ولا
مغربيًّا (بمعنى من المسلمين فاتحي الأندلس) أو من
المنشقين عن المسيحية.»
وكان على الهنود الذين يلتمسون حِراكًا لمكانتهم
الاجتماعية أن يهجروا المجتمع المحلي الذين وُلدوا
فيه. وبينما كانوا يشكون من صعوبة جمع ضرائب العمل
والجزية نجد موظفًا من المستعمرين الإسبان في جنوب
بيرو خلال ثلاثينيات القرن الثامن عشر يشير إلى أن
«ليس بالإمكان تمييز الهندي من الإسباني على أساس
قسمات الوجوه.» وزعم أن الفئات العِرقية للمستعمرة
كانت في واقع أمرها تصنيفاتٍ اقتصادية اجتماعية.
ولحظ أنه «إذا ما قصَّ هندي شعره ودخل في خدمة
إسباني وغيَّر ملبسه وتعلَّم الإسبانية فإنه يصبح
من المتعذر تمييزه عن المولدين، وإذا ما تعلَّم
مهنة، فإن نسله يمكن أن يعيش كأبناء المولدين، بل وكإسبان.»
٢٩
وجدير بالملاحظة أن هذه الفئات الاجتماعية شِبه
العِرقية — الإسباني والهندي والزنجي والمولد —
تطورت واستدامت بفضل مؤسسات الدولة والممارسات
العملية باعتبارها أطرافًا متكاملةً مؤلفة من غزو
شبه جزيرة أيبيريا والعالم الجديد، ولقد نشأت هذه
الفئات كاختراع تشكَّل وتطوَّر عن طريق العلاقة بين
المستعمِر والمستعمَر. ونتيجةً لذلك فإن المعنى
الذي تشير إليه كان موضوع خلاف ويتصف بالتباين بل
والغموض أحيانًا.
ولم يكن موقع الفرد وهويته في الهياكل الاجتماعية
الاستعمارية لأمريكا اللاتينية في القرن الثامن عشر
مبنيَّيْن على وجود أو عدم وجود بعض القسمات
الجوهرية في المظهر البدني الخارجي للرجل أو للمرأة
وإنما تتحدد الهوية والموقع تأسيسًا على عملية
تداخل مركبة بين مؤسسات وظروف وممارسات متباينة من
بينها التراث الذي تشكَّل اجتماعيًّا ويعاد إنتاجه
ودرجة الاندماج في مدينة بذاتها، والوضع الطبقي
والمشاركة في جماعات وأنشطة بذاتها مثل الاحتفالات
الدينية المعروفة باسم كوفرادياس
Cofradias
(روابط علمانية كاثوليكية) وجميعها تعلن وتؤكد
العضوية والانتساب. وطبيعي أن التفاعل المستمر بين
هذه العلاقات وغيرها هو الذي صاغ شكل الحياة
اليومية وأضفى عليها معنًى. وأصبحوا نطاقًا للهيمنة
والاستغلال والقهر، وكانوا ساحات صراع ومقاومة.
وجدير بالملاحظة أنه داخل هذه الساحات دارت
الصراعات الطبقية والحروب الثقافية لإمبراطورية
إسبانيا الاستعمارية وكانت أسلحة هذه الحروب هي
الثقافة الشعبية، الموسيقى والرقص والفنون الجميلة والمهرجانات.
٣٠
الهمج والبرابرة والشعوب المتحضرة
مع أواخر القرن السادس عشر بدأ تنوع المجتمعات
البشرية يبدو مفهومًا في صورة أنماط تراتبية هرمية،
ومتوجًا بالحضارة الغربية. وكما رأينا في الفصل
الثاني اقترح الجيزويتي الإسباني خوسيه دي أكوستا —
من كبار رجال الكنيسة في مستعمرة بيرو وممثل ملك
إسبانيا لدى البابا — التمييز بين الهمج والبرابرة
في ثمانينيات القرن السادس عشر؛ فالهمج يفتقرون إلى
القانون والحكومة ولا يعرفون أماكن إقامة دائمة
وثابتة، أما البرابرة فلديهم حكومات وأماكن إقامة
دائمة وثابتة، إلا أنهم غير مثقفين وأميون. وطبيعي
أن هذه التراتبية للأنماط الاجتماعية أضفت معنًى
على التباين الثقافي الذي لاحظه المستعمرون في
الأمريكتين. ولكن على الرغم من أن دولتي حضارتي
الأزتيك والإنكا تحملان بعض الشبه مع الحضارة
الأوروبية الغربية إلا أن سكانهما في هذه
التراتبية، في رأي الغربيين، برابرة ليست لديهم
أبجدية ويتكلمون لغاتٍ لا علاقة لها بما تشتمل عليه
المسيحية من دقة ورهافة. وهكذا أصبح يسيرًا نسبيًّا
على الأوروبيين فرض هذا التقسيم التراتبي لوضع
هاتين الدولتين «البربريتين» في وضع تابع. وواجه
المستوطنون في الوقت نفسه صعوباتٍ في محاولاتهم
الهيمنة على مجتمعات «الهمج»، مثل مجتمع توبينامبا
في البرازيل حيث كانت تسوده علاقات المساواة
والاحتكام للعُرف والعادات بدلًا من القانون
والهياكل الحكومية الشكلية.
وبحلول عام ١٧٧٧م، وبعد أن ألَّف ويليام روبرتسون
كتابه «تاريخ أمريكا»، أخذ هذا التقسيم التراتبي
للأنماط الاجتماعية، الهمج والبرابرة والمتحضرين،
صبغةً وقتية عابرة. وبدأ تصوير التطور الاجتماعي
البشري في صورة تقدُّم مرحلي من الهمجية إلى
البربرية ثم الحضارة. وبدأ النظر إلى المؤسسات
والممارسات الخاصة بأمور العيش باعتبارها القسمة
الأهم، لما لها من دورٍ خطير الشأن في تحديد شكل كل
ما عداها. عاشت شعوب الهمج على الصيد والقنص حسب
المخطط الذي افترضه روبرتسون ومعاصروه في إسكتلندا.
وكانوا يعيشون في مجتمعاتٍ صغيرة ويتصفون بخصوصيات
مميزة مثل الحس الاستقلالي والانتماء الوثيق إلى
المجتمع المحلي والاكتفاء بوضعهم وظروفهم. وكانت
لديهم فكرةٌ محدودة عن الملكية ولا يعرفون شكلًا
دائمًا للحكم؛ ذلك لقصور إحساسهم بالتبعية. ولا نجد
لديهم أيضًا شواهد على التمتع بعقلٍ تأملي
استدلالي، أو استخدام الأفكار المجردة.
٣١
وأكد روبرتسون أن شعبَي المكسيك وبيرو هما فقط في
العالم الجديد اللذان سارا قُدمًا في اتجاه
الحضارة، بيد أن إمبراطوريتَيهما العظميين وإن
كانتا متقدمتين كثيرًا عن قبائل الهمج الصغيرة
المستقلة المحيطة بهما، إلا أنهما ظلَّتا
بربريَّتين، واعترف بأن هذين الشعبين عملا
بالفِلاحة، ولكنه على الرغم من هذا، اعتقد (خطأً)
أنهما امتلكا حيواناتٍ أليفة ومناجم للتعدين في
فترة متأخرة من الزمن، ولذلك تأخر تقدمهما
الاجتماعي على طريق الحضارة. وتتميز الشعوب
المتحضرة بعدد من الخصائص التي تفاضل بينها وبين
الهمج والبرابرة وهي: المدن، والطبقات الاجتماعية،
ومؤسسات الدولة وممارساتها، والتجارة والكتابة،
والحروب المستمرة. ولكن القسمة الأهم على الإطلاق
التي تمايز المجتمعات المتحضرة عن الأشكال الأدنى
هي الإيمان بحق الملكية الشخصية.
الجماهير والعامة والطبقات الخطرة
تؤكد المسيحية وغيرها من وجهات النظر الكونية أو
العالمية على الوحدة الأخلاقية أو الروحية
للإنسانية. ولكنها، وعلى الرغم من هذا، لم تسدَّ
الهوة الفاصلة بين الشعب المتحضر والبرابرة.
وتمثِّل الأزمات قسمةً متكاملة مع الحضارة، وتحث
الحكام والعاملين معهم على استعادة صور سلبية أو
ابتكار أشكال جديدة لأسباب الاختلاف بغية إضفاء
مشروعية على حالة التبعية والقهر. وتراهم بدلًا من
التقيد بفلسفات كونية أو عالمية شمولية، إذا بهم
ينتحلون لأنفسهم هذه الفلسفات لدعم وتأكيد القوالب
التي أعادوها إلى الحياة أو خلقوها من جديد، إنهم
بعبارةٍ أخرى يصورون أبناء الطبقات التابعة أو
الفلاحين في صورة برابرة ويعبرون عن دونيتهم
ويصفونها بأنها نتاج ماهيات ثابتة لا تتغير ضاربةً
بجذورها عميقًا في الطبيعة أو في الطبيعة البشرية
وليست نتاج أفعال بشرية متعمدة.
مثال ذلك أن إدموند بيرك، وهو ناقد محافظ للثورة
الفرنسية، أدان المشاركين في انتفاضة ١٧٨٩م، الذين
تجمعوا خارج مؤسسات الدولة معارضين لها معتبرًا
إياهم «دهماء غوغائيين ورعاعًا من أكثر عناصر
المجتمع إثارةً للنفور.» هؤلاء «حثالة المجتمع»
والذين وصفهم بأنهم «قُطاع طرق» و«همج» و«صعاليك
الطرقات» و«متسولون» و«عاهرات» وأصبحوا «عصابةً من
الوحوش الضارية والقتلة … وأشرَّ النساء.»
٣٢ وأعلن أن هذا الحشد عناصر من الدهماء
الغاضبة يمارسون العنف وتحرِّكهم غرائز إجرامية
وشهوات لاعقلانية نهِمة لا تشبع من أجل تدمير
الملكيات واستهلاك المشروبات الكحولية وإيذاء
المواطنين الأبرياء. ولقد كشف السلوك المرضي عن
الجانب المظلم للطبيعة البشرية.
وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، وفي أعقاب الحرب
الروسية الفرنسية وتدمير كومونة باريس، انبرى
الناقد الاجتماعي الفرنسي والمسئول عن تبسيط العلوم
للعامة، جوستاف لوبون، وبعث إلى الحياة من جديد مع
قدر من التجميل إدانة بروك لجماهير العامة. وأكد
لوبون أن التقدم المرحلي التطوري للأنماط
الاجتماعية من همج إلى برابرة إلى متحضرين إنما
يعكس أيضًا التغيرات التي تطرأ على الذكاء. وقاس
رءوس مئات عدة من الرجال والنساء وأعلن أن النتائج
أكدت نظريته.
وزعم لوبون أن الأوروبيين
الغربيين أكثر ذكاءً من الهمج المحدثين، أي من
الشعوب القبلية في الأمريكتين وأفريقيا. وأن
الرجال أذكى من النساء، لأن أمخاخهن انكمشت
بسبب القيود المتزايدة المفروضة على نشاطهن
وألزمتهن بيوتهن. وأضاف أن العلماء ورجال
الصناعة أكثر ذكاءً من الفلاحين ومن عمال
المصانع والخدم، أي الطبقات البربرية في
المجتمع المتحضِّر.
وأكد بعد هذا أن تتابع سعة الجمجمة، حجم المخ،
ابتداءً من الأطفال عند الطرف الأدنى من السُّلَّم،
ثم التقدم مرحليًّا عبر الهمج والنساء والعمال،
وصولًا إلى المستويات العليا للعلماء، يزودنا
ببرهانٍ تجريبي يؤكد المراحل التي تطور عبرها
الذكاء البشري. وأكد أيضًا أن المجرمين يتصفون
بشكلٍ مميز لجماجمهم، مما يوضح أنهم بالضرورة
وُلدوا ولديهم ظروف عقلية وراثية جعلتهم مهيئين
مسبقًا للسلوك المرضي. وقال: «لقد تبين أن هذه
الظروف الوراثية السلبية والسلوكيات المقترنة بها
شائعة جدًّا بطبيعة الحال بين الهمج والنساء والعمال.»
٣٣
واستخدم لوبون مزاعمه عن الذكاء ليحط من قيمة
عديد من الدراسات، وذلك في كتاب واسع النفوذ
«سيكولوجيا القطيع» (١٨٩٥م). وأكد أنه حين يشكِّل
عدد من الأفراد حشدًا يضمهم، فإنهم يفقدون قدراتهم
العقلية وفرديتهم، وما إن تتقلص قدراتهم العقلية
حتى يعجزوا عن التمييز بين ما هو واقعي مما هو
خيالي. ذلك أن عناصر لا واعية تطفر على السطح من
داخل الكوامن العميقة لعقولهم، وتدفعهم دفعًا في
اتجاه «مشاعر الشر … البقية المتخلفة منذ الماضي
السحيق من غرائز الإنسان البدائي.»
٣٤ وأضاف أن الأفكار والمشاعر التي وحدت
بين المشاركين في الحشد هي أفكار ومشاعر مُعدية
وتنتشر لاشعوريًّا وعن طريق عمليات محاكاة لا
إرادية. وزعم لوبون علاوةً على هذا أن الخصائص
المحددة المميزة للحشود، الاندفاعية واللاعقلانية
والعجز عن تحكيم العقل، وقصور الحكم والمنظور
النقدي ثم المبالغة في المشاعر أو التهور؛ تجلت
أيضًا واضحةً في «الأشكال الدنيا» في التطور البشري
(النساء كمثال) الذين يحترمون دائمًا الإرادة
ويتمنون الزعماء الذكور الأقوياء ذوي
السطوة.
وبينما مايز لوبون بين سلوك حشود القطيع وسلوك
المجرمين الأفراد، نجد أن كثيرًا من معاصريه في
أوروبا والولايات المتحدة لم يحذوا حذوه. مثال ذلك
أنه في عام ١٨٧٧م، وصف محررو مجلة «هاربرز ويكلي»
المشاركين في الإضراب الكبير لعمال السكك الحديدية
بأنهم برابرة هاجموا الملكيات العقارية وقتلوا
أبرياء لا ذنب لهم. ولكنهم في الصفحة ذاتها، صوروا
قبيلة بنز بيرس من الهنود الأمريكيين
٣٥⋆
بأنهم فئةٌ مجرمة شنَّ أبناؤها حربًا ضد الحضارة ذاتها.
٣٦
وجاءت مزاعم لوبون صدًى لمجهود سيزار لومبروزو؛
إذ حاول تحديد القسمات التشريحية المميزة لدى
المجرمين والمجانين. وأعلن لومبروزو بعد بحوثٍ
كثيرة أن ارتفاع عظمتَي الوجنتين، والأذنين
والمفلطحتين اللتين تشبهان الكف، والفك الضخم، وهي
القسمات التي عُثر عليها في جماجم المجرمين والهمج
والقردة العليا، تربطها علاقةٌ مطردة بالخصائص
المشتركة المميزة لسلوكهم: التعطل، والضراوة، وحب
الوشم، ورأى أن هذه القسمات تساعده على تحديد
«المجرمين وقت ميلادهم».
وذهب لومبروزو إلى أن النزعة الإجرامية نزعةٌ
طبيعية وغير مقبولة واستخدمت الدولة، ولا تزال
تستخدم، دراساته لوضع السياسات الخاصة بشأن
الاحتجاز التحفظي، والأحكام القضائية الفارقة،
وعقوبات الإعدام، وضبط النسل. ولا غرابة في أن
السمات الوراثية الدالة على النزوع الإجرامي
والجنون نراها شائعةً بين أبناء الطبقات الدنيا في
المناطق المتخلفة والأكثر بدائية في جنوب إيطاليا
أكثر من غيرها بين أبناء الطبقة الوسطى في الشمال المتحضِّر.
٣٧
ولا تزل آراء لومبروزو باقيةً حتى يومنا هذا، وإن
خفَّت حِدتها وتعدَّلت بعض الشيء. ففي عام ١٩٣٧م،
لحظ عالم الأنثروبولوجيا بجامعة هارفارد أرنست
هوتون، أن أنماط المجرمين يغلب عليها شكل الرءوس
المستديرة أكثر من الناس المتحضرين، وقال: «يجب
علينا أن نتخلى عن الأمل في تحقيق مسكنات اجتماعية،
وأن نواجه الضرورة التي تلزمنا بالتعامل مع هذه
الحقائق البيولوجية (الوراثية).»
٣٨ وظهر بعد ذلك وفي تاريخ أقرب من
السابق، أي في عام ١٩٦٥م، زعمٌ جديدٌ يمثل صدًى آخر
لآراء لومبروزو. ويقضي هذا الزعم بأن الذكور الذين
تزيد لديهم الصبغيات الوراثية (الكروموسوم)
Y يكشفون عن
ميول إجرامية (إذ توجد لديهم
XYY بدلًا من
XY وهو العادي
السوي) … وأن الذكور ذوي
XYY ترتفع
نسبتهم التكرارية في مؤسسةٍ خاصة بالمجانين
المجرمين في إسكتلندا.
٣٩ وطبيعي أن الخطر الذي تمثله هذه
المزاعم وما شاكلها — وتدعمها كما يقال شواهد علمية
مزعومة — أنها سرعان ما تكون موضع قبول بغية تبرير
سياسات وممارسات للتمييز السياسي.
الفوارق الجنسية والجنوسة والانحيازات
الجنسية
ارتبط صعود الحضارة دائمًا بتجلياتٍ مختلفة
بالنسبة لنساء ورجال الطبقات المنتجة ونظرائهم في
النخبة والجماعات غير المنتجة المرتبطين بالدولة.
ولوحظ خلال العملية أن قوة وسلطة ومكانة المرأة في
كلتا الطبقتَين تناقصت وإن اختلفت الوسائل. فنجد
عند أحد المستويات أن التغيرات تضمنت إعادة تنظيم
إجراءات وأساليب العمل. إذ يتحول قطاع من عمل
المرأة من نساء الطبقة المنتجة إلى عمل إنتاجي أو
إلى خراج تستحوذ عليه الدولة، بينما المرأة من نساء
النخبة تبقى خارج نطاق الإنتاج. ونجد التغيرات عند
مستوًى آخر اشتملت على إعادة تنظيم سياسة الحياة
اليومية. وبينما نساء النخبة يأخذن سبيلهن إلى كل
مناحي الحياة الاجتماعية البازغة؛ إذ بنساء (ورجال)
الطبقات المنتجة لا يجدون سبيلًا للوصول إلى هذا
المجال منذ مستهل تنظيمه.
٤٠
حدث هذا النوع من التحول والاستبعاد مع مستهل
الثورة الفرنسية. إذ على الرغم من أن نساءً كثيرات
شاركن بفعالية ونشاط في الثورة، إلا أنه ما إن لاح
في الأفق شبح الحرب مع إنجلترا وإسبانيا، لم ينل حق
المواطنة سوى الرجال من أصحاب الأملاك المقيمين في
فرنسا. علاوةً على هذا، إن الحواجز التي حالت دون
مشاركة النساء في السياسة ظلت كما هي دون تغيير.
وبحلول عام ١٧٩٣م قرر المؤتمر الوطني أن ليس من حق
النساء، حتى من كانت منهن صاحبة أملاك، ممارسة
حقوقٍ سياسية أو أداء دورٍ نشط في الحكم، واعتبرت
على مدى السنتين التاليتين، جميع نوادي النساء
السياسية غير قانونية. وكان محظورًا على النساء
حضور اجتماعات المؤتمر ما لم تكن المرأة برفقة
مواطن ذكر. وتقرر تفريق أي تجمعات نسائية في
الأماكن العامة تضم أكثر من خمس نساء؛ إذ يقع
تجمعهن تحت طائلة القانون ويتعين تفريقه بالقوة.
٤١
وبدهي أن استبعاد النساء من الساحات العامة
للحضارة إنما تم دائمًا بناءً على عمليات ضاربة
بجذورها في علاقات اجتماعية مشروطة تاريخيًّا.
وجدير بالملاحظة أن علماء وأطباء عصر التنوير خلال
بحوثهم للكشف عن القوانين الصحيحة على نطاقٍ كلي
عالمي، التمسوا أدلةً تجريبية يمكن أن تكشف عن
فوارق طبيعية بين الذكر والأنثى للنوع البشري، ومن
ثم بين الرجل والمرأة. واضطر العلماء تحت ضغط هذا
الجهد إلى نبذ معتقدات الكتَّاب السابقين التي أكدت
أن الفوارق بين النساء والرجال هي فوراق سياسية في
الأساس.
ولقد زعم الكتَّاب الكلاسيكيون بعامة أن الحدود
الفاصلة بين الرجال والنساء مسألة درجة لا نوع.
مثال ذلك أن أرسطو اعتقد بأن ليست هناك فوارق جنسية
بين الرجال والنساء، أي إن الجنسين (الرجل والمرأة)
يتطابقان مع جنس وحيد. فالرجال، أي الذكور
بيولوجيًّا، هم المعيار، والنساء (أي الإناث
بيولوجيًّا) هن رجال غير كاملين، وأن أخطاء الطبيعة
هي علة الانحراف عن المعيار. وأن أعضاء المنحرفات —
أي النساء — واحدة، ولكنها مختفية داخل أجسادهن.
٤٢ وترتَّب على هذا التشوش غير الطبيعي
تجليات عديدة، فقد أعلن أرسطو: أن النساء سلبيات،
وأنهن يشغلن بالضرورة درجةً أدنى في السلَّم
الاجتماعي قياسًا إلى المواطنين الأسوياء حسب
التعريف (الذكور بيولوجيًّا). وكان هؤلاء
المواطنون، أي الرجال المشاركون في سياسة الدولة
المدنية، هم العناصر الفاعلة في الثقافة. والملاحظ
أن النساء الوحيدات اللاتي صوَّرهن أرسطو في
كتاباته هن زوجات وبنات المواطنين ممن كانت مكانتهن
في المجتمع المدني مشروعةً بفضل علاقتهن برجال
بذاتهم. فالنساء عنده يشبهن العبيد الذين يفتقرون
إلى صفات الجنوسة، كما أن مكانهم في المجتمع يعبر
عن تبعيتهم وعن الخدمات التي يقدمونها للمواطنين وللدولة.
٤٣
ورفض كل من جون لوك وجان جاك روسو نموذج الجنس
الوحيد مع ملاحظة أنهما بذلا جهدًا كبيرًا لإرساء
أسس الفكر الاجتماعي الليبرالي والرومانسي. ولكن
على الرغم من هذا، تبنَّيا نظرة أرسطو عن أن الرجال
عناصر فاعلة بينما النساء سلبيات، وزعم لوك أن
الرجل حكم الأسرة بفضل تفوقه من حيث القوة وقدراته
العقلية. وصنَّف روسو في كتابه «إميل» (١٧٦٠م)
الخصائص البدنية التي تميز بين الرجل والمرأة ثم
وضع قائمةً بالفوارق المعنوية المتأصلة لدى كلٍّ
منهما، ورأى أنه بناءً على هذه الفوارق يتعين ألا
يتعلم الرجال والنساء بنفس الطريقة. وأكد علاوةً
على هذا أنه بسبب أن هذه الفوارق البيولوجية
الجذرية مكملة لبعضها في الأسرة، فإن قدَر الرجل أن
يكون قويًّا وقدَر المرأة أن تكون سلبية.
٤٤
وبحلول عام ١٨٠٠م كان الغالبية العظمى من
المعلقين على موضوع الجنس في عصر التنوير قد رفضوا
نموذج الجنس الوحيد الذي آثره كتَّاب العصرَين
الكلاسيكي والوسيط، وقلبوا عمليًّا فكر أرسطو رأسًا
على عقبٍ زاعمين وجود فوارق أساسية بين الجنسَين
الذكر والأنثى، ومن ثم بين الرجال والنساء. ورأوا
أن هذه التمايزات الجنسية تتعلق بالنوع وليس
الدرجة، وأنها جِبلِّية في الفوارق التشريحية
والبيولوجية التي يشاهدها علماء التشريح والطبيعة.
وأفاد هذا ضمنًا أن العلاقات بين الرجل والمرأة
اشتملت أيضًا على سلسلة من التباينات لا الفوارق في الدرجة.
٤٥
وذهبوا إلى أن الشيء الأهم هو أن مصير الشخص إنما
يحدده الشكل التشريحي للرجل أو المرأة، ولكن علماء
التنوير وخلفاءهم إذ تبنَّوا هذا الرأي أخفقوا في
أن يدركوا على نحوٍ صحيح وكافٍ أن البشر يعيشون
بخبرتهم ويحددون دلالة وأهمية الفوارق الجنسية في
ضوء واقع ثقافي، أي الجنوسة أو التمييز الثقافي بين
الذكر والأنثى على أساس الجنس. إن المعلقين الذين
يساوون بين الفوارق الجنسية (البيولوجية) وبين
فوارق الجنوسة (الثقافية) إنما يتجاوزون حقيقة أن
أبناء المجتمعات المختلفة لا يفهمون بالضرورة علاقة
الذكر (البيولوجي) بالذكر (الاجتماعي والثقافي)
والأنثى (بيولوجيًّا) بالمرأة (اجتماعيًّا
وثقافيًّا) بطريقةٍ واحدة ومشتركة بين الجميع. إن
علاقات الجنوسة وغير ذلك من علاقات هي علاقات
مشروطة تاريخيًّا وثقافيًّا. وأخفق هؤلاء المفكرون
أيضًا في الاعتراف بأن تصوراتهم الذهنية وفهمهم
لكلٍّ من الفارق الجنسي والجنوسة (البيولوجي
والثقافي) قد تحولت جذريًّا قرب نهاية القرن الثامن
عشر.
العِرق والعنصرية
إن بعض علماء عصر التنوير الذين كتبوا عن فوارق
الجنس والجنوسة صاغوا أيضًا تصنيفاتٍ للناس على
أساس المظهر البدني والسلوك. ففي عام ١٦٨٤م، نجد
طبيبًا فرنسيًّا يُدعى فرانسوا برنيير، والذي كان
على علاقة مع جون لوك، قسَّم الشعوب التي شاهدها
خلال أسفاره إلى أربع جماعات على أساس: لون البشرة،
والقامة، والشعر، وشكل الأنف، والشفتين. ورأى أن
لون بشرة الأوروبيين والهندوس والهنود الأمريكيين
لون عرَضي ناتج عن التعرض للشمس، ولون الأفارقة
جوهري. ورأى أن الآسيويين عِراض المناكب ومفلطحي
الوجوه، أما سكان منطقة لابلاند في إسكندنافيا فهم
حيوانات وضيعة.
٤٦ ولم يستخدم برنيير هذا التصنيف لوضع
سُلَّم تراتبي للأنماط البشرية ولا تسلسل للأنساب
في التاريخ البشري.
ولكن جون لوك باعتباره أحد
المديرين المسئولين في الإدارة الاستعمارية،
ومفكر مرتبط عضويًّا بالرأسمالية البازغة، وأحد
حائزي الأسهم المؤسسين للشركة الأفريقية
الملكية المختصة بتجارة العبيد؛ لم تكن لديه
رغبة في الطعن في الاستقلال والتراتبية
الاجتماعية، بيد أنه حوَّل الأساس المنطقي
لتجريد البشر الأرقَّاء من طبيعتهم الإنسانية
وجعلهم موضوعًا أو شيئًا قابلًا للاستغلال من
الخصائص الطبيعية التي قال بها أرسطو بشأن
العبودية الطبيعية إلى مبدأ المهايا الاسمية.
ذلك أن لوك رأى أن لكل شيء ماهيةً حقيقية ليس
بالإمكان معرفتها، ولكن الشيء أو الموضوع له
صفات يمكن ملاحظتها والتي يمكن تجميعها
وتصنيفها لتمثل ماهيته الاسمية. ونتيجةً لذلك
أصبح بإمكان لوك وخلفائه أن ينتقوا سمةً واحدة
— لون البشرة كمثال — من بين قائمة من الخصائص
ويزعموا أنها المعيار الأول والأساسي لتحديد
البشرية. وطبيعي أن العلماء بإمكانهم أن
يختلفوا، وقد اختلفوا بالفعل بشأن أي السمات هي
السمات الجوهرية. وأن ما أسَّسه لوك هو منطق
للإجابة على المسألة، منطق لم يطعن الكثيرون في
مصداقيته.
٤٧
وصاغ العالمان الطبيعيان كارلوس لينيوس وجوهان
بلومنباخ أفضل التصنيفات التي عرفها القرن الثامن
عشر عن الأعراق. ذلك أن لينيوس في عام ١٧٣٥م مايز
بين أربعة أعراق على أساس معايير أخلاقية وثقافية
وفيزيقية: المظهر البدني، والسلوك، وطريقة تغطية
الجسد، وإذا ما كانوا خاضعين لحكم العادات
والأعراف، أم الفكر والرأي، أم النزوة. وصنَّف
الهنود الأمريكيين والأوروبيين والآسيويين
والأفارقة ونظَّمهم في سُلَّمٍ تراتبي؛ حيث احتل
الهنود الأمريكيون القمة، يليهم الأوروبيون،
فالآسيويون، ثم الأفارقة.
٤٨
وفي عام ١٧٧٥م، حدد بلومنباخ خمسة أعراق تنتمي
إلى نوعٍ بشري واحد: القوقازي، والأثيوبي،
والمنغولي، والهندي الأمريكي، والملايو. ويوضح
مخططه أن القوقازيين هم النمط الأول الأصلي، وسار
الملاويون والآسيويون في اتجاه، بينما الهنود
الأمريكيون والمنغوليون في اتجاهٍ آخر. ودفع
بلومنباخ بأن هناك توافقًا بين الذكاء وحجم وشكل
الرأس، وهي نظرةٌ أضحى لها نفوذ مميز خلال القرن
التاسع عشر.
٤٩
والجدير بالملاحظة أن
المناقشات بشأن الأعراق، والتي ظهرت خلال القرن
التاسع عشر، إنما صاغها معلقون تصوروا
الأمريكتين وكأنهما كانتا قبل وصول الأوروبيين
فارغتين (لوك)، أو مأهولة بسكان همج بسبب
ممارساتهم الثقافية (روبرتسون). ونشطت هذه
المناقشات داخل الولايات المتحدة بسبب الهجرة
والاسترقاق، وإعادة التوطين القسري، وثورة
هايتي، والتوسع الإمبريالي الذي جرى تحت لواء
أيديولوجية المصير الواضح. ذلك أن أيديولوجية
المصير الواضح تزعم أنها تعبِّر عن حق مقدس
إلهي ينص على النزعة العِرقية والأهلانية
(حماية مصالح أهل البلاد دون الغرباء
والمهاجرين). ويرى أن الاستيلاء على الأراضي من
تكساس وحتى كاليفورنيا عن طريق شن الحروب ضد
الهنود وعن طريق حرب ١٨٤٦م ضد المكسيك إنما هي
حروب صليبية هدفها ترويض واستئناس
الغرب.
٥٠
واشتملت مناقشات الأعراق في الولايات المتحدة
خلال القرن التاسع عشر على ثلاثة خطوط متشابكة.
الأول وكان متمركزًا على المؤسسات الثقافية
والتربوية في فيلادلفيا، وحاول تقديم براهين علمية
تؤكد وجود تراتبيات عرقية حسبما حددها توماس
جيفرسون وغيره من السياسيين. وخلال العقد الثالث من
القرن التاسع عشر زعم شارلس كولدويل أحد رواد علم
الأنثروبولوجيا في أمريكا أن: (١) السلالات
البشرية، القوقازيون والمنغوليون والأفارقة، كانت
أنواعًا منفصلة عن بعضها. (٢) وأن القوقازيين حين
تحضَّروا احتلوا قمة السُّلَّم التراتبي. وبعد ذلك
بتسع سنواتٍ زعم صمويل جورج مورتون أن المقاييس
التي أجراها على ٢٥٦ جمجمة أوضحت اختلاف متوسط حجم
مخ السلالات الخمس التي حددها بلومنباخ. وفي رأيه
أن القوقازيين في قمة السُّلَّم التراتبي لأن
جماجمهم هي الأكبر حجمًا.
٥١
وخرج دعاة الخط الثاني من فيلادلفيا وهارفارد.
وحاولوا إيجاد رابطة بين السلالة والصحة. وفي
أربعينيات القرن التاسع عشر زعموا أن التعداد
السكاني للولايات المتحدة أوضح أن نسبة حدوث الجنون
بين السود الأحرار في الشمال أعلى عشر مرات من
مثيلتها بين السكان العبيد في الجنوب. وزعموا أيضًا
أن الخلاسيين، أي الأفراد المولودون لأبوَين أحدهما
أسود والآخر أبيض، تكون نسبة الوفاة بينهم أعلى،
وتوقعات العمر أقصر من أي من الأبوين، وخلال الحرب
الأهلية قامت لجنة الصحة بالولايات المتحدة والمكتب
العسكري العام — بناءً على نصيحة لويس أجاسيز عالم
الطبيعة بجامعة هارفارد — بقياس حوالي ٢٤٠٠٠ جندي
وبحار وهندي وأسير حرب لمراجعة وتدقيق فهمهم
للأنماط العِرقية والفوارق بينها. وأمَّنت على
نفقات المشروع شركات جديدة للتأمين على الحياة، وقد
استخدم رجال الإحصاء بها البيانات التي توفرت لوضع
الأسس التجريبية لاختلاف أقساط التأمين وهياكل
المعدلات المبنية على أساس السلالة.
٥٢
الخيط الثالث أفرخته هارفارد أيضًا، وادَّعى
أصحابه أن البروتستانت الأنجلوساكسون متفوقون
عِرقيًّا. وأذكى نيران هذا الاكتشاف وصول مليون
مهاجر كاثوليكي أيرلندي خلال الفترة ما بين ١٨١٥م
و١٨٤٥م، والتوسع غربًا، والتصادم الحتمي مع المكسيك
بشأن موضوع الأرض. وفي عام ١٨٤٣م، أكد إدوارد
إفيريت، الأستاذ بجامعة هارفارد، وسفير الولايات
المتحدة لدى إنجلترا، أن العِرق الأنجلوساكسوني
متفوق على نحوٍ لم يسبق له مثيل ولا يدانيه أحد.
واتفق معه في الرأي زملاؤه في هارفارد، جورج بيركنز
مارش، وهنري وادسورث لونجفيلو، وجورج بانكروفت،
وفرنسيس بيكرمان، ووليام إتش بريسكوت.
اعتقدوا أن الطابع القومي
مسألة عِرق أساسًا، حيث الحرية سمة خاصة تميز
الشعوب الجرمانية-الأنجلوساكسونية، وأن الحكمة
الإلهية وجهت مسار التقدم البشري إلى الاتجاه
غربًا نحو أمريكا حيث الولايات المتحدة معنية
وعاكفة على الوفاء بالخطة.
٥٣
ومع حلول ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان رجال
الصناعة في الشمال قد فتحوا أبواب مصانعهم للعمال
المهاجرين دون المحرَّرين من أبناء الجنوب، وازدادت
شدة الحواجز الاجتماعية أثناء هذه العملية، وفي عام
١٨٩٠م، قدَّم عالم الأنثروبولوجيا دانييل جي برنتون
تصنيفًا جديدًا للسلالات أضفى شرعيةً على التصنيفات
الشائعة والتي كان يستخدمها بالفعل آنذاك مكتب
التعداد السكاني للولايات المتحدة، والتي كانت
سائدةً في الحوارات العامة السياسية لأكثر من عشرين
عامًا. وكانت أهم قسمة مميزة في تصنيفه هي فئة تحت
عنوان سلالات «ليست بيضاء تمامًا وتمايز
الأنجلوساكسون عن أنواع أدنى مستوًى، ذوي بشرة أكثر
سمرة.» واشتملت هذه الجماعات الفاصلة على أوروبيين
شرقيين، وأوروبيين جنوبيين وسكان ساميين حاميين من
شبه جزيرة أيبيريا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط.
٥٤
وجدير بالذكر أن فئات الإحصاء الرسمي للسكان
المرتكز على السُّلَّم التراتبي العِرقي الذي صاغه
برنتون اشتمل على دلالة ذات أهمية؛ هي أن الطبقة
العاملة البازغة في الحضر في الولايات المتحدة
مؤلفة أساسًا من مهاجرين ليسوا بيضًا بل ملونين.
٥٥ وبعد ذلك بعشر سنوات استخدم وليام زد.
ريبلي قياسات الجمجمة ليستدل على أن السلالات
الفاصلة التي حددها الإحصاء الرسمي للسكان وبرنتون
هي سلالات أقل ذكاءً من البيض الوافدين من شمال
أوروبا. وجاءت آراؤه صدًى لآراء عصبة تقييد الهجرة،
والتي شكَّل أعضاؤها مركز تأثير داخل الكونجرس
لإيقاف تدفق المهاجرين الوافدين من شمال وجنوب أوروبا.
٥٦
وأضحت هذه النظريات مع بداية القرن العشرين
وسيطًا غنيًّا بالأفكار الداعمة لما يسمى النزعة
العِرقية العلمية، أو الفوارق العِرقية الوراثية في
الذكاء والنزعات الإجرامية الموروثة وعلم تحسين الصحة.
٥٧ وتأسيسًا على نتائج الإحصاء الرسمي
للسكان أصبحت حكومة الولايات المتحدة حريصةً على
الوعي بتسلسل أماكن ولادة أعضاء الجماعات المهاجرة
ومهبط رأس آبائهم. وفي عام ١٩٢١م أقرَّ الكونجرس
أخيرًا تشريعًا سبق أن بحثته وطالبت به «عُصبة
تقييد الهجرة». ولكن الباحثين النشطين من أصحاب
الرأي من أمثال فرانز باوس طعنوا في التشريع
لارتكازه على نزعةٍ عنصرية وذلك على مدى ثلاثينيات
القرن العشرين، بيد أن الفئات العِرقية ظلت كما هي
دون تغيير حتى الحرب العالمية الثانية حين باتت
حكومة الولايات المتحدة تنظر إلى اليابان باعتبارها
شيطانًا، وجمَّدت العلاقات الأمريكية-اليابانية
وحاولت إقناع أبناء السلالات «غير البيضاء تمامًا»
بأن هويَّتهم الأولى والأساسية أنهم أمريكيون بيضًا
وقوميين. وكان هذا التحول جوهريًّا من أجل بناء قوة
مسلحة غالبيتها الساحقة من المجندين إجباريًّا
وأعمارهم تناهز العشرين.
واشتملت مكافأة ما بعد الحرب على إسكان بتمويل
فيدرالي ووثيقة من إصدارات الحكومة التي وفرت
لحوالي ٢,١ مليون رجل و٦٥٠٠٠ امرأة موارد مالية
كافية للالتحاق بالمعاهد والكليات. ولوحظ أن غالبية
المستفيدين هم من البيض؛ مما يعبِّر عن الفصل
العنصري آنذاك. وأصبح التعليم هو السبيل للحِراك
الاجتماعي بالنسبة لبناء المهاجرين من جنوب وشرق
أوروبا. وفي الإحصاء الرسمي للسكان لعام ١٩٥٠م، لم
يعد مطلوبًا من هؤلاء إثبات محل ميلاد الأبوين أو
العِرق الذي ينتسبون إليه. وأدت هذه التعديلات إلى
تحول السلالات التي كانت خطًّا فاصلًا موصوفًا
بعبارة «ليس أبيض تمامًا» إلى «بيض» في ثلاثينيات
القرن العشرين.
٥٨
وأصبحت عمليتا الاستيعاب والاندماج مشروعَين
سياسيين واجتماعيين مهمَّين خلال أربعينيات
وخمسينيات القرن العشرين، وأنكر بيان اليونسكو
الصادر عام ١٩٥٢م مصداقية العِرق كفئةٍ بيولوجية.
ودفع أحد الكتَّاب ويدعى إم. إف. آشلي مونتاجيو بأن
العِرق هو في حقيقته فئة وليدة صياغة اجتماعية
هدفها الجوهري دعم وتعزيز النزعة العنصرية.
٥٩ واستهجن علماء الاجتماع من أمثال ناثان
جلازر ودانييل بي. موينيهان، أهمية العِرق كفئة
للتصنيف البيولوجي. وأكدوا بدلًا من ذلك على أهمية
الثقافة والنزعة الإثنية في تكوين الحياة اليومية.
وأبدلوا كلمة العِرق أو السلالة بفرضية «ثقافة
الفقر» التي دفعت بأن ثقافات بعض الجماعات الإثنية
هي ثقافات تكشف عن أسباب وأعراض مرضية، ذلك لأن
هياكلها الأسرية مختلفة عن هياكل أسر أولئك الذين
استأثروا بمنافع الحلم الأمريكي.
وبعد مرور تشريع الحقوق
المدنية في منتصف ستينيات القرن العشرين، بدأت
لغة الداروينية الاجتماعية، التي خرست ولم تصمت
أبدًا، في الظهور على السطح ثانية، ولكنها هذه
المرة أخذت تتزايد قوتها باطراد. وبدأت الدعوة
إلى وقف تقدم حركة الحقوق المدنية. وشهدت
الأكاديميات اهتمامًا متجددًا بدراسات معامل
الذكاء، واقترن هذا بأول ظهور لعلم الاجتماع
البيولوجي، وبرزت على السطح حجج وأسانيد في
مجال الدراسات الإثنية التي قارنت النجاح
النسبي للمهاجرين البيض بالظروف المتدنية
للمجتمعات المحلية للملونين. وأنحت باللائمة
على هذه الجماعات الأخيرة بما نسبته إليها من
مظاهر نقص وقصور في ثقافتها، ولكن نجد خارج
الحرم الأكاديمي أعدادًا كبيرة من الشباب
الملون، غالبيتهم في أواخر العشرينيات من
العمر، تم تجنيدهم إجباريًّا وشاركوا في الحرب
ضد فيتنام. وعقب عودتهم إلى الوطن تلقَّوا
إعانةً أقل كثيرًا من الإعانات التي حصل عليها
من استفادوا بوثيقة سندات الإصدار الحكومي في
أواخر الأربعينيات.
وعرفت الولايات المتحدة خلال الخمس والعشرين سنةً
الماضية ثاني أكبر موجة شهدتها في تاريخها من
المهاجرين، ولكن ٩٥ بالمائة من المهاجرين مع مطلع
القرن العشرين جاءوا من أوروبا، هذا بينما ٧٥
بالمائة من الوافدين الجدد جاءوا من آسيا أو أمريكا
اللاتينية. وأدى التنوع داخل هذه المجتمعات
المهاجرة وإعادة تنظيم البِنْية الطبقية للولايات
المتحدة إلى تعزيز «سياسة الهوية» وإلى خلق ظروف
لتراتبية عِرقية جديدة علاوةً على حواجز عِرقية
جديدة وتفجر أحداث العنف العِرقي ثانية. وتفاقمت
أحداث العنف بسبب قرار المحكمة العليا المعروف باسم
قرار باك
Bakke
Decision عام ١٩٧٨م، ودعوة
الرئيس ريجان التشاؤمية الساخرة من أجل «مجتمع عمي
الألوان» في ثمانينيات القرن العشرين.
٦٠
وجدير بالذكر أن المزيد من الهجمات ضد الأعمال
الإيجابية في كاليفورنيا عام ١٩٩٥م، جرت داخل جامعة
كاليفورنيا وكذلك اقتراح بإجراء اقتراع عام ١٩٩٦م،
كشفت جميعها عن وجه من بين أوجه كثيرة لتفجر النزعة
العنصرية من جديد. واكتملت هذه الأحداث بعودةٍ
ثانية إلى حجة (سبق أن فنَّدها المفكرون) تزعم أن
الفوارق العِرقية وليست النزعة العنصرية هي التي
خلقت الأساس الذي ترتكز عليه مظاهر عدم المساواة الاجتماعية.
٦١
الخلاصة
درسنا في هذا الفصل عددًا من الفئات المتباينة
للشعوب غير المتحضرة التي ابتدعها ورددها دعاة
مفهوم الحضارة بغية إضفاء شرعية على التراتبيات
الاجتماعية ومظاهر عدم المساواة والظلم في المجتمع
التي هي نتيجة نشوء الوضع الطبقي والدولة في
المجتمعات، واستخدمت الطبقات الحاكمة هذه الفئات
لتمييز نفسها عن الطبقات والطوائف التابعة لها،
ولاحظنا في اليونان القديمة أن الخطباء السياسيين
وكتَّاب المسرح ابتكروا أول الأمر فكرة البربري
استجابةً ضد خطر الدولة الفارسية. وسرعان ما
وسَّعوا من نطاق الفكرة لتشتمل على النساء والعبيد،
بل واليونانيين غير الأثينيين الذين اعتادوا أن
يسلكوا سلوكًا تراه الطبقة الحاكمة من رجال أثينا
سلوكًا ملائمًا. ووسَّعت الطبقة الحاكمة الرومانية
نطاق مصطلح البربري إلى مدًى أبعد حتى بات يصف
عادات وأعراف وسلوك الطبقات الخاضعة لها من أبناء
جلدتهم.
وإن الجانب الأكبر من المشروعية التي تحظى به هذه
الفكرة اليوم مستمد من ابتكار السلطات المرجعية
القديمة واستخدامهم لهذه الفكرة، مثل الكتاب المقدس
أو أرسطو أو جون لوك. إذ ظلت هذه السلطات مرجعًا
موضع الاعتبار في وقتنا الراهن. ويستخدم النقاد
المعاصرون أفكار ومرجعية الكتَّاب الأوائل لبناء
تسلسلات أنساب لمزاعمهم، ولإضفاء مشروعية على
آرائهم. ويحاول كذلك النقاد الاجتماعيون المحدثون،
شأن سابقيهم، إضفاء مشروعية على مظاهر عدم المساواة
في مجال الطبقات والجنوسة والقهر الطبقي؛ إذ يزعمون
أن الفوارق الناشئة اجتماعيًّا إنما هي في الحقيقة
ضاربة بجذورها في الطبيعة بعامة أو في الطبيعة
البشرية، ويؤكدون أن الاختلاف وضع طبيعي ومن ثم لا
داعي لمحاولة علاج المظالم والتفاوتات في المجتمع.
ويلجأ نقاد كثيرون إلى هذه المزاعم بغية دعم وتأييد
السياسات والممارسات التي تزيد وتفاقم عمليًّا
مظاهر عدم المساواة الاجتماعية.