الفصل الخامس

الشعوب غير المتحضِّرة تتكلم

الحضارة كلٌّ أكبر من مجموع أجزائه: تراتبية تضم طبقات ومجتمعات وثقافات متمايزة، ومرتبطة ببعضها وتنظمها مؤسسات وممارسات هياكل الدولة والطبقات. وتتشكل نظم الحكم في الحضارات لفائدة الطبقات الحاكمة وبهدف الحفاظ على النظام الاجتماعي والقوانين المنظمة للعلاقات بين الطبقات، وتكفل توفر السلع وجودتها. ويحدد نظام الحكم والقانون شكل الأوضاع السياسية والاقتصادية للحضارة، وتدعم نمو المعارف الرشيدة والتنمية الاقتصادية، وتهيئ الظروف اللازمة لتعزيز الثقافة والتنوير.

وتنظر الطبقات الحاكمة إلى نفسها باعتبارها الطبقات المتحضرة وتعمل على غرس المعتقدات والقيم والأهداف المشجعة للتنمية ونشر ما تراه سلوكًا مستنيرًا أو مهذبًا. وتصوغ ثقافات متميزة ونخبوية ذات قيم وأهداف تعتقد بضرورة توقيرها ومحاكاتها. وتعتقد الطبقات الحاكمة أنها تمتلك وحدها الفهم الصحيح للحضارة وتدعمها في هذه الامتيازات التي انتحلتها لنفسها. وتذهب الطبقات الحاكمة، تأسيسًا على ما تزعمه لنفسها من تهذيب وتميز إلى أن الحضارة نقيض كل من الطبيعة والمجتمعات والطبقات التابعة، التي هي في نظرهم غير متحضرة.

وهذه الجماعات «غير المتحضرة» هي في عيون الطبقات الحاكمة إما جزء من الطبيعة أو نسخة منها، ولكنها أقل تطورًا وكمالًا. وتعمد هذه الطبقات خلال عملية ابتداع فكرة الشعوب غير المتحضرة إلى طمس أو محو الفوارق بين الشعوب ثم تخلق في الوقت ذاته فئات جديدة. مثال ذلك صفة هندي، فهي اختراع اخترعته طبقة حاكمة. إذ قبل وصول المستوطنين الأوروبيين لم يكن في الأمريكتين هنود. وإنما كان هناك مئات أو آلاف من المجتمعات المحلية يصف أبناؤها أنفسهم بأنهم: أبناكي Abnaki، أو سيوكس Siaux، أو نافاهو Navaho، أو تاينو Taino، وطوَّرت بعض المجتمعات المحلية مثل مجتمع السيمونوليين Seminoles هويَّات وممارسات ثقافية عند مواجهتهم للمستعمر. ونجد في بعض الحالات أن المجتمع ذاته أعاد تحديد نفسه على نحو ما حدث بالنسبة إلى اللومبيين Lumbes في شمال كارولينا. إذ أعيد تصنيفهم قانونيًّا من جديد، فبعد أن كانوا يسمَّون هنودًا، أصبح اسمهم «أحرارًا ملونين» في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ثم أعيدت تسميتهم مرةً ثانية إلى هنود بعد عام ١٨٦٥م. ١
وكان محو أو طمس الفارق خاصيةً أيضًا اتصف بها نهج الطبقات الحاكمة في تعاملهم مع العبيد الأفارقة الذين جُلبوا قسرًا وعلى الرغم من إرادتهم إلى الأمريكتين، وأيضًا مع موجات المهاجرين من أيرلندا وبلدان البحر المتوسط وشرق أوروبا وآسيا. وقد شغلوا جميعًا شرائح مختلفة من بين الطبقة العاملة بالولايات المتحدة، ولا غرابة في أن هؤلاء العمال الأُجَراء الذين يعملون دون وثائق وعقود تم توزيعهم منذ القرن التاسع عشر إلى شرائح على أساس السلالة والعِرق. ٢
والجدير بالملاحظة أن سلوك أبناء الطبقات الحاكمة مع من وصفوهم وصوَّروهم على أنهم غير متحضرين اختلف عن الأساليب التي اعتادوا عليها في سلوكهم مع نظرائهم المنتمين إلى الطبقة الحاكمة. كذلك اعتاد أبناء الطبقات والمجتمعات التابعة النظر إلى الجماعات الأخرى خاصةً أبناء النخبة الحاكمة باعتبارهم مختلفين عنهم وتعاملوا معهم على هذا الأساس. ولحظ هذه العلاقة نُقاد ذوو اتجاهات متباينة من أمثال روسو وماركس ونيتشه. وهذه هي العلاقة التي أطلق عليها جورج فيلهلم هيجل وصف علاقة السيد-العبد.٣
ووصف دبليو. إي. بي. دوبوا في كتابه «أرواح الشعب الأسود» الآثار الناجمة عن الحواجز التي أقيمت للفصل بين البيض والسود خلال تسعينيات القرن التاسع عشر وفي مطلع العشرين. وكان من بين ما قاله: والآن إذا ما دقق المرء النظر سوف يجد أن بين هذين العالمين، على الرغم من الاحتكاك البدني والتمازج اليومي، لا يوجد تقريبًا ما هو مشترك بينهما في الحياة الفكرية، أو ما يشير إلى نقطة تحويل متبادل حيث تنتقل أفكار ومشاعر عِرق ما لتكون في اتصال مباشر وفي تعاطف مع أفكار ومشاعر الآخر.٤

وكان لغياب ثقافة مشتركة تتجاوز حدود الطبقة والعِرق تجليات مهمة وصفها دوبوا في عبارةٍ واحدة «الوعي المزدوج»؛ وقال:

إنه إحساس خاص مميز، هذا «الوعي المزدوج»، الإحساس بأن المرء ينظر دائمًا إلى نفسه من خلال عيون الآخر، وتقديره وتقييمه لروحه محتكمًا إلى عالم يتطلع إليها في احتقار ورثاء ساخرَين. المرء لا تزايله أبدًا مشاعر الإثنية، أمريكي وزنجي، نفسان، وفكران، ومكابدتان لا تتفقان، وضربان من المُثل العليا متحاربان داخل جسد أسود واحد لا تحميه من التمزق سوى قوته الصلبة العنيدة. ٥
figure
أوروبا تدعمها وتسندها أفريقيا وأمريكا كما صورها وليام بليك ١٧٩٢م.
بات لزامًا على كل زنجي أمريكي أن يعيش هذه الحياة المزدوجة، زنجيًّا وأمريكيًّا، هكذا اقتضت أحداث القرن التاسع عشر الراهن بينما لا يزال يعاني دوامات القرن الرابع عشر، ولا بد وأن يتولَّد عن هذا وعي بالذات جد أليم، وحس مريض بالشخصية، وحيرة معنوية قاتلة للثقة بالنفس. العوالم داخل وخارج حجاب اللون تتغير أبدًا، وتتغير سريعًا، ولكن ليس بمعدلٍ واحد ولا بطريقة واحدة، وهذا مصدر عذاب قاسٍ للنفس وعلة إحساس خاص بالريبة والحيرة. وإن مثل هذه الحياة المزدوجة، بالأفكار المزدوجة، وبالواجبات المزدوجة، وبالطبقات الاجتماعية المزدوجة لا بد وأن تفضي إلى ظهور لغةٍ مزدوجة الكلام، ومُثل عليا مزدوجة الطابع، وتغوي العقل بإحدى اثنتين، الرياء أو الثورة، النفاق أو التطرف في التشدد. ٦
ونتيجةً لعلاقة السيد-العبد، صاغت الشعوب غير المتحضِّرة لنفسها خلال مسلسل عمليات تشكُّل الطبقة والدولة، تصورات عن الحضارة مغايرةً لتصورات الحكام. ذلك أن وضعهم الذي يفرض عليهم التبعية داخل هياكل القوة الاجتماعية، وكذا الأحداث والظروف التي تزخر بها حياتهم اليومية اضطرتهم إلى دراسة وفهم الحضارة من خلال عيون غير عيون الحكام، مما هيأ لهم بُعدًا منظوريًّا يسمح لهم بصياغة واختبار تحليلات بديلة. ونظرًا لألفتهم حياة القهر والمقاومة تعرفوا في غالب الأحيان وبدقةٍ كبيرة على الطبيعة الاستغلالية لعلاقات القوى غير المتكافئة. وفهموا أيضًا الأسباب البنيوية التي جعلت أطرهم الفكرية عن الحضارة ممايزة ومعارضة في آنٍ واحد لأطر الطبقة الحاكمة والدولة. وثمة ملاحظة ذات دلالة واضحة جرى تدوينها خلال لقاء مناهض للعبودية حيث أجاب العبد السابق وزعيم حركة إلغاء الرِّق سوجورنر تروث على متحدثٍ أثنى على دستور الولايات المتحدة، فقال في إجابته: «يا أبنائي، أكلم الرب والرب يكلمني، أمضي إلى الخارج وأكلم الرب في الحقول وفي الغابات. كنت أمشي في طريقي ثم تجاوزت سورًا أمامي. رأيت سنابل قمح تعلوه، وبدت كبيرةً جدًّا. أمسكت بحفنة منها، هل تصدقون؟ لم يكن هناك قمح. قلت: يا إلهي، ما هي حكاية هذا القمح؟ وأجابني الرب: يا سوجورنر، إن به بعضًا من المراوغة. والآن، اسمع كلامًا عن الدستور وحقوق الإنسان. نهضت من مكاني وأمسكت بكل مواد الدستور، بدا لي كبير الحجم ثقيل الوزن، وفي داخلي شعور بالسؤال عن حقوقي، ولكنني لم أجد شيئًا، قلت بعد ذلك: يا إلهي، ما أمر هذا الدستور؟ أجابني الرب: يا سوجورنر، إن به بعضًا من المراوغة.»٧

وكتب على نفس النهج شيف جوزيف عن علاقات القوى غير المتكافئة للحضارة. وذلك حين صاغ بديلًا عن ممارسات حكومة الولايات المتحدة التي لجأت فيها إلى إبادةٍ شاملة للجنس وللأعراق عقب حربها ضد قبيلة نيز بيرس عام ١٨٧٩م:

«لا أستطيع أن أفهم كيف ترسل الحكومة رجلًا لمحاربتنا على نحو ما فعلت حين أرسلت الجنرال مايلز ثم يُخِلُّ بعهده وكلمته؟ لا بد وأن ثمة شيئًا خطأ يشوب هذه الحكومة، ولا أستطيع أن أفهم لماذا رؤساء كثيرون سمحوا لأنفسهم بالحديث بأساليب مختلفة كثيرًا، ويفرطون في الوعد بأشياء كثيرة … لقد سئمت الحديث الذي يجري عبثًا دون طائل. وقعت مظاهر كثيرة لسوء الفهم والتعبير بين البيض وبين الهنود. إذا كان الرجل الأبيض يريد العيش في سلام مع الهندي فبوسعه ما أراد، لا حاجة بنا إلى مشاكل، عاملوا الناس جميعًا على قدم المساواة. شرِّعُوا لهم جميعًا قانونًا واحدًا. امنحوهم جميعًا فرصًا متكافئة للعيش والازدهار … إذا كان الناس لا بد وأن يتمتعوا بحقوق متساوية.
إنني أسأل فقط عن الحكومة التي لم تقبل أن يعاملها الناس على نحو ما تجري معاملة الناس جميعًا … وإذا ما فكرت في حالنا أثقل الحزن قلبي. أرى أبناء عِرقي يُعامَلون باعتبارهم خارجين عن القانون ويُساقون دفعًا من بلد إلى بلد أو يطلقون عليهم الرصاص مثل الحيوانات.
إننا لا نستطيع أن نستمر على ما نحن عليه من ضبط للنفس إزاء الرجل الأبيض. نحن لا نطلب سوى فرصة للعيش مثلما يعيش الآخرون. نريد الاعتراف بنا كبشر. نريد أن يطبَّق قانون واحد بالعدل والمساواة علينا جميعًا، نحن والآخرين …
دعونا نكن أحرارًا … أحرارًا في أن نسافر، أحرارًا في أن نكف عن العمل أو أن نعمل، أحرارًا في أن نتاجر حيث نشاء، أحرارًا في أن نختار معلمينا، أحرارًا في أن نتبع ديانة آبائنا، أحرارًا في أن نفكر وأن نتكلم وأن نعمل من أجل أنفسنا.»٨
وأثارت نتائج علاقة السيد-العبد شكوكًا بشأن صدق وحقيقة ما تؤكده الطبقات المتحضِّرة دائمًا من أنها وحدها تملك فهمًا صحيحًا للحضارة. والملاحظ منذ خمسينيات القرن الثامن عشر أنه كلما أثيرت مسألة ملابسات علاقة السيد-العبد كان موقف الطبقات المتحضِّرة إما إغفالها أو إنكار صلتها الوثيقة بها أو هاجمتها وكذَّبتها. مثال ذلك أنه حينما بدأ الهجوم على مناهج المعاهد الدراسية التي حاولت دمج أُطر ثقافية متعددة، إنما كان هذا جهدًا من بين جهود أخرى كثيرة استهلها أصحابها أخيرًا لإسكات أو محو أصوات الطبقات والمجتمعات التابعة. وبدأ شن هذا الهجوم في أواخر ثمانينيات القرن العشرين الأكاديميون المحافظون أمثال آلان بلوم ولين تشيني وآخرين ممن حذوا حذو روجر كيمبال (الذي أسلفنا ذكره في الفصل الأول) في سعيه من أجل حماية الثقافة والحضارة من شر البرابرة.٩ وصادف هجومهم دعمًا وتأييدًا عام ١٩٩٤م على أيدي مؤلفي كتاب «منحنى القوس» وحلفائهما الذين قنعوا بإغفال الكم الهائل من بحوث القرن العشرين التي تطعن في، وتقوِّض دعائم مزاعمهم عن أن مستويات الذكاء بين الناس لها أساس عِرقي.١٠

ولم يكن السِّجال بشأن التعددية الثقافية سوى مثال واحد للنهج الفكري عند رجال الدعاية من أبناء الطبقة الحاكمة. وعندما تعين ربط الملابسات المحيطة بالطعون في وجهات نظرهم، سرعان ما تجاوزوا حقيقة أن أفكارهم صيغت اختلاقًا في سياق حججهم، وعمدوا أحيانًا إلى إغفال حتى مجرد ذكر أن هناك اعتراضاتٍ أثيرت ضد آرائهم بشأن الطبيعة أحادية الكيان والثابتة للحضارة. ونتيجةً لهذا قدموا رواياتٍ جديدة تراجع وتنقِّح ما سبق أن قالوه، ولكنها في الحقيقة تكرار وتجديد لحجج قديمة. وليست أبدًا نقدًا لها. وهكذا حاولوا إنقاذ فكرة الحضارة ذاتها، وكأنها شيء مفارق للتاريخ والعلاقات الاجتماعية.

ولنحاول أن نفكر معًا بإيجاز في عدد محدود من الآراء والممارسات التي تعرضها الشعوب المسماة غير المتحضِّرة للطعن في مصداقية وواقعية التصنيفات الفئوية التي تفترضها الطبقات الحاكمة والدولة لتأكيد مشروعيتها.

دحض التصنيفات العِرقية والإثنية والجنوسية التي تفترضها الدولة

غالبًا ما تنزع المجتمعات والطبقات التابعة إلى مقاومة أو رفض الفئات التوصيفية التي تستخدمها الدولة. ويجنحون إلى رفض ما يُنسب إليهم من مكانات اجتماعية أو خصوصيات ويبدلونها بغيرها تعترف بالخبرات المشتركة في حياتهم اليومية، وخبراتهم وليدة شغلهم مكانًا بذاته في الهيكل الطبقي. ونجد من يستشهدون بوجودهم ذاته من أمثال أبناء بورتوريكو في الولايات المتحدة وغيرهم من الجماعات الوطنية الذين يصوغون هويتهم في ضوء التاريخ؛ إذ يرفضون جهود الدولة لتصنيفهم على أساس عِرقي. ويشير إلى هذا أنجيلو فالكون حين يقول: «يمثل أبناء بورتوريكو لغزًا للأمريكيين؛ ذلك لأنهم في آنٍ واحد (من منظور أمريكي شمالي) جماعة إثنية كما أنهم أكثر من جماعة عِرقية. ويقضي المنظور الأمريكي بأن أبناء بورتوريكو، إذا ما تحدثنا على أساس عِرقي، ينتمون إلى كلٍّ من جماعتين (بيض وسود)، ولكن إذا ما تحدثنا على أساس إثني، فإنهم لا ينتمون إلى هذا ولا ذاك. وحسب هذا الوضع، وجد أبناء بورتوريكو أنفسهم يحتلون موقعًا بين قطبين، وفي الوقت نفسه فإنهم جدليًّا بعيدون عنهما. ومن ثم فأبناء بورتوريكو بيض وسود، وأبناء بورتوريكو لا هم بيض ولا هم سود.»١١
وفي شيكاغو، وفي مدن أخرى غيرها، تؤلف هويَّات عصابات الطرق المنظمة حول ساحات مسورة مثالًا آخر لمقاومة جهود الدولة لتصنيف سكانها على أساس العِرق والإثنية. وعلى الرغم من أن أعضاء العصابات يستخدمون شعارات تستخدمها الدولة أيضًا إلا أنهم يقحمون عليها معاني مغايرة تمامًا. وفي هذا يشير كونكور جود حين يقول: «نشأت غالبية هذه العصابات خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وقتما كان القطاع الأكبر من شيكاغو باحاتٍ سكنية منفصلة عن بعضها. الملوك اللاتينيون، العصابة المهيمنة في مجاورتي … نشأت في قطاع من المدينة في أقصى الجنوب، والتي كان أغلب سكانها من أبناء بورتوريكو … وما إن اندمجت المجاورات معًا، حتى أصبحت عصابات الساحة المسورة المحلية مختلفةً ثقافيًّا على الرغم من احتفالهم باسمهم الإثني المميز. مثال ذلك أن مجاورتي، وهي ميناء تمثل مدخلًا للمهاجرين الجدد واللاجئين والمشردين داخليًّا، تمثل واحدةً من أكبر المجاورات تنوعًا إثنيًّا في الحضر الأمريكي؛ إذ توجد بها أكثر من خمسين لغةً ولهجة يتكلم بها طلاب المدرسة العليا المحلية … ونجد في المقابل الملوك اللاتينيين … أشوريين مكسيكيين، أمريكيين أفارقة، ومن سكان الأبلاش، ولبنانيين، وفلبينيين، وفلسطينيين، ويونانيين، وباناميين، وسلفادوريين، ومن لاوس، وكوريا، وفيتنام وآخرين، هذا علاوةً على أبناء بورتوريكو. وكان أحد نواب-رؤساء الملوك اللاتينيين مولودًا في العراق، وكان آخر شابًّا أشقر الشعر من الأبلاش.»١٢
وهكذا، وبهذا الأسلوب، أبدى الملوك اللاتينيون في شيكاغو وغيرهم من العصابات اعترافًا بالطبيعة الاصطناعية الكاملة للأوضاع الإثنية والعِرقية التي فرضتها الدولة على أعضائهم في إطار سياقٍ صاغه العنف. ولم تكن هذه الفئات حسب فهمهم نتاج عملية مفارقة تمتد جذورها إلى الطبيعة البشرية أو التكوين البيولوجي على نحو ما أشارت الطبقات الحاكمة أو الدولة أو عملاؤها. ولقد كان منظورهم البديل بشأن مسألة العِرق والإثنية مؤسسًا على خلق وتأكيد هوية في ظل ظروف تشكَّلت في إطار الهيمنة وعدم المساواة المفروض قسرًا والعنف. وأثار هذا الشك في مشروعية وجدوى الآراء الداعية إلى الهيمنة التي أطلقها أنصار الحضارة.١٣

ولقد نجحت الشعوب التابعة أحيانًا في إثارة الشك حول الآراء التي تدَّعيها الطبقات المهيمنة عن نفسها. ونذكر كمثال أن إيدا بي. ويلز، وهو صحفي أمريكي أفريقي وناشط سياسي، أثار قضية الإعدام دون محاكمة في جنوب الولايات المتحدة، وجذب إليها انتباه الصحافة في إنجلترا والطبقة الوسطى البيضاء في الشمال.

وعقب الحرب الأهلية، ساد اعتقاد عام بين البيض من أبناء الطبقة الوسطى بأن الحضارة الأمريكية بيضاء، وأن رجولتهم رهن ضبط النفس وكبح جماح الذات. واعتقدوا أكثر من هذا أن الأمريكيين الأفارقة وجماهير المهاجرين من شرق وجنوب أوروبا ليسوا متحضرين لأن رجالهم تعوزهم القدرة على ضبط النفس. وقلَب ويلز هذا الانحياز رأسًا على عقب مؤكدًا أن الإعدام دون محاكمة هو العمل غير المتحضِّر على أيدي برابرة رجال بيض لا يعرفون الرجولة وتعوزهم القدرة على كبح جماح النفس، وهي الخاصية التي تتجلى واضحةً لدى الرجال الأمريكيين الأفارقة في الجنوب. واختار ويلز للمعركة ضد الإعدام دون محاكمة توقيتًا يتطابق مع معرض كولومبو العالمي في شيكاغو عام ١٨٩٤م، الذي احتفل بمسيرة الحضارة الأمريكية.

وإذا تأملنا رأي الطبقات الوسطى من أبناء البيض في الشمال لمعنى الحضارة، على نحو ما أشار المؤرخ جيل بيدرمان، نجد أن الحضارة اعتبرت قوة الرجل الأبيض أمرًا طبيعيًّا حين ربطت هيمنة الذكر وتفوق الأبيض بالتنامي التطوري البشري.١٤ ولكن حجة ويلز أصابت هذا الرأي في الصميم، ودحضت المفاهيم المهيمنة عن الترابط المشترك في تراتبية العِرق والحضارة والجنوسة. وأوضحت دراسته انحلال الحضارة الأمريكية وتحولها في اتجاه حالة من الهمجية، ولوحظ أن هذه الدراسة المُحكَمة استثارت البيض أبناء الطبقة الوسطى في الشمال، وخرجوا عن هدوئهم ورزانتهم، وأثاروا قضية العنف العنصري.١٥

تراتبية الجنوسة في سياق العِرق والطبقة

ترتكز تراتبية الجنوسة على تصورات عن الكيفية التي تشكل بها الفوارق الجنسية الذاتيات الاجتماعية للرجل والمرأة. وأشارت كريستين دبليو. جيلي إلى الطريقة التي تصف «ارتباط القوة الاجتماعية بالذكورة، أي بخصائص ترتبط ثقافيًّا بالذكورة.»١٦ وحيث إن تراتبيات الجنوسة موجودة في جميع المجتمعات الطبقية، فإن هذا الشكل من القهر يتقاطع مع الأشكال الناجمة عن الهياكل الطبقية. والملاحظ في المجتمعات الرأسمالية الغربية المعاصرة أن أنماط السلوك التي ينظرون إليها باعتبارها ذكوريةً في جوهرها، مثل المنافسة، أو لعب الجولف، أو المثل الأعلى لضبط النفس باعتباره خاصيةً رجولية، والتي تناولها بنجاح أيدا ويلز، تتماهى مع النجاح والقوة والقدرة على التحكم في أعمال الآخرين، وأن تراتبية الجنوسة تؤكد أن الرجال بحكم جنوسيتهم، لهم حقوق معينة لا تملكها المرأة. وهذه هي ألفا بلمونت، وهي شخصية اجتماعية بارزة ورئيسة جمعية نيويورك، وداعية لمنح المرأة حق الاقتراع، تصف لنا مشاعرها عقب مشاهدة محاكمات اتحاد المرأة بعد إضراب شركة تراينجل شيرتويست عام ١٩٠٩م، فتقول:
«كل امرأة تجلس في رضًا واستسلام وسط أسباب الراحة في بيتها، أو تتحرك بسهولةٍ كاملة واستقلال في وسطها الاجتماعي الخاص الذي يحظى بالرعاية والحماية (بفضل وضعها الطبقي)، وتقول: «أنا أملك جميع الحقوق التي أريدها.» حريٌّ بها أن تقضي ليلةً واحدة في محكمة جيفرسون. سوف تعرف حينئذ أن هناك نسوةً أخريات ليست لهن حقوق مثل الحقوق التي يعترف بها الرجل أو القانون أو المجتمع.» ١٧

ومنذ أكثر من ثمانين عامًا خلت، أدركت الروائية ماري جونستون الأساليب المعقدة التي صاغت خطاب الجنوسة لصالح الطبقة والعِرق، وفي رسالةٍ كتبتها عام ١٩١٣م إلى رئيس عصبة المساواة في حق الاقتراع في فيرجينيا، قالت:

«أعتقد أننا كنساء يجب أن نكون في غاية الحِرص والحذر خشية أن تقول نساء المستقبل، سواء كن ملوناتٍ أم بيض فقراء، إننا خُنَّا مصالحهن واستبعدناهن من نطاق الحرية.» ١٨

وجدير بالذكر أن الحقوق المدنية والسياسية للنساء البيض والرجال والنساء الأمريكيين الأفارقة كانت وثيقة الارتباط ببعضها خلال السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية، وأن صياغة التعديل الرابع عشر من الدستور والتي منحت حق التصويت للرجال من الأمريكيين الأفارقة ممن كانوا عبيدًا قبل ١٨٦٥م، خلقت صدعًا بين صفوف تحالف أنصار منْح حق الاقتراع لكل من السود كجماعة وللنساء كجماعة. وسرعان ما تعمَّق الصدع إثر إجازة التعديل الخامس عشر الذي حثَّ الحكومة الفيدرالية على تقديم العون من أجل حرية الرجال دون حرية النساء. واستمر الجدل والخلاف حتى بعد توسيع نطاق حق التصويت ليشمل النساء بناءً على إقرار التعديل التاسع عشر عام ١٩٢٠م.

وكان إطار الجدل بشأن الحقوق المدنية والسياسية مركَّبًا؛ إذ نجد أحيانًا النزعة العنصرية تهدد بتقسيم الحركة النسائية، أو تنجح عمليًّا في تقسيمها، وفرَّقت التفاوتات القائمة على أساس الجنوسة حركة السود للحقوق المدنية خلال حقبةٍ سادها العنف والقهر. وأدرك سوجورنر تروث حقيقة الأخطار الناجمة عن تداخل النزعة العنصرية والتراتبية الجنوسية وقدَّم تحديدًا دقيقًا لها في رسالة تؤكد على ضرورة منْح حق الاقتراع العام لجميع الرجال والنساء، إذ قال:

«هناك قلق عظيم بشأن منْح الملونين حقوقهم، ولكن لا تسمع كلمةً واحدة عن المرأة الملونة. وإذا ما حصل الرجال الملونون على حقوقهم دون النساء، سنرى الرجال الملونين سادةً قوَّامين على النساء، وسيظل الوضع سيئًا مثلما كان. لذلك أراني حريصةً على أن يظل الوضع على ما هو عليه مثيرًا للقلق والاضطراب، ذلك أننا إذا انتظرنا حتى نستقر، فسوف نضطر إلى الانتظار طويلًا لندفعه إلى الحركة من جديد.» ١٩
والملاحظ أن أعضاء الرابطة القومية للمرأة الملونة التي تأسست عام ١٨٩٦م، وغالبية أعضائها من بنات الطبقات الوسطى، حرصن على ربط التقدم بمسألة الاستغلال الجنسي للمرأة السوداء. وتتبَّعت الرابطة، حسب رؤية المؤرخ ديبورا جي. هوايت، هذا الاستغلال حتى بداية مرحلة العبودية: «عندما استخدم الرجال البيض النساء السود … لاستيلاد سكان عبيد. وعندما حظر الرجل الأبيض الزواج الشرعي على العبيد، عمد إلى التفريق بين العائلات واستغل الميزة الجنسية لحسابه من العبيد فقد فاقم وضاعف من تحقيره للمرأة السوداء.»٢٠
ودعَت النساء الرجال السود إلى إظهار قدر من التأييد والمساندة للمرأة السوداء في نضالها ضد الاستغلال الجنسي. واعتقدت عضوات الرابطة، ومن بينهن إيدا بي. ويلز، أن ثمة أعدادًا كبيرة من الرجال السود يشاركون المجتمع الأبيض المهيمن في آرائه التي تقول إن المرأة السوداء تعوزها الفضيلة. ونتيجةً لذلك، حدثت مواجهة مع القساوسة السود وآخرين ممن يثيرون الشك والمطاعن في سلوك المرأة السوداء ودوافعها وأخلاقياتها وطالبن باعتذار عام. وأشار المؤرخ هوايت إلى أنه كان من رأيهن أن الاستغلال الجنسي للمرأة السوداء وقهر الشعب الأسود مترابطان.٢١

وأكدن في الوقت ذاته مساواتهن بالرجال السود، ودفعن بأنه أثناء العبودية تحمَّل الاثنان، الرجل والمرأة، المشاق على قدم المساواة، ولم ينل أي منهما حظوةً أو مكسبًا. وأشارت فاتي وليامز عضو الرابطة إلى أنه:

«في تطورنا كعِرق، بدأ الرجل الملون والمرأة الملونة معًا على قدم المساواة، ولا يستطيع الرجل أن يقول إنه أفضل تعليمًا أو أرحب آفاقًا، لأن كليهما بدأ التعلم بالمدارس في وقتٍ واحد. لقد عانوا جميعًا المظالم والمشاق ذاتها. وكانت القيود المفروضة على طموحاتهم واحدة.» ٢٢
وثمة عضوة أخرى بالرابطة هي آنا كوبر مؤلفة كتاب «صوت من الجنوب»، هو رجع صدًى لآراء ويليامز عندما أكدت أن «المساواة في الجنوسة وليدة الإنكار الصريح للعِرق.»٢٣ وبينما أدت مثل هذه المزاعم إلى إثارة توترات بين الرجل والمرأة، إلا أن المرأة لم تنكر على الرجل أن له مجاله الخاص، ولم تطعن في شأن قوامته في المجال العام للمجتمع الأسود.

أهمية الطبقة في سياق الجنس والجنوسة

ارتبطت قضايا الطبقة والجنوسة صراحةً بنساء الطبقة الوسطى في الرابطة القومية للمرأة الملونة التي ترفع شعارًا يقول: «لنصعد ونحن نتسلق» Lifting as We Climb، وسادت بينهن عقيدة تؤكد أن واجبهن هو توفير الخدمات للفقيرات من النساء السود العاملات وتعليمهن أهمية الالتزام بحياة أخلاقية. ويعتقد أيضًا في أن المرأة العاملة السوداء إذا ما التزمت بسلوكيات وأخلاقيات الطبقة المتوسطة فإنها ستكون بمنأًى على نحوٍ أفضل عن الاستغلال الجنسي والافتراء وتشويه السُّمعة.٢٤ وأبرزت ماجي لينا ووكر، المديرة التنفيذية ببنك ريتشموند في فرجينيا، خضوع المرأة لصالح رأس المال، وذلك في خطابٍ لها عام ١٩١٢م أمام مؤتمر الرابطة:
«رأس المال أصم (والنساء يتمردن ضد الأجور الظالمة)، ولن يسمع أبدًا صيحاتهن ما لم تُرغمه النساء على أن يستمع إليهن عن طريق صندوق الاقتراع، وأن يكون عادلًا وأمينًا مع النساء مثلما هو مع الرجل.»٢٥
وقبل ذلك بثلاثة عقود، وفي صيف عام ١٨٨١م، نظمت أكثر من ثلاثة آلاف امرأة أمريكية-أفريقية من الغسالات إضرابًا في أطلانتا مطالبات بزيادة أجورهن عن عملهن، وأن تكون لهن سيطرة على حِرفتهن. وكانت أطلانتا آنذاك بها أكبر عدد من حيث نصيب الفرد من العاملات في المنازل قياسًا إلى أي مدينة أخرى. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُضرِب فيها عاملات المنازل في نيوساوث مطالبات بزيادة أجورهن، وبأن تكون لهن الكلمة فيما يتعلق بظروف عملهن. وهدَّد مجلس مدينة أطلانتا أثناء الإضراب باستيراد فتيات من بنات اليانكي، يتَّسِمن بالأناقة ليعملن بدلًا منهن، وفُرضت ضرائب عالية على الأعمال التي تؤديها النساء الغسالات في المدينة، وردت النساء على التهديد بخطاب مفتوح إلى عمدة المدينة: «نقبل ذلك، نحن على استعداد لدفع ٢٥ أو ٥٠ دولارًا للتراخيص الممنوحة لنا، ولتكون حماية مما يسمح لنا بالسيطرة على أعمال الغسيل في المدينة.»٢٦
لم يكن هذا أول إضراب يقع في الجنوب، بل كان مجرد وسيلة من النساء الغسالات لتأكيد استقلالهن الذاتي وللتعبير عن سخطهن وبذل الجهد لممارسة السيطرة على شئون حياتهن. إن المصالح الطبقية عمدت في الغالب إلى تقسيم الحركات الاجتماعية القائمة في الأساس على العِرق و/أو الجنوسة. ونجد لحجج العشرينيات من القرن العشرين الداعمة لاقتراح تعديل الحقوق المتساوية صداها القوي اليوم. ذلك أن كثيرًا من زعيمات الحركات النسائية اللائي يدعمن التعديل هن من بنات الطبقة المتوسطة اللاتي الْتمسن وسيلة للالتحاق بالجامعات أو بمِهن يعملن فيها. ولخص بعض المؤرخين مفهومهن عن المساواة: «إن أي شيء غير المطابقة الكاملة في المعاملة بين النساء والرجال هو عمل من أعمال التمييز. وإن أي استخدام للقانون لدعم التمايز على أساس الجنوسة سوف يطرد بهدف حرمان المرأة من حق الوظيفة والملكية والتعليم وما هو أكثر من ذلك.»٢٧
كذلك فإن المطالبات بالمساواة الاجتماعية بين المرأة والرجل، والجماعات المختلفة للنساء العاملات مثل عصبة النقابات النسائية عارضن جميعًا وبقوةٍ التعديل، مؤكدات أن:
«بعض التمايزات الجنوسية التي نصَّ عليها القانون أمْلتها الضرورة لحماية صحة المرأة وأمنها في عالم مفرط في مظاهر عدم المساواة. مثال ذلك أنهن يخشين أن تستخدم المحاكم تعديل الحقوق المتساوية لإبطال تشريع العمل الوقائي الذي حاربن من أجله كثيرًا، وهو تشريع يضم القوانين التي تمنع أصحاب الأعمال من تشغيل النساء في الأعمال الشاقة أو أثناء الليل …»
واعتقدت نساء كثيرات … أن المرأة الفقيرة استفادت من تشريع العمل الوقائي أكثر من الفائدة التي ستعود عليها من تعديل الحقوق المتساوية. وأعتقد بأن تحقيق مساواة موضوعية بين الرجل والمرأة تستلزم الاعتراف بأن هناك مظالم اقتصادية واجتماعية كبيرة. وكذا الاعتراف بحق التعويض عنها. واقتنعن بأن المعاملة القانونية المتساوية على أرضية لا تعترف بالمساواة سوف تخلق مزيدًا من المظالم وعدم المساواة. ٢٨

ووضحت القضايا الطبقية أيضًا مع ظهور النزعة المحافظة السوداء خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. ذلك أن انهيار اقتصاد الولايات المتحدة الذي بدأ منذ منتصف السبعينيات، أثر تأثيرًا كبيرًا على الطبقة العاملة وعلى الأمريكيين الأفارقة الفقراء أكثر مما أثَّر على الجيل الأول من أبناء الطبقة الوسطى السود الذين كانوا لا يزال بإمكانهم مواصلة الاستفادة بالفرص التعليمية والسياسية وفرص مشروعات الأعمال التي هيأتها لهم برامج العمل. ونذكر هنا ما أشار إليه كورنيل وست، من أن بعض السود أبناء الطبقة الوسطى الجديدة: بدءوا يشعرون بالضيق إزاء الكيفية التي ينظر بها إليهم أقرانهم من البيض أبناء الطبقة الوسطى … وعبَّر المحافظون السود الجدد عن مشاعرهم هذه في صورة هجمات ضد برامج العمل الإيجابية (هذا على الرغم من حقيقة أنهم كسبوا مواقعهم هذه بفضل هذه البرامج).

وإن أهمية البحث عن أن يكون احترام وتقدير أبناء الطبقة الوسطى تأسيسًا على الجدارة دون السياسة أمر لا سبيل إلى المبالغة في تقييمه داخل النزعة المحافظة السوداء الجديدة. ولقد تشكَّلت بعض عناصر هذه النزعة المحافظة في ضوء حاجة المحافظين السود لأن يحظوا بالاحترام الذي يحظى به أقرانهم البيض. وهم لا يطالبون في هذا الصدد بأكثر مما يطالب به الغالبية العظمى، أن يكون الحكم عليهم تأسيسًا على جودة مهاراتهم وليس لون بشرتهم …

ويفترض المحافظون السود الجدد أنه دون برامج العمل الإيجابية سيُجري الأمريكيون البيض اختياراتهم على أساس الجدارة دون العِرق، بيد أنهم لم يقدِّموا أي دليل على هذا. ويدرك غالبية الأمريكيين أن اختيارات شغل الوظائف تجري على كل من أسباب الجدارة وعلى أسس شخصية. وأن هذا البُعد الشخصي هو الذي يتأثر في الغالب الأعم بالتصورات العِرقية. لذلك فإن الجدل الدائر دون انقطاع بشأن تشغيل السود ليس أبدًا «الجدارة مقابل العِرق» بل إذا ما كانت قرارات التشغيل ستقوم على أساس الجدارة ومتأثرة بالانحياز العِرقي ضد السود أم على الجدارة مع اعتبار خاص بالأقليات والنساء على نحو ما ينص القانون.٢٩
والجدير بالذكر أن عمليات التشكيل الطبقي التي حدثت داخل الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن العشرين، صاغت آراء المحافظين السود الجدد بوسائل مغايرة مثل الرغبة في القبول الاجتماعي. ذلك أن كثيرًا من الأمريكيين الأفارقة توحَّدوا مع الشعوب المقهورة في أنحاء أخرى من العالم مثل أيرلندا الشمالية أو كوريا الجنوبية وبولندا، والشرق الأوسط وجنوب أفريقيا. وأن هذه النزعة الدولية التي تبلورت في الحقوق المدنية وفعالية القوة السوداء في ستينيات القرن العشرين، ارتكزت على توفر حِس مشترك إزاء الخبرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ورغبة من المحافظين السود الجدد في الفوز بالقبول الاجتماعي وتجنب اتهامات اليمين السياسي لهم «بمناهضة أمريكا» حرصوا على رفض هذه النزعة الدولية وساندوا سياسات حكومة الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى وإسرائيل وأفريقيا. ونتيجةً لذلك تعرضوا كثيرًا للهجوم واتهامهم باتخاذ موقف الدفاع والتبرير داخل مجتمعات المنشأ التي ولدوا فيها.٣٠

نتائج ختامية

تصوِّر الأمثلة التي أوردناها سابقًا حالات اتخذت فيها الطبقات والطوائف التابعة موقف الطعن والتحدي لجهود الدولة والطبقات الحاكمة من أجل توصيفهم ووضعهم في إطار تصنيف فئوي. وحاول كلٌّ من الكتَّاب والناشطين الذين ذكرناهم نزْع قشرة الكياسة والثقافة بغية كشف حقيقة الاستغلال والقهر اللذَيْن يمثلان قاعدة العلاقات التراتبية الهرمية داخل المجتمع المتحضِّر. ونستطيع بمجهود بسيط جدًّا أن نعرض عشرات التعليقات الأخرى التي تحمل المشاعر ذاتها وبنفس القدر من الوضوح.

ودفعت الطبقات الحاكمة والعاملون المثقفون مرارًّا بأن التراتبيات الاجتماعية والثقافية في المجتمع المتحضِّر أمر طبيعي. ولكن على الرغم من هذا برهن أبناء الطبقات والطوائف التابعة على أنهم يعرفون جيدًا حقيقة هذا التراتبيات.

١  Jalil Sued Badillo, “The Theme of the Indigenous in the National Projects of the Hispanic Caribbean,” in Schmidt and Patterson, eds., Making Alternative Histories; Richard Price, ed., Maroon Societies: Rebel Slave Communities in the Americas (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1979); Gerald M. Sider, Lumbee Indian Histories: Race, Ethnicity, and Indian Identity in the Southern United States (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1993).
٢  Karen Brodkin Sacks, personal communication; see also her “How Did Jews Become White Folks?” in Gregory and Sanjek, eds., Race, pp. 78–102.
٣  Georg W. F. Hegel, The Phenomenology of Mind (London: George Allen and Unwin, 1966), pp. 235–37; Jean Jacques Rousseau, The Social Contract and Discourses (London: J. M. Dent and Sons, 1973), pp. 168–75; Friedrich Nietzsche, Beyond Good and Evil (Harmondsworth, UK: Penguin Books, 1973) and On the Genealogy of Morals (New York: Vintage Books, 1967), Tracy B. Strong, Friedrich Nietzsche and the Politics of Transfiguration (Berkeley: University of California Press, 1988), pp. 237–59, 351–53.
٤  W. E. B. DuBois, The Souls of Black Folk [1903] (New York: New American Library, 1969), p. 204. See the illuminating discussions by Deborah K. King. “Multiple Jeopardy, Multiple Consciousness: The Content of Black Feminist Ideology,” Signs 14 (1) (1988): 42–72, and Ernest Allen, Jr., “Ever Feeling One’s Twoness: ‘Double Ideals’ and ‘Double Consciousness’ in The Souls of Black Folk,” Critique of Anthropology 12 (3) (1992): 261–276.
٥  DuBois, The Souls of black Folk, p. 45.
٦  Ibid., p. 221.
٧  Quoted in Mamie E. Locke, “From Three-Fifths to Zero: Implications of the Constitution for African-American Women, 1787–1870,” in Darlene C. Hine, Wilma King, and Linda Reed, eds., We Specialize in the Wholly Impossible: A Reader in Black Women’s History (Brooklyn, NY: Carlson Publishing, 1995), p. 226.
٨  Young Joseph, “An Indian’s View of Indian Affairs,” North American Review 269 (1879): 431-432.
٩  Allan Bloom, The Closing of the American Mind (New York: Simon and Schuster, 1987); and Lynn Cheney, Humanities in America: A Report to the President, the Congress, and the American People (Washington, DC: National Endowment for the Humanities, 1988). For the social and political context of the attack, see Michael Bérubé and Cary Nelson, eds., Higher Education under Fire: Politics, Economics, and the Crisis of the Humanities (New York: Routledge, 1995); John K. Wilson, The Myth of Political Correctness: The Conservative Attack on Higher Education (Durham, NC: Duke University Press, 1995), Cornel West, Beyond Eurocentrism and Multiculturalism, 2 vols. (Monroe, ME: Common Courage Press, 1993), Paul Berman, Debating P.C.: The Controversy over Political Correctness on College Campuses (New York: Dell Publishing, 1992) and David Theo Goldberg, ed., Multiculturalism: A Critical Reader (Cambridge, MA: Basil Blackwell, 1994).
١٠  Herrnstein and Murray, The Bell Curve and Fraser, ed., The Bell Curve Wars.
١١  Angelo Falcón. “Puerto Rican and the Politics of Racial Identity,” in Herbert W. Harris, Howard C. Blue, and Ezra E. H. Griffith, eds., Racial and Ethnic Identity: Psychological Development and Creative Expression (New York: Routledge, 1995), pp. 197–98; see also Clara Rodriguez, “Challenging Racial Hegemony: Puerto Ricans in the United States,” in Gregory and Sanjek, eds., Race, pp. 131–45.
١٢  Dwight Conquergood, “For the Nation‌! How Street Gangs Problematize Patriotism,” in Herbert W. Simons and Michael Billig, eds., After Postmodernism: Reconstructing Ideology Critique (Beverly Hills, CA: Sage Publications, 1994), p. 205.
١٣  See the essays in Sandra Harding, ed., The “Racial” Economy of Science: Toward a Democratic Future (Bloomington: Indiana University Press, 1993).
١٤  Gail Bederman, “‘Civilization,’ The Decline of Middle-Class Manliness, and Ida B. Wells’ Anti-Lynching Campaign (1892–1894),” in Hine, King, and Reed, eds., We Specialized in the Wholly Impossible, pp. 407–32.
١٥  Ibid., p. 424.
١٦  Christine W. Gailey, From Kinship to Kingship: Gender Hierarchy and State Formation in the Tongan Islands (Austin: University of Texas Press, 1987), p. 6.
١٧  Quoted in Meredith Tax, The Rising of the Women (New York: Monthly Review Press, 1980), p. 230.
١٨  Quoted in Suzanne Lebsock, “Woman Suffrage and White Supremacy: A Virginia Case Study,” in Nancy A. Hewitt and Suzanne Lebsock, eds., Visible Women: New Essays on American Activism (Urbana: University of Illinois Press, 1993), p. 62.
١٩  Quoted in Locke, “From Three-Fifths to Zero,” p. 232.
٢٠  Deborah G. White, “The Cost of Club Work, The Price of Black Feminism,” in Hewitt and Lebsock, eds., Visible Women, p. 258.
٢١  Ibid., p. 258.
٢٢  Ibid., p. 251.
٢٣  Ibid.
٢٤  Ibid., pp. 259–64.
٢٥  Lebsock, “Woman Suffrage and White Supremacy,” p. 81.
٢٦  Tera W. Hunter, “Domination and Resistance: The Politics of Wage Household Labor in New South Atlanta,” in Hine, King, and Reed, eds., We Specialized in the Wholly Impossible, p. 352.
٢٧  Rosalyn Baxendall and Linda Gordon, America’s Working Women: A Documentary History, 1600 to the Present (New York: W. W. Norton and Company, 1995), p. 236.
٢٨  Ibid., pp. 236–37.
٢٩  Cornel West, Race Matters (Boston: Beacon Press, 1993), p. 52.
٣٠  Ibid., pp. 53-54.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥