مقدمة
أثناء تأليفي هذا الكتاب، كم أدهشني حال الأشخاص الثنائيي اللغة، وهم الذين يستخدمون لغتين أو أكثر في حياتهم اليومية. ففي خلال بضع ساعات في صباح يوم الإثنين هذا، استخدمتُ اللغة الفرنسية في شراء كرواسون من زوجة الخباز، التي تعامَلَتْ مع العميل التالي لي باللغة الألمانية السويسرية؛ وذهبتُ مع زوجتي الثنائية اللغة إلى المدينة للقاء صديقتها الثلاثية اللغة التي تتحدَّث بالإيطالية والفرنسية والألمانية؛ ومررتُ بالميكانيكي الإيطالي الأصل الذي أتعامل معه ليقوم بفحص سيارتي، وقد شرح لي باللغة الفرنسية كيف يعمل نظام التبريد بالسيارة. ومع تنقُّلي من مكان لآخَر استمعتُ إلى الراديو، وسمعتُ أن إنجريد بيتانكورت، السياسية الكولومبية التي ظلت مختطفةً لفترة طويلة قبل أن يتم تحريرها، قضَتْ يوم الأحد الماضي في باريس مع أصدقاء فرنسيين، وتحدَّثت بالإسبانية على محطة كاراكول الإذاعية الكولومبية إلى المختطفين الآخَرين الذين كانوا معها ولم يتم تحريرهم بعدُ. استمعتُ أيضًا إلى روجر فيدرير في لندن يتحدث عن مباراة النهائي التي لعبها في ويمبلدون؛ فقد كان متعبًا بسبب انتهائِه من مباراته ضد رافاييل نادال في وقت متأخر في المساء، ثم إجرائِه مقابلات باللغات الأربع التي يتحدَّث بها: «الألمانية السويسرية، والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية». والآن وأنا أجلس في مكتبي، مستمِعًا إلى موسيقى جورج فريدريك هاندل، المؤلف الموسيقي الثلاثي اللغة الذي كان يتحدَّث بالألمانية والإيطالية والإنجليزية، أستطيع سماع الأطفال في مركز الرعاية النهارية على الجهة المقابلة من الشارع وهم يغنون أغنيات بالفرنسية والإيطالية. توجد الثنائية اللغوية فعليًّا في كل دولة في العالم، وفي جميع طبقات المجتمع، وفي جميع الفئات العمرية. لقد قُدِّر أن نحو نصف سكان العالم، إنْ لم يكن أكثر، ثنائيو اللغة، وهذا الكتاب يتحدَّث عنهم.
لماذا أقدِّم كتابًا جديدًا بعد كل الكتب الكثيرة التي تتحدَّث عن الموضوع نفسه؟ يعود السبب إلى زمن بعيد؛ فعندما كنتُ طالبًا في جامعة باريس أحاوِل التكيُّفَ مع ثنائيتي اللغوية والثقافية، بحثتُ عن كتاب عن الموضوع ولم أجد إلا المراجع المتخصِّصة التي كانت طويلةً جدًّا وذات أسلوب شديد الصعوبة (فلم أكن حينها عالِمَ لغةٍ بعدُ). بالإضافة إلى ذلك، لم أشعر أنها كانت تتحدَّث عن القضايا الواقعية التي كنت مهتمًّا بها في ذلك الوقت، كما أنها لم تُجِبْ عن بعض أسئلتي الأساسية، وهي: ما هي الثنائية اللغوية؟ وهل أنا فعلًا ثنائي اللغة؟ ولماذا أواجِهُ فجأةً صعوباتٍ في اللغة مع أن الأمور كانت تسير بسلاسةٍ حتى ذلك الوقت؟ (كنتُ قد عدتُ إلى فرنسا للتوِّ بعد غياب دام عشر سنوات.) وهل أنا إنجليزي كما صنع مني تعليمي، أم فرنسي كما كان يشير اسمي وجواز سفري؟ هل هناك مشكلة في كون المرء ثنائيَّ الثقافة؟ هذه بعض الأسئلة التي كنت أبحث عن إجابات لها، وبالنظر إلى السنوات الماضية، أدرك الآن أن كثيرًا من ثنائيي اللغة كانوا يطرحون على أنفسهم الأسئلةَ نفسها. لقد استغرق الأمر مني بعض الوقت والبحث المتعمق في مجال الثنائية اللغوية، أولًا على مستوًى عمليٍّ في رسالة الماجستير التي حصلت عليها، ثم في عملي كباحث، حتى وصلتُ إلى إجابات مُرْضِية لهذه الأسئلة.
عقب مرور أكثر من أربعين عامًا، وبعد نشري لكتابيَّ «الحياة مع لغتين» و«دراسة ثنائيي اللغة» وكثيرٍ من الأبحاث العلمية، شعرتُ بالحاجة إلى تأليف كتاب يكون بمنزلة مقدمة بسيطة وأساسية عن الموضوع الذي كنت أبحث عنه وأنا ما زلتُ شابًّا. لا يمكن إنكار أن هذا الموضوع أُلِّف حولَه العديدُ من الكتب التي تُعَدُّ بمنزلة مقدمات له (وقد ألَّفْتُ أحدها)، والمجلدات المحررة والدراسات الأكثر تخصُّصًا، كما أن هناك موسوعة، ودوريات أكاديمية (ساهمتُ في تأسيس إحداها) خُصِّصَتْ له، فضلًا عن الرسائلِ الإخبارية الخاصة بالأُسَر الثنائية اللغة، والعديدِ من المواقع الإلكترونية المخصَّصة لهذا الموضوع. ومع هذا، وعلى الرغم من انتشار هذه الظاهرة، فإن الثنائية اللغوية كموضوعٍ للبحث ما زالت غير مألوفة لمعظم الناس. كذلك يحيط بالثنائية اللغوية عدد من الخرافات مثل أن الأشخاص الثنائيي اللغة من النادر وجودهم ويتمتعون بمعرفة متساوية ومثالية بلغاتهم، وأن الأشخاص الثنائيي اللغة الحقيقيين قد اكتسبوا ما يجيدونه من لغتين أو أكثر في مرحلة الطفولة وليس لديهم لكنة في أيٍّ منها، وأن الأشخاص الثنائيي اللغة مترجمون بالفطرة، وأن تنقُّلهم بين اللغات هو علامة على كسلهم، وأنهم كلهم ثنائيو الثقافة، وأن لديهم شخصيات مزدوجة أو مُنفصِمة، وأن الثنائية اللغوية تؤخِّر اكتساب اللغة لدى الأطفال ولها آثارٌ سلبية على نموهم، وأنك إذا أردتَ أن تربِّي طفلك ليصبح ثنائي اللغة، فعليك استخدام أسلوب التزام كلٍّ من الوالدين بالتحدُّث إليه بلغة واحدة فقط، وأن الأطفال الذين ينشئون على الثنائية اللغوية يخلطون دومًا بين لغاتهم، إلى آخِر ذلك.
إن هدفي الأول في هذا الكتاب هو عرض الجوانب المختلفة لكون المرء ثنائيَّ اللغة بأبسط وأوضح طريقة ممكنة، حتى أزيل الغموض المحيط بطبيعة هؤلاء الأفراد. وعلى عكس كتاباتي ذات الطابع الأكاديمي عن هذا الموضوع، أضع في ذهني هنا قاعدةَ قرَّاءٍ عامة أكثر تتألَّف من كلِّ المهتمين بالثنائية اللغوية، أو كلِّ مَن تربطهم علاقةٌ، بنحو أو بآخَر، بثنائيي اللغة؛ الطلاب والقرَّاء العاديين، والآباء الذين يخطِّطون لتنشئة أطفالهم أو يُنشِئونهم ليكونوا ثنائيي اللغة، والأزواج وأفراد العائلات الذين يتعاملون مع ثنائيي اللغة، بالإضافة إلى الزملاء والأصدقاء والمختصين الذين يتعاملون مع الأطفال الثنائيي اللغة، مثل المعلمين وعلماء النفس واختصاصيِّي التخاطُب. أما هدفي الثاني، الذي هو على نفس قدر أهمية الهدف الأول، فيتمثَّل في تقديم كتابٍ للأشخاص الثنائيي اللغة يتحدَّث عنهم، من تأليف شخصٍ هو نفسه ثنائي اللغة، تعرَّضَ لكل مميزات وعيوب العيش وهو يمتلك عدة لغات وينتمي لعدة ثقافات. لا يرى كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة أنفسهم أنهم كذلك، ويتشكَّكون في كفاءتهم اللغوية؛ لذا أتمنَّى أن يساعدهم هذا الكتاب في التصالُح مع حقيقتهم وتقبُّل هويتهم بوصفهم متمتِّعين بالكفاءة لكنهم نوعٌ مختلف من مستخدمي اللغات.
لا أريد أن يتسم هذا الكتاب بالتفاؤل فحسب وإنما أيضًا بالواقعية؛ فالثنائية اللغوية ليست عبئًا أو مشكلة كما يصوِّرها البعض، لكنها أيضًا ليست ميزةً رائعة كما يريد البعض الآخَر منَّا أن نعتقد؛ فالثنائية اللغوية هي ببساطة حقيقةٌ حياتية لملايين وملايين الأفراد، بكل مميزاتها وعيوبها، وأوقات نفعها وأوقات ضررها، وما ينتج عنها من لحظات بهجة (وهي كثيرة) ولحظات إحباط (وهي قليلة). ونظرًا لكوني ثنائيَّ اللغة والثقافة، سأحاول وصْفَ الأشخاص الذين يعرفون ويستخدمون، مثلي، عدةَ لغات ويتعاملون مع ثقافات مختلفة، وسأحاول فعل هذا بأوضح وأكثر طريقة معبِّرة ممكنة.
يتكوَّن هذا الكتاب من جزأين؛ يتحدَّث الأول عن البالغين الثنائيي اللغة، ويختص الثاني بالأطفال الثنائيي اللغة. ينقسم كل جزء إلى فصول قصيرة تشرح الجوانب المختلفة للشخص الثنائي اللغة. في الجزء الأول، أستعرض أسبابَ كوْنِ الأشخاص ثنائيي اللغة ومدى الثنائية اللغوية؛ ثم أصِفُ الثنائيي اللغة من حيث الطلاقة اللغوية واستخدام اللغة، وأنظر في الوظائف المختلفة لِلُغات الأشخاص الثنائيي اللغة. هذا وأخصِّص ثلاثة فصول للحديث عن طريقة تكييف الأشخاص الثنائيي اللغة لإنتاجهم اللغوي مع الموقف ومع الذين يتعاملون معهم — من الأشخاص الثنائيي اللغة الآخَرين أو الأحاديي اللغة — وأتحدَّث عن سلوكيات متعلِّقة بالثنائية اللغوية؛ مثل: التبديل اللغوي، والاقتباس، والتداخُل. بعد ذلك أخصِّص فصلًا للحديث عن معنى أن تكون للفرد لكنةٌ في لغة واحدة أو العديد من اللغات، وهو في الواقع أمر طبيعي جدًّا بالنسبة إلى ثنائي اللغة. ثم أتناول تطوُّرَ معرفةِ الأشخاص الثنائيي اللغة بلغاتهم طوال فترة حياتهم؛ فأوضِّح كيف تزيد وتخبو المعرفةُ باللغات المختلفة واستخدامها بناءً على الحاجة المتغيِّرة. يعرض الفصل التالي مواقف ومشاعر الأشخاص الثنائيي اللغة، والأحاديي اللغة أيضًا، تجاه الثنائية اللغوية. يليه فصل عن الثنائية الثقافية، وهي ظاهرة لا ترتبط تلقائيًّا بالثنائية اللغوية، ولكنها تفرض نفسها على حياة كثيرٍ من الأشخاص الثنائيي اللغة. تعقب هذا مناقشةٌ لشخصية الثنائيي اللغة، وكيف يفكِّرون ويحلمون، وكيف يعبِّرون عن مشاعرهم بإحدى لغاتهم أو بها جميعًا. يتحدَّث الفصلان الأخيران في الجزء الأول عن الكُتَّاب الثنائيي اللغة وغيرهم من الأشخاص الثنائيي اللغة «المميَّزين». لقد وصفتُ، على مر السنوات، الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين ودافعتُ عنهم، وفي هذا الكتاب أواصِل عمل ذلك؛ حيث إنهم يشكِّلون الغالبية العظمى من الثنائيي اللغة. إلا أنني قررتُ أيضًا الحديث عن الثنائيي اللغة المميَّزين، والاستثنائيين أحيانًا؛ معلِّمي اللغات والمترجمين التحريريين والشفويين والمشاهير من الثنائيي اللغة، وحتى العملاء السريين، بالإضافة إلى المؤلِّفين الثنائيي اللغة الذين يكتبون أعمالًا أدبية بلغتهم الثانية أو بلغتَيْهم كلتَيْهما، وهو شيء مبهر في حقيقة الأمر.
أشرح في الجزء الثاني كيف يكتسب الأطفال الثنائيةَ اللغوية ويتخلَّوْن عنها بسرعة كبيرة، وكيف أن هذا يعتمد إلى حد كبير على احتياجهم للغات التي يتعاملون معها. ثم أشرح الطرق التي يتحوَّل بها الطفلُ إلى ثنائي اللغة، مثل اكتساب لغتين معًا في مرحلة الطفولة، أو اكتساب لغة واحدة في مرحلة الطفولة ثم لغة ثانية في مرحلة تالية. أُتبِع هذا بفصل يتحدَّث عن الجوانب اللغوية للثنائية اللغوية في مرحلة الطفولة، وأناقِش فيه سيادةَ إحدى اللغات، والتكيُّفَ مع الوضع اللغوي، و«الخلطَ» بين اللغات، وتصرُّفَ الأطفال الثنائيي اللغة مثل المترجمين الشفويين، وطريقةَ لعب الأطفال الثنائيي اللغة باللغات. كما أخصِّص فصلًا للحديث عن الاستراتيجيات التي يمكن للعائلات تطبيقُها لضمان أن يصبح أطفالُهم ثنائيي اللغة؛ وعن الدعم الذي لا بد أن يحصلوا عليه هم وأطفالهم من أجل الحفاظ على لغاتهم الأصلية. وثمة فصل كامل عن آثار الثنائية اللغوية على نمو الأطفال يجيب عن سؤال يوجد في أذهان كثير من الآباء. هذا، وأستعرض المشكلات التي توجد في الدراسات السابقة عن الثنائية اللغوية، وما وصلَتْ إليه الأبحاثُ في يومنا هذا، وأتحدَّث قليلًا عن الأطفالِ الثنائيي اللغة واضطراباتِ اللغة. وأتحدَّث في الفصل الأخير عن التعليم والثنائية اللغوية، وأستعرِض برامجَ لا يهدف فيها التعليمُ لاكتساب ثنائيةٍ لغويةٍ، وأخرى يكون هذا هو أحد أهدافها.
ما الاختلاف بين هذا الكتاب الجديد وكتاب «الحياة مع لغتين»؟ أولًا: هذا الكتاب أقصر، ويغطي جوانب محدَّدة فقط للثنائية اللغوية؛ فيركِّز على البالغين والأطفال، فهذا الكتاب لا يتحدَّث مثلًا عن الجوانب السياسية والديموغرافية والاجتماعية للثنائية اللغوية. ثانيًا: ألَّفْتُ هذا الكتاب ليكون سهلَ الفهم لقاعدة عريضة من القراء العاديين وليس فقط للطلاب والمختصين؛ ومن ثَمَّ فإن الفصول صارت أقصر، وأصبحت الإشارات أقل إلى الأعمال البحثية، وصار التركيز أقل على موضوعات متخصِّصة — بعضها ضمن نطاق تخصُّصي — مثل الجوانب الإدراكية واللغوية العصبية للثنائية اللغوية، أو نماذج المعالجة الثنائية اللغة. ثالثًا: مرَّ أكثر من ٢٥ سنة على نشر كتابي «الحياة مع لغتين»، وتطوَّرت طريقة تفكيري في بعض الموضوعات؛ إجمالًا، يمكنني القول إن الكتابين مكمِّلان كلٌّ منهما للآخر؛ فقد يرغب القارئ الذي ينتهي من قراءة هذا الكتاب ويكون مهتمًّا بمعرفة المزيد، في الاطِّلاع على الكتاب الآخَر الذي يغطِّي المزيد من الموضوعات، وهو الأكثر تفصيلًا بالتأكيد، ويقدِّم المزيد من الإفادات الشخصية من أناس ثنائيي اللغة.
وتمامًا مثلما فعلتُ في كتاب «الحياة مع لغتين»، أترك في هذا الكتاب الفرصةَ لثنائيي اللغة للحديث بأنفسهم عن خبراتهم الشخصية بشأن الحياة مع لغتين وثقافتين أو أكثر. أدرجتُ أيضًا بعض الاقتباسات القصيرة من أعمالٍ لمؤلِّفين ثنائيي اللغة، مثل: إيفا هوفمان، ونانسي هيوستن، وريتشارد رودريجيز، وأوليفيه تود؛ إذ إن موهبة التأليف لديهم تسمح لهم باستخدام الكلمات المناسبة للتعبير عن مشاعرهم وخبراتهم مع الثنائية اللغوية التي مرَّ بها كثيرٌ منَّا.
تمتد المراجع العلمية التي أستشهد بها في هذا الكتاب إلى عدة عقود، على الرغم من أن الغالبية العظمى منها حديثة للغاية. ما السبب وراء هذه الفترة الزمنية الطويلة؟ وما سبب الاستشهاد ببعض المراجع الأقدم؟ الإجابة بسيطة؛ فقد أصبح لدراسة الثنائية اللغوية الآن تاريخٌ طويل، ومن المهم ذِكْر الأعمال الكلاسيكية لبعض من أوائل الباحثين في هذا المجال، مثل: أينار هوجن، وأوريل فاينريش، وويليام ماكي، ووالاس لامبرت، وغيرهم؛ فقد مهَّدوا الطريق أمام العلماء من جيلي والأجيال التالية عليه. ومع هذا، فأنا في الحقيقة لا أُكثِر من الاستشهاد في هذا الكتاب؛ إذ لا أريد إدراج الكثير من الإحالات داخل الفصول، ويمكن للقرَّاء الذين يريدون التعمُّق أكثر في جوانب معينة من الثنائية اللغوية الرجوعُ إلى أعمالي السابقة، بالإضافة إلى الكثير من الكتب التقديمية والأكثر تخصُّصًا الأخرى التي تتحدَّث عن الموضوع.