يوجد في كل مجموعات البشر أعضاء استثنائيون، ومن دواعي سروري أن أذكر بعضًا من هؤلاء
الأفراد المميزين في «فئتنا» في الفصلين القادمين. لن يصبح كثيرٌ منَّا — نحن الأشخاص
الثنائيي اللغة — مثلهم (ولا حاجة بنا إلى ذلك)، لكنهم لنا من الناحية اللغوية بمنزلة
إدموند هيلاري أو تينسينج نورجاي، ولهم أهمية في عرضنا في هذا الكتاب.
سأركِّز في هذا الفصل على الكُتَّاب الثنائيي اللغة، نظرًا لأن الكتابة مجال خاص
باللغة، وربما إحدى أصعب المهارات المعرفية التي يكتسبها الإنسان. عادةً تظل اللغة التي
نتعلَّم القراءة والكتابة بها بطلاقةٍ في شبابنا اللغةَ التي نستخدمها في الكتابة لباقي
حياتنا. بالطبع، يفضِّل البعضُ الكتابةَ بلغة أخرى، أو عدة لغات أخرى، لكنهم قد لا
يشعرون براحة بالغة في فعل هذا. ومع ذلك، يجد المرء في عالَمِ الكتابة الأدبية المحترفة
الصغيرِ استثناءاتٍ واضحةً تضم أشخاصًا ثنائيي اللغة؛ فيوجد بعض الكُتَّاب الثنائيي
اللغة الذين يؤلِّفون كتبًا بلغتهم الثانية (أو الثالثة)؛ وهو إنجاز مذهل عندما يفكر
المرء في مدى صعوبة كتابة أعمال أدبية بلغة المرء الأصلية. والظاهرة الاستثنائية أكثر
من هذا تتمثَّل في الذين يكتبون أعمالًا أدبية بكلتا لغتَيْهم، وسنتحدث في هذا الفصل
عن
هؤلاء الكُتَّاب البارزين.
(١) الكتابة باللغة الثانية (أو الثالثة)
يوجد كثير من الكُتَّاب الثنائيي اللغة أو المتعددي اللغات، لكنهم مع ذلك
يقرِّرون الالتزام بلغة واحدة عند الكتابة، وعادةً ما تكون لغتهم الأولى. ومن
ثَمَّ، نجد أن إيزاك بي سينجر، على سبيل المثال، المؤلف الأمريكي الذي من أصل
بولندي والحاصل على جائزة نوبل، كان يكتب دومًا بلغته الأصلية، اليديشية، على الرغم
من معرفته بكثير من اللغات الأخرى، خاصةً البولندية والعبرية. كما كان الشاعر
تشيسلاف ميلوش، الحاصل أيضًا على جائزة نوبل، يجيد البولندية والروسية والإنجليزية
واللتوانية والفرنسية، لكنه كان يكتب بالبولندية فقط.
توجد مجموعة فرعية من هؤلاء الكُتَّاب، وتتمثل في الذين يختارون تأليف كتبهم
بأكثر لغة يتقنون الكتابة بها، حتى إن لم تكن لغتهم الأولى. يتبادر مثالان إلى
الذهن؛ الأول ريتشارد رودريجيز، مؤلف الكتاب الأكثر رواجًا «نهم الذاكرة»، والذي
كانت الإسبانية لغته الأولى لكن تحوَّلت أسرته إلى استخدام الإنجليزية عند التحاقه
بالمدرسة؛ ومن ثَمَّ، أصبحت الإنجليزية لغته السائدة خلال فترة المراهقة، وبالتأكيد
اللغة التي يكتب بها. أما المثال الآخَر فهو إيفا هوفمان، التي انتقلت من بولندا
إلى كندا عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها، والتي ألَّفت كتابها «فُقِد في
الترجمة» بالإنجليزية، وهي اللغة التي درست بها في المدرسة الثانوية والجامعة. يسرد
كِتابُها، تمامًا مثل كتاب رودريجيز، ببراعةٍ رحلتَها الفكرية والإنسانية في فكر
المجتمع الأمريكي وثقافته. اختار المؤلفان استخدامَ اللغة الإنجليزية في الكتابة،
وقدَّموا أساليب أدبية قوية، وفريدة في بعض الأحيان؛ بالطبع، نظرًا لكونهما ثنائيي
اللغة أُتيحت لهما فرصة الإشراف على بعض الترجمات لأعمالهما، لكنهما لم يخاطرا
بإنتاج إبداعات أدبية بلغتهما التي لا يجيدانها إجادةً تامة.
مع ذلك، يوجد مؤلفون يقرِّرون الكتابة بلغتهم الثانية أو حتى الثالثة، حتى إن
كانوا يتقنون الكتابة بلغتهم الأولى. ربما يكون أشهر مثال على ذلك هو جوزيف كونراد،
الذي كتب في أوائل القرن العشرين أعمالًا كلاسيكية مثل: «قلب الظلام»، و«اللورد
جيم»، و«نوسترومو»، و«العميل السري». وُلِد كونراد في بولندا، وعاش بها حتى بلغ سن
السادسة عشرة، ثم انتقل للعيش في فرنسا لمدة أربع سنوات وأصبح يجيد الفرنسية.
انضمَّ إلى الأسطول التجاري الإنجليزي وتعلَّمَ التحدث والكتابة بالإنجليزية. عندما
أنهى عمله في البحرية في سن الخامسة والثلاثين، كان قد كتب بالفعل بعض الأعمال
النثرية بالإنجليزية، وبعد هذا كرَّس كل وقته لتأليف الروايات. الأمر المثير
للاهتمام أنه لم يؤلف كتبه بالبولندية —
لغته الأولى — أو بالفرنسية التي يجيد الكتابة بها، وإنما بالإنجليزية؛ لغته
«الثالثة».
بحسب ما ورد عن فريدريك كارل كاتب السيرة الذاتية لكونراد، كان قرار كونراد بعدم
التأليف بالبولندية وسيلتَه لفصل نفسه عن والده وثقافته وبلده. وللأسف لم يفهم كلٌّ
من البريطانيين والبولنديين موقفَه؛ فقال عنه البريطانيون إنه كان بولنديًّا
متخفيًا، وقال البولنديون العكس (وهذه مشكلة نموذجية متعلِّقة بالثنائية الثقافية).
لقد كانت أعمال كونراد النثرية الإنجليزية رائعةً للغاية ولا تتطلب أي تحرير
تقريبًا، لكنه كان لا يزال يحتفظ في حديثه بلكنة واضحة، منعته من إلقاء محاضرات على
الملأ. إليك ما قاله كونراد، نقلًا عن كارل، إلى ناقدٍ بلجيكي بعد استقراره في
إنجلترا بنحو عشرين عامًا:
لا يزال نطقي في الإنجليزية غير سليم إلى حدٍّ ما إلى يومنا هذا. ولسوء
الحظ، نظرًا لعدم تمتُّعي بأذن موسيقية، ما زلتُ أتلعثم في نطق الكلمات،
خاصةً عندما أدرك هذا في أثناء الحوار. وفي الكتابة أدخل في صراع مرير مع
هذه اللغة التي أشعر بأني لا أمتلكها وإنما هي التي تمتلكني، مع
الأسف.
1
حافَظَ كونراد على طلاقته في اللغتين البولندية والفرنسية، وفي
المنزل كان دومًا يُجرِي حوارات باللغات الثلاث. كذلك قدَّم النُّصح إلى المترجمين
الذين ترجموا كتبه إلى الفرنسية والبولندية.
تكتب أجوتا كريستوف، وهي مؤلفة معاصرة ثنائية اللغة في المجرية والفرنسية،
رواياتها بلغتها الثانية فقط. هربت أجوتا من المجر مع زوجها وطفلها البالغ من العمر
أربعة أشهر خلال ثورة عام ١٩٥٦ (كانت في الحادية والعشرين من عمرها في ذلك الوقت)،
واستقرت في مدينة نيوشاتل في سويسرا. لم تكن تعرف أية لغة إلا المجرية عند وصولها
إلى هذه المدينة لأول مرة، وعملت لعدة سنوات في مصنع محلي لصنع الساعات. التحقت
مرةً أخرى بالجامعة ودرست الفرنسية بفضل منحة من الجامعة المحلية، وبدأت في احتراف
الكتابة الأدبية بعد نحو ١٢ سنة من انتقالها إلى سويسرا. تُرجِم كتابها «المذكرة»
(١٩٨٦) — الذي يحكي قصة أخوين توءمين فُقِدا في دولة ممزَّقة — إلى عدة لغات. وتحكي
في سيرتها الذاتية بعنوان «الأميَّة» (٢٠٠٤)، عن هجرتها الإجبارية إلى أوروبا
الغربية.
2
(٢) الكتابة بلغتين
كما قلتُ من قبلُ، إن الكتابة مهارة صعبة بأية لغة، والكتابة الأدبية فنٌّ لا
يتقنه إلا عدد قليل من الناس. ومع ذلك، توجد مجموعة استثنائية من الأشخاص الثنائيي
اللغة الذين يكتبون أعمالهم بلغتين، وليس لغة واحدة. أريد أن أستعرض هؤلاء
المؤلِّفين الذين انتقلوا من التأليف بلغتهم الأولى إلى التأليف بلغتهم الثانية؛
وهؤلاء الكُتَّاب، الأقل عددًا، الذين بدءوا التأليف بلغتهم الثانية ثم عادوا، كما
يبدو، إلى التأليف بلغتهم الأولى؛ والمؤلفين الذين يكتبون أعمالًا ثنائية اللغة،
باستخدام اللغتين في العمل الواحد.
بعض الكُتَّاب الثنائيي اللغة الذين هاجروا في مرحلة أو أكثر من حياتهم، تحوَّلوا
من الكتابة بلغتهم الأولى إلى الكتابة بلغتهم الثانية أو الثالثة. يتبادر إلى ذهني
ثلاثة من هؤلاء المؤلفين. وُلِد فلاديمير نابوكوف في سانت بطرسبرج، في روسيا عام
١٨٩٩، ونشأ ثلاثيَّ اللغة في الروسية والفرنسية والإنجليزية، وفي سن العشرين ذهب
إلى كامبريدج حيث قرأ الأدب الفرنسي والسلافي. اشتهر نابوكوف بكونه أحد كتَّاب
المهجر الذين كانوا يكتبون بالروسية، ونشر أعمالًا مثل «ماشينكا» و«الهدية»
و«العين» بهذه اللغة، لكنه فيما بعدُ كتب بالإنجليزية وأصبح مشهورًا في العالَم
الناطق بالإنجليزية بسبب روايات مثل: «سيرة سباستيان نايت الحقيقية»، و«الخط
المشئوم»، و«آدا»، و«لوليتا». ترجم نابوكوف أيضًا أعمالًا روسية إلى الإنجليزية،
وأعمالًا إنجليزية إلى الروسية (مثل «أليس في بلاد العجائب»).
المؤلف الثاني في هذه المجموعة هو صامويل بيكيت. وُلِد بيكيت في أيرلندا وكانت
الإنجليزية لغته الأصلية، وتعلم الفرنسية في المدرسة وحصل على شهادته الجامعية في
اللغات الرومانسية (أي اللغات ذات الأصل اللاتيني) واللغة الإنجليزية. على الرغم من
ذلك، لم يستخدم في الواقع اللغة الفرنسية قطُّ في حياته اليومية، حتى أصبح معلمًا
في مدرسة الأساتذة العليا في باريس عندما كان في الثانية والعشرين من عمره. كانت
أعماله الأولى — من قصص وقصائد — بالإنجليزية. وفي عام ١٩٣٧، وهو في سن الحادية
والثلاثين، انتقل للعيش في باريس على نحوٍ دائم لكنه استمر في الكتابة بالإنجليزية؛
فنشر، على سبيل المثال، روايته «ميرفي» في عام ١٩٣٨. شارك في أثناء الحرب العالمية
الثانية في المقاوَمة في فرنسا، ثم ذهب للاختباء بمنطقة فوكلوز. في عام ١٩٥١، ظهرت
أول رواية بالفرنسية له وهي «مولي»، ومنذ ذلك الحين أصبح يكتب بكلٍّ من الفرنسية
والإنجليزية. وَرَدَ عن إليزابيث بوجور أنه قال إنه في هذه المرحلة لم يكن يعلم
مسبقًا اللغةَ التي سيستخدمها في عمله التالي.
3 حصل بيكيت على جائزة نوبل في الأدب في عام ١٩٦٩ لِمَا له من إسهامٍ في
أدب هاتين اللغتين.
المؤلفة الثالثة هي إلزا تريوليه،
وقد كان اسمها عند الميلاد إلزا كاجان، وهي روائية فرنسية من أصل روسي ظهرت في
القرن العشرين. قضت إلزا السنوات الأولى من حياتها في روسيا، وانتقلت إلى فرنسا
عندما كانت في الثانية والعشرين من عمرها، بعدما قابلت زوجها الأول، أندريه
تريوليه. كانت أعمالها الأولى باللغة الروسية (منها «في تاهيتي»، و«التمويه»). وبعد
طلاقها من تريوليه، تزوَّجت الشاعر والروائي الفرنسي لوي أراجون، وألَّفَ كلٌّ
منهما أعمالًا أدبية. ظهر أول كتاب لها بالفرنسية «مساء الخير يا تيريزا» في عام
١٩٣٨، وتلاه كثير من الأعمال الأخرى، منها «العقبة الأولى تكلف مائتَيْ فرنك» التي
حصلت على جائزة جونكور المرموقة.
حللت إليزابيث بوجور الأسباب التي دفعت هؤلاء المؤلفين إلى التحول إلى الكتابة
بلغتهم الثانية (أو الثالثة). أحد الأسباب الواضحة هو أن يتمكنوا من الكتابة إلى
جمهور أكبر. إذا كنت تعيش في دولة ليست هي الدولة التي تكتب بلغتها (كأنْ تعيش
مثلًا في فرنسا وتكتب بالروسية)، فلن تجد ببساطة عددًا كبيرًا من القرَّاء لأعمالك،
حتى إن كان مجتمع المهاجرين كبيرًا إلى حدٍّ ما (مثلما حدث مع نابوكوف
وتريوليه).
يتعلق سبب آخَر بكيفية ترجمة أعمال المؤلف إلى لغته الأخرى (فتُرجِمت، على سبيل
المثال، أعمال تريوليه المؤلَّفة بالروسية إلى الفرنسية). نادرًا ما يسعد المؤلفون
الثنائيو اللغة بما يفعله المترجمون الآخَرون لأعمالهم، وعادةً ما يحررون الترجمات
على نحو كبير. في النهاية، يلجئون عادةً إلى ترجمة أعمالهم إلى لغتهم الأخرى. إلا
أن عملية الترجمة الذاتية للأعمال اتضح أنها عملية مُرهِقة للغاية للكثيرين
(تتحدَّث بوجور عما يُعرَف ﺑ «جحيم الترجمة الذاتية»)، ويعبِّر كثير من المؤلفين
الثنائيو اللغة عن عدم رضاهم عن ترجماتهم؛ تقول بوجور عن مفهوم تريوليه لعملية
الترجمة أنها تمثِّل لها «هاجسًا مخيفًا من عدم التوافق مع نفسها.»
4 مؤخرًا كتب آريل دورفمان ما يلي عن ترجمة/تنقيح كتابه «التوجه جنوبًا،
والنظر شمالًا: رحلة شخص ثنائي اللغة»:
استخدمت في إعادة كتابتي للمذكرات بالإسبانية، بعد انتهائي من كتابتها
بالإنجليزية، نفسَ التركيب والقصة والاكتشافات التاريخية والرؤية التي ظهرت
في اللغة الإنجليزية. كان يجب أن تغمر اللغةُ الإسبانية بكلماتها المنزلَ
الذي بنته اللغةُ الإنجليزية. ومع ذلك، ما أكبر التغيير الذي طرأ على
المنزل عند ملئه بالإسبانية؛ فقد اختلف الكتاب تمامًا.
5
يتعلَّق سبب ثالث في تحول بعض الكُتَّاب الثنائيي اللغة من الكتابة بلغتهم الأولى
إلى الثانية بمبدأ التكامل؛ فيستخدم الثنائيو اللغة لغاتهم لأغراض مختلفة، وفي
مجالات حياتية مختلفة، ومع أشخاص
مختلفين. تتطلب عادةً جوانبُ الحياة المختلفة استخدام لغات مختلفة؛ فتقول بوجور إن
إلزا تريوليه أدركت أن روايتها الروسية «التمويه» قد كُتِبت باللغة «الخطأ»؛ نظرًا
لأن أحداثها تقع في فرنسا، وسط شخصيات تتحدث وتفكر وتعبر عن مشاعرها بالفرنسية.
تخبرنا بوجور أيضًا أنه عندما ترجم نابوكوف روايته الإنجليزية الأكثر رواجًا
«لوليتا» إلى الروسية، واجَهَ مشكلات حقيقية في العثور على مصطلحات مناسِبة تتعلَّق
بوصف السيارات والملابس وقطع الأثاث وغيرها.
6
على الرغم من أن لدى المؤلفين الثنائيي اللغة أسبابًا جيدة للبدء في الكتابة
بلغتهم الثانية أو الثالثة، فإن الأمر ليس سهلًا. تتحدَّث تريوليه عن تعرُّضها لألم
جسدي حقيقي عند تأليفها لكتابها الأول بالفرنسية («مساء الخير يا تيريزا»)،
ويتحدَّث نابوكوف عن الأمر نفسه بطريقة معبِّرة أكثر؛ فقال إن الأمر يشبه تعلُّم
كيفية الإمساك بالأشياء مرة أخرى، بعدما يفقد المرء سبعة أو ثمانية أصابع في أحد
الانفجارات!
7
كما ذكرتُ في بداية هذا القسم، توجد مجموعة أخرى من الكُتَّاب الثنائيي اللغة،
وهي مجموعة أصغر بكثير، بدأت الكتابة بلغتها الثانية ثم تحوَّلت إلى الكتابة بلغتها
الأولى، وهو شيء لم يفعلوه من قبلُ. حظيتُ بفرصةِ لقاءِ أحد هؤلاء الكُتَّاب في
باريس عندما كنتُ أُعِدُّ لهذا الكتاب. وُلِدت نانسي هيوستن في كندا، وعاشت بها
لعدة سنوات قبل انتقالها إلى الولايات المتحدة، حيث التحقت بالجامعة، التي تركتها
لتذهب إلى باريس في عام ١٩٧٣، حيث أعَدَّتْ رسالةَ الماجستير مع عالِم السيميولوجيا
رولان بارت. ظلت في فرنسا، وعندما بدأت في الكتابة قرَّرت اللجوء إلى لغتها
الثانية؛ الفرنسية. فصدر كتابها الأول «تبديلات جولدبيرج» في عام ١٩٨١ (وظهرت
ترجمته الإنجليزية بعدها بعدة سنوات). وقدَّمت التفسيرَ التالي لقرار الكتابة
بالفرنسية:
أعتقد أنه كان يتعلَّق بحقيقةِ أن لغتي الأم كان يحفُّها كثير من العواطف
في هذا الوقت. فضَّلْتُ استخدام شيء أكثر بُعْدًا وأكثر عقلانيةً، فقد كنت
في حالة رفض لجذوري. كنت أرغب في الانفصال عن طفولتي، وعن والدتي، وعن
المشاكل. نجح هذا الأمر لعدد من السنين، ثم توقَّف.
8
واصلت هيوستن حياتها المهنية كمؤلفة باللغة الفرنسية لعدد من
السنين، قبل أن تقرِّر تأليف رواية بالإنجليزية وهي «الترتيل الجريجوري»، التي ظهرت
بعد نحو ١٢ عامًا من تأليف كتابها الأول بالفرنسية. تقول عن عودتها إلى الكتابة
بالإنجليزية بعد «محاولاتها الأولى» بالفرنسية:
في محاولاتي الأولى في الكتابة الأدبية، حاولت أن أبدو واسعةَ الاطِّلاع،
وكنت في أمسِّ الحاجة إلى البراءة النظرية؛ فقد أردت كتابةَ جُمَل طويلة
وحرة وجامحة ومذهلة تعبِّر عن مخزون المشاعر، بما في ذلك المشاعر المثيرة
للشفقة؛ ما المانع في ذلك؟ لقد أردتُ أن أحكي قصصًا بإخلاص وحماس وشغف، وأن
أؤمن بتلك القصص دون الخوف من التعليقات الساخرة للمُنظِّرين.
9
شرحت نانسي، في حوار في إحدى الصحف في عام ٢٠٠٨، أن اللغة
الفرنسية أصبحت لغة التواصل مع مستشارها الضريبي ومع معلِّمي أطفالها. وتزامنت
عودتها إلى الإنجليزية مع عودتها إلى عزف البيانو (بعد عزفها على آلة الهاربسكورد)،
معلِّلةً ذلك: «بأنها أصبحت قوية بما يكفي لتقبل المشاعر.»
10
تكتب الآن نانسي هيوستن بكلتا لغتَيْها، وتترجم أعمالها إلى اللغة الأخرى التي
تكتب بها. وتقول إن الترجمة عملٌ صعب وممل للغاية، وإنها بمجرد أن تنتهي من ترجمة
أحد الأعمال، تشعر فجأةً بأنها ما كانت تستطيع كتابة هذا العمل باللغة
الأخرى!
11 في عام ٢٠٠٥، فازت هيوستن بجائزة فيمينا المرموقة عن عملها «خط الصدع»،
الذي كتبته في الواقع في البداية بالإنجليزية تحت عنوان «خطوط الصدع»، ثم ترجمته
إلى الفرنسية.
بينما يختار المؤلفون الثنائيو اللغة عادةً إحدى اللغات لتصبح لغتهم في التأليف،
أو يكتبون بلغتهم الأولى فقط، أو لغتهم الثانية (أو الثالثة)، أو يبدِّلون بين
لغاتهم بناءً على الظروف؛ يقرِّر بعض المؤلفين كتابةَ أعمال ثنائية اللغة، بحيث نجد
اللغتين في الصفحة نفسها (ارجعْ للفصل الخامس لمعرفة المزيد عن الوضع اللغوي
الثنائي اللغة). اكتشفَتْ إليزابيث بوجور أن معظم الكُتَّاب الثنائيي اللغة في
مرحلة متأخرة من حياتهم المهنية يشعرون بعدم الرضا عن الاستمرار في فصل لغتَيْهم؛
فيبحثون عن سُبل للجمع بين اللغتين، ويتمنَّوْن كتابةَ أعمالهم بكلتا اللغتين.
يستطيعون تحقيق ذلك عن طريق التأكد من نشر كل أعمالهم بكلتا اللغتين (وهو أمر فعله
بيكيت، وتفعله هيوستن حاليًّا)، ويمكنهم جعل شخصياتهم تتصرَّف مثل الأشخاص الثنائيي
اللغة، في الوضعين الأحادي اللغة والثنائي اللغة أيضًا. تذكَّرْ بوجور نابوكوف الذي
جعل في روايته «آدا» شخصياته تتحدَّث ثلاث لغات، وتنتقل من لغة لأخرى بحرية
كبيرة.
12
في عصرنا الحالي لم يَعُدِ المرءُ بحاجة إلى الوصول إلى مستوًى متقدِّم في مهنة
الكتابة الأدبية حتى يتمكَّن من الكتابة بأسلوب ثنائي اللغة، كما يمكن أن نرى في
الأعمال النثرية لاثنين من الكُتَّاب المعاصرين الأمريكيين الذين من أصل لاتيني. إن
الكاتب خونوت دياز، أستاذ الكتابة الإبداعية في معهد ماساتسوستس للتكنولوجيا،
الحاصل على جائزة بوليتزر الأدبية لعام ٢٠٠٨ عن روايته «حياة أوسكار واو الرائعة
القصيرة»، يُدخِل كثيرًا من الإسبانية على كتابته النثرية بالإنجليزية (يُعرَف هذا
النوع الخاص من التبديل اللغوي باسم «التبديل اللغوي الإسباني-الإنجليزي»). إليك
جزءًا قصيرًا للغاية من هذه الرواية:
[They] shrieked and called him gordo asqueroso! He
forgot the perrito, forgot the pride he felt when the women in the
family had called him hombre.13
إن الكاتبة سوزانا شافيز-سيلفرمان هي مؤلفة أمريكية من أصل
لاتيني، سافرت في الأمريكتين وتُدرِّس في كلية بومونا في كاليفورنيا. يعتمد كتابها
«وقائع قاتلة: مذكرات ثنائية اللغة» (٢٠٠٤) على رسائل بريد إلكتروني أرسلَتْها إلى
زملائها وأصدقائها عندما قضت ١٣ شهرًا في مدينة بوينس آيرس. تستخدم هي أيضًا خليطًا
من الإنجليزية والإسبانية، لكن بمعدل من التبديلات أكبر بكثير من الطبيعي، على
الأقل عند الكتابة. وإليك بعض السطور من بداية أحد فصول كتابها المعروف هذا:
Como northern Califas girl, of course, habìa visto
mucho nature espectacular; the Pacific Ocean como yarda de enfrente,
for starters, y los sequoia giant redwoods. Yes, especially los
redwoods. Pero también esa enredadera, don’t know its name, the one
with the huge, velvety deep purple blossoms y las fragile, hairy
leaves and stems como patas de tranántula.14
تقول شافيز-سيلفرمان إنها تظل ثنائية اللغة في كتاباتها حتى
تقاوِم الاضطرار إلى الاختيار بين لغتَيْها، وهي تأمل أن يساعد كتابها في إنشاء
توجُّه جديد للكتابات الثنائية اللغة الخاصة بكُتَّاب الأقليات.
إن قائمة الكُتَّاب الثنائيي اللغة الذين يكتبون بلغتَيْهم، معًا أو كل منها على
حدة (وهو الأمر الغالب)، ليست طويلةً. فعلى حد قول إليزابيث بوجور، إن هذه الظاهرة
تظل نادرة، وتضيف:
بينما يُعَدُّ طبيعيًّا أن يكون الكاتب ثنائيَّ اللغة، فما زال من النادر
أن يكون أحد الكُتَّاب الكبار في العصر الحديث ثنائيَّ اللغة أو متعدِّد
اللغات في كتاباته، وأن ينتج عملًا على القدر نفسه من الإتقان بأكثر من لغة
واحدة.
15
مع مرور الوقت واتساع نطاق تقبُّل الثنائية اللغوية بكل جوانبها، ربما نكتشف وجود
كُتَّاب آخرين، ثنائيي اللغة، لم يجرءوا قطُّ على إنتاج عملهم بلغتهم الأخرى (سواء
أكانت الأولى أم الثانية أم كلتَيْهما)، أو لم ينجحوا قطُّ في نشره. أحد هؤلاء هو
الكاتب الشهير جاك كيرواك، وهو روائي أمريكي معروف عالميًّا من جيل بيت، وتظل
روايته «على الطريق»، التي نُشِرت عام ١٩٥٧ وتُرجِمت إلى ٢٧ لغة، إحدى الروايات
المفضَّلة من بين الكثير من الروايات؛ لما يمتاز به السردُ من مناهَضةٍ لمؤسسات
المجتمع، وتجاوُزٍ للحدود الجغرافية. يعرف قليل من الناس أن كيرواك ينحدر من أسرة
كندية من أصل فرنسي، استقرت في مدينة لوويل في ماساتشوستس، وأنه كان يتحدَّث
بالفرنسية مع والدَيْه حتى سن السادسة، وفي هذا السن فقط بدأ يكتسب الإنجليزية.
ويدرك عددٌ أقل من الناس أن كيرواك كتب على الأقل كتابَيْن بالفرنسية (باللهجة
الفرنسية لمقاطعة كيبك المعروفة باسم «جوال»)، هما: «الليل هو زوجتي»، و«على
الطريق» الذي لم يُكتشَف إلا في عام ٢٠٠٨. وهذا الكتاب الأخير (على الرغم من
عنوانه) مختلف عن كتابه «على الطريق» الآخَر الذي بالإنجليزية، وقد ألَّفَه بعد وقت
قصير من تأليف هذا الكتاب الذي حقَّق أعلى المبيعات في عام ١٩٥١. لم يُنشَر هذا
الكتاب قطُّ باللغة الفرنسية، وإنما ترجمه كيرواك إلى الإنجليزية تحت عنوان «ثور
عجوز في باوري». ونأمل أن يوجد كثير من الكتب الأخرى مثل كتاب «على الطريق»
الفرنسي، مخزَّنًا في خزائن الملفات أو الأرشيفات، ويُنشَر ذاتَ يوم حتى نستطيع
تأمُّل الإبداع الثنائي اللغة لمؤلِّفِيها.