الثنائيو اللغة المميزون
يتحدَّث هذا الكتاب عن الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، الذين نقابلهم في الحياة اليومية، وهم يمثلون الغالبية العظمى من الذين يعيشون حياتهم بلغتين أو أكثر. ومع ذلك، يوجد ثنائيو لغة مميزون علاقتُهم عادية بلغاتهم وأحيانًا تكون فريدةً. تحدَّثْنا في الفصل السابق عن الكُتَّاب الثنائيي اللغة. توجد مجموعة أخرى من الأشخاص الثنائيي اللغة المميزين، مثل معلمي اللغة الثانية والمترجمين التحريريين والمترجمين الشفويين، تكسب رزقَها من معرفتها بما لديها من لغات واستخدامها، بينما قد يعتمد آخَرون على براعتهم فيما لديهم من لغات في أداء وظيفتهم وضمان سلامتهم (مثل العملاء السريين). من بين الأشخاص الثنائيي اللغة المميزين نجد أيضًا الأشخاص المشهورين، الذين ترجع شهرتهم إما لكونهم من الأشخاص المتعدِّدي اللغات البارزين، وإما لأسباب أخرى لا تتعلَّق على الإطلاق بمهاراتهم اللغوية. سيدور حديثنا في هذا الفصل عن هؤلاء الأشخاص المميزين.
(١) معلِّمو اللغة الثانية
يُطلَق عادةً على معلِّم اللغة الثانية اسم معلم اللغة الأجنبية، على الرغم من أن هذا الاسم قد يكون خاطئًا عندما تكون اللغة التي يدرِّسها إحدى اللغات التي يستخدمها ملايين المتحدثين في الدولة التي يعيش فيها، مثل اللغة الإسبانية في الولايات المتحدة، أو اللغة العربية في فرنسا. يوجد نوعان من معلمي اللغة الثانية؛ أولًا: الذين يُدرِّسون لغة (أو لغات) الدولة، إلى أفراد آخَرين؛ الأجانب في الأساس (على سبيل المثال: المعلمون الذين يُدرِّسون اللغة الإنجليزية كلغة ثانية للمهاجرين الوافدين حديثًا إلى الولايات المتحدة). لا يجب أن يكون هؤلاء المعلمون ثنائيي اللغة حتى يؤدُّوا وظيفتهم؛ ولذا لن نتحدَّث عنهم أكثر من هذا هنا.
ثانيًا: نجد المعلمين الذين يُدرِّسون لغةً مختلفة عن لغة (أو لغات) الدولة الأساسية، ومن الأمثلة على هذا معلِّمو اللغة الألمانية في إنجلترا، ومعلِّمو اللغة الإنجليزية في إيطاليا، وما إلى ذلك. ينقسم هؤلاء إلى مجموعتين؛ نجد في المجموعة الأولى هؤلاء الذين اكتسبوا اللغةَ التي يدرِّسونها كلغة ثانية في المدرسة أو الجامعة، وربما قَضَوْا أيضًا فترةً قصيرة في دولةٍ تستخدم اللغة التي يتخصَّصون في تدريسها. ينطبق هذا، على سبيل المثال، على الأستاذة رايت التي تدرِّس اللغة الإسبانية في إحدى المدارس الثانوية في منطقة بوسطن؛ فقد درَّست اللغات الحديثة في الكلية — الإسبانية والفرنسية — ثم قضَتْ ستة أشهر في المكسيك. وفي المجموعة الثانية نجد المتحدثين الأصليين لِلُّغة الذين انتقلوا إلى دولة أخرى ويدرِّسون فيها لغتهم الأم؛ وينطبق هذا على الأستاذة لوبيز التي تُدرِّس اللغة الإسبانية مع الأستاذة رايت في المدرسة نفسها؛ فهي في الأصل من فنزويلا، وانتقلت إلى الولايات المتحدة في مرحلة البلوغ بعدما التحقَتْ بالجامعة في كاراكاس. لقد دَرَسَت علم النفس ولكنها عملت في تدريس اللغة الإسبانية عندما جاءت إلى الولايات المتحدة، بعدما خضعت لعدد من الدورات التدريبية في تعليم اللغة في جامعة محلية.
تُدرِّس كلٌّ من الأستاذتين رايت ولوبيز الإسبانيةَ للطلاب في المدرسة الثانوية على مختلف المستويات، وبناءً على تعريف الثنائية اللغوية الذي عرضناه في الفصل الثاني، فكلٌّ منهما ثنائية اللغة نظرًا لاستخدامهما لغتين (أو أكثر) في حياتهما اليومية. توجد درجات مختلفة من الطلاقة لدى معلِّمي اللغات في اللغة التي يدرِّسونها، وربما توجد لديهم أيضًا لكنة فيها، تمامًا مثل الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، لكنهم يعتبرون من ثنائيي اللغة المميزين من عدة نواحٍ؛ أولًا: لا يستخدم بعضهم، مثل الأستاذة رايت، اللغة التي يدرِّسونها خارج حجرة الدرس كثيرًا، نظرًا لعدم حاجتهم إليها عادةً في التواصُل اليومي خارج العمل. مع ذلك، لنا أن نلاحظ أن هذا الأمر لا ينطبق على الأستاذة لوبيز، التي لديها كثير من الأصدقاء الذين يتحدَّثون الإسبانية، وتستخدم كلًّا من الإنجليزية والإسبانية خارج المدرسة.
ثالثًا: يكون معلِّمو اللغة الثانية في وضع ثنائي اللغة في أثناء عملية التدريس؛ فعندما يستخدمون اللغة الثانية (الإسبانية مثلًا) في الفصل، تكون لغتهم الأخرى (الإنجليزية مثلًا) حاضرةً في حال سأل أحد الطلاب سؤالًا بها، أو أجرى تبديلًا لغويًّا واستخدم كلمةً أو تعبيرًا ما. لكنهم هم أيضًا قد يلجئون في حالات نادرة للغاية إلى إجراء عمليات تبديل لغوي أو اقتباس أمام الطلاب، وقد يصحِّحون كلام الذين يُخطِئون باستخدام اللغة التي يجيدونها أكثر.
إذًا، في اللحظات التي تستدعي عادةً استخدامَ التبديل اللغوي والاقتباس، وحيث يوجد احتمال أن يسهِّل هذا عمليةَ التواصل، قد يمتنع معلِّمو اللغة الثانية عن استخدام لغة الطلاب الأولى حتى لا «يقدِّموا مثالًا سيئًا» لطلابهم. ومع ذلك، نظرًا لكونهم يستخدمون هم أنفسهم لغتين، فإنهم قد يستخدمون التبديل اللغوي والاقتباس في حياتهم الشخصية. وعلى الرغم من ذلك، سمعت بعض معلِّمي اللغات يقولون إنهم يمتنعون عن استخدام التبديل اللغوي خارج المدرسة، حتى لا يخطئوا دون قصدٍ ويمارسوا هذا السلوك في أثناء التدريس.
يتمثَّل الجانب الرابع، الذي يُظهِر تميُّز هؤلاء المعلمين، في أنهم نادرًا ما يقتنعون بأنهم أشخاص ثنائيو اللغة، حتى أكثر من الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين؛ نظرًا لأن لدى كثيرٍ منهم وجهةَ نظر صارمة للغاية عن معنى كون المرء ثنائي اللغة (والتي تتمثَّل في التمتع بطلاقة تامة في لغتين أو أكثر، وعدم وجود لكنة في أيٍّ منها، وما إلى ذلك). عندما أتحدَّث إلى معلمي اللغة الثانية الذين يعتقدون ذلك، عادةً ما أضطر إلى إقناعهم بأنهم في الحقيقة أشخاص ثنائيو اللغة، حتى إن كانت لديهم بوضوح سماتٌ خاصة في ثنائيتهم اللغوية. أخيرًا، عادةً ما يكونون من المحبِّين الحقيقيين لِلُّغة الثانية التي يدرِّسونها (غالبًا لهجتها الأساسية)، ويحبون ثقافتها، التي يحاولون إطلاع طلابهم عليها. مرةً أخرى، لا ينطبق هذا عادةً على الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، الذين يكون تركيزهم على لغاتهم وثقافتها أقل من تركيزهم على جوانب الحياة اليومية.
(٢) المترجمون التحريريون والشفويون
عندما تحدَّثنا عن مبدأ التكامل في الفصل الثالث، رأينا أن الأشخاص الثنائيي اللغة لا يكونون عادةً مترجمين جيدين، سواء أكانت الترجمة تحريرية أم شفوية. يرجع هذا إلى أنهم لا يعرفون دومًا الترجمة المقابلة في اللغة الأخرى في المجالات التي لا تغطِّيها إلا لغة واحدة فقط. وإذا لم يكتسب الأشخاص الثنائيو اللغة لغتهم الثانية على نحو صريح، مثلما يحدث في دورات تعلُّم اللغة الثانية التقليدية، فإن الذين يشرعون منهم في الترجمة سيجدون أنهم يفتقرون إلى المفردات، وأحيانًا أيضًا إلى المهارات اللغوية والتنوعات الأسلوبية المطلوبة لإنجاز مهمة الترجمة. وقد يفتقرون أيضًا إلى المعرفة الثقافية المرتبطة باللغة، التي تسهل فهمهم للنص الأصلي؛ وهي خطوة ضرورية ليتمكن المرء من الترجمة الصحيحة.
على عكس الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، يجب أن تتوافر لدى المترجمين التحريريين والشفويين مجموعةٌ كاملة من المقابلات المترجمة في اللغة الأخرى. كذلك لا بد أن تكون لديهم معرفة متقنة باللغتين (على كافة المستويات اللغوية)، وبالإضافة إلى ذلك يجب أن تكون لديهم معرفة جيدة بالثقافتين المَعنيَّتين. بالطبع يستمر تطبيق مبدأ التكامل، لكن دوره يقل إلى حد كبير؛ فيجب على المترجمين التحريريين والشفويين، على عكس الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، تعلُّم استخدام لغاتهم (والمهارات الأساسية الموجودة لديهم فيها) لأغراض متشابهة وفي مجالات حياتية متماثلة؛ وهذا شيء لا يحتاج الأشخاص الثنائيو اللغة العاديون فعْلَه عادةً.
يحدِّد المترجمون التحريريون اللغةَ أو اللغات التي يستطيعون الترجمةَ منها (وهي لغاتهم الأساسية)، وتلك التي يستطيعون الترجمة إليها (وهي لغاتهم المستهدفة)؛ على سبيل المثال: قد تكون اللغات الأساسية هي الألمانية والإسبانية، واللغة المستهدفة هي الإنجليزية. في عالم الترجمة التحريرية والشفوية يتحدَّث المرء عن اللغات النَّشِطة (أي المُترجَم إليها) واللغات السلبية (أي المُترجَم منها). في الفئة الأولى من اللغات، تكون اللغة «أ» هي لغة المرء الأصلية أو لغة أخرى تشبه تمامًا لغته الأصلية (ومن ثَمَّ تكون اللغة المستهدفة)؛ وتكون عادةً اللغة «ب» هي أولى اللغات الثانية التي يتقنها المرء جيدًا (وعادة ما تكون هي أيضًا لغة مستهدفة). وفي فئة اللغات الثانية، نجد لغة واحدة أو أكثر يفهمها المرء بالكامل، وهذه اللغات تكون اللغات الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، يتخصَّص كثير من المترجمين التحريريين والشفويين في مجالات معينة، مثل القانون أو الاقتصاد أو السياسة.
تعتبر الترجمة التحريرية مهارة ثنائية اللغة خاصة؛ فأنت تحاول التعبير بإحدى اللغات، بأكبر قدر ممكن من الأمانة، عن معنًى وأسلوبِ نصٍّ بلغة أخرى؛ ويعني هذا الفهمَ الكامل للنص الأصلي باللغة الأساسية، والتمتُّع بمهارات النقل الضرورية، بالإضافة إلى المهارات اللغوية والثقافية، في اللغة المستهدفة. ولا تبقى إلا مساحة صغيرة للغاية لحدس المترجم أو إبداعه؛ فيجب أن يتبع المترجم النص الأصلي بأقصى قدر ممكن من الدقة، ويعرضه على نحو صحيح في اللغة المستهدفة. لا عجب إذًا من وجود كليات متخصِّصة يستطيع فيها الطلاب تعلُّمَ المهارات المرتبطة بالترجمة، عادةً على مستوى الدراسات العليا (على سبيل المثال: معهد مونتيري للدراسات الدولية في كاليفورنيا، ومدرسة الترجمة التحريرية والشفوية في جنيف). إن أحد متطلبات الالتحاق بهذه الأماكن التمتُّعُ بمهارات لغوية ممتازة في لغتين أو أكثر؛ تحوِّل بعد ذلك الدراسةُ الطالبَ إلى مترجم معتمد.
يوجد فعليًّا مئات الآلاف من المترجمين في العالم في عصرنا الحالي، ويعمل كثير منهم في المؤسسات الدولية والهيئات الحكومية والشركات الكبرى وشركات النشر وغيرها. وكحال المِهَن الأخرى، يوجد أشخاص متميزون، وهم المترجمون الذين يُقدَّرون لمهاراتهم لكنهم غير معروفين بالنسبة إلى الناس، لكن كل أقرانهم يعرفونهم ويكنُّون لهم احترامًا كبيرًا. يوجد أيضًا بعض المؤلفين المشهورين الذين كانوا (أو ما زالوا) مترجمين؛ على سبيل المثال: قدَّمَ الشاعر الفرنسي شارل بودلير ترجمةً ناجحة للغاية لأعمال إدجار آلان بو، وترجم الكاتب الأمريكي الذي من أصل روسي فلاديمير نابوكوف «أليس في بلاد العجائب» إلى الروسية، بالإضافة إلى أعمال لفيرلين وتينيسون وبايرون وكيتس وشكسبير وما إلى ذلك (التي تكون شعرية عادةً)، وترجم الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الكثيرَ من الأعمال الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى الإسبانية.
(٣) العملاء السريون
يعتقد كثير منَّا أن العملاء الذين يعملون مع أجهزة المخابرات يكونون على الأرجح ثنائيي اللغة والثقافة، في صورة كورت شتاينر في رواية «هبط النسر» لجاك هيجنز، وهي رواية عن محاولة ألمانية لخطف ونستون تشرشل في أثناء الحرب العالمية الثانية. في القصة كان والد شتاينر لواءً في الجيش الألماني، وكانت والدته أمريكية. تربَّى شتاينر نفسه، الذي كان قائدًا لإحدى وحدات الكوماندوز الألمانية، في كلٍّ من إنجلترا وألمانيا، وكان ثنائي اللغة تمامًا.
عندما كنتُ أبحث في الكتابات الخاصة بالثنائية اللغوية لمعرفة المزيد عن الثنائية اللغوية للعملاء السريين، أدركتُ عدمَ وجود كثير من الأمور عن مهاراتهم اللغوية. ومع زيادة بحثي، فهمتُ ببطء أن وجهة النظر التقليدية الموجودة لدينا جميعًا ليست واضحةَ المعالَم كما تبدو؛ فعلى سبيل المثال: ليس كل العملاء يحتاجون إلى معرفة لغة أخرى جيدًا، ما داموا على اتصال مع شخص ثنائي اللغة. ومن ثَمَّ، فإن الجاسوس الذي يعطي أسرار الحكومة إلى أحد العاملين في سفارة أجنبية، يمكنه فعل هذا بلغته الأصلية إذا كان هذا الشخص (ربما يكون ملحقًا سياسيًّا بالسفارة) يتصرَّف كوسيط ثنائي اللغة. ينطبق هذا أيضًا على العملاء الذين يوافقون على العمل لصالح إحدى القوى الأجنبية، بينما يظلون مُقِيمين في دولتهم ويترقَّوْن بالتدريج داخل الكيانات الحكومية المختلفة. حدث هذا في حالة شبكة جواسيس كامبريدج الخمسة في إنجلترا، خاصةً كيم فيلبي وجاي برجيس، التي تجسَّسَ أعضاؤها لصالح الاتحاد السوفييتي في منتصف القرن الماضي، بينما كانوا يتقلَّدون مناصب مهمة في المؤسسات البريطانية.
تضع الدولة المتجسِّسة عملاءَ «كامنين» أو متخفِّين داخل الدولة المستهدفة، ويكونون عادةً من أهل هذه الدولة (أو يحملون جنسيتَيِ الدولتين). حصل مؤخرًا أحدُ الأمثلة على العملاء الكامنين على اهتمام شديد من الصحافة. وُلِد جورج كوفال في عام ١٩١٣ في مدينة سيوكس سيتي في ولاية آيوا، ونشأ فيها كشاب أمريكي عادي؛ فكان يمارس بالطبع رياضة البيسبول ويتحدَّث بالإنجليزية الأمريكية بطلاقة. في أثناء فترة الكساد الكبير، هاجر مع والدَيْه إلى مدينة سيبيرية في منطقةٍ اقترح ستالين أن تصبح موطنًا لليهود. كان والداه مؤمنَيْن بشدة بالشيوعية، وقد تأثَّر كوفال بهما تأثرًا بالغًا. درس في معهد التكنولوجيا الكيميائية في موسكو، وجنَّدَتْه جي آر يو (أكبر وكالة استخبارات روسية). أُرسل كوفال بعد ذلك مرةً أخرى إلى الولايات المتحدة، وظلَّ بها لعدة سنوات دون تأدية أي نشاط (وكان اسمه الحركي دلمار). تطوَّعَ في الجيش الأمريكي، وبالتدريج جعلته مهامه العسكرية يحتكُّ بمشروع القنبلة الذرية (خاصةً الجوانب المتعلقة بالوقود المستخدَم). كانت للمعلومات التي عرفها قيمةٌ بالغة في صنع القنبلة الروسية، التي جرى أول تفجير لها في عام ١٩٤٩. كان كوفال عميلًا ناجحًا للغاية، ليس فقط بسبب ذكائه وتدريبه الجيد (وهو ما جعله يصل إلى قلب مشروع القنبلة)، وإنما أيضًا لأنه كان مواطنًا أمريكيًّا «أصيلًا»؛ فقد كان يتحدَّث بالإنجليزية بطلاقة، ويحب البيسبول، وكان مجرد شخص عادي. هرب عائدًا إلى الاتحاد السوفييتي بعد الحرب، عندما أدرك أن المخابرات الأمريكية أخذت تضيق الخناق عليه.
مع ذلك، فإن العملاء مثل كوفال، الذين ينطبق عليهم إلى حدٍّ ما تصوُّرنا عنهم — أي كونهم أشخاصًا ثنائيي اللغة والثقافة تمامًا — لا يمثِّلون الغالبية العظمى من العملاء. سأنهي حديثي عن هذا الأمر بمثال من عملاء إدارة العمليات الخاصة البريطانية، الذين عملوا في أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت مهمة هذه الإدارة هي دسَّ عملاء في دول أوروبا المحتلة، حتى يعملوا على تنظيم مجموعات المقاوَمة المحلية التي تحارب الوجود النازي وتحفيزها ومساعدتها؛ لقد تدرَّبوا على استخدام الأسلحة والمتفجرات، وعلى إرسال الرسائل، وتنفيذ الأعمال التخريبية، والدفاع عن أنفسهم، إلى آخِره، وكانوا إما يهبطون بالمظلات في المنطقة التي سيعملون فيها وإما يذهبون إليها باستخدام الطائرات الخفيفة. كان الذين يُجنَّدون إما أحد مواطني الدولة المعنية وإما شخصًا يعرفها جيدًا. ويكون على الأقل أحد والدَيْ كثيرٍ من المنتمين إلى الفئة الأخيرة من الدولة المستهدفة، أو يكون هؤلاء العملاء قد عملوا في هذه الدولة أو التحقوا بالمدرسة فيها قبل الحرب؛ على سبيل المثال: إن عميل إدارة العمليات الخاصة في فرنسا، جيلبرت نورمان، كان والده إنجليزيًّا ووالدته فرنسية، وتعلَّمَ في كلتا الدولتين. وثمة عميل آخَر، وهو جاك آجازاريان، كان والده أرمينيًّا ووالدته فرنسية، والتحق بالمدرسة في كلٍّ من فرنسا وإنجلترا.
وصل الألمان إلى عُصبة سوتيل (التي كانت تُسمَّى بروسبر)، وقُبِض على كثير من عملائها وسُجِنوا. أُرسِلوا بعد استجوابهم إلى معسكرات الاعتقال النازية في ألمانيا؛ وللأسف، لم يستطع إلا عدد قليل منهم النجاة من هذه التجربة العصيبة. توجد أسباب عديدة لكارثة عصبة بروسبر (أحدها وجود خائن ضمنهم)، وعلى الأرجح لا يمكن اعتبار الافتقار إلى المهارات اللغوية أحدها. لكن لو كانت الثنائية اللغوية والثقافية لدى هؤلاء العملاء البريطانيين مكتملةً — وهو أمر لا يمكن توقُّع وجوده لدى الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين — ولو كان بعضهم أكثر حرصًا في سلوكه اللغوي العلني؛ لَكان من الممكن أن تتحسَّن فرصهم في عدم إلقاء القبض عليهم. وعلى الرغم من ذلك، كان هؤلاء العملاء مخلصين للغاية ويتسمون بشجاعة كبيرة، ولا يسعنا إلا الشعور بالامتنان تجاه ما تعرَّضوا له في مواقف بالغة الصعوبة؛ فقد ضحَّوْا بحياتهم حتى يمكن تحرير فرنسا وأوروبا من الاحتلال الألماني.
(٤) الأشخاص الثنائيو اللغة المشهورون
سأنهي حديثي بذِكْر بعض الأشخاص الثنائيي اللغة أو المتعددي اللغات المميزين الذين ذاع صيتهم. تضم الفئة الأولى الأفراد المميزين في مجال تعلُّم العديد من اللغات والتحدُّث بها، ويُطلَق عليهم عادةً المتعددو اللغات أو حتى اللغويون (بمعنى أنهم يتقنون عدة لغات). يتحدث الأشخاص الأحاديو اللغة، الذين يعيشون حياتهم باستخدام لغة واحدة فقط، بإعجاب شديد عن هؤلاء الناس، وكذا الثنائيو اللغة العاديون الذين يعرفون «فقط» ثلاث أو أربع لغات بدرجات متفاوتة، كما هو الحال بالنسبة إليَّ. يُذكَر دومًا من هؤلاء الناس الكاردينال جوزيبي ميزوفانتي، الذي كانت له مكانة مرموقة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ويُقال إنه كان يتحدَّث بطلاقة ما يتراوح بين خمسين وستين لغة. كذلك من الأشخاص المتعددي اللغات المستكشفُ الذي يُذكَر كثيرًا وعالِم الأعراق البشرية والدبلوماسي البريطاني السير ريتشارد فرانسيس برتون، الذي عاش في القرن التاسع عشر؛ يُقال إنه اكتسب أربع لغات في شبابه، ثم اكتسب ما يقرب من ٢٥ لغة أخرى عندما صار بالغًا، من بينها الجوجراتية والمراتية والهندوستانية والفارسية والعربية، فضلًا عن العديد من اللهجات. عاش برتون في الهند، من بين العديد من الأماكن الأخرى، وسافَرَ من أجل استكشاف شبه الجزيرة العربية ومنطقة أعالي النيل، ومن ثَمَّ استفاد كثيرًا من اللغات التي اكتسبها.
عادةً ما يكون علماء اللغة، الذين يدرسون اللغات وتركيبها وطرق معالجتها، على درايةٍ بعدد قليل من اللغات، لكنَّ بعضهم يكونون فعليًّا متعددي اللغات؛ على سبيل المثال: يُقال عن ماريو باي عالم اللغة الأمريكي من أصل إيطالي الذي ظهر في القرن الماضي، وأحد المؤلفين الذين حقَّقت أعمالهم أعلى مبيعات في هذا المجال، إنه كان قادرًا على التحدُّث بنحو أربعين لغة، ويعرف اللغويات الخاصة بنحو مائة لغة. يوجد عالم لغة آخَر، وهو الراحل كين هيل، الذي كان يُدرِّس بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، المتخصِّص في اللغات الأصلية المهدَّدة بالانقراض، التي تعلَّمها هو نفسه بسهولة بالغة. ومن بين هذه اللغات نجد: نافاجو، وجميز، وهوبي، وتوهونو، وأودهام، ووارلبيري، وأولوا.
إذا نحَّيْنا هؤلاء الأفراد النادرين جانبًا، نجد كثيرًا من الأشخاص الثنائيي اللغة المشهورين، لا لأنهم يجيدون أو أجادوا عددًا هائلًا من اللغات، وإنما بسبب أنشطتهم الأخرى المتنوعة؛ فتكون الثنائية اللغوية (أو كانت) مجرد جزء من حياتهم اليومية. على سبيل المثال: في مجال الفلسفة والدين، نجد أن إرازموس، الفيلسوف الهولندي رائد الحركة الإنسانية، كان يتحدَّث خمس لغات، والسبب في هذا يرجع جزئيًّا إلى حقيقة أنه عاش في عدة دول، أبرزها إنجلترا وفرنسا وسويسرا، وكان لا يستخدم اللاتينية في التعاملات الدبلوماسية واللاهوتية فحسب، وإنما في الحوارات اليومية أيضًا. ويُقال إن البابا يوحنا بولس الثاني كان يتحدَّث ١٢ لغة، بعضها كان يستخدمه على الأرجح يوميًّا، مثل البولندية واللاتينية والإيطالية والإنجليزية. أما بالنسبة إلى خليفته البابا بنديكت السادس عشر، فبالإضافة إلى قدرته على قراءة اليونانية القديمة وعبرية العهد القديم، يتحدَّث بالألمانية بطلاقة، بالإضافة إلى الإيطالية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية. وأكثر الشخصيات المثيرة للدهشة في هذه الفئة هو السيد المسيح، الذي ربما كان ثلاثيَّ أو رباعيَّ اللغة؛ إذ كانت لغته الأم هي الآرامية، ثم تعلَّمَ العبرية عند تعلُّمه على يد الحاخامات، وربما كان يعرف أيضًا اليونانية واللاتينية، اللتين كان يتحدَّث بهما مع الناس في فلسطين في ذلك الوقت.
في مجال السياسة والدبلوماسية، يُقال إن أحد الآباء المؤسِّسين للولايات المتحدة، بنجامين فرانكلين، الذي كان أيضًا دبلوماسيًّا وعالِمًا ومخترعًا ويعمل في مجال الطباعة، كان يتحدَّث ستَّ لغات بطلاقة (وهي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية واللاتينية والألمانية). في وقت قريب من عصرنا الحالي، كان رئيس الوزراء الكندي السابق بيير ترودو ثنائي اللغة في الإنجليزية والفرنسية؛ ورئيسةُ الوزراء الهندية أنديرا غاندي كانت تعرف على الأقل لغتين (الهندية والإنجليزية)؛ ورئيس يوغسلافيا تيتو كان يتحدَّث خمس لغات بطلاقةٍ؛ كما أن الحاكمة العامة الحالية لكندا، ميكائيل جان، تتحدَّث بطلاقةٍ الفرنسيةَ والإنجليزية والكريولية الهايتية والإسبانية والإيطالية؛ وكان وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر ثنائي اللغة في الألمانية والإنجليزية، وكان يُعرَف بسهولة من صوته العميق ولكنته الألمانية الواضحة إلى حدٍّ ما؛ كما أن مادلين أولبرايت، التي شغلت المنصب نفسه، وُلِدت في براغ، وكانت تتحدَّث بطلاقةٍ التشيكيةَ والروسية والإنجليزية والفرنسية، وكانت تستطيع أيضًا القراءةَ بعدة لغات أخرى؛ كما أن القاضية الفيدرالية في المحكمة العليا الأمريكية سونيا سوتومايور ثنائية اللغة في الإسبانية والإنجليزية؛ تمامًا مثل هيلدا سوليس، وزيرة العمل في إدارة أوباما؛ كما أن دانيل كوهين-بنديت — القائد ذا الشخصية الجذَّابة لأحداث مايو عام ١٩٦٨ في فرنسا، والعضو الحالي في البرلمان الأوروبي — ثنائيُّ اللغة بالكامل في الفرنسية والألمانية، ويظهر في البرامج الحوارية ويتحدَّث بكلٍّ من اللغتين الألمانية والفرنسية، ويتنقل بين اللغتين اللتين يتحدَّث بهما دون لكنة؛ ويوجد عضوان على الأقل في الحكومة الأولى للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، هما رشيدة داتي وفاضلة عمارة، اللتان كانت كلٌّ منهما ثنائية اللغة في العربية والفرنسية، على الرغم من أنه من النادر سماعهما تتحدَّثان بلغتهما الأولى، التي تُعتبَر لغة أقلية في فرنسا.
كان كثير من العلماء (أو ما زالوا) ثنائيي اللغة، ويكون هذا عادةً بسبب الهجرة. إليك قائمةً بأسماء بعض من هؤلاء العلماء مع ذِكْر لغاتهم الأساسية: ألبرت أينشتاين (الألمانية والإنجليزية)، وسيجموند فرويد (الألمانية والإنجليزية)، وماري كوري (البولندية والروسية والفرنسية)، وجوليلمو ماركوني (الإيطالية والإنجليزية)، وبرونو بتلهايم (الألمانية والإنجليزية)، ورومان ياكبسون (الروسية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والتشيكية).
في مجال الموسيقى الكلاسيكية والفنون الجميلة كان جورج فردريك هاندل، المؤلف الموسيقي في عصر الباروك، ثلاثي اللغة في الألمانية والإيطالية والإنجليزية. وكان والد المؤلف وعازف الكمان فريدريك شوبان فرنسيًّا، لذا كان يتحدَّث شوبان الفرنسية بطلاقة بالإضافة إلى البولندية. وكان آرثر روبنشتاين يتحدَّث بالبولندية، لغة الدولة التي وُلِد فيها، بالإضافة إلى الألمانية والفرنسية والإنجليزية. ويتحدث يو-يو ما، المؤلف وعازف التشيلو، بالصينية والإنجليزية. أما بالنسبة إلى الفنانين، فكان فينسنت فان جوخ ثنائي اللغة في الهولندية والفرنسية، كذلك كان بابلو بيكاسو ثنائي اللغة على الأقل في الإسبانية والفرنسية، وكان مارك شاجال ثلاثي اللغة (في الروسية والإنجليزية والفرنسية).
يزداد الطابع الدولي لوسائل الإعلام بمرور الوقت، ويوجد كثير من الصحفيين والمراسلين الثنائيي اللغة والمتعددي اللغات؛ وإليك بعض الأمثلة الشهيرة: كريستيان آمانبور (الإنجليزية والفارسية والفرنسية)، وراليستا فاسيليفا (الإنجليزية والبلغارية)، وأوكتافيا نصر (العربية والإنجليزية والفرنسية)، وماريا إلينا ساليناس (الإسبانية والإنجليزية)، وأوليفيه تود (الفرنسية والإنجليزية)، ونيلسون مونفور (الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والإيطالية)، وجوناثان مان (الإنجليزية والفرنسية).
في مجال الترفيه، يوجد كثير من المغنِّين الثنائيي اللغة، مثل: شاكيرا، ونانا موسكوري، وسيلين ديون، وجلوريا إستيفان، وكريستينا أجيليرا، ولاسا دي سيلا، وخوليو إجلسياس، الذين يغنون بلغتين على الأقل، وأحيانًا أكثر من ذلك. أما بالنسبة إلى الممثلين عامةً والممثلين الكوميديين خاصةً، فكثير منهم ثنائيو اللغة، مثل: إيفا لونجوريا باركر وآندي جارسيا (كلاهما ثنائي اللغة في الإسبانية والإنجليزية)، وعزيز أنصاري (الإنجليزية والتاميلية)، ومارجريت تشو (الكورية والإنجليزية)، وماز جبراني (الإنجليزية والفارسية). وقد مثَّل بعض الممثلين بالفعل أدوارًا بلغتهم أو لغاتهم الأخرى التي يعرفونها ويستخدمونها، مثل: جودي فوستر (الإنجليزية والفرنسية)، وصوفيا لورين (الإيطالية والفرنسية والإنجليزية)، وشارلوت جينسبرج (الفرنسية والإنجليزية)، ولامبرت ويلسون (الفرنسية والإنجليزية). في الواقع، في دول معينة تضم عددًا كبيرًا من السكان الذين يتحدَّثون لغة الأقلية (مثل السكان ذوي الأصل اللاتيني في الولايات المتحدة)، يوجد طلب مرتفع حاليًّا على الممثلين الثنائيي اللغة.
أخيرًا، ببساطة يزخر مجالُ الرياضة بالأشخاص الثنائيي اللغة، سأذكر فقط بعضًا منهم، وسأترك القارئ يضيف أسماء أخرى ورياضات أخرى: التنس (روجر فيدرير ورافاييل نادال)، البيسبول (كثير من لاعبي الدوري الأمريكي من كوبا وجمهورية الدومينيكان واليابان والمكسيك وغيرها)، سباقات السيارات (فرناندو ألونسو وكيمي رايكونين وفيليبي ماسا)، كرة القدم (تييري هنري وباتريك فييرا وينز ليمان)، كرة السلة (ياو مينج وتوني باركر)، إلى آخِره.