كما نعرف، يصبح الأطفالُ ثنائيي اللغة إما عن طريق اكتساب لغتين في الوقت نفسه
(معًا)، وإما من خلال اكتساب واحدة تلو الأخرى (تباعًا). يختلف علماء اللغة في السن
الذي يفصل بين نوعَي اكتساب اللغة، لكن معظمهم يتفق على أنه حتى سن الرابعة يكون
الأطفال في نمط الاكتساب المتزامِن، بينما يدخلون في نمط الاكتساب المتتابع بدايةً من
سن الخامسة. أيًّا كان نوع اكتساب اللغة، فإن درجة الثنائية اللغوية قد تكون واحدة.
تحدِّد العوامل التي ذكرناها في الفصل السابق مدى ما يصل إليه الطفلُ في الثنائية
اللغوية وفترة استمرارها لديه، لكن ليس نوع اكتسابها.
(١) الثنائية اللغوية المتزامنة
في هذا النوع من الثنائية اللغوية يكتسب الأطفال لغتين (وأحيانًا ثلاثًا) في
الوقت نفسه، من بداية معرفتهم باللغات. يقل كثيرًا وجود ثنائيي اللغة من هذا النوع
مقارَنةً بالأطفال الذين يكتسبون لغتين بالتناوُب (أقل من ٢٠ في المائة من الأطفال
الثنائيي اللغة).
1 تحدث الثنائية اللغوية المتزامنة عندما يستخدم الوالدان لغتين مختلفتين
مع طفلهما (على سبيل المثال: يستخدم الوالد الإسبانية والأم الإنجليزية)، أو يستخدم
الوالدان إحدى اللغات ويستخدم القائمون على الرعاية الآخَرون (أحد أفراد الأسرة، أو
المربية، أو الأفراد في مركز الرعاية النهارية الذي يذهب إليه الطفل) لغةً أخرى.
ومن ثَمَّ يتلقَّى الطفل مُدْخَلات بلغتين، ويكتسب على مدى سنوات عمره الأولى
لغتين.
يقلق كثير من الآباء من معدل اكتساب اللغة نظرًا لوجود المعتقد التالي لدى بعض
الناس:
خرافة: الثنائية اللغوية سوف تؤخِّر اكتسابَ
الأطفال لِلُّغة
على الرغم من عدم ثبات معدل اكتساب اللغة لدى الأطفال الثنائيي اللغة، كما هو
الحال لدى الأطفال الأحاديي اللغة، فإن المراحل الأساسية المهمة يصل إليها الأطفال
في المراحل العمرية نفسها في المجموعتين. سأطرح عليك بعض الأمثلة بدايةً من المرحلة
الأولى، المناغاة. قارَنَ اختصاصي علم اللغة النفسي دي كيميبرو أولر وزملاؤه
تطوُّرَ المناغَاة باستخدام مقاطع صحيحة لغويًّا، مثل «دا» لدى الأطفال الرُّضَّع
الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة، ووجدوا أن المجموعتين بدأتا المناغَاة في العُمْر
نفسه.
2 أما فيما يتعلق بالقدرة على فهم الأصوات المختلفة، فيجب على الأطفال
الرُّضَّع الثنائيي اللغة التمييز بين أصوات أكثر (فتوجد أصوات كلامية أكثر في حالة
وجود لغتين)، لكن يبدو أنهم يفعلون هذا بكفاءة كبيرة؛ على سبيل المثال: اكتشفَتْ
جانيت فيركر وفريقها أن الأطفال الذين ينشئون في بيئة ثنائية اللغة تتكوَّن لديهم
تمثيلات صوتية لكلتا لغتَيْهم بالطريقة نفسها، وفي الفترة الزمنية نفسها، تمامًا
مثل تكوين التمثيلات لدى الأطفال في لغة واحدة.
3 ومع ذلك، في حال وجود كثير من الأصوات المتشابهة (مثل وجود ثلاثة أصوات
مشتركة بين الإسبانية والكاتالونية تُنطَق مثل صوت
e في كلمة
bet)، فإن الأطفال الثنائيي اللغة قد يستغرقون
وقتًا أطول بقليل حتى يتعلَّموا التمييزَ بينها بكفاءة.
4
أما فيما يتعلَّق بنطق أول كلمة، فقد علمنا منذ فترة عدم وجود اختلافٍ في هذا بين
الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة، وأن هذا يحدث في الشهر الحادي عشر تقريبًا
في المعتاد.
5 ويبدو أن تكوُّن مجموعتين من المفردات لدى الأطفال الثنائيي اللغة يتبع
أيضًا النمطَ الموجود لدى كل الأطفال. كتبَتْ إليَّ باربرا زورر بيرسون، واحدة من
الخبيرات في هذا المجال، تخبرني أن الثنائيي اللغة يكونون موجَّهين لتحقيق هذا
الهدف منذ بداية تعلُّمهم لِلُّغة، شريطةَ ألَّا يكون تعرُّضُهم سطحيًّا لواحدة من
لغتَيْهم؛
6 فيجب أن تكون درجة تعرُّضهم للغتين جيدة. وفي دراسة أجرتها مع سيلفيا
فرناندز ظهر أن الأطفال الثنائيي اللغة تعرَّضوا لإحدى اللغات بنسبةٍ تتراوح بين ٦٠
و٦٥ في المائة، ولِلُّغة الأخرى بنسبةٍ تتراوح بين ٣٥ و٤٠ في المائة؛ وهذا الاختلاف
يمكنه أن يفسِّر سببَ تفاوُت عدد ما لديهم من مفردات في كلتا اللغتين. لكنْ ظهرَتْ
لدى جميع الأطفال الزيادةُ المعتادة المفاجئة في المفردات، إما بالتناوب — بناءً
على قوة كل لغة — وإما عند تعلُّم اللغتين معًا.
7 كذلك ذكر باحثون آخرون يدرسون جوانب أخرى من اكتساب اللغةِ، وجودَ أوجه
تشابُه بين الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة؛ فتظهر الأصوات أو المجموعات
الصوتية الأسهل نطقًا في وقت مبكر مقارَنةً بالأكثر صعوبةً، ويحدث مدٌّ في بعض
الكلمات (مثل كلمة
doggie التي تُستخدَم من أجل
الإشارة إلى الحيوانات الصغيرة ذات الأربع أرجل)، ويزيد طول الكلام بالتدريج،
وتُستخدَم التركيباتُ النحوية الأسهل قبلَ الأكثر تعقيدًا، وهكذا.
ذكرتُ في الفصل السابق الفتاة الصغيرة هيلدجارد، ابنة فيرنر ليوبولد، الثنائية
اللغة في الإنجليزية والألمانية، التي وثَّقَ والدها بعناية تقدُّمها في كلتا
اللغتين. وقد طرح في دراسته ذات الطابع العلمي الواضح قضيةً ما زالت مطروحةً
للمناقشة بشدة في الكتابات التي تظهر في عصرنا الحالي في مجال الثنائية اللغوية،
ولها أهمية للآباء؛ فقد قال إنه خلال سنوات عمر هيلدجارد الأولى، كانت تجمع بين
لغتَيْها في نظامٍ واحد؛ فقد كانت أصواتُ كلامها تنتمي إلى مجموعة لغوية واحدة، على
حد قوله. كما قال أيضًا إنها كانت تخلط الكلمات الإنجليزية بالألمانية، وكانت تعجز
عن فصل اللغتين عندما كانت تتحدث إلى أشخاص أحاديي اللغة يستخدمون الإنجليزية أو
الألمانية فقط. وأضاف أن «أولى علاماتِ ما سيصبح فيما بعدُ نظامين لغويين منفصلين»
لم تبدأ في الظهور إلا في نهاية عامها الثاني، ومنذ ذلك الحين بدأت ببطء تميِّز
بينهما.
8 يتمثَّل الجدل الذي تثيره اكتشافاتُ ليوبولد في رأيَيْن متناقضين:
الأول الذي يرى أن الأطفال الثنائيي اللغة يتشكَّل لديهم نظامٌ لغوي واحد في
البداية، وينفصل فيما بعدُ بالتدريج إلى نظامين؛ والثاني الذي يرى أن الأطفال
الثنائيي اللغة يتشكَّل لديهم نظامٌ مزدوج مميَّز من البداية.
يشير أنصار وجهة نظر النظام الواحد إلى الأدلة التي اكتشفها ليوبولد على ذلك، مثل
حقيقة أن الأطفال الثنائيي اللغة قد «يخلطون» لغتَيْهم معًا، ويكون هذا أحيانًا
أكثر في سنوات عمرهم الأولى أكثر مما يحدث في وقت لاحق (وسنتحدَّث عن هذه النقطة في
الفصل القادم). توجد أيضًا حقيقة أن هؤلاء الأطفال يستخدمون أحيانًا قاعدةً أو
آليةً واحدة قد يستمِدُّونها من إحدى اللغتين. يوجد اكتشاف آخَر يتمثَّل في أن بعض
الأطفال الثنائيي اللغة يظهر لديهم تداخُل قليل في مفرداتهم من اللغتين (أيْ إن أحد
المفاهيم قد تعبِّر عنه كلمةٌ في إحدى اللغتين، لكن من النادر أن توجد الكلمة نفسها
في اللغتين). على سبيل المثال: وجدَتْ عالمتا اللغة فرجينيا فولتيرا وتروتا تيشنر،
اللتان درسَتَا اكتساب المفردات لدى طفلتين ثنائيتَي اللغة في الألمانية
والإيطالية، هما ليزا وجوليا، أن ليزا كان لديها ثلاث كلمات متقابلة (مترادفة في
اللغتين) من بين كلماتها التي يبلغ عددها ٨٧ كلمة، بينما كان لدى جوليا ست كلمات
متقابلة من أصل مفرداتها التي يبلغ عددها ٨٣ كلمة.
9 توجد أيضًا حقيقة أن الأطفال يستخدمون المزج بين الكلمات وتركيب
الكلمات في هذه المراحل العمرية المبكرة؛ على سبيل المثال: كانت الطفلة جولييت
الثنائية اللغة في الإنجليزية والفرنسية، البالغة من العمر عامين، تمزج الكلمة
الفرنسية
chaud ومقابلها الإنجليزي
hot في كلمة واحدة هي
shot. كذلك كانت تمزج الكلمةَ الإنجليزية
pickle بمقابلها الفرنسي
cornichon في كلمة
pinichon. وفيما يتعلَّق بتركيب الكلمات بعضها
مع بعضٍ، كانت هيلدجارد تقول:
bitte-please. ويقول
بيير، الفتى الثنائي اللغة في الفرنسية والإنجليزية:
papa-daddy،
و
chaud-hot.
أنصار وجهة النظر الأخرى، التي تقول إن الأطفال تكون لديهم لغتان مختلفتان من
البداية؛ أصبحوا حاليًّا أكثر عددًا، وتوجد لديهم حجج جيدة. على سبيل المثال: في
عام ١٩٧٦، قالت كورال بيرجمان إن ابنتها ماري في أثناء اكتسابها اللغتين الإسبانية
والإنجليزية معًا، كانت تميِّز بوضوح بين اللغتين في مرحلة عمرية مبكرة للغاية (١٥
شهرًا)، فكانت تجيب جليسة الأطفال بالإسبانية وتجيبها بالإنجليزية. عرضت بيرجمان
هذا الأمر في الفرضية التالية الخاصة بالاكتساب المستقل لِلُّغتين:
في أثناء اكتساب اللغتين، تستطيع كلُّ لغة أن تتطوَّر على نحوٍ مستقل عن
الأخرى، بنمطِ اكتسابِ اللغة نفسه الذي يوجد عند تعلم الأطفال الأحاديي
اللغة لهذه اللغة.
10
منذ ذلك الحين، دافَعَ باحثون مثل يورجن مايزل وأنيك دي هاور
وفريد جينسي، من بين آخَرين، عن وجود نظام لغوي مزدوج منذ البداية. يقول يورجن
مايزل، الذي يتحدَّث عن اكتساب لغات أولى متعدِّدة، إن الأطفال الذين يكتسبون لغتين
في وقت واحد يمكنهم التمييز بين النظامين النحويين لِلُّغتين من مرحلة مبكرة
للغاية، ودون عناءٍ يُذكَر. ثم يقول إن المزج الذي يفعله الأطفال الثنائيو اللغة في
سن الثانية تقريبًا أو بعدها مباشَرةً، يمكن تفسيره في الأغلب على أنه تبديل لغوي
(انظر الفصل التالي). ويقول إن هؤلاء الأطفال يجيدون الجوانب الصرفية جيدًا (فَهُمْ
لا يضيفون عشوائيًّا مقاطعَ صرفية إعرابية من كلتا اللغتين إلى مواد معجمية من كلٍّ
من اللغتين المكتسبتين)، وإنهم يتبعون القواعدَ النحوية لهاتين اللغتين (على سبيل
المثال: لا يستخدم أبدًا الأطفالُ الثنائيو اللغة في الفرنسية والألمانية أنماطَ
ترتيب الكلمات الخاصة باللغات الرومانسية في اللغة الألمانية).
11
ما موقفنا إذًا من هذه القضية؟ بالتأكيد يوجد نوع من التواصل بين لغتَي الأطفال
الثنائيي اللغة، لكنه لا يكون في صورة «انصهار»، وهو ما يمكنه أن يفسِّر بعض
ملاحظات الأنصار الأوائل لوجهة نظر اللغة الموحدة. يشير يورجن مايزل إلى أن اللغتين
لا تُكتسَبان بالسرعة نفسها، وهذا ما يؤدِّي إلى أشكال الجمع بين اللغتين، مثل
التداخُل (التحوُّل) وتسريع أو تأخير اكتساب تركيبات معينة. لاحَظَ الباحثان
فرجينيا يب وستيفن ماثيوز، اللذان درسَا الأطفال الثنائيي اللغة في الكانتونية
والإنجليزية، التأثيرَ الواسع لِلُّغة السائدة على اللغة الأضعف، بالإضافة إلى
اكتساب بعض التركيبات أسرع في إحدى اللغتين نظرًا لسهولتها أو وضوحها؛ واستنتجا أن
الأطفال الثنائيي اللغة الذين خضعوا للدراسة يوجد لديهم سجلٌّ لغوي مميز ومنفصل لا
يمكن وصفه بأنه مزيجٌ من شخصَيْن أحاديَّي اللغة موجودَيْن داخل العقل نفسه، وينطبق
هذا على الأرجح على معظم هذا النوع من الأطفال.
12
توجد ملاحظة أخيرة بشأن الاكتساب المتزامن لِلُّغتين؛ فحتى يستطيع الأطفال
التمييز بوضوح بين اللغتين فهم يعتمدون على عوامل مختلفة؛ الإشارات الصوتية
والعروضية لكل لغة (مثل الإيقاع)، وجوانب أخرى في تركيب اللغة، والسياق الذي
تُستخدَم فيه اللغة، والأهم من ذلك، اللغة التي يتحدَّث بها شخص معين. فسيلاحظ أي
شخص يتعامل لبعض الوقت مع طفل صغير ثنائي اللغة العلاقةَ القوية الموجودة لدى هذا
الطفل بين الشخص ولغته (علاقة الشخص باللغة). فمن وجهة نظر الطفل، يرتبط الشخص بلغة
واحدة معينة، وإذا تحدَّث هذا الشخص مع الطفل بلغة أخرى، فإن الطفل قد يرفض الردَّ
عليه أو قد يشعر بالحزن. إليك مثالين على هذا: كان لوكا الصغير، وهو ثنائي اللغة في
الفرنسية والكرواتية، يتحدَّث مع جدته لأبيه؛ كانت لغة التواصل بينهما هي الفرنسية،
لكنْ نظرًا لكونهما في كرواتيا، طلبت منه جدته ذِكْرَ أسماء بعض الأشياء
بالكرواتية؛ فرفض أن يفعل هذا وقال لها بالفرنسية: «إن والدتي هي مَن تطلب مني
هذا.» (إذ إن لوكا لا يتحدَّث بالكرواتية إلا مع والدته ووالدَيْها فقط.) كانت
جولييت (وهي طفلة ثنائية اللغة في الفرنسية والإنجليزية تبلغ من العمر عامين ونصف
عام) تلعب مع مارك (وهو طفل يتحدَّث بالإنجليزية عمره خمس سنوات)؛ كانت الإنجليزية
هي لغة التواصل المعتادة بينهما، لكنْ حتى يُسعِدها مارك ويُفاجِئها قرَّرَ
استخدامَ إحدى الكلمات الفرنسية في حديثه معها؛ فقد سأل والدته عن مقابل كلمة
come (تعال) في اللغة الفرنسية، ثم عاد إلى
جولييت وقال لها: Viens, viens. فُوجِئ مارك بأن
جولييت لم تسعد بهذا على الإطلاق، وبدلًا من أن تبتسم له، قالت له بغضبٍ
بالإنجليزية: «لا «تفعل» هذا مرةً أخرى، يا مارك.» وكرَّرَتْ هذا عدة مرات. وعليه
يبدو أن إحدى الاستراتيجيات التي يستخدمها الأطفال الثنائيو اللغة، هي تحديد اللغة
التي يتحدَّث بها مع كل شخص، والالتزام بهذه اللغة؛ وهذا يجعل اختيارَ الكلمات
والقواعد أسهلَ وأقلَّ جهدًا؛ وعند كسر هذه العلاقة بين الشخص واللغة، يشعر الطفل
الصغير بالارتباك وقد يغضب.
(٢) الثنائية اللغوية المتتابعة
كما رأينا، يصبح معظم الأطفال ثنائيي اللغة باكتساب اللغتين بالتناوب؛ بمعنى أنهم
يتعلمون إحدى اللغات في المنزل، ثم يتعلمون لغةً أخرى في المدرسة أو في المجتمع
الخارجي؛ ومن ثَمَّ تكون لديهم بالفعل إحدى اللغات عندما يبدءون في اكتساب لغة
ثانية، ويمكنهم استخدام لغتهم الأولى، إلى حدٍّ ما على الأقل، في اكتساب اللغة
الجديدة (لكنْ يختلف الباحثون حول مدى هذا الاستخدام).
قبل أن نشرح كيفية اكتساب الأطفال لِلُغة ثانية على نحو طبيعي، سأتحدَّث عن أحد
المفاهيم الخاطئة الراسخة:
خرافة: كلما اكتسب الطفل اللغة في مرحلة
مبكرة، زادت طلاقته فيها
أحدُ الافتراضات التي تعتمد عليها هذه الخرافة فكرةُ أن الأطفال الصغار يكتسبون
أي لغة بسرعة أكبر وبجهد أقل من الأطفال الأكبر سنًّا. والافتراض الآخَر هو أن
ذهنهم يكون طيِّعًا أو «مَرِنًا» أكثر في السن المبكرة جدًّا، ومن ثَمَّ يكون أكثرَ
تقبُّلًا لمهامَّ مثل تعلُّم اللغة. بالإضافة إلى ذلك، يُقال إن الأطفال الصغار
لديهم محاذير أقل تجعلهم أقلَّ شعورًا بالإحراج عند ارتكابهم الأخطاء، ومن ثَمَّ
يتعلَّمون على نحوٍ أفضل.
يختلف الواقع قليلًا عن هذا، ويجب علينا التأكيد على هذا. أولًا: يذكِّرنا
اختصاصيُّ علم اللغة التطبيقي باري ماكلوكلين بأن الأطفال لا توجد لديهم محاذيرُ
أقل، ولا يقلُّ شعورُهم بالإحراج عند ارتكاب الأخطاء؛ في الواقع قد يشعرون بالخجل
والإحراج الشديدين أمام أقرانهم.
13 ثانيًا: اتضح أن الأطفال الصغار يتسمون بالسذاجة وعدم النضج عند
التعلُّم بسبب عدم اكتسابهم بالكامل مهارات معرفية معينة، مثل القدرة على التجريد
والتعميم والاستنتاج والتصنيف، التي قد تساعدهم في اكتساب اللغة الثانية. ثالثًا:
حلَّ محلَّ فكرةِ وجود فترة محددة وذات أهمية كبرى لتعلُّم اللغة تقريبًا في سن
الخامسة؛ فكرةُ وجود «فترة أكثر اتساعًا» قد تمتد إلى ما بعد سن العاشرة، وعلى
الأرجح تختلف باختلاف المهارات اللغوية.
لذلك درست الباحثتان كاثرين سنو وماريان هوفناجل-هوليه، في إحدى الدراسات
الشهيرة، تعلُّم المتحدثين بالإنجليزية في مختلف المراحل العمرية لِلُّغة
الهولندية. وقد تبيَّنَ أن الأطفال بين عمر الثانية عشرة والخامسة عشرة يتعلمون على
نحو أفضل من الأطفال الأصغر سنًّا.
14 تتمثَّل الميزة الحقيقية لاكتساب إحدى اللغات في مرحلة عمرية مبكرة في
مهارات النطق، لكن كما رأينا في الفصل السابع، حتى المراهقون وبعض البالغين يمكنهم
تعلُّم التحدُّث دون لكنة. باختصار، تتمثل العوامل المهمة في تحول الطفل إلى ثنائي
اللغة، في أي عمر؛ في الحاجة إلى اللغة الجديدة، بالإضافة إلى مقدار المُدْخَلات
ونوعها، ودور الأسرة والمدرسة، والمواقف السائدة تجاه اللغة وثقافتها وتجاه
الثنائية اللغوية في حد ذاتها.
15
اقترحَتْ عالمة اللغة ليلي وونج فيلمور في بحث لها وصفًا أو نموذجًا لأسلوب تعلم
اللغة الثانية الطبيعي لدى الأطفال. يقوم هذا النموذج على وجه الخصوص على حقيقة
أنها تتعامل مع أفراد صغار السن في أُسَر مهاجرة يتعلمون لغة ثانية. ومع ذلك، فإن
نموذجها هذا يمكن تطبيقه على كثير من الأطفال الثنائيي اللغة الآخرين، ما داموا
يكتسبون لغتهم الثانية بأسلوب طبيعي. يتحدَّث هؤلاء الأطفال بالفعل إحدى اللغات في
المنزل، ويجب عليهم تعلُّم لغة الأغلبية؛ بهذه الطريقة يصبحون ثنائيي اللغة — نأمل
أن يكون هذا طوال حياتهم — على الرغم من أننا رأينا في الفصول السابقة أن هذا قد لا
يحدث إذا بدءوا في فقدان لغتهم الأولى. تؤكِّد وونج فيلمور، قبل كل شيء، على أن
هؤلاء الأطفال لم يبدءوا هذه المهمة صفر اليدين؛ فتوجد لديهم بالفعل معرفة اجتماعية
ولغوية، ومعرفة بالعالم من حولهم؛ فهم يعرفون استخدامات كل لغة وسياقاتها. يساعدهم
هذا كله كثيرًا في تعلُّم اللغة الجديدة.
16
يحتوي نموذج وونج فيلمور على ثلاثة عناصر وثلاث مجموعات من العمليات؛ تتمثَّل
العناصر في المتعلمين الذين يدركون ضرورةَ اكتسابهم اللغة الثانية، والمتحدثين
باللغة الذين سيساعدونهم في ذلك بمختلف الطرق، والسياقِ الاجتماعي الذي يجعل
المتعلمين يتواصلون مع المتحدثين؛ المدرسة في المقام الأول والمجتمع أيضًا. أما
بشأن العمليات، فتتعلق المجموعة الأولى في النموذج بجوانب اجتماعية؛ فيجب على
المتعلمين ملاحظة ما يحدث في السياقات الاجتماعية ومعرفة ما يتحدَّث عنه الناس وكيف
يفعلون هذا، كذلك يجب عليهم أن يُعرِّفوا المتحدثين باحتياجاتهم ويحثُّوهم على عمل
تسهيلات وتعديلات حتى يتمكنوا من فهمهم، وحتى يستطيعوا اكتساب اللغة؛ بإيجازٍ، يجب
على الجانبين أن يتعاونا. ذكرت ليلي وونج فيلمور في بحث سابق لها ثلاث استراتيجيات
اجتماعية يستخدمها متعلمو اللغة؛ أولًا: الانضمام إلى مجموعةٍ ما والتصرف كما لو
أنهم يفهمون ما يحدث، حتى إن لم يكونوا يفهمون. ثانيًا: إعطاء الانطباع، ببعض
الكلمات المختارة بعناية، بأنهم يستطيعون التحدُّث بهذه اللغة. ثالثًا: الاعتماد
على أصدقائهم في تقديم المساعدة.
17
إليك مثالًا على كيفية استخدام سيرل البالغ من العمر عشر سنوات لهذه
الاستراتيجيات؛ فبعدَ قضائه عدة سنوات وهو أحادي اللغة، انتقل مع والديه إلى الجزء
الذي يتحدث بالفرنسية في سويسرا والتحق بمدرسة القرية بعد شهر من وصوله، ونظرًا
لكونه أمريكيًّا (في الثقافة على الأقل) وكانت صحبته ممتعة، حقَّقَ نجاحًا على
الفور. مع ذلك، لم يكن يعلم شيئًا عن الفرنسية في البداية، وكذا أصدقاؤه لم يكونوا
يعلمون شيئًا عن اللغة الإنجليزية؛ لذلك طبَّق استراتيجيات وونج فيلمور لبضعة
أسابيع، دون أن يعلم بالطبع أن هذا ما كان يفعله؛ فقد تعلَّم سريعًا بعض التعبيرات
المعروفة، وكان يستخدمها مع إيماءات وابتسامة عريضة، وفي المقابل بذل أصدقاؤه الجدد
كلَّ ما وسعهم لمساعدته. كانت إحدى الطرق التي استخدموها تبسيط لغتهم الفرنسية إلى
أقصى حدٍّ؛ فعلى سبيل المثال: في معرض القرية المحلي يستطيع الأطفال «اصطياد» هدية
يضعها أحد الكبار، من وراء الحاجز، في الخطاف. كانت إحدى الجوائز التي يريدها سيرل
تمساحًا أمريكيًّا مطاطيًّا، عندما علم أحد الأطفال الذي يتحدثون الفرنسية بهذا،
قال لسيرل بلغة فرنسية «سيئة»: Moi avoir alligator, te
donner (التي تعني حرفيًّا: «أنا أحصل على التمساح، أعطيه
إليك»). في حين أن الجملة التي كان سيستخدمها بنحو طبيعي مع صديق يتحدَّث بالفرنسية
ربما تكون أكثر تعقيدًا، من قبيل: Si j’obtiens l’alligator, je te
le donnerai. فهم سيرل هذه الجملة المبسطة وسار الأمر على ما
يرام (لكني لا أعتقد أنه حصل بالفعل على التمساح).
ترتبط المجموعة الثانية من العمليات التي ذكرَتْها ليلي وونج فيلمور بالجوانب
اللغوية. مرة أخرى دون إدراك الأمر، يجب على المتعلمين أن يحصلوا من المتحدثين
الأصليين لِلُّغة على معلومات تسمح لهم باكتشاف طريقة عمل اللغة، وكيف يستخدمها
الناس؛ وهم يحصلون على هذه المعلومات من الكلام المسهب والمكرر والمعتاد الذي
يوجِّهه إليهم المتحدثون الأصليون لِلُّغة في سياقٍ ما. يجب أن ينتبه المتعلمون
جيدًا لما يُقال لهم، ويخمِّنوا العلاقة بينه وبين الأحداث المحيطة بهم؛ فهم يقومون
بتخمينات مدروسة عمَّا يقوله الناس وما يمكن أن يتحدثوا عنه في موقف معين. تقول
وونج فيلمور عن هذا: «افترضْ أن ما يقوله الناس يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالموقف
القائم، أو ما يتعرضون له أو تتعرض له أنت (الاستراتيجية الأسمى هي
التخمين).»
18 يجلب المتعلمون معهم في هذه المهمة معرفتهم بالفئات اللغوية، وأنواع
التراكيب (التقريرية والاستفهامية، وما إلى ذلك)، والأفعال اللغوية للكلام
(المباشِرة وغير المباشِرة)، ومن ثَمَّ يستطيعون البحث عن مقابلاتها في اللغة
الجديدة.
أخيرًا، تشكِّل العناصر المعرفية المجموعةَ الثالثة من العمليات. ترى وونج فيلمور
أن هذه العناصر محورية؛ إذ إنها تؤدي لاكتساب اللغة؛ ففي ظل مُدْخَلات السياق التي
يحصل عليها المتعلمون، ينبغي لهم اكتشاف وحدات وقواعد اللغة، وعليهم بعد هذا أن
يصوغوا هذه المعرفة في شكل قواعد نحوية؛ لذا يستخدمون مهارات معرفية من أجل تحقيق
هذا، من مهارات الترابط والتحليل، والتذكر، والمهارات الاستدلالية، إلى آخِره.
ويستخدمون كذلك استراتيجيات التعلم، التي تذكر وونج فيلمور بعضَها فيما يلي: «ابحثْ
عن الأجزاء المتكررة في الصيغ التي تعرفها؛ وحقِّقْ أكبرَ استفادة ممَّا توصلتَ
إليه؛ واعملْ على الأشياء الكبيرة، ودَعِ التفاصيل لوقت لاحق.»
19
أشار كثير من المختصين في اكتساب اللغة، ومن بينهم ليلي وونج فيلمور وباري
ماكلوكلين، إلى نقطة تتعلَّق بحقيقة احتمال وجود اختلاف كبير بين المتعلمين؛ فقد
ينتمون إلى مجموعات ثقافية ولغوية واجتماعية مختلفة، وقد يكونون من أعمار مختلفة،
وقد تكون لديهم قدرات معرفية مختلفة (مثل المهارات الإدراكية ومهارات التعرُّف على
الأنماط)، بالإضافة إلى مواقف مختلفة تجاه تجربة الأشياء الجديدة والمجازفة. قد
يُقْدِم البعض على المخاطرة بحماس، حتى إنِ ارتكبوا أخطاءً، بينما قد يكون البعض
الآخر أكثر تحفُّظًا، وأحيانًا تكون نتيجة الأسلوب الثاني أكثر نجاحًا. سأذكر في
هذا الشأن مثالًا لأخوين: سيرل (الذي تحدَّثنا عنه من قبلُ)، وبيير، وكلاهما طفلان
يتحدثان الإنجليزية، ويكتسبان اللغة الفرنسية في بيئتهما الطبيعية. كان سيرل في
العاشرة من عمره وأخوه في الخامسة، وبينما كان سيرل منفتحًا للغاية، وطفلًا محبًّا
لتجربة كل ما هو جديد، كان بيير أكثر تحفُّظًا وهدوءًا. اكتسب سيرل لغة فرنسية غير
سليمة بسرعة كبيرة؛ فقد كان يرتكب أخطاءً في النطق، وأخطاءً في النوع، وأخطاءً
نحوية، لكنه لم يكن يهتم لذلك، واستمر ببساطة في التواصل مع أصدقائه. أما بيير فقد
انتهج أسلوبًا مختلفًا؛ فلمدة ثلاثة أشهر لم ينطق كلمة واحدة بالفرنسية (حتى إنه
تمكَّنَ من جعل مدرسته تتحدَّث معه بالإنجليزية)، لكنه عندما بدأ يتحدَّث بالفرنسية
تلقائيًّا، كانت لغته تخلو من الأخطاء أكثر من لغة سيرل؛ فبَدَا الأمر كما لو أن
بيير ترك لنفسه فرصة استيعاب اللغة، اتباعًا للأسلوب الذي وصفَتْه وونج فيلمور، ثم
بمجرد استيعابه لكل شيء (النحو والنطق والمفردات)، بدأ في التحدث باللغة، حتى إنه
كانت لديه الجرأة لتصحيح أخطاء أخيه الأكبر في بعض الأحيان؛ على سبيل المثال: قال
سيرل formage ذات يوم بدلًا من
fromage (جُبن)، وانزعج سيرل عندما تدخَّلَ
بيير وصحَّحَ له خطأه.
في نهاية هذا الفصل أودُّ التأكيد على جانبٍ غاية في الأهمية في تعلُّم اللغة
الثانية، يؤكِّد عليه كثير من المختصين في هذا المجال، خاصةً جيم كومينز؛ وهو أن
التمتُّعَ بقدرات تواصلية في اللغة الثانية في بيئة طبيعية جزءٌ من العملية التي
يجب أن يمر بها الأطفال في المدرسة، نظرًا لأنهم يحتاجون في معظم الأحيان إلى
القراءة والكتابة بهذه اللغة، بالإضافة إلى التحدث بها. تتحقَّق الطلاقة في الحوار
(التي يطلق عليها كومينز «مهارات التواصُل الأساسية بين الأشخاص») بسرعة كبيرة إذا
كانت الظروف مواتيةً، وسار كل شيء على ما يرام (على سبيل المثال: يتحدَّث كلٌّ من
سيرل وبيير اللغةَ الفرنسية المنطوقة بطلاقةٍ بعد قضاء عام في سويسرا). ينطبق هذا
على كثير من الثنائيي اللغة الصغار السن، وقد يعطي انطباع اكتسابهم لِلُغة جديدة.
إلا أن إجادة اللغة الأكاديمية (التي يطلق عليها كومينز «الإجادة المعرفية لِلُّغة
الأكاديمية»)، تحتاج للمزيد من الوقت والعمل؛
20 فقد كتب كومينز يقول إن الأطفال الأحاديي اللغة الذين اكتسبوا اللغة
طبيعيًّا، يلتحقون بالمدرسة في سن الرابعة أو الخامسة وهم يتحدثون لغة المنزل
بطلاقة، ثم يقضون السنوات الاثنتي عشرة التالية في توسيع كفاءتهم اللغوية (ليس فقط
في القراءة والكتابة، وإنما أيضًا في القدرة على استخدام اللغة، بالإضافة إلى اتباع
الأسلوب النقدي في رؤية الأفكار وعرضها والتفكير فيها). يذكِّرنا كومينز بأن اللغة
الأكاديمية لغة معقدة بسبب صعوبة المفاهيم التي يجب فهمها، والمفردات الفنية وغير
الشائعة التي يجب الإلمام بها، والتركيبات النحوية المعقدة التي يجب استخدامها. يرى
كومينز أن متعلمي اللغة الثانية يحتاجون إلى نحو خمس سنوات حتى يتمكَّنوا من اللحاق
بأقرانهم من المتحدثين الأصليين لِلُّغة في المهارات اللغوية المتعلقة بالكفاءة
اللغوية.
21 ويحتاجون أيضًا، كما سنرى في الفصل السابع عشر، إلى دعم قوي من الأسرة
والمعلمين حتى يتمكَّنوا من تحقيق هذا.