الأسرة والأطفال الثنائيو اللغة
إن تحويلَ الأطفال إلى ثنائيي اللغة وإبقاءَهم هكذا مسئوليةٌ كبيرة يُمعِن كثير من الأُسَر التفكير فيها. لا يمكن إنكار أن بعض الأطفال «يصبحون ثنائيي اللغة بالصدفة» (لقد أصبحتُ واحدًا من هؤلاء عندما التحقت بمدرسة داخلية إنجليزية في سن الثامنة)، لكن يوجد عدد متزايد من الآباء يهتمون بالأسلوب الذي يجب عليهم اتِّباعه في هذا الشأن، والدعم الذي يجب عليهم تقديمه إلى أطفالهم، من أجل تسهيل حياتهم بلغتين أو أكثر. سأتحدَّث في هذا الفصل عن الاستراتيجيات الأسرية المتاحة والدعم الذي يجب أن يحصل عليه كلٌّ من الأطفال الثنائيي اللغة وآبائهم. أُدرِجُ تحت مفهوم «الأسرة» الوالدين والجدودَ، بالإضافة إلى أفراد الأسرة الأكثر بُعْدًا ومسئولي الرعاية الآخرين.
(١) استراتيجيات الأسرة لضمان تحويل أطفالها إلى ثنائيي اللغة
التقيتُ بكثير من الأزواج الذين يريدون تكوين أسرة ويتساءلون عن أفضل طريقة تمكِّنهم من التأكُّد من أن يصبح أطفالهم ثنائيي اللغة. والأسبابُ التي يعلِّلون بها رغبتهم في تربية أطفالهم كي يصبحوا ثنائيي اللغة عديدةٌ: فبعضهم يريد أن يتحدث الأطفال بلغتَي الوالدين (فعلى سبيل المثال: تتحدث الأم بالإسبانية والأب بالإنجليزية)، بينما يريد آخَرون أن يتمكَّن الأطفال من التواصُل مع جدودهم، ويريد البعض الآخَر أن يُعِدُّوا أبناءهم لليوم الذي يلتحقون فيه بالمدرسة حيث تستخدم لغةً مختلفة، ويريد آخَرون تعليم أبنائهم اللغات منذ سن مبكرة. أيًّا كان السبب، فإنهم يبحثون عن طرق لوضع أبنائهم على أول الطريق نحو الثنائية اللغوية.
توجد خمس استراتيجيات يستطيع الآباء اتِّباعها من أجل تعزيز الثنائية اللغوية لدى أبنائهم، وربما أكثر هذه الاستراتيجيات شهرةً هي استراتيجية «حديث كلٍّ من الوالدين بلغة واحدة»، التي اشتهرَتْ في عالَم الثنائية اللغوية (على الرغم من أنها ربما كانت موجودة منذ قرون)، عندما سأل جول رونجا، في مطلع القرن العشرين، عالِمَ اللغة الفرنسي موريس جرامون عن أفضل طريقة لتنشئة طفله بحيث يصبح ثنائيَّ اللغة. كانت زوجة رونجا ألمانية وكان هو فرنسيًّا؛ فاقترح عليه جرامون أن يلتزم كلٌّ منهما بالحديث بلغته أو لغتها فقط إلى الطفل لوي، وهذا ما فعلاه. فيما بعدُ ألَّفَ رونجا كتابًا عن هذه الاستراتيجية، وقال فيه إن لوي اكتسب اللغتين مثل أي متحدِّث أصلي لِلُّغة. أتَذْكرُ الطفلةَ الصغيرة هيلدجارد، التي التقينا بها في الفصل الرابع عشر، التي تربت باستخدام هذه الاستراتيجية نفسها؛ فقد كان والدها يتحدَّث معها بالألمانية، ووالدتها تتحدَّث معها بالإنجليزية.
تتمثَّل الاستراتيجية الثالثة في استخدام لغة واحدة مع الطفل في البداية، ثم إدخال اللغة الأخرى عندما يصبح في سن الرابعة أو الخامسة، وسأطلق عليها اسم استراتيجية «لغة واحدة في البداية». عادةً ما تكون اللغة الأولى هي لغة الأقلية، التي يستخدمها الوالدان فقط؛ وهما يحرصان على أن يستخدم هذه اللغةَ كلُّ الذين يتواصل معهم الطفلُ بخلافهما (مسئولو الرعاية الآخرون، وأفراد الأسرة، والأصدقاء، وبرامج التليفزيون، وما إلى ذلك). وبمجرد ترسيخ هذه اللغة جيدًا، يسمح الوالدان باكتساب اللغة الأخرى، ويحدث هذا عادةً بسرعة كبيرة إذا كانت هي لغة الأغلبية المستخدمة في المجتمع الخارجي.
توجد استراتيجية رابعة، وهي استراتيجية «وقت اللغة»، وتتمثل في استخدام إحدى اللغتين في أوقات معينة (في الصباح، على سبيل المثال)، واللغة الأخرى في أوقات أخرى (فيما بعد الظهيرة، مثلًا). يمكن أن يحدث هذا التبديل في اليوم نفسه أو على مدار عدة أيام (ربما بتحدُّث إحدى اللغات في الجزء الأول من الأسبوع، واستخدام اللغة الأخرى في الجزء الثاني).
أما الاستراتيجية الخامسة، التي تُعتبَر إلى حدٍّ ما استراتيجية طبيعية على الرغم من أنه يمكن للوالدين تطبيقها عن وعي، فتتمثَّل في استخدام اللغتين بالتبادل، مع السماح لعوامل مثل الموضوع والشخص والموقف وما إلى ذلك بتحديد اللغة المستخدمة؛ وسأطلق على هذه الاستراتيجية اسمَ استراتيجية «التبادل الحر».
ما هي نسبة نجاح هذه الاستراتيجيات المختلفة؟ فيما يتعلق بالاستراتيجية الأولى، استراتيجية حديث كلٍّ من الوالدين بلغة واحدة، يجب أن نشير إلى اتِّباع كثير من الآباء لها لشعورهم براحة أكبر في الحديث بلغتهم السائدة، التي ربما تكون لغتهم الوحيدة، مع طفلهم. إنها دون شك أشهر استراتيجية، إلا أن مفهوم الناس عنها تحوَّلَ بمرور الوقت إلى اعتقاد خاطئ:
لا توجد مشكلات كثيرة عند تطبيق استراتيجية «لغة داخل المنزل وأخرى خارجه»، وإنما توجد لها كثير من المميزات. فمن بين مشكلاتها حقيقةُ أن أحد الوالدين سيضطر على الأرجح إلى الموافقة على الحديث بلغته الثانية (أو الثالثة) إلى الطفل بحيث يتحدث كلُّ مَن في المنزل لغةً واحدة فقط. ومن مشكلاتها أيضًا أنه بعد فترة من الوقت، ستوجد حاجة إلى تدعيم لغة المنزل — التي عادةً ما تكون لغة الأقلية — بمُدْخَلات من الأصدقاء وأفراد الأسرة الآخرين، بالإضافة إلى ممارسة أنشطة بهذه اللغة، مثل اللعب باستخدامها ومشاهدة برامج تليفزيونية تتحدَّث بها. إذا كان من الممكن الحصول على هذا الدعم، فإن اللغة الأخرى المُستخدَمة خارج المنزل، التي تكون عادةً لغةَ الأغلبية، ستُكتسَب من تلقاء نفسها، في مركز الرعاية النهارية ثم في المدرسة، ومن خلال الأصدقاء الخارجيين، وهكذا، وسيصبح الأطفال ثنائيي اللغة؛ عندها يجب على الوالدين العمل على ترسيخ اللغتين، والتأكد من وجود حاجة مستمرة إلى كلتَيْهما طوال سنوات الطفولة والمراهقة (ارجعْ للفصل الرابع عشر). اكتشفَتْ أنيك دي هاور في دراستها أنه إذا استخدم كلا الوالدين اللغةَ نفسها داخل المنزل، فإن نجاح انتقال تلك اللغة، بجانب اللغة الخارجية، يزيد بنسبة ٢٠ في المائة.
أما فيما يتعلق باستراتيجية وقت اللغة، فإنها تعتمد على عامل عشوائي للغاية — وقت معين من اليوم، ويوم معين من الأسبوع — ولا تحقِّق نجاحًا كبيرًا، على الأقل على نطاق الأسرة. وعلى الرغم من هذا، تُستخدَم هذه الاستراتيجية في برامج الانغماس اللغوي وبرامج التعليم الثنائية اللغة (انظر الفصل التاسع عشر)، وتحقِّق نجاحًا في هذا المناخ.
أما الاستراتيجية الأخيرة، وهي استراتيجية التبادل الحر، فهي حتى الآن الأكثر طبيعيةً، لكنَّ نسبةَ نجاحها تقلُّ بسبب حقيقةِ أن لغة الأغلبية ستصبح هي السائدة مع قضاء الطفل مزيدًا من الوقت في المدرسة وخارج المنزل، فضلًا عن الأصدقاء الذين يتحدثون لغةَ الأغلبية ويأتون إلى منزله.
أيًّا كانت الاستراتيجية التي يستخدمها الوالدان، فبمجرد بدء اكتساب الثنائية اللغوية، يجب أن تستمر الأسرة في مراقَبة البيئة للتأكُّد من أن لدى الطفل حاجةً فعلية لكلتا اللغتين، والتأكُّد من تعرُّضه بقدر كافٍ لكلتَيْهما. يجب أن يأتي التعرض من التفاعل البشري المباشِر (مثل التحدُّث إلى الطفل أو اللعب معه أو القراءة له)، وليس من الأنشطة السلبية مثل مشاهدة التليفزيون أو مواد على أقراص الدي في دي. ومن أجل زيادة التعرض لِلُّغة، وتقليل العبء الواقع على الوالدين، يُفضَّل لو كان بإمكان الوالدين الحصول على مساعدة من أفراد الأسرة الكبيرة ومسئولي رعاية الطفل الآخرين، ولو كان بالإمكان أيضًا أن يتفاعل الطفل مع أطفال آخَرين يتحدَّثون اللغتين ذاتَيْهما.
إذا لم يتوافر للأسرة مجتمع من حولها يتحدَّث لغةَ الأقلية به متحدثون أحاديو اللغة، فلا شك أن العثور على سُبل لوضع الطفل في وضعٍ أحادي اللغة في لغة الأقلية يكون أمرًا صعبًا، ويتطلَّب قدرًا من الإبداع. فعندما عاد والدا سيرل وبيير إلى الولايات المتحدة من سويسرا، فعلا عدة أشياء من أجل الحفاظ على لغة الطفلين الفرنسية، وعلى ثنائيتهما اللغوية في الإنجليزية والفرنسية؛ فعلى سبيل المثال: بحثَا عن الأُسَر الفرنسية التي وصلت حديثًا إلى أمريكا، والتي لديها أطفال في الأعمار نفسها، وجمعوا الأطفالَ معًا ليتيحوا لهم فرصةَ تكوين صداقات. نجح الأمر مع واحد أو اثنين من الأطفال الفرنسيين، وهكذا طوال عدة شهور، بينما كان هؤلاء الأطفال يكتسبون اللغة الإنجليزية، كان سيرل وبيير يتحدثان مع أطفال فرنسيين أحاديي اللغة، ويلعبان معهم باللغة الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك، دعا الوالدان أصدقاء الصبيين الذين تعرفا عليهما في سويسرا لزيارتهم في الولايات المتحدة في الصيف؛ ونظرًا لأن هؤلاء الأطفال كانوا أحاديي اللغة تمامًا، لم يكن أمام سيرل وبيير إلا أن يتحدَّثا معهم بالفرنسية. أخيرًا، حاولت الأسرة الذهابَ إلى سويسرا وفرنسا مرةً كلَّ عام من أجل غمس سيرل وبيير في لغتهما الأخرى، التي أصبحت الآن اللغةَ الأضعف.
إن ما يثير الاهتمام في الحِيَل التي استخدمها هذان الوالدان أنها كانت طبيعيةً إلى حدٍّ كبير؛ فقد وضعا الطفلين في مواقف يحتاجان فيها إلى لغتهما غير السائدة؛ لذا اضطرَّا إلى استخدامها. فقد تعلَّمَ والداهما بسرعة كبيرة، مثل كثيرين غيرهما، أن إجبار الطفل على الالتزام بلغة واحدة فقط في حين أن المستمع إليه يعرف كلتا لغتَيْه يؤدِّي إلى شعور الجانبين بالإحباط. طالما قلتُ، بابتسامة، إن الآباء الثنائيي اللغة إلى حدٍّ كبير لا يجيدون التعامُلَ مع اللغة الأضعف لدى أطفالهم، وبالتالي مع ثنائيتهم اللغوية؛ لكن يمكنهم تعويض ذلك عن طريق وضع أطفالهم في مواقف طبيعية يحتاجون فيها فعليًّا إلى استخدام لغتهم الأضعف.
(٢) دعم الأسرة
يدرك الأطفال الثنائيو اللغة إلى حد كبير أن معرفة والديهم بلغة الأغلبية قد تكون ضعيفةً أحيانًا. يتحدَّث ريتشارد رودريجيز عن انزعاجه من حروف العلة لدى والديه «ذات النبرة العالية»، ونطقهم «الأجش» للحروف الساكنة، وتركيبهم النحوي المضطرب؛ فقد كان ينفعل عندما يسمع حديثهم بالإنجليزية. كما يحكي الكاتب الصحفي والمؤلف أوليفيه تود عن تظاهره عندما يكون مع أمه في شوارع ومتاجر باريس بأنه لا يعرفها، عندما كانت تتحدَّث بلكنتها البريطانية الواضحة. وأنا نفسي أتذكر ذات يوم قال لي ابني: «أبي، تحدَّث مثل كل الآباء الآخرين.» وكان يعني بذلك: «بما أنك تتحدَّث بالإنجليزية أيضًا، والإنجليزية هي اللغة المستخدَمة هنا، وأنا لا أريد أن أبدو مختلفًا عن الآخرين، ليتحدَّث إذًا كلٌّ منَّا مع الآخر بالإنجليزية بدلًا من الفرنسية.»
توجد أوقات تصبح فيها الأمور صعبةً ومُحبِطةً بسبب حدوث مشكلة في التواصل، أو تعليق قاسٍ من بالغ أو طفل، أو الحصول على درجة سيئة في اللغة الأضعف، وما إلى ذلك؛ ولذلك من الضروري حينها أن يحصل الأطفال الثنائيو اللغة على التشجيع والمساعدة؛ فمع تقدُّم الأطفال في العمر، يجب أن تصبح لديهم القدرة على الحديث مع الآخرين عن معنى كون المرء ثنائيَّ اللغة والثقافة، والتعبير عن بعض الصعوبات التي قد يتعرضون لها.
قد تتمثَّل الصعوبات التي يواجهها الأطفال في سن المدرسة في مشكلات في القراءة والكتابة في المدرسة. تختلف أهمية تعلُّم مهارات القراءة والكتابة في المناهج الدراسية بحسب الدولة والثقافة، وربما يحتاج الأطفال والمراهقون الثنائيو اللغة إلى دعم إضافي في هذين المجالين؛ على سبيل المثال: يوجد تركيز كبير في المدارس الفرنسية على تصحيح التهجئة وقواعد اللغة، ويُعاقَب الأطفال الثنائيو اللغة، الذين لا يزالون في مرحلة تعلُّم الفرنسية، عادةً على الأخطاء التي يرتكبونها. في هذه الحالة يمكن أن يشرح الوالدان ومسئولو الرعاية الآخرون هذا الموقفَ للأطفال الثنائيي اللغة، ويساعدونهم على مواجَهة هذا التحدي الجديد؛ كذلك قد يُحدِث الحديث مع المعلم فارقًا كبيرًا. بالطبع، يصبح هذا أسهل إذا كان الوالدان أنفسهما يتقنان اللغةَ ويعتادان على التواصل مع المدرسة، وإذا لم يكن الوضع كذلك، يمكن أن يتدخل شخص وسيط مقرَّب من الأسرة ليقدِّم المساعدة.
يجب أن يصبح تحوُّل المرء إلى شخص ثنائي اللغة والثقافة رحلةً ممتعة في اللغات والثقافات. وعندما يخوض الأطفال هذه الرحلة، من المهم أن يصحبهم فيها، إن أمكن، أفراد بالغون يهتمون لأمرهم ولديهم معرفةٌ واسعة؛ حتى يسهِّلوا عليهم الانتقالَ من مرحلة إلى أخرى، وحتى يستطيع الأطفالُ الحديثَ معهم عمَّا يمرون به. وعندما يحصل الأطفال على هذا النوع من الدعم، يوجد احتمال كبير أن ينجحوا في اكتساب الثنائية اللغوية والثقافية.