أتلقى أحيانًا رسائل إلكترونية أو مكالمات هاتفية من آباء شباب يريدون أن يصبح
أطفالهم ثنائيي اللغة، لكنهم قَلِقون من احتمالية وجود آثار ضارة لهذا؛ فقد سمع كثير
منهم المقولةَ التالية:
أنا أطمئن الذين أتعامل معهم؛ لكنْ في الواقع، بسبب هذا الرأي الذي لا يزال موجودًا
في بعض الدوائر والدول، يتردَّد الآباء في تربية أطفالهم ليصبحوا ثنائيي اللغة، بينما
يقلق آخَرون على النمو اللغوي والمعرفي لأطفالهم الثنائيي اللغة. عند النظر إلى
الدراسات السابقة التي رسخت هذه الخرافة، بالإضافة إلى الدراسات اللاحقة التي توصَّلَتْ
إلى نتائج مناقضة، سنرى أن كثيرًا من الدراسات احتوى على مشكلات منهجية ومشكلات خاصة
باختيار المبحوثين. ومن وجهة النظر الحالية، من الواضح عدم وجود أي أساس لخرافة وجود
آثار سلبية، حتى في حالة الأطفال الثنائيي اللغة الذين توجد لديهم اضطرابات
لغوية.
(١) المشكلات الموجودة في الدراسات السابقة
في عام ١٨٩٠ كتب التربوي وعالم اللغة سايمون إس لوري التقييمَ التالي السلبي
للغاية للأطفال الثنائيي اللغة:
إذا استطاع طفل أو ولد الحياةَ بلغتين في وقت واحد على نحوٍ متساوٍ، فإن
هذا لسوء حظه؛ فإن نموه الفكري والروحي لن يتضاعف نتيجةً لذلك، وإنما
سيُستنزَف نصفه، وسيصعب تحقيق وحدة الفكر والشخصية في مثل هذه
الظروف.
1
وبعد نحو ثلاثين عامًا، أضاف عالِم اللغة الكبير أوتو يسبرسن:
إن الجهد العقلي المطلوب لإتقان لغتين بدلًا من لغة واحدة يقلِّل
بالتأكيد من قدرة الطفل على تعلُّم أشياء أخرى كان من الممكن له ويُفترَض
به تعلُّمها.
2
خلال النصف الأول من القرن العشرين بَدَا أن كثيرًا من الدراسات
يؤكِّد هذه التقييمات القاتمة؛ فتوصَّلت إحدى هذه الدراسات إلى أن الأطفال الثنائيي
اللغة في اللغتين الويلزية والإنجليزية كانت معدلات ذكائهم أقلَّ من معدلات الأطفال
الأحاديي اللغة، وأن هذا الفرق كان يزيد مع مرور كل عام من سن السابعة وحتى سن
الحادية عشرة. واكتشفَتْ دراسة أخرى أن الأطفال الذين يتحدَّثون هاتين اللغتين
نفسيهما (الويلزية والإنجليزية)، تفوَّقَ عليهم الأطفالُ الأحاديو اللغة في اللغة
الإنجليزية في كلٍّ من اختبارات الذكاء الشفوية وغير الشفوية. وأوضحت دراسة ثالثة
أن الأطفال الأحاديي اللغة الذين يتحدثون الإنجليزية فقط، تفوَّقوا على الأطفال
الثنائيي اللغة في الإيطالية والإنجليزية الأمريكية في قياسات العمر
العقلي.
3 إجمالًا، توصَّلت معظم الأبحاث التي أُجرِيت في ذلك الوقت إلى أن
الثنائية اللغوية لها تأثير سلبي على نمو الطفل اللغوي والمعرفي والتعليمي، ولم
تُظهِر إلا أبحاثٌ قليلة عدم وجود أي تأثير أو وجود تأثير إيجابي لها.
لا عجب إذًا أن يتردَّد الآباء في تربية أطفالهم ليصبحوا ثنائيي اللغة، أو أن
يقرِّروا ببساطة عدم فعل هذا. حكى أينار هوجن — الخبير الشهير في مجال الثنائية
اللغوية، الذي نشأ هو نفسه ثنائي اللغة في النرويجية والإنجليزية — عن إصرار
والدَيْه على تنشئته ثنائي اللغة، على الرغم من مثل هذه الآراء السلبية، قائلًا:
أنا ثنائي اللغة منذ فترة طويلة، لكني لم أدرك معنى هذا إلا عندما بدأتُ
قراءة الكتابات عن هذا الموضوع. فدون أن أعلم هذا، كنتُ عرضةً لمخاطر لا
حصرَ لها تتمثَّل في تأخُّر النمو العقلي وضعف القدرات الذهنية والفصام
واللامعيارية والاغتراب، التي من الواضح أنني نجوت من معظمها، حتى إنْ كان
هذا بشقِّ الأنفس. ومع أن والديَّ كانا يعلمان بشأن هذه المخاطر، فقد
استبعداها تمامًا وجعلاني ثنائي اللغة رغمًا عني.
4
في منتصف القرن الماضي، تغيَّر الوضع على نحو مفاجئ إلى حدٍّ ما، واكتشف كثير من
الباحثين أن الثنائية اللغوية، في النهاية، ميزة حقيقية لدى الطفل. وتعبِّر دراسة
كبرى أجرَتْها إليزابيث بيل ووالاس لامبرت عن الأبحاث التي أُجرِيت في هذه الفترة.
اختارت بيل ولامبرت مجموعة من الأطفال في سن العاشرة من ست مدارس كندية فرنسية في
مونتريال، وقارنَا الأطفالَ الثنائيي اللغة في الفرنسية والإنجليزية بالأطفال
الأحاديي اللغة في الفرنسية، في مجموعة من الاختبارات. حصل الأطفال الثنائيو اللغة
على درجات أعلى في اختبارات الذكاء الشفوية وغير الشفوية. كما أظهرت الاختبارات
الفرعية أن لدى الأطفال الثنائيي اللغة أشكالًا أكثر تنوُّعًا من الذكاء ومرونةً
أكبر في التفكير، تتمثَّل في مزيد من المرونة المعرفية والإبداع والتفكير
التباعُدي. بالإضافة إلى ذلك، كان الطلاب الثنائيو اللغة أكثرَ تفوُّقًا في المهام
الدراسية في المدرسة، كما أن سلوكياتهم تجاه الطلاب الكنديين الذين من أصل إنجليزي
كانت أكثر إيجابيةً من سلوكيات نظائرهم الأحاديي اللغة في اللغة الفرنسية.
5 وبعد بضع سنوات، استعرض كلٌّ من ميريل سوين وجيم كومينز الدراسات التي
أُجريت في هذا المجال، وتوصَّلَا إلى استنتاج أن الثنائيي اللغة تكون لديهم حساسية
أكبر تجاه العلاقات الدلالية بين الكلمات، ويكونون أكثر تفوقًا في فهم تخصيص
الأسماء الاعتباطي للأشياء، وتكون لديهم قدرةٌ أفضل على التعامل تحليليًّا مع تركيب
الجُمَل، وحساسيةٌ اجتماعية أكبر، وقدرةٌ أكبر على التفاعُل بمرونة أكثر مع التقييم
المعرفي، ويكون أداؤهم أفضل في تأدية مهام اكتشاف القواعد، ويتمتعون بقدرٍ أكبر من
التفكير التباعُدي.
6
كيف لنا أن نفسِّر هذا التناقض بين نتائج الأبحاث التي أُجرِيت في النصف الأول من
القرن العشرين، وتلك الخاصة بالأبحاث التي أُجرِيت في النصف الثاني منه؟ وما الذي
يمكن للآباء وغيرهم من الذين يتعاملون مع الأطفال الثنائيي اللغة استنتاجه من كل
هذا؟ نحن نعلم الآن أن إحدى المشكلات الرئيسية في تفسير نتائج الدراسات السلبية
والإيجابية تكمن في التأكُّد من أن المجموعات التي أُجرِيت عليها الدراسة (من
الثنائيي اللغة والأحاديي اللغة) كانت قابلةً بالفعل للمقارنة من كافة الجوانب،
بعيدًا عن ثنائيتهم أو أحاديتهم اللغوية؛ فإن الدراسات المبكرة التي غالبًا ما كانت
تشتمل على اختبار معدل الذكاء، والتي اكتشفت انخفاضَ درجات معدل الذكاء لدى
الثنائيي اللغة، لم تهتم بالقدر الكافي بالفروق بين المشاركين في الجنس والعمر
والخلفية الاجتماعية والاقتصادية وفرص التعليم. بالإضافة إلى ذلك، لم يتضح كيف
اختار الباحثون عيناتهم الثنائية اللغة، وما إذا كانت تلك العينات تجيد اللغة التي
تُختبَر فيها بما يكفي. وإذا لم تكن تجيدها، فلا عجب إذًا من انخفاض مستوى أدائهم
نظرًا لأن معظم الاختبارات، بما في ذلك اختبارات معدل الذكاء، تتطلَّب فهمًا جيدًا
لِلُّغة المستخدَمة.
على الرغم من أن الدراسات التي أُجرِيت في النصف الثاني من القرن العشرين شهدت
ضبطًا لمثل هذه العوامل على نحوٍ أكبر، فربما وقف التحيُّز في صف الثنائيي اللغة في
هذا الوقت (تذكَّرْ أن نتائج الدراسات اللاحقة كانت لصالح الثنائيي اللغة). يذكر
جيه ماكناب مشكلتين في دراسة بيل ولامبرت؛ الأولى أن الطلاب الثنائيي اللغة لديهم
ربما كانوا ينتمون إلى أُسَر أكثر انفتاحًا على الثقافات المختلفة، وأكثر استعدادًا
لخوض تجارب جديدة؛ بالإضافة إلى احتمال كونهم طلابًا «أكثر ذكاءً» من البداية. أما
المشكلة الثانية فتتعلق بطريقة اختيار الطلاب المشاركين في مجموعة الثنائيي اللغة؛
فقد كان هناك معيار صارم للغاية لدى بيل ولامبرت، فلا بد أن يكون المشاركون من
الثنائيي اللغة المتوازنين؛ بمعنى، الذين لديهم إجادة متساوية لِلُّغتين؛ لذلك
استبعدوا كثيرًا من المشاركين ولم يتركوا إلا «الأفضل». لا عجب إذًا أن يكون أداء
المجموعة جيدًا.
7
أشار سوين وكومينز في دراستهما في عام ١٩٧٩ إلى أن النتائج الإيجابية كانت ترتبط
عادةً بأطفال ينتمون إلى المجموعة التي تتحدَّث لغة الأغلبية، التي شارك أعضاؤها في
برامج الانغماس اللغوي، بينما ظهرت النتائج السلبية مع طلاب يتحدثون لغة الأقلية
ولم تكن ثنائيتهم اللغوية تُقدَّر، وكانوا لا يعيشون في بيئة اجتماعية تحثُّ على
التعلُّم.
8 عندما انتهيتُ من فحصي للكتابات الموجودة عن آثار الثنائية اللغوية
التي ظهرت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، من أجل كتابي «الحياة مع لغتين»،
أشرتُ إلى أن الثنائية اللغوية في حد ذاتها لا يوجد لها مثل هذا التأثير الكبير —
سواء أكان الإيجابي أم السلبي — على النمو المعرفي والعقلي للأطفال. وقد استشهدتُ
باختصاصي علم اللغة التطبيقي باري ماكلوكلين، الذي كتب يقول إن نتائج الأبحاث عن
آثار الثنائية اللغوية إما ثبت خطؤها من قِبَل أبحاثٍ أخرى، وإما يمكن التشكيك فيها
بناءً على المنهجية المتبعة. وكانت النتيجة الوحيدة التي اعترف بها هي أن إتقان
اللغة الثانية يشكِّل فرقًا إذا خضع الطفل إلى الاختبار في هذه اللغة؛ فإذا كانت
لدى الطفل معرفة جيدة بهذه اللغة، فإن النتائج ستكون جيدة، وإنْ لم يكن كذلك، فإن
النتائج لن تكون جيدة؛ وقال ماكلوكلين: «وهذا ليس اكتشافًا مفاجئًا.»
9
(٢) ما الوضع اليوم؟
في أثناء إعدادي لهذا الكتاب، كنتُ مهتمًّا بمعرفة إلى أين أخذتنا الكتابات
الخاصة بآثار الثنائية اللغوية؛ فاتصلتُ بأشهر اختصاصية في هذا المجال، الاختصاصية
الكندية في علم اللغة النفسي التطوري إلين بياليستوك، وتفضَّلَتْ بلطف وأطلعَتْني
على آخِر المستجدات، وأرسلت لي أحدث الأبحاث لقراءتها.
10 ففي الوقت الحالي لم تَعُدِ النتائج قاطعةً مثلما كانت في الأبحاث
السابقة؛ فلم تكن إيجابيةً بالكامل ولا سلبيةً بالكامل، وأصبحت الفروق بين الثنائيي
اللغة والأحاديي اللغة، إنْ وجدت، ترتبط عادةً بمهام معينة وأحيانًا تكون غير واضحة
على الإطلاق.
أثبتَتْ بياليستوك مرارًا وتكرارًا
أن الثنائية اللغوية تعزِّز القدرة على حل المشكلات، عندما تعتمد الحلول بشدة على
التحكم في الانتباه (فهي تتحدَّث عن «الانتباه الانتقائي» و«ضبط الاستجابة») لأن
هذه المهمة تحتوي على معلومات مضللة؛ على سبيل المثال: في دراسة أجرتها مع ليلي
سينمان، عرضتا مجموعة من الأشياء المختلفة على أطفال أحاديي اللغة وثنائيي اللغة
تتراوح أعمارهم بين سن الرابعة والخامسة. كان من بين هذه الأشياء قطعة من الإسفنج
تبدو مثل الصخرة (أطلقتا عليها اسم الصخرة الإسفنجية)، وضعتا هذا الشيء على طاولة
وقالتا للأطفال: «انظروا ماذا لدينا! هل تستطيعون أن تقولوا لنا ما هذا؟» أجاب معظم
الأطفال الإجابة الصحيحة وقالوا إنها صخرة، ثم أظهرت الباحثتان السِّمَة الخفية في
هذا الشيء؛ حقيقة كونه قطعةً من الإسفنج، وطرحتا المزيد من الأسئلة؛ فطرحتا بعض
الأسئلة عن الشكل (على سبيل المثال: «ما الذي ظننتم عندما رأيتم هذا الشيء لأول
مرة؟») وسؤالًا عن حقيقته «ما طبيعة هذا الشيء؟» كان هذا السؤال الأخير الأصعب على
الأطفال (فقد كانت الإجابة بالطبع: «قطعة إسفنج»)، بسبب ضرورة تجاهل أو تثبيط
السمات الحسية لهذا الشيء (فقد كان شكله يشبه الصخرة). اكتشفت بياليستوك وسينمان أن
الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة كانت إجاباتهم متشابهة على الأسئلة
المتعلقة بالشكل، لكن الأطفال الثنائيي اللغة حقَّقوا نتائج أكيدة أفضل من الأطفال
الأحاديي اللغة في الأسئلة المتعلقة بطبيعة الأشياء. فسَّرَتِ الباحثتان هذا
الاختلاف باقتراح أن الأطفال الثنائيي اللغة أكثر تطورًا من الأطفال الأحاديي اللغة
في نموِّ ضبط الاستجابة لديهم.
11
تحدثتُ في موضع سابق من هذا الكتاب عن دراسة أخرى أجرتها إلين بياليستوك وزملاؤها
أثبتَتْ أن هذه الميزة تستمر طوال حياة الشخص الثنائي اللغة، وحتى توجد لدى الأشخاص
الثنائيي اللغة الكبار السن.
12 وبناءً على هذا البحث، يبدو أن العمليات التي تتحكم في الانتباه لِلُغة
دون الأخرى، أو لكلتا اللغتين، خلال عملية استخدام اللغة لدى الثنائيي اللغة؛ قد
تكون الوظائف المعرفية نفسها المسئولة عن التحكم في الانتباه لأية مجموعة من
الأنظمة أو المثيرات، كما ظهر في دراسات بياليستوك.
أحد المجالات الأخرى في الثنائية اللغوية لدى الأطفال التي خضعت للدراسة على نطاق
واسع، والذي يقع بين الإدراك واللغة، يتعلق بالقدرات الميتا لغوية. يتعامل هذا
المجال مع قدرتنا على تحليل الجوانب المختلفة لِلُّغة (الأصوات والكلمات وتركيب
الجمل ومعاني الكلمات والجمل وما إلى ذلك)، والوصول عند الحاجة إلى هذه الخصائص
والحديث عنها. توصَّلَ الاختصاصيون بعلم اللغة النفسي إلى عدة مهام ميتا لغوية
تتطلَّب عمليات مختلفة، تميِّز بياليستوك بين اثنتين من هذه العمليات؛ تحليل البنى
التمثيلية والتحكم في الانتباه الانتقائي، واكتشفت وجود اختلافات بين الأحاديي
اللغة والثنائيي اللغة في العملية الثانية؛ الانتباه الانتقائي (كما اتضح من
الدراسة المذكورة أعلاه)، لكنْ ليس في العملية الأولى.
13 وسأتحدَّث فيما يلي عن هاتين العمليتين، كل على حدة.
تتمثَّل العملية الأولى، تحليل البنى التمثيلية، في القدرة على تكوين صور ذهنية
بمزيد من التفصيل والبنية أكثر من التي توجد كجزء من المعرفة الضمنية المبدئية
للمرء. تُستخدَم هذه العملية عند شرح الأخطاء النحوية الموجودة في إحدى الجمل، أو
استبدال وحدة صوتية بأخرى، مثلما يحدث عندما نستبدل بالصوت الأول في كلمة
cat (قطة) الصوتَ الأول في كلمة
mop (ممسحة)، فتصبح لدينا الكلمة
mat (بساط). في مثل هذه المهام يحقِّق الأطفال
الأحاديو اللغة والثنائيو اللغة نتائج مشابِهة.
أما العملية الثانية، وهي التحكم في الانتباه الانتقائي، فتكون مسئولة عن توجيه
الانتباه نحو جوانب معينة من مثيرٍ أو صورةٍ ذهنية، كما رأينا من قبلُ. تخبرنا
بياليستوك بوجود حاجة إلى مثل هذا التحكم عندما تشتمل المشكلة على وجود صراع أو
غموض؛ فيتطلب الوصول إلى الحل الصحيح انتباه الأطفال (والكبار) إلى أحد التمثيلين
المحتملين، مع تثبيط أو مقاومة الانتباه إلى التمثيل الآخَر. إليك بعض الأمثلة على
المهام التي تُطلَب من الأطفال وتتطلَّب التحكم في الانتباه الانتقائي: عد الكلمات
الموجودة في جملة صحيحة، واستخدام اسم جديد (أو مبتكر) لشيءٍ ما في إحدى الجُمَل
(مثل استبدال كلمة
wood بكلمة
plane في جملة
the plane is
flying past (الطائرة تطير بجانبنا))، والحكم على جملةٍ مثل
apples grows on noses (التفاح ينمو على
الأنوف) بأنها صحيحة نحويًّا على الرغم من احتوائها على انحراف في المعنى. تقول
إلين بياليستوك إن الأطفال الثنائيي اللغة يكون أداؤهم أفضل من نظرائهم الأحاديي
اللغة في هذه الأنواع من المهام.
14
بالإضافة إلى هذه المهام المعرفية والميتا لغوية، استُخدِمت كذلك بعض الاختبارات
اللغوية، خاصة اختبارات المفردات، في دراسات لمقارنة الأطفال الثنائيي اللغة
والأحاديي اللغة. (لاحِظْ أن ثمة جوانب لغوية أخرى من الثنائية اللغوية، مثل: سيادة
لغة، و«الخلط» بين اللغات، والتداخل، واختيار اللغة، والتبديل اللغوي؛ قد تحدثنا
عنها بالفعل في الفصل السادس عشر.) وعند تقييم المعرفة بالمفردات لدى الأطفال، يكون
هذا عادةً عبر اختبارات للمفردات الشائعة يتوجب فيها على الطفل اختيار صورة، من بين
عدة صور، تعبِّر عن كل كلمة يذكرها القائم بالتجربة. استعرضت إلين بياليستوك
وزميلتها جاوزي فينج عددًا من الدراسات التي استخدمت مثل هذه الاختبارات، ووجدتا أن
أداء الأطفال الثنائيي اللغة يكون أقل في هذه المهمة من الأطفال الأحاديي اللغة.
يرجع هذا إلى أن المفردات التي توجد لديهم في كل لغة تكون عادةً أقل من الموجودة
لدى الأحاديي اللغة. بالطبع عندما يُقيَّم الأطفال الثنائيو اللغة في كلتا اللغتين،
فإن الوضع يتحسن كثيرًا، لكن إذا نظرنا إلى لغة واحدة فقط، فسنجد عادةً
اختلافًا.
15 ومع ذلك، لا يُعتبَر هذا أمرًا مفاجئًا؛ فهذا يشير إلى بدء تأثُّر
الأطفال الثنائيي اللغة بمبدأ التكامل، الذي ينص على أن الثنائيي اللغة عادةً ما
يكتسبون لغاتهم ويستخدمونها لأغراض مختلفة، وفي مجالات حياتية مختلفة، ومع أشخاص
مختلفين؛ لأن الجوانب المختلفة من حياتهم تتطلَّب عادةً استخدامَ لغات مختلفة.
للأسف لا تضع اختبارات المفردات هذا المبدأ في اعتبارها، ومن ثَمَّ تعاقب نتائج هذه
الاختبارات الأطفال الثنائيي اللغة؛ ومع ذلك، أظهرت الباحثتان عدم وجود فرق في
المهام اللغوية الأخرى، خاصة تلك التي تستدعي استخدام الذاكرة، بين الأحاديي اللغة
والثنائيي اللغة.
تلخص بياليستوك وفينج الأبحاث الحديثة عن آثار الثنائية اللغوية على النمو
المعرفي للأطفال الثنائيي اللغة كما يلي:
إن الصورة التي تتضح لنا من مراجعة هذه الدراسات هي صورة معقدة للتفاعلات
التي تحدث بين الثنائية اللغوية واكتساب المهارات، تُظهِر أحيانًا وجودَ
ميزاتٍ للأطفال الثنائيي اللغة، وعيوبٍ أحيانًا أخرى، وأحيانًا لا يكون لها
أي تأثير على الإطلاق.
16
وهذا وصف رائع للصورة الآخذة في التعقيد للفروق التي تكون عادةً
غير واضحة بين الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة، هذا في حال وجود
فروق.
(٣) الأطفال الثنائيو اللغة واضطرابات اللغة
تذكِّرنا عالمة اللغة واختصاصية التخاطب سوزان دوبكا بوجود احتمال معاناة نحو ١٠
في المائة من الأطفال من صعوبات في تطوُّر اللغة، وتؤكِّد على أن هذه النسبة تنطبق
على «كلٍّ» من الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة. توجد أسباب كثيرة لحالات
التأخر اللغوي واضطرابات اللغة، لكنها تؤكد على أن الثنائية اللغوية ليست أحدها؛
فتقول دوبكا إن هناك عددًا من الأمور في لغة الطفل الأقوى قد تشير إلى أن لديه
اضطرابًا لغويًّا. من بين هذه الأمور، نجد عدم القدرة على فهم الكلمات المألوفة أو
اتباع التعليمات المناسبة مع سن الطفل، ووجود صعوبة في إنتاج الكلمات أو العبارات
أو تعلُّمها، واستخدام اللغة بطريقة غريبة، وحدوث تأخُّر في مجالات نموٍّ أخرى،
ووجود مشكلات سلوكية متعددة، وما إلى ذلك. تصرُّ دوبكا على أن إيقاف استخدام لغة
المنزل لا يحسِّن قدرات الطفل الثنائي اللغة في لغة الأغلبية (لغة المدرسة)؛ على
العكس، فقد تكون له آثارٌ أخرى قد تضرُّ بالطفل وبيئته؛ ومن ثَمَّ، إذا نشأ الطفلُ
ثنائيَّ اللغة، فلا يجب إدخال أي تغيير على اللغات التي يستخدمها، على الرغم من
الفكرة السائدة الخاطئة، التي ما زال بعض المختصين يروِّجون لها، بأن الاضطراب
اللغوي لدى الطفل سيتحسَّن إذا جعله والداه يستخدم لغةً واحدة فقط. تقول دوبكا
بوضوح:
لا تسبِّب الثنائية اللغوية أي نوع من الاضطراب اللغوي، ولا يعمل
التحوُّل إلى استخدام لغة واحدة فقط على تحسين الاضطراب اللغوي.
17
إن عدد الأطفال الثنائيي اللغة المصابين باضطرابات لغوية ليس أكبر من عدد نظائرهم
الأحاديي اللغة؛ ليس هذا فحسب، وإنما تتشابه أيضًا عادةً الصعوباتُ التي يتعرَّض
لها كلا الطرفَيْن. درست اختصاصية علم اللغة النفسي يوهان باراديس وزملاؤها
الأخطاءَ التي ارتكبها أطفالٌ ثنائيو اللغة وأحاديو اللغة يبلغون من العمر سبع
سنوات ومصابون باضطراب يُسمَّى «اضطراب اللغة المحدد»، واكتشفوا وجود أنماط الخلل
نفسها لدى المجموعتين. يتمتع الأطفال المصابون بهذا الاضطراب بنموٍّ اجتماعي وعاطفي
طبيعي، بالإضافة إلى قدرات حسية وحركية طبيعية، لكن قدراتهم اللغوية تكون أقلَّ من
المتوقَّع لها بالنسبة إلى أعمارهم؛ فهم يتمتعون بالذكاء والصحة في كل مجالٍ
باستثناء الصعوبات التي يعانون منها مع اللغة. فحصت الدراسةُ الأخطاءَ في صيغة
الفعل التي ارتكبها هؤلاء الأطفال (على سبيل المثال:
The teddy
“want” juice (الدبدوب يريدون عصيرًا)، أو
Brendan “bake” a cake last night (يخبز برندان
كعكة البارحة))، واكتشفت أن المعرفة بلغتين الموجودة لدى الأطفال الثنائيي اللغة
المصابين بهذا الاضطراب، لم تجعل أنماطَ الأخطاء لديهم تختلف عن الموجودة لدى
نظرائهم من الأطفال الأحاديي اللغة. استنتج الباحثون أن تعلُّمَ لغتين لا يبدو أنه
يتعارض مع المسار العام لاكتساب اللغة، حتى في ظروف وجود اضطراب لغوي.
18 وفي بحث لاحق قامت به باراديس قالت إن البحث المشار إليه آنفًا الذي
أجرته مجموعتها، لم يعثر على دليل علمي يدفعهم إلى نصح الآباء بالتخلي عن الحديث
بإحدى لغتَيْهم مع الطفل الذي يعاني من اضطراب اللغة المحدد (خاصةً إذا كان الطفل
يكتسب لغتين في وقت واحد).
19