تطوُّر اللغات عند الشخص الثنائي اللغة على مدى حياته
أكدتُ في الفصل الثاني على أهمية وضع التاريخ اللغوي للأشخاص الثنائيي اللغة في الاعتبار. فمن أجل فهم معرفة الشخص الثنائي اللغة بما لديه من لغات واستخدامه لها، لا بد أن نعرف، مثلًا، اللغات والمهارات اللغوية التي اكتسبها، بالإضافة إلى وقت وكيفية اكتسابها؛ فهل اكتسب هذه اللغات كلها في وقت واحد — وهو أمر نادر جدًّا — أم أنه اكتسبها واحدة تلو الأخرى؟ يجب أن نعرف أيضًا نمط الطلاقة اللغوية واستخدامها على مر السنين. ومن ثَمَّ تكون دراسةُ ازدهارِ اللغات وضعفِها على مدى حياة الفرد، التي قد تشتمل تعلُّمَ لغات جديدة ونسيان لغات قديمة، جزءًا مهمًّا للغاية في فهم الشخص الثنائي اللغة.
(١) ازدهار اللغات وضعفها
في الشبكة الأولى، نرى أني في سنوات عمري الأولى (في سن السابعة) كنت أحادي اللغة في اللغة الفرنسية (اللغة الأولى). إنها اللغة الوحيدة الموجودة في الشبكة، وهي توجد في المربع العلوي على اليمين؛ ما يعبِّر عن استخدامها يوميًّا وبطلاقة عالية (بالنسبة إلى طفل في هذا العمر بالطبع). وفي سن الثامنة التحقتُ بمدرسة داخلية إنجليزية في سويسرا، ثم التحقتُ بمدرسة مماثلة في إنجلترا؛ ومن هنا ظهرت اللغة الإنجليزية (اللغة الثانية) في الشبكة الثانية، والتي أصبحت سريعًا لغتي الأقوى. اكتسبتُ اللغة الإيطالية أيضًا خلال الشهور التي قضيتها في إيطاليا في الإجازات المدرسية؛ لذا نرى في الشبكة الثانية (سن السابعة عشرة) أن الإنجليزية هي أكثر لغة مستخدَمة وأكثر لغة أجيدها. نادرًا ما كنتُ أستخدم اللغة الفرنسية في هذا الوقت، وكان مستوى طلاقتي فيها متوسطًا؛ فقد كنتُ أستخدم الإيطالية أكثر من الفرنسية، لكني لم أكن أجيد الإيطالية بالقدر نفسه الذي أجيد به الفرنسية.
في سن الثامنة عشرة تعرَّضتُ لثاني أكبر تغيُّر لغوي في حياتي؛ فقد تركتُ إنجلترا وعدتُ إلى فرنسا بعد غيابٍ دام عشر سنوات، وبين عشية وضحاها أصبحَتِ اللغة الفرنسية أهمَّ لغةٍ بالنسبة إليَّ (على الرغم من مرور عدة سنوات حتى تحسُّن مستوى طلاقتي فيها)، وأصبحت الإنجليزية أقل استخدامًا؛ لذا نرى في الشبكة الثالثة (سن السابعة والعشرين) أن اللغة الفرنسية عادت مرةً أخرى إلى المربع الأيمن العلوي، وانخفضت اللغة الإنجليزية في مستوى الطلاقة والاستخدام على وجه الخصوص. أما فيما يتعلَّق باللغة الإيطالية، فلم تكن مستخدمةً على الإطلاق؛ ومن ثَمَّ انخفض أيضًا مستوى طلاقتي فيها.
حدث تغيُّران لغويان آخَران في حياتي بعد هذا. عندما كنتُ في الثامنة والعشرين انتقلتُ مع أسرتي إلى الولايات المتحدة لنقيم فيها سنةً، وانتهى الأمر بإقامتنا فيها اثني عشر عامًا. تُظهر الشبكة الرابعة (في سن التاسعة والثلاثين) حالتي اللغوية في نهاية هذه الفترة، قبل عودتي مباشَرةً إلى أوروبا. عادت الإنجليزية مرةً أخرى إلى وضعها في المربع العلوي الأيمن، وانخفضت الفرنسية قليلًا في مستوى الطلاقة وانخفض استخدامها أكثر، وظلت الإيطالية في مكانها. في خلال هذه الفترة، حصلتُ على ميزة اكتشافِ لغةٍ مميزة وتعلُّمها، وهي لغة الإشارة الأمريكية، وهي اللغة التي يستخدمها الصُّمُّ في الولايات المتحدة من أجل التواصُل فيما بينهم، ومع أعضاء مجتمع لغة الإشارة في العالَم أجمع. مع الأسف لم يصبح مستوى طلاقتي في لغة الإشارة الأمريكية عاليًا قطُّ، ولم أستخدمها كثيرًا (في العمل غالبًا)، وهو ما يفسِّر موقعها على اليسار في أسفل الشبكة.
وأخيرًا، عندما أصبحتُ في الأربعين من عمري، عدتُ إلى أوروبا مع أسرتي (إلى المنطقة التي تتحدَّث بالفرنسية في سويسرا)، ومرةً أخرى تغيَّرَ ترتيبُ اللغات. تعبِّر الشبكة الأخيرة، التي توضِّح وضع لغاتي منذ بضع سنوات (سن الستين)، عن حالتي اللغوية الحالية؛ إذ أصبح مستوى طلاقتي عاليًا في لغتين، هما الفرنسية والإنجليزية، وتُستخدَم الأولى أكثر بقليل من الثانية، وتوجد لغتان لا أستخدِمهما على الإطلاق، هما الإيطالية ولغة الإشارة الأمريكية، ويزيد مستوى طلاقتي قليلًا في الإيطالية عنه في لغة الإشارة الأمريكية.
توجد بعض التعليقات العامة التي يمكن استنتاجها من تاريخي اللغوي. (لقد حافظتُ على التعامُل مع الأمر كحقائق من أجل شرح المراد من هذا الفصل، لكنها بالطبع كانت تجربةً إنسانيةً للغاية بكل تقلُّباتها، خاصةً في سن الثامنة عشرة، لكن هذه قصة أخرى.) أولًا: وكما يمكن أن نلاحظ، قد يكون التاريخُ اللغوي للفرد شديدَ التعقيد؛ وفي حالتي نتج هذا عن الهجرات المتكررة. وقد يكون التاريخُ اللغوي لآخَرين من الأشخاص الثنائيي اللغة أكثر بساطةً من هذا (على سبيل المثال: الذين يعيشون على حدود لغوية أو في دول متعددة اللغات)، لكن مع هذا قد تغيِّر الأحداث الحياتية الأهميةَ النسبية للغاتهم؛ أحداث مثل الالتحاقِ بالمدرسة (وتعلُّم القراءة والكتابة بلغة واحدة أو عدة لغات)، أو الحصولِ على وظيفة، أو الاستقرارِ مع شريك الحياة، أو فقدان أحد أفراد الأسرة المقرَّبين الذي كنتَ تستخدم معه فقط إحدى اللغات.
ثانيًا: نرى أن هذه عمليةٌ ديناميكية تتطلَّب فيها المواقفُ الجديدة وأطرافُ الحوار الجدد والوظائفُ اللغوية الجديدة احتياجاتٍ لغويةً جديدة (تذكَّرْ مبدأَ التكامل). فالاحتياجات الجديدة ستغيِّر التكوين اللغوي للشخص الثنائي اللغة. عادةً توجد فتراتٌ من الاستقرار، تتفاوت مدتها، ثم تأتي فتراتٌ من إعادة الترتيب اللغوي قد تقوى خلالها إحدى اللغات الموجودة، وربما تفقد لغةٌ أخرى أهميتَها، بينما قد تُكتسَب لغةٌ جديدة، وهكذا. ويجب أن ينتبه المرء إلى عدم الحكم على الثنائية اللغوية للفرد في أثناء هذه الفترات الانتقالية؛ إذ قد لا تكون المهارات اللازمة للبيئة الجديدة قد تطوَّرت بعدُ بالكامل. وفي خلال هذه الفترات أيضًا يحتاج الأشخاصُ الثنائيو اللغة إلى التأكُّد ممَّا يحدث لهم؛ فحتى إنْ تأثَّرَ مستوى التواصُل العام لديهم لبعض الوقت، فإنه سيتعافى بمجرد إعادة ترتيب لغاتهم.
ثالثًا: تُظهِر الشبكات الموجودة في الشكل بوضوح كيف يمكن أن تتغيَّر السيادةُ العامة لإحدى اللغات، وأن اللغة الأولى للأشخاص الثنائيي اللغة لا تكون تلقائيًّا اللغةَ الأقوى في نقطة زمنية معينة. في حالتي تغيَّرت اللغة السائدة أربع مرات وكانت توجد فترتان، تبلغ كلٌّ منهما نحو عشر سنوات، أصبحت فيهما لغتي الثانية هي اللغة السائدة. وأنا أعرف كثيرًا من الأشخاص الثنائيي اللغة الذين بدءوا حياتَهم بلغة واحدة هي اللغة السائدة لديهم، ثم في نقطة معينة، بعد إحدى المراحل الانتقالية، وجدوا أن لغتهم الثانية قد حلَّتْ محلَّها. ومن ثَمَّ، يجب أن ينتبه المرء إلى عدم اعتبار اللغة الأولى للأشخاص الثنائيي اللغة، أو لغتهم الأم، هي اللغة الأقوى والأساسية؛ فالأمر يعتمد في الحقيقة على التاريخ اللغوي للفرد، وعلى مبدأ التكامُل، كما رأينا. وأخيرًا، تساعد دراسة التاريخ اللغوي للأشخاص الثنائيي اللغة على التصدِّي لفكرةٍ خاطئةٍ أخرى، وهي:
يمكن أن يصبح المرء ثنائي اللغة في مرحلة الطفولة، لكن يمكنه أيضًا أن يصبح كذلك في مرحلة المراهقة وعندما يصير بالغًا. في الواقع يصبح كثير من الناس ثنائيي اللغة عندما يصبحون بالغين، بعد هجرتهم إلى منطقة أخرى أو دولة أخرى، أو بسبب زواجهم من شخص يتحدَّث لغةً أخرى تصبح هي المستخدَمة في المنزل. بمرور الوقت، يمكن أن يصبح البالغون ثنائيي اللغة تمامًا مثل الذين يكتسبون لغاتهم في سنوات عمرهم الأولى، على الرغم من أن بعضهم قد يفتقر إلى لكنة المتحدثين الأصليين لهذه اللغات.
(٢) نسيان اللغة
إن نسيان اللغة ظاهرةٌ شائعة للغاية مثل تعلُّم اللغة، ومع ذلك لم تحظَ في الماضي إلا باهتمام قليل. إلا أن هذا الوضع يتغيَّر حاليًّا بفضل أبحاث باحثين مثل مونيكا شميد وباربرا كوبكه وكيس دي بوت، وغيرهم. فعندما تقل مجالات استخدام إحدى اللغات على نحوٍ كبير، إن لم تختفِ ببساطة، فإن عملية نسيان اللغة ستبدأ، وستستمر على مدى عدة سنوات. يمكن ملاحظة هذه العملية بطرق شتى؛ في الاستخدام المتردِّد لِلُّغة عندما يبحث ثنائي اللغة عن الكلمات أو التعبيرات المناسبة، وفي تكرار حالات التبديل اللغوي والاقتباس والتداخل واستدعائه للغة السائدة لمساعدته، وفي النطق (الأصوات والنبر) الذي يميز بشدة اللغة أو اللغات الأخرى، وفي التعبيرات والتراكيب النحوية «الغريبة» المقتبسة من اللغة الأقوى، بالإضافة إلى كثير من الصعوبات في الكتابة، ليس فقط في التهجئة، ولكن أيضًا على المستويات اللغوية الأخرى. لا يتأثَّر فهم اللغة كثيرًا، على الرغم من أن الفرد قد لا يكون على دراية بالكلمات الجديدة والتعبيرات الدارجة في اللغة المنسية. يُطلَق على الأشخاص الذين يخوضون عملية نسيان اللغة الممتدة هذه، والذين يستخدمون لغة واحدة فقط؛ اسم «الثنائيي اللغة الخاملين». فهم عادةً ما يتجنبون استخدام اللغة التي هي في طريقها للنسيان؛ لأنهم لم يعودوا يثقون في معرفتهم بها، ولا يريدون ارتكاب الكثير من الأخطاء. وإذا تحتم عليهم استخدامها، فإنهم قد يختصرون الحوار حتى لا يضطروا إلى إظهار مقدار التآكُل الذي وصلَتْ إليه تلك اللغة لديهم صراحةً. أنا شخصيًّا أحاول ألا أستخدم اللغة الإيطالية أو لغة الإشارة الأمريكية، وإذا وجدتُ نفسي في موقفٍ لا يوجد فيه أي خيار آخَر أمامي، فإني أجد نفسي أعاني من أجل التعبير حتى عن أبسط الأشياء؛ فأعتذر طوال الوقت، وأعلِّق على مدى سوء معرفتي بإحدى اللغات، وأرتكِز متى استطعتُ على لغتي الأخرى، أو أطلب من الناس مساعدتي.
على الرغم من أن الناس تشغلهم أمورهم الحياتية، ولا يسعهم التوقف والقلق بشأن اللغة التي ينسونها؛ فإنهم في سياقات معينة، مثلًا عند التحدث مع أناس يتكلمون هذه اللغة، يدركون هذه اللغة «المفقودة»، ويشعر البعض بالذنب تجاه نسيانها؛ ومن ثَمَّ نجد تعليقات مثل: «كان يجب عليَّ بالفعل الحفاظ على هذه اللغة»، أو «أتمنى لو كنت أتحدث هذه اللغة كما كنتُ من قبلُ.» مع هذا، يجب أن نضع في أذهاننا أن نسيان اللغة هو ببساطة الوجه الآخَر لاكتسابها (فكلاهما تحكمه شدة الحاجة إلى إحدى اللغات)، وهما من الأمور اللغوية المثيرة للاهتمام. إلا أن المواقف من كل منهما مختلفة للغاية؛ فبينما ينظر الناس إلى اكتساب اللغة نظرةً إيجابية («أوه، إنك تتعلَّم الإسبانية، هذا رائع»)، فإن نسيان اللغة لا يتحدث عنه الناس بالطريقة نفسها، وعادةً ما يتعرَّض الذين يفقدون إحدى اللغات إلى الشعور بالذنب، إن لم يكن الندم. وربما تزيد حدة هذه المشاعر إذا كان اسم الشخص مرتبطًا باللغة التي ينساها؛ ومن ثَمَّ، فإن الشخص الأمريكي من أصل إيطالي ذا الاسم الإيطالي، قد يجد نفسه مُطالَبًا بشرح أسباب ضياع لغته الإيطالية التي لم يَعُدْ يستخدمها على الإطلاق، والتحسُّر على ذلك.
(٣) الثنائية اللغوية وكبار السن
يتمثَّل تفسير الباحثين للميزة الموجودة لدى الأشخاص الثنائيي اللغة الكبار السن، في أن الحاجة إلى إدارة نظامين لغويين مفعَّلين في وقت واحد، والتلاعُب بالانتباه بحيث يُوجَّه لإحدى اللغتين، أو لكلتيهما، خلال عملية استخدام اللغة، تُسَد باستخدام الوظائف التنفيذية (الإدراكية) العامة نفسها المسئولة عن توجيه الانتباه إلى أية مجموعة من النظم أو المثيرات. بعبارة أخرى، إن قضاء فترة طويلة في القيام بأنشطة مثل اختيار اللغة، الذي يجبر الأشخاص الثنائيي اللغة على تفعيل إحدى اللغات وعدم تفعيل اللغة الأخرى (أو حتى ربما كبحها)، على الأقل في الوضع الأحادي اللغة، قد أعطاهم ميزة الانتباه في أنواع المهام التي تتطلَّب من المرء الانتباه إلى إحدى الإشارات (لون المربع) دون الأخرى (موقعه على الشاشة). يبدو أن الأشخاص الثنائيي اللغة لديهم أفضلية في هذا الشأن، ويمكن ملاحظة هذا في الأطفال الثنائيي اللغة أيضًا (الذين سنتحدَّث عنهم في الجزء الثاني من هذا الكتاب).
يبدو أن التقدُّم في العمر بالنسبة إلى الأشخاص الثنائيي اللغة يختلف تمامًا عن الأشخاص الأحاديي اللغة، بكل ما فيه من مميزات وعيوب، ويبدو، مع ذلك، أن الأشخاص الثنائيي اللغة لديهم بعض المميزات المعرفية الإضافية في صالحهم.