«راجناروك»
بدأ الأمرُ بطيئًا. ذلك حيث هبَّت عواصف ثلجية حادة على حقول الشوفان والشعير التي حانَ وقتُ حصادها. كان الجليد يُغطِّي بِرَك المياه الصغيرة في الليل، حين كان قمر الحصاد، المُكتمِل أحمر اللون، لا يزال في السماء. غطَّى الجليد أباريق المياه، وهبَّت رياحٌ حادة، تتزايد في شدَّتها ولم تهدأ قط؛ لهذا اعتاد الناس على تغطية رءوسهم وخفضِها. كان هناك محصولٌ وفير من العنب الذي يُغطِّيه الصقيع، لصنع نبيذ «موزيل»، نبيذ الثلج، الذي يُعبأ في براميل. ذبلت خضراوات الشتاء على سيقانها؛ إذ تجمَّدت قبل نضوجِها. كما تساقطت أوراق الأشجار في الأدغال والغابات مُبكرًا، وطارت في دواماتٍ من الرياح الحادة. كان ضوءُ النهار، في البداية، صافيًا وباردًا؛ فكانت كلُّ الأشياء تَلمع، الثلج الذي يُغطِّي آثار العربات في الشارع، ورقاقات الثلج التي تزداد تكدُّسًا على عتبات المنازل والشُّجَيرات، لا تتقلَّص، ولا تذوب، بل تأتي مُندفعة. ثم مع حلول الشتاء أظلمت السماء. وامتلأت بسحب رمادية كثيفة بلَون الحديد مليئة بالثلوج، وأصبح الهواء ذاته مليئًا بالثلوج والبَرَد، وهبَّت دوامات من قطع الجليد. تصلَّب سطح الأرض، وانكمش وصار أكثر كثافةً، ومتجمِّدًا لأعماق سحيقة يصعب على المجارف إزالتها. صار من الصعب انتزاع الخضراوات الجذرية أو إخراجها. وازداد سُمك الجليد على البُحيرات وصارَ يَزحف ببطءٍ على مجاري الأنهار. غاصَت الأسماكُ إلى أعماق كبيرة، فسبَحَت في البداية تحت الألواح الجليدية، ثم انتهى بها الحال في الطين، باردةً ونَحيلة، بالكاد تتنفَّس. خرجَ الرجالُ حامِلين فئوسًا كسَّروا بها الجليد إلى قطع وضعُوها في دلائهم وأخذوها إلى منازلهم لتذوب فيَشربوا منها. في البداية أثار هذا الأمر حماستَهم. فقد كان اختبارًا للقوة. واختبارًا للرجولة. استُبقيَت الماشية بالداخل ومُنعَت الأغنام من الخروج، ما بقيَ منها على قيد الحياة بعد الانجرافات التي اشتد ارتفاعُها ولم تَنحسِر. دخل الدجاج في المنازل، واستلقَت الخنازير بجوار المدافئ. خرج الرجال يَرتدُون أحذية الجليد، وعلى الزلاجات، وعربات التزلُّج، وقطعوا الأشجار لاستخدام خشبِها في إشعال النار، واصطادوا كائنات الغابة التي ازداد دَهاؤها ومَكرُها، مثل الأرانب والأرانب البرية، والغزلان الصغيرة وطيور الحَجَل، والديوك الصغيرة التي تتجمَّد أقدامها على غصون الشُّجَيرات.
كان عليهم البقاءُ على قيد الحياة حتى فصل الربيع. حتى يصير النهار أخيرًا أطول وتذيب الشمسُ الثلجَ والجليد، وتهدأ الرياح، ويُمكن تعريض الجلد للهواء دون أن يتجمَّد من الصقيع.
حلَّ أقصرُ يوم في السنة، فرقَصَ البشر، وخاضوا في الثلوج، وأوقدوا النيران؛ احتفالًا باستقبال العام الجديد وتغيُّر الأجواء.
إلا أنَّ الأجواء لم تتغيَّر كثيرًا. فقد ازداد لونُ السماءِ الرمادية شحوبًا، كان هذا كل ما حدث من تغيير، بينما ظلَّت الأرض والهواء والماء في حالة تجمد.
فبدءوا يَستخدمون أشياء لا يُمكن استعاضتها. ذلك حيث شقوا حَلْق خنزير وقطَّعوا لحمه وجمَّدوه وشَوَوه. وخنقُوا الدجاج الذي لم يكن يضع البيض ونتَفُوا ريشه وسلَقُوه، ولم يكن من المُمكِن استعاضة هذا الدجاج لأنَّ مُعظَم الكتاكيت قد نَفَقَت. أصبح إطعام الأغنام والخيول والحمير يزداد صعوبة أكثر فأكثر؛ بسبب تلف المحاصيل وتجمد الحقول. وأصبحت الشجاعة هي القدرة على الصمود، وزادت الحاجة الماسة إلى الحساء ليتناوله المُحتضَرون.
وفي الخارج، في الشفق الدائم، كانت الذئاب تَعوي وتتجوَّل. فقد كانت جائعةً وغاضبة.
لقد ظنُّوا أن هذا يُشبه حتمًا ما سيحدث عندما يحل «الشتاء العظيم». فقد أصبحت الشمس الكبيرة ذات لونٍ أحمر باهِت، ذاوية وكئيبة، مثل جمرة من نار. كانت تشعُّ القليل من الضوء، وكان الضوءُ الموجود أحمر أو قرمزي اللون كالدماء. لقد اشتاقَت عظامهم وعقولهم إلى ضوءٍ صافٍ، ورياح دافئة، وبراعم مُتفتِّحة، وأوراق خضراء. امتدَّ الشتاءُ إلى عام آخر، وعام بعده. فتجمَّدت البحار، وارتطمت جبال الجليد بالشواطئ، وطَفَت في أنحاء الخلجان. لقد بدءوا يُدركون أنَّ هذا ليس شبيهًا بالشتاء العظيم، بل هو نفسه الشتاء العظيم.
لقد صاروا غُزاة. فاجتاحوا منازل بعضِهم بعضًا، يَصيحون ويزأرون، فيَذبحون الضعفاء، ويُفرِغون المخزون الشحيح من الطعام. كانوا يَشربون ما يَجدونه من نبيذ الميد، ويتجرعون النبيذ كما لو كان الغَدُ لن يأتيَ، وهذا ما بدءوا يعتقدونه بالفعل. فالكائنات الجائعة والبشر الجائعون سيَتناولون أيَّ شيء. أقام الفائزون في المعارك ولائمهم بين الجُثَث النافقة، التي مزَّقتها الوحوش الزاحفة والرابضة. فقد كان بعضُهم يُمسك ببعض ويقعون حول النيران، ويَرتكبون الفاحِشة مع أي الموجودين من البشر أو الجماد. فكانُوا يأكُلُون ويُقَبِّلون ويمضغون ويَبتلعُون ويتقاتلون ويتصارعون وينتظرون نهاية العالم، وهو الأمر الذي لم يحدث بعد. وفي النهاية وصل الحال بهم، بالطبع، إلى أكل بعضهم بعضًا.
ازدادت كثافة الغيوم في السماء أكثر فأكثر. وحملت الرياح نحيب «الديسير» — وهي كائنات أنثوية مجنَّحة أجسامها مغطاة بالجلود — التي جثمت على الجروف الصخرية، تُحدِّق وتصرخ. خرجت «نيدهوج»، الدودة الهائلة التي نخَرَت جذور شجرة «إجدراسيل» لتمتصَّ دم الموتى وهم راقدون في الوحل المتجمِّد. ومن غابة الغليان «كيتلوود»؛ حيث يرقد «لوكي» مُقيَّدًا بين فوارات المياه التي ما زالت تنفث مياهًا ساخنة، تعالت أصوات الذئاب أكثر فأكثر؛ ذئابٌ في الغابة، ذئابٌ تخوض في الثلوج، ذئابٌ بأنياب دامية، ذئابٌ داخل العقل.
إنَّه «زمن الرياح»، «زمن الذئاب»، قبل انهيار العالم.
كان هذا هو زمنهم.
في «أسجارد» خَبا لمَعانُ الذهب، ولكن ما زال من المُمكن تناول الخنزير البري السحري في الليل وبعثه من جديد من أجل الوليمة التالية. كانت جميع أجزاء «إجدراسيل» تهتز، فتساقطت أوراقها، وذبلت أغصانها، لكن بقيت الشجرة واقفة كما هي. نزل «أودين» إلى البئر الموجودة عند جُذورها وتحدَّث مع رأس «ميمير» تحت المياه السوداء العكرة. لم يعلم أحدٌ قط ما عرَفَه «أودين»، ولكنه عاد جامدًا وباردًا. انتظر الجميع. ولم يُحرِّكوا ساكنًا، ولم يُفكِّروا، ربما لم يَستطيعوا أن يُفكِّروا. استلقَت «إدون» ملفوفة داخل جلد الذئاب الخاص بها. لقد ذبل تفاح الشباب وتغضَّن.
وتحت الجليد كانت الأرض تَغلي. فجنوبًا في «موسبلهايم» استعرَتِ النيران الأزلية، وجابت مخلوقات نارية عديمة الملامح، مُلتهبة ومُشتعلة، كما كان حالها دومًا. لكن الآن صارت صخورًا ساخنة، وأمطارًا من رماد حارِق، وأَلسِنةً مُنتشِرة من حمم لامِعة، لونها ذهبي أحمر وتتقاذَف من كل مكان، وتتحوَّل إلى لونٍ أسود باهِت ضاربٍ إلى الحُمرة، تشقُّ طريقها عبر قشرة الأرض الصلبة. ارتفَعَت القبب الحمراء أكثر وأكثر، وهي تَغلي وتزبد، وتُخرِج غازات قاتلة، تسقط على الغابات وتُحوِّلها إلى حطب. أُطلِقَ على مكان تعذيب «لوكي» اسم غابة الغليان «كيتلوود» لأنَّ الصخور التي تُعذِّبه كانت داخل كهف بين فوارات مياه تَغلي. والآن صارت هذه الفوارات تَنفُث المياه بشراسة، فتُخرِج الرماد، وبدأت الأرض نفسها تهتزُّ مثل وحش يُعاني من ألم بالغ، وانكسرت قيود «لوكي» المتحوِّل. فوقفَ يَضحك بين الدخان والبخار وزوبعة من الصخور المتطايرة، وتوجَّه جنوبًا وهو يسير وسط الفوضى. ودخل مُسرعًا في الغابة المقدَّسة حيث كان «فنرير» الذئب مُقيَّدًا، وانفجرت التربة تحت خطواته وفُتحَت، وتلوَّتِ الأشجار وسقطت، أما الحبل السِّحري «جليبنير»، المصنوع من آثار أقدام القطط ولِحى النساء وأنفاس الأسماك وبصاق الطيور، فقد انكمش وتفتَّت. وتثاءب «فنرير» وأخرج السيف من حلقِه الذي ينزف. وهزَّ نفسه فأصدر شعره صوتًا كحفيف النيران. وركضَ الأب والابن بخُطًى واسعة جنوبًا إلى أرض اللهب.
ظهرت شقوق قرمزية اللون تحت وطأة خطواتهما في طبقة الجليد السميكة الملساء. فضحكَ الاثنان. وأصدرا عواءً ممزوجًا بالضحك.
جلسَ حارس «موسبلهايم» عند حدودها. كان اسمه «سورتر»، وهو يعني «الأَسْود». كان يحمل سيفًا ساخنًا، يصعب النظر إليه من شدَّة لمعانه، وأحاطت به دوامة من دخان أسود اللون. فهبَّ واقفًا على قدمَيه، وارتفع إلى أعلى فأعلى، وهزَّ سيفه وصاح، فتحركت حشود «موسبلهايم» وهم يحملون أسلحة بيضاء ساخنة وأدوات لقذف اللهب، وبدءوا المسير.
رآهم «أودين» من مقعده العالي «هيلدسكالف». كانوا يزأرون وهم يتوجَّهون نحو حقل يُدعى «فيجريد»، يمتدُّ مائة فرسخ في كلِّ اتجاه. لقد حانَت اللحظة الحاسمة. إنها بداية النهاية. لقد كان هؤلاء الآلهة يَعيشُون في حالة من الترقب، ينتظرون خوضهم لمواجهة أخيرة. وقف النذير «هايمدال»، ونفخ في البوق العظيم، «بوق جيالار». لقد صُنع هذا البوق مع آخر صرخة عظيمة في العقل. هبَّت الآلهة واقفة وتسلَّحت بالسيوف والدروع والرماح والملابس الواقية، والذهب اللامع، وفعَل مُحاربُو «الإينهيرجار» مثلهم تمامًا. نزل أودين مرةً أخرى وتحدَّث مع رأس «ميمير» في المياه السوداء، التي ازداد لونها سوادًا بسبب السخام المُتساقط عليها، والذي انتشر في كل مكان. اهتزَّت الشجرة الكبيرة وارتعشت. فقد كانت التربة المُرتفعة مُتفكِّكة عند جُذورها. صارت فروعها تتخبط، وانتُزعت أوراقها في العاصفة، وانضمَّت لتيار الهواء الساخن، وبدأت مياه بئر «أورد» تغلي.
تُوجِّه الآلهة نحو جسر قوس المطر «بيفروست»، الذي يربط «أسجارد» و«ميدجارد». كانوا محطَّمِين بالفعل عندما بدءوا في التحرك. فقد خسر «تير» ذراعه بسبب الذئب، وفقدَ «أودين» عينه بسبب «ميمير»، وتخلَّى «فرير» عن سيفه السِّحري، ورأت «سيف»، زوجة «ثور»، شَعرها السحريَّ وهو يسقط بالكامل عن رأسها الذي صار أصلع. وحتى «ثور» نفسه، على حدِّ قول بعض الشعراء، فقَدَ مطرقتَه التي رماها وراء أفعى «ميدجارد». أما «بالدر» فقد خسر حياته. في القصص، توجد طريقتان للفوز في المعارك؛ وهما إما القوة الفائقة، وإما الشجاعة مع أمل بائس. والآلهة لم يتمتَّعوا بأيٍّ من الصفتَين. فقد كانوا شجعانًا وفاسِدين.
ذبلت «إجدراسيل» وتدلَّت، وظلَّت أوراقها العالقة تخفق. وانكمشَت جذورها. وأصبحت أعمدة الماء داخل لحائها مُضطربة وواهنة. ثرثر السنجاب في خوف وتدلَّت رأس الأُيَّل. طارَت الطيور السوداء وابتعدَت في دوائر عن الأغصان متَّجهةً إلى السماء الحمراء.
كان البحر أسود اللون كالبازلت، ومُغطًّى برغوة مُزبِدة، وزبد مُتخثِّر لونه أخضر ثلجي، وجدران عالية مُهتزَّة مليئة بإبر من هواء ترتفع إلى أعلى وأعلى وتسقط لتصطدم بجدران أخرى من الماء على شواطئ العالم المتهاوية.
أُطْلِقَت السفينة في الشرق، وكانت سفينة مَهيبة وجميلة، مصنوعة من مادة طافية وشفافة على نحو باهت؛ ألا وهي أظافر البشر الميتين الصلبة، التي انتُزعت وهي ناتئة، بعدما توقَّف الدم. لقد كانت سفينةَ أشباحٍ بلونِ العظام، فكان لونها رماديًّا مميتًا، كما لو أن جميع أشكال الفوضى العائمة في المياه، التي لا تتعفن ولا تتحلل، قد تجمَّعت والتصق بعضُها ببعض في هذه السفينة المنزلقة. كانت تُدعى «نجلفار». وكان قائد دفَّتها هو العملاق «هريم». تخيَّلتها الطفلة النحيلة بالطبع بحُكم سنِّها الصغيرة مثل قارب شراعي بحبال شَبَحية وراياتٍ خفَّاقة. ثم صارَت تتخيَّلها مثل سفينة ذات جسم طويل وعنقٍ طويلة ومُقدِّمة على شكل تنين، وتهدف إلى الإغارة على السفن الأخرى، ومثل جلد ثعبان ميِّت مصنوع من طبقاتٍ من الحراشِف المُتمثِّلة في أظافر أصابع الأقدام، يَلمع لمعانًا خافتًا. كان يُديرها عمالقة الجليد وعمالقة النار معًا، وانطلقت في سحابة من بُخارٍ يَغلي.
مع تقاذُف قشرة الأرض وغليانها، بدأ غطاءُ البحر يتراقص بجنون، مع اندفاع فوارات المياه وارتطامها بالأمواج، التي كانت مليئة بالجثث الطافية، وأسراب من الأسماك اللامعة النافقة، وجثث الحيتان، وكركدن البحر، والحيتان القاتلة، والسبيدج العملاق، وثعابين البحر، كلُّها تتدافع لأعلى وتُمزق إربًا بفِعل الحرارة والبرودة وقوى الطبيعة الأولية.
ثم ارتفع سطحُ البحر عاليًا خلف مؤخِّرة «نجلفار» كأنه جبل هائل ومُتدفِّق، به شقوق وأخاديد متحرِّكة، تنهمر منه أعشاب بحرية ممزقة وحبيبات الشعاب المرجانية المُدمَّرة. وفي وسط هذا الجبل ظهر الرأسُ المُفزِع لأفعى «يورمنجاندر»، أفعى «ميدجارد»، هذا الشريط من جلد الثعابين الذي حافظَ على شكل العالم المادِّي. ارتفعت الأفعى وخرجت وهي تسير مُتلوية إلى الأمام، ويرتفع رأسُها المُغطَّى بلبدة لحمية عاليًا، ويَرتفع ذيلها من بين الصخور والرمال مُحركًا بذلك البحرَ بأكمله. طفت «نجلفار» بخفةٍ على الدوامة التي أحدثَتْها حركة الأفعى، وهزَّ «هريم»، عملاق الثلج، فأسَه لتحية هذا الوحش. كان جسمها ملفوفًا بأعشابٍ بحرية مُمزقة وحبال وسلاسل البشر الميتين، التي لا تزال جثثهم المشقوقة تتدلَّى منها. بدأت تتلوَّى في الماء، متجهة بعزمٍ نحو ساحة المعركة «فيجريد». ضحكت تلك الأفعى الضخمة، تمامًا مثل والدها وأخيها، بصوتٍ مرتفع، وبدأ السم يَقْطُر من أنيابها ويُحدِث لهيبًا عند قمم الأمواج. غمرَت مياه البحر الشديدة الارتفاع السواحل والشواطئ والصخور وجدران الموانئ ودلتا الأنهار، والمصبات والمُستنقَعات. فلم يَعُد من المُمكن تمييز مَعالم العالم.
عندما فُكَّ القيدُ الموجود حول الأرض، انكسرت القيود الأخرى. قَضَم «جارم» كلب الجحيم سلسلتَه وقَفَز إلى الخارج لينضمَّ إلى أخيه الذئب. ضربت الشمس في عربتها، وضرب القمر في عربته، خيولهما وهي تعدو في اندفاعهما الأبدي حول السماء. إلا أن الذئاب التي تبعتْهما دون كلل، والتي انضمَّ إليها «جارم» بعينَين وحلقٍ قِرْمزِيَّين، عَلِمت أنَّ وقتها قد حان، فأسرعَت في ركضها، وانقَضَّت بأسنانها على السيقان الخلفية للحصان الفضِّي والآخر الداكن اللون. فصرخ الحصانان وانحرَفا عن الطريق، فجُنَّ جنون الضوء في العالم، وأصبح مُعتمًا، ثم أبيض مُلتهبًا، ثم مُعتمًا كالجحيم، ثم أحمر قانيًا. مزَّقت الذئاب حنجرتَي الحصانَين والتفتَت إلى السائقين في عرباتهما، السيدة الشمس، والأم الليل، والفتى القمر، والفتى في عربة النهار المشرقة. في مكانٍ ما في وسط الهواء، بينما كانت العربات تهوي إلى الأسفل، مزَّقت الذئاب الشمس والقمر والنهار والليل إربًا، وشربت دماءهم وابتلعتْهم بالكامل.
أما النجوم فقد كانت، كما اعتقد البعض، أنوارًا خارجية، تشعُّ عبر ثقوب في جمجمة «يمير». أما الآن، حين بدأت الذئاب تعدو ضاحكةً عبر السماء نحو «فيجريد»، بدأ ضوء النجوم يَخبو، وتساقطت مثل الشموع المُحترقة أو الألعاب النارية المنطفئة، وانهمرت على الأرض المُشتعلة التي تَغلي. رأى «فنرير» إخوته في السماء فأصدر عُواءً لتحيتِهم. لقد كبر حجمه. فصار خَطْمُه يحتكُّ بجُمجمة «يمير»، وفَكُّه يقع على امتداد الأرض المُحترِقة.
تقدَّمت الآلهة ومُحاربُو «فالهالا» مثل البيرسيركيين الهائجين تجاه سهل المعركة. أصدرُوا زئيرًا في تحدٍّ — فهذا ما كانوا يُجيدونه — فزأرت الذئاب والثعابين وعمالقة النار وعمالقة الصقيع في المقابل وأصدرت حفيفًا، بينما وقفَ «لوكي» مُبتسمًا في ضوء ألسنة اللهب الحَمراء المُتطايرة، والتي كانت مصدر الضوء الوحيد الموجود.
تقدَّم «أودين» نحو الذئب «فنرير»، وهو يعدِّل رمح المُران «جونجنير». انتصبَ شعرُ رأس هذا الذئب. ولمعَت عيناه الخبيثتان. وتثاءَب. فغرَس الإله رمحه في فكِّ الذئب الفاغر. هزَّ الذئب نفسه، وقضَم الرمح، وتقدَّم ثلاث خطوات إلى الأمام، وأطبقَ على «أودين» الكبير وهزَّه، ومزَّقه، وابتلعه. سرى النحيب بين «الإينهيرجار». وترنحوا، وتقهقروا، ثم تقدموا مرةً أخرى، ولكن في صمت الآن. فلم يسعْهم فعلُ أي شيء آخر.
اعتلى أبناءُ «لوكي» ساحة المعركة، وقد امتزَج صوتُ ضحكات الذئب بالحفيف الفَرِح للأفعى. وبدافع الحزن الذي يغمره، رمى «ثور» نفسه فوق الأفعى، وانهالَ عليها ضربًا بقبضتَيه ومطرقته الرعدية، فهشَّم جمجمتها. تلوَّتِ الأفعى، وسقطت، ونفثَتِ السم. استدار «ثور» ليُخبر الآلهة أنهم لم يَخسَرُوا بعد، فقد قضى على الأفعى. لم يتقدَّم «ثور» سوى تسع خطواتٍ في سَيل السمِّ الذي غمرتْه به، ثمَّ سقط ميتًا.
حدثت معارك أخرى على غرار تلك المعركة. فقد قاتلَ «تير» بذراع واحدة، وهو لا يزال يَرتدي جلدَ الذئب، كلب الجحيم «جارم»، حتى أُنهك كلاهما وسقطا مهزومَين، ولم ينهضا مرةً أخرى. كذلك قُتل «فرير» بسيف «سورتر» البراق. زحَفَ أحد أبناء «أودين» الصغار، الذي يُدعى «فيدار»، بين الجُثث وطعَن الذئب «فنرير» في فرائِه المضرَّجة بالدماء. سعلَ الذئب وسقط، فخنق «فيدار» المُنتقِم تحت وزن جسمه.
وقفَ «لوكي» يُشاهد ما ارتكبه أبناؤه الوحوش وهم يَقتُلون ويُقْتَلون. ثم، حين بدأت ساحة المعركة تغرق في وحل دامٍ، شرع في مبارزة نافِخ البوق بعيد النظر «هايمدال»، فقاتل كلٌّ منهما بتهور وحماس المحكوم عليه بالهلاك. فقتَل كلٌّ منهما الآخر؛ وسقطت جثة كلٍّ منهما في مقابلة الأخرى دون حراك.
أصبحَتِ الأرض مِلكًا ﻟ «سورتر». فأحرقَتْ نيرانه الأغصان الجريحة ﻟ «إجدراسيل»، وأدَّت إلى ذبول جذورها العميقة. سقطت منازل الآلهة في بحيرة النار. وجلست «فريج» المكلومة على عرشِها الذهبي مُنتظرة، بينما أحرقت النيران أعتابَ بابها، والْتهمَتْ أساسات منزلها. ومن ثمَّ احترقت هي أيضًا وهي جالسة دون حراك، وتقلَّص جسمها وصار أسود اللون، وأصبحت رمادًا بين الرماد المتساقط.
في مكانٍ سحيق في غابات عُشبِ البحر كانت نيران سورتر تَغلي في ركائز البحر. وقد انفكَّت دعائمُ «راندراسيل» وفقَدَت أوراقُها السرخسية الجميلة لونَها وحياتَها، وهَوت في الماء الهائج بين الكائنات النافِقة التي آوتْها تلك الغابة ودعمتها ذات يوم.
بعد مرور وقت طويل، خمدت النيران أيضًا. ولم يتبقَّ إلا سطح منبسط من السائل الأسود يلمع في نقاط الضوء الصغيرة الباهتة التي ما زالت تَنبعِث عبر فتحات النجوم. طفت بعض قطع الشطرنج الذهبية وتمايَلَت على التموجات القاتمة.