الليلة التي سبقت وصول الجلاد
كان يُحاول جاهدًا إقناع نفسه، أن كل ما مرَّ به حدث في عصرٍ آخر، لكن عقله كان عاجزًا عن اختراق ركام الذكريات والسنين؛ فتشبَّث بوهمٍ بارقٍ من تلك الأيام الخوالي التي لن تعود، يوم كانت الأشجار تُتقِن لغة الأطفال، وكانت الحقول تمنح الأمان للطير.
ذات صباح قديم، سمِع (قبرة) تحضُّ قلب طفلٍ صغير على التمرد: لا تُصدِّق كل ما تراه عيونك، أنت تتصوَّر أن الحاضر باقٍ إلى الأبد، السماء لا تلمِس الأفق يا بُني، ولا تحطُّ فوق الأسوار العالية في أي مكان، السماء أبعد من أن تنالها قبضتك الواهنة، صدِّقني فنحن نرحل عبر مسافاتٍ لانهائية. ونعرف أن العالَم أكثر رحابة من قريتك، وأكثر عمقًا من أفق الحقول الخضراء التي لا تعرف سواها … العالم أحلى بكثيرٍ من الخرابة المغمورة بضوء القمر، وأرحب من حوش (القواسم) المزدحِم بالأطفال المرضى.
•••
اهتزَّ إيمان الفتى بقُدرة أشجار التوت، وابتدأ بقلبٍ منشقٍّ يتأمل ما حوله من عجز، لكنه استجمع قواه في المساء، وقال لأبيه العجوز الذي كان مشغولًا بإطعام بقرتِه الوحيدة الهزيلة، وهو يصارع آهة ألَمٍ غير منظورة: لم أعُد أطيق كل هذا القدْر من الدناءة، لم أُخلَق لحرث الأرض وشقِّ المراوي. ما فائدة أن يزيد عدد التعساء واحدًا؟ سوف أرحل ذات يوم، سأرحل بالتأكيد.
•••
ومضي يحلم في الليل بالسفر الطويل، ويُبشر الآخرين في النهار بالأبعاد والمسافات.
وفي المقاهي الضيقة الدافئة ذات المقاعد الحجرية، أخذ يُحدِّث الرجال عن البلدان البعيدة والمدن البيضاء … ويُغني لهم أشعارًا عن طرق الفجر المُضيئة التي تمرُّ عبر زنازين السلاطين والملوك. ويُفسر أحلامًا غامضة عن أزمانٍ لم تأتِ أبدًا منذ ظهر الإنسان على الصخر الناري، ولكنها ما زالت تبدو أقربَ من حبل الوريد.
ولكنهم كانوا غارِقين طوال الوقت في ظلامٍ لزجٍ من ليل القرية الكافر الذي لا يرحَم ولا يُحرر أحدًا من هموم التفكير في اليوم المُضني القادم … ومعاناة الخوف من المجهول؛ فغرق معهم في سُحب الدخان الرخيص وأحضان النساء الجرداء …
•••
لكنه ظلَّ يتسلَّل إلى الترعة ويتقافز على جسور القنوات الراكدة الماء، في الليالي السوداء وفي الليالي القمرية، ويُحدِّث الصبايا الفقيرات ويُمنِّيهم — بعد أن يملأ كفوفهن المعروقة بحبات الفول السوداني والعطر الرخيص — عن القناديل الزرقاء، التي تُسرِجها الفتيات العاشقات في القرى الجبلية، لعشاقهنَّ الخارجين على القانون، وهو يُعلمهنَّ الكلمات الغامضة ذات الجرس الأخضر، والتي لها طعم القرفة ورائحة التمر هندي وصوت فيروز؛ تلك التي لم يرجِع بسواها من رحلاته السبع، في البحار المجهولة المليئة بالمخاطر والمهالك.
•••
وفوق كتفَيه الناحلتَين الهزيلتَين، حمل أطفال القرية الصغار، وعلى قدمَيه الحافيتَين، مضى معهم يمشي خلف القوافل، في الدروب المجهولة، مُعتليًا ظهور المراكب ذات الأربعين شراعًا، أو مُمتطيًا الأفيال الضخمة، في الجزُر والوديان البعيدة، أو متعلقًا بأطراف أجنحة الرخ الأسطورية، ليُشاهدوا معه — ولو لوهلةٍ خاطفة — تلك المدن والجبال التي يغمرها ثلج كالقطن، وتملؤها ضحكة الأطفال التي لم يعُد يسمعها حتى في الحلم.
•••
أيامها كان الجميع أصدقاء له، ينتظرون قدومه مع المساء كل ليلة، في شوقٍ ولهفة. ورغم كل شيء كان يُحبهم جميعًا: أطفال الطريق المُترب الصاعد حتى شاطئ البحر القديم، فتيات الجرن العاريات الأقدام، ظلُّ قبة «سيدي مجاهد» الرطب، ضفادع المصارف الخضراء والسوداء، ومياه السبيل العطنة الباردة، وحتى، روث الماعز النفَّاذ، ورائحة الجميز (الباط)، وعيون البنت «مديحة النمر» ذات الأنف والخدود المليئة بالنمش اللذيذ.
كانوا جميعًا يُصدقون كلامه، ويؤمنون به إيمانهم بأسرار الشيخ «أبو الرايات» ومعجزات «أحمد زنوبة» الباتعة، التي لا يجرؤ أحد على الشك في تحقُّقها وحدوثها على طول الزمان … ورغم ذلك، لم يستطع أحدٌ أن يخطو خطوةً واحدة، أو نصف خطوة في اتجاه تحقيق معجزاته الشخصية وأحلامه البسيطة. فالأبواب المُغلقة لم تكن قد سمحت بعدُ بإمكانية التجاوز. ولم يكن هو قد أدرك بعد، سِر قوة الكلمات التي تملك طاقة الحركة والولوج؛ لقد كان صغير السنِّ إلى درجةٍ لا تُصدق، وكان قليل الخبرة بأساليب الجدل والمُزايدة وتجميل الذات.
كان أيامها يملك قدرةً واحدة، هي أن يستطيع حين يُريد أن يُنادي عليهم، وأيامها كانوا يُهرولون نحوَه من كل قرية ونجع، فيقودهم صغارًا لغزو جنينة «أبو حسن»، للحصول على الفاكهة التي لم تنضج بعد. أو يدفعهم صبيانًا، لعبور البحر الصغير إلى التلول لاصطياد طائر «أبو الخضير»، أو يُحرِّضهم رجالًا على إسقاط العمدة، وتغيير مجلس إدارة الجمعية.
وعندما كان الليل يسقط فوق القرية فجأة، كعملاق جبار له ألف وجه (غول) مُخيف، وألف ذراع (عون) قادرة ومُتعسفة، لم يكن يجد أمانًا، إلَّا بالنظر في عيون أصدقائه الضاحكة الذابلة، والتي كانت أيامها أكثر من أن يُحصيها ساعة تُحيط به، خلال أزمته، أو عندما يستلقي مُستسلمًا وحده، فوق قش الأجران الندِي، في ليالي أكتوبر الباردة، أو فوق رمال المَنفى الحارقة الشوك.
بذل جهدًا خارقًا في جمع أشلائه المبعثرة فوق كثبان (المحاريق) الرملية، ليجد القدرة بعدها، فيزحف باختياره الحُر إلى حيث لا سماء ولا نجوم يمكن أن تزوره. بعدها ندم ندمًا حارقًا على تسرُّعه، لأنه استسلم لهم بسرعة، وبلا مقاومة. وأضناه شعوره بالوحدة، وعذَّبه الإحساس بالانتهاك، حتى غلبَه النوم تاركًا نجمتَه الصديقة تغيب عن المربع الحديدي المنتظِم الأضلاع، وتتلاشى في الأبعاد اللانهائية. منذ زمانٍ بعيد … تعوَّد أن يراها تسبح كل ليلةٍ في نفس المكان وفي نفس الموعد. عاريةً كجنيَّة الحواديت. وكان يُسعده أن يفكر فيها وأن يمدَّ لها ذراعه محاولًا أن يلمسها في الظلمة. وعندما كان يُخيل إليه أنه أفلح في احتوائها، كان يحسُّ حنان الجسد البشري الغض، يزلزل جذور الجدران العتيقة، صاعدًا به، رغم الأسوار، إلى حيث يسمع نبض الأجنَّة ويذوب في دفء الأرحام.
يوم دعاها إلى منزله أول مرَّة، لم تجد غضاضةً في الاستجابة لندائه دون تردُّد، هبطت من سمائها إلى أرضه المُتربة، ومضت معه عبر الباب الضيق والشوارع المُفزعة، في غفلة من الحراس، لتنام على صدره فوق السرير الفقير، الذي كان يحملهما إلى أركان الدنيا المسحورة. وفجأةً — في كل مرة، وقبل أن تكمل الأحرف المهشمة، شكل الكلمة العاشقة — كانت عربة شرطة مجهولة الوجهة، مشروخة الصوت، تمرُق محدثةً زلزلة وضجة، مُمزقة حلمهما المشترك، لتُلقي به في مهاوي الشك والتردُّد، يُحاصره رعب الأم وصراخ الأطفال في الأمكنة البعيدة. بعدها يسمع صوت الأقدام الغجرية، والأحذية الثقيلة وهي تتكاثر وتتزاحم، صاعدةً إليه السُّلَّم الحديدي، لتُداهمهما في جنون. فيسرع مُخفيًا وجه حياته المشوَّه، تحت الغطاء (الميري) المُمزَّق، وينتحب.
•••
قذفت به أمواج الذكريات الكئيبة إلى الظل الرطب … فمدَّ أصابعه تتخلَّل في رفقٍ حبات الرمال الباردة، تذكَّر أنها هجرته بإرادتها الكاملة، ومضت خلف حلمِها القديم بالثوب الأبيض والتراتيل المقدَّسة والزغاريد، ولكن الرحلة إلى الجبل، لم تكن على هذه الدرجة من الأمان، فلم تكن أشجار الأرز أليفة كأشجار الجميز. وارتعش النيل مُنكفئًا من الرُّعب إلى المُستنقعات الاستوائية … فهوت كصخرةٍ خرساء، لتحترِق في حمَّام البيت الآيل للسقوط، وسط بخار الماء الساخن والصابون الرخيص، وهي تُنادي عليه. هاجمَت أنفه روائح قديمة مألوفة، فانشقَّ صدرُه وامتلأت عيناه بدموع جلفة.
ودار بعينه المُختنقة بغمامة الذكريات المطيرة، أشجار الخروع وشجيرات الساسبان. وتابع ظلال رفاقه ذوي الأيدي المرفوعة فوق الرأس، في الطابور الطويل. وتأمَّل النخيل القزمي المتناثِر مَنفيًّا في الصحراء البليدة؛ فتذكر نخلةَ عمِّه (الحيانية) العملاقة، وتجسَّدت أمام عينَيه ابنة عمِّه الفائرة، ذات الشعر الخشن والعين الحولاء، وحاصرته نظرتها الشبقة، وهي تختطفه إلى (مدود) العنزة، لتدفن رأسَه الصغير في صدرها المتحجِّر البري الغارق في العرَق النفَّاذ … فلا يجد مفرًّا من الاستسلام المشوب بِحُبِّ الاستطلاع واللذة، وهو لا يفهم تمامًا سِر لهاثها الباكي … وآهاتها المتألِّمة ودقَّات قلبها المتوترة، فيظل قلقًا حتى تهدأ. لكنه يزداد شكًّا، لأنها لم ترضَ تمامًا، فيراها تُبعِده بجفاء على طول ذراعِها، تاركةً إياه أسير شعورٍ قاتلٍ بالخجل، لا يتناسب مع سنوات عمره القليلة، فتعود إليه غافرة مُداعِبة شعره القصير بلا حياء. وتصفح عنه آمرةً أن يُساعدها في سقي البهائم ونقل السباخ.
•••
يصعد مرةً أخرى مكررًا محاولته … الدائبة للولوج من النافذة الوحيدة ذات القضبان السميكة الصدئة المُتقاطعة. يسقط، ويعاود التسلق، ولكن الجدار كان عاليًا لدرجة لا تُصدَّق، وأدمت الحجارة أظافره، وخذله الجوع … فارتمى ضعيفًا عاجزًا، وتكوَّم تحت الغطاء مُخفِيًا وجهه بكفَّيه النحيلتَين، مُحاولًا دفن هزيمته ونظراته المُرتعبة، في أحشاء الفراغ المُظلِم الضيق المحصور بين ساقيه المُنثنيتَين والبطانية. ارتعشت أجفانه المُبلَّلة، ثم هدأت مُتعبة، فحلم بالشطآن التي يغسلها الموج الأزرق، حيث تتناول الأسماك طعامها في هدوء الفلاسفة؛ ولكن ما إن تبيَّنَت عيونه أطراف النخيل الاستوائي، وما كادت همسات أمواج المحيط، تطرق سمعه من بعيد، حتى غرق في نوم عميق. سكرانَ برائحة القواقع والأعشاب الجافة، والجميز الباط، والزيت المقدوح في الطاسات السوداء الفقيرة، مستنشقًا دموع البنت (نجاة)، حينما اعترف لها بِحبِّه فصدقته باكية، وارتمت يائسةً فوق صدره، مُحتميةً من جنون أبيها وقسوة أمِّها، فأنعشته طراوة ضفيرتها الوحيدة، وأيقظت حسَّه حرارة خدِّها، فأقسم لنفسه أن يتزوَّجها بمجرد عودته، رغم سخرية أخته الكبيرة … التي وقفت في الركن تؤنِّبه بشدة، لأنه يزرع آمالًا في حقولٍ مُجدبة، يُعذبها الشوق للمطر، فحاول أن يُجادلها مُثبتًا قُدرته على رعاية بذوره، لكنها ثبَّتت عيونها في عينِه، فأغمض معترفًا بقلة حيلته، وهو يتذكَّر يوم هبط إلى الأرض في زمانٍ بعيد، مُتسلقًا أشعة القمر الفضي، هاربًا من مؤامرات الجواري الروميَّات، إلى عزبة الغجر ذات الحواري الضيقة، مُداعبًا بناتها الفقيرات المُشققات الكعب … مقبِّلًا وجناتهن المُبقعة، خلف وابور الطحين، أو في ظلال نخلات ياسين السبع، أو خلف كرسي الوزير، وربما تحت سلالِم قصر الوالي نفسه، لعب معهنَّ لعبة العروسة والعريس، وفي الزرائب وفوق السطوح ورغم صراخ (عيوشة المهبوشة) الذي لا ينقطع، أو في الجرن الخالي، رغم تهديدات عمَّته، يصطاد لهن — مظهرًا البراعة الفائقة — الفراشات البيضاء وديدان الأرض العمياء، التي هرستها أحذية الجُند حتى الموت، يوم أقبل المُنادي الأكرش عليهم، يدق طبلة المُعادي، مُناديًا حراس الأسوار وبوابي العمارات المجاورة للانتقام منه، وليُجرِّسوه وليهتكوا سرَّه.
يومها كم تشابكت السِّياط فوق ظهره ورأسه، وغامت عيونه بالدموع والعرق المالح، فرأى المدن ترقد قتيلة، يتصاعد منها دخان الحرائق، وصرخات المهزومين في الشعاب المُلتهبة حول (البردويل) و(عيون موسى)، مختلطة برائحة المحاصيل المتعفِّنة والمياه الراكدة والبول الدموي.
وتذكر كيف كانت (الغولة) ذات العين المنطفئة تزوره تحت ستر العتمة، فتلفُّه بذراعَيها الخشنتَين محاولة سحق قلبه تحت ضلوعها، فيُجاهد للإفلات مذعورًا، جافةً في عروقه الدماء، متحجرةً تحت جفونه دموع اليأس والكلمات، فتتركه مُغضبة متوعدةً إيَّاه بكل أنواع البلايا، منذرةً أنها ستعود في الصباح مكررةً المحاولة، مُرتديةً ألف قناعٍ وقناع، وستحكي له ما لم يعرف من حكايات الأشرار وسِير الأخيار، وستُغريه للذهاب معها إلى حدائق الرمان، واعدةً أنها سوف تعبُر به الأبواب المُغلقة، إلى قصور الأحلام، حيث جنيَّات الليل الطيبات ينتظرْنَه بالسعادة الأبدية، فيُطيعها وجلًا، بلا اعتراض، نادمًا على تمرُّده، ليكتشف في الصباح أنها حوَّلت بحارته إلى خنازير، وعرَّتهم من ثيابهم وشبابهم، وشوَتْهم على السفُّود … وملأت سفينته بالجرذان والعقارب، بعد أن كبَّلت الرياح الأربع، لكنه ظلَّ يصرخ، تُعذِّبه لهفته وشوقه إلى النجاة بجلده، فلم يحضر على صراخه إلَّا الحراس الحليقو الرأس، ذوو الرقاب الغليظة والحراب الشوكية، فحاول أن يفرَّ هاربًا، لكنه نسِي حذاءه القديم الوحيد تحت شجرة التوت الحبشية ذات الثمار الدموية … فلحِقوا به وضربوه ضربًا مبرحًا في البيت، ثم جلدوه في المدرسة، حتى بعد أن تأكدوا من موته تمامًا.
•••
وخزَه الجلد القديم المُحترق، فوق ظهره وأكتافه فتوتر. ورغم أنه لم يعُد يحسُّ ألم عصي الخيزران الرفيعة، أو السياط السودانية المعقودة في الزيت، لكنه ارتجف وتكوَّر حول نفسه وتساءل عن سرِّ رُعبه، وكل شيء قد أصبح على ما يُرام الآن، كما يُقسِم رفاقه. وأحس بخجل شديد منهم، أن يسمع أحدهم صراخه، أو يرى ضعفه، فيظن به الظنون، أو يتَّهمه بمحاولة خداعهم. وساعتها لن تغفِر له كل هذه السنوات الطويلة من الحزن والألم، ولن تشفع له تلك المسافات التي قطعها في سفر لا نهاية له، عبر المكان الواحد والزمان الذي لا يتكرَّر، فآثر الصمت.
وحلَّ مع صمتِه الصمت على العالم.
حل فجأة مثلما مات هو فجأة تحت الأقدام، ولم يعد يسمع من مكمنه سوى صوت طحن ضلوع بشرية وانسحاق عظام أثرية، ونشيش شواء لحم حي، وصرير أبواب عتيقة، يُفضي الواحد منها للآخر، ليفسح المدى لرنين سلاسل ذي صدًى عميق الأبعاد، يبتعد في رتابة حزينة.