المساء الذي حلَّ بعدَ بدء الرحيل
أخذ الحارس ذو الملابس المزركشة، يعبث بشاربه الكث، متأملًا القادم العاري بإمعانٍ ذي خبرة، متحفزًا، يبحث عن سببٍ للانقضاض عليه وسحقه بين أصابعه إن لزِم الأمر، أو امتصاص دمه حيًّا حسب الأحوال … وكلما اقترب القادِم منه ازداد معرفةً به، فازداد عبوسُ وجهه، وحينما أصبح قاب قوسين أو أدنى، ضحك في وجهه ضحكةً جوفاء صاخبة، جعلت عظام الفتى النحيلة ترتجِف تحت جلده رُعبًا، فأسرع يُشبِّك ذراعَيه فوق صدره مُصليًا، يحتمي بإلهٍ قديم كان يقدسه أجداده الأوائل.
وبعد أن فحص الحارس أوراق النزيل دون أن يقرأها، فتش شعره وثنايا جسده الأبيض العاري في شبقٍ بهيمي، ثم قلَّب شفتَيه في احتقار، وأصدر صوتًا قبيحًا طويلًا بفمه وأنفه معًا. فأضحك ذلك جمع الأطفال الذي تجمَّع في أرجاء المكان لرؤية القادم الجديد والاحتفاء به، حسبما تقضي طقوس المدينة.
ونبهت ضحكات الأطفال مشاعر الوافد الجديد، وأيقظت بقلبِه حلمًا قديمًا حبيبًا إلى قلبه، فدار بعينَيه يائسًا يبحث عنه بينهم — إذ كان يحلم طوال عمره بأطفالٍ يضحكون من القلب — لكنه لم يتبيَّن أية مشاعر سعيدة بقلبه، وإنما اعتصرَه خوف رهيب، وضحكاتهم تكشف عن أسنانٍ سوَّدَها الدخان الرخيص، وعيونهم تنزف سائلًا لزجًا كعيون مُدمني المخدرات.
أعاده أحدُهم من وهمِه عندما ألقى إليه بخرقةٍ قديمة قذرة، كي يستُر بها عورته، وهو يلعن أمَّه وقلةَ حيائه.
وتقدم منه أحدبُ ماكر شديدُ الحيوية باسِم الوجه، يعرج عرجًا خفيفًا، وأشار إليه خفية أن يتبعه إلى حيث ينبغي أن يقضي ليلتَه الأولى.
التفتَ إلى الحارس مُستأذنًا، لكنه كان مشغولًا عنه بالْتهام فخذة إنسان آخر، فمضى والأحدب أمامَه يقفز خطوةً بعد خطوة في احترامٍ وأدب، حتى وصلا إلى حجرةٍ كئيبة في آخِر الطرقة المُحدَّبة السقف، فدفعه فجأة إلى داخلها بحركةٍ سريعة، ثم أغلق الباب عليه وهو يُطلِق ضحكات ساخرة مشروخة.
ولكن هذا لم يُغضب الفتى، بل على العكس تمامًا، أحسَّ براحة ساحرة عندما وجد نفسه وحيدًا لأول مرة من زمنٍ بعيد، وكان في حاجةٍ ماسَّة لبعض الراحة، يُذيب فيها ضوضاء يومِه الرهيب، وأحسَّ بدوار خفيفٍ بعد إغلاق الباب؛ إذ هدأ كل شيءٍ فجأة وكأنَّ العالم كله قد مات — فلا صوت ولا حركة — وجسَّد له الصمت الثقيل ثخانة وصلابة الجدران، وملأته الرطوبة والعفونة التي تنضح من مسامِّ الصخر الجيري، إحساسًا عميقًا بالمسافات والأزمنة، وكأنما هذه الحجرة الضيقة قد انفصلت عن العالَم الملموس، كفقاعةٍ حجرية سقطت في الفضاء اللانهائي.
وخمَّن حسب خبراته وصحة تقديره في مراتٍ سابقة، أنهم لا بد وأن يتركوه ليستريحوا من عناء اليوم الطويل معه، استعدادًا لطقوس تعميده كمواطنٍ للمدينة في صباح الغد، وملأ صدره في محاولة يائسة لجمع شتاتِ نفسه المُبعثرة، واستعادة وعيِه الضائع بحقيقةِ الأحداث.
ومدَّ رأسه مطمئنًّا فوق صدْر فكرته، وأغمض عيونه المُرهقة مُستسلمًا، داعيًا إليه كل أحلام عمره الماضي، كي تهرُب به إلى حيث تُولَد المواقيت والمسافات. لكن تقديره كان خاطئًا تمامًا؛ إذ دار مفتاح صاخب مُرعد على حين غِرة، في طبلة الباب، مُخيبًا أمله ذابحًا الهدوء المؤقت، مُحطمًا هيكل الصمت من جذوره، وانفتح الباب على مصراعيه بعُنف. وخلف سيلٍ من الصرخات والسباب — اندفع يُغرق الغرفة منطلقًا من عشرات الشفاه المُلتوية والأفواه المهشَّمة — اقتحم عدد كبير من الحراس والأطفال المُشوهين، فراغ الحجرة الضيِّق، وأخذوا يَدورون ويصخبون على الأرض المُربعة الصلدة، وفوق الحوائط الرطبة المُتعفِّنة، مُخترقين كل شيء، نافذين من كل شيء، حتى صدره ودماغه. جلس بعضهم فوق فراشه وتحتَه، وتعلَّق آخرون بالسقف والزوايا، بينما جعل الأحدب من حبل المصباح أرجوحة، مضى يتأرجح فوقها بين النافذة وشرَّاعة الباب الضيقة، ماصًّا إبهامه القذِر في استمتاع، بينما راح بعضهم يتمرَّغ فوق الأرض المبلولة، في الوقت الذي كانت عين رئيس الحرس تُراقبه وتتبعه طوال الوقت، فلا تُفارقه إلَّا لتنقضَّ عليه مُتسللة عبر غابة الأذرع المُتشابكة والأجساد والسيقان، تلقِي إليه بالتعليمات بلا صوت، أو مُحذرة إيَّاه من العبث أو الاستهتار بقوة قائد السجن، أو الحديث مع الآخرين من النزلاء، أو تبادُل الذكريات أو الطعام معهم، أو تخزين أي فائضٍ من الطعام الميري، والامتناع تمامًا عن إحراز الممنوعات تحت أية حجةٍ كانت!
تقدَّم أحدهم منه فانتزع شعرَه من جذوره، وحقنه أحدُهم بحقنةٍ كبيرة قذرة، وألقى إليه أحد الأطفال — وكان أعور — بلُقمة سوداء، ابتلعَها دون مضغ، وألقى طفلٌ آخر إليه بوعاءٍ قديم قذر، تفوح منه رائحة سموم البولينا المُتحللة، ليقضي فيه حاجته في أي وقتٍ يشاء.
وعاد إليه الأحدب ضاحكًا فاتحًا ذراعَيه مرحبًا به، ثم همس إليه وهو يُلصق فمه بأذنه اليُمنى أن يتبعه إلى الركن البعيد، وهناك قال له بصوتٍ هامس، تعمَّد أن يسمعه الجميع على السواء، مشيرًا إلى الرئيس: لا بد له أن يُدخن أثناء العمل وأثناء الراحة، وإلَّا كدَّرنا جميعًا، ولطَم أهلنا في الزيارة … معذور! مُرتبه ضئيل جدًّا، بينما هو يعول أمَّه المشلولة وجدَّتَه الخرساء وخمسة عيال يأكلون الزلط، وزوجة. وهو لو صرف قرشًا واحدًا من مُرتبه على السجائر، ستزني أم عياله من أجل خبز الأطفال، أو تهجُره لتتزوَّج مملوكًا أكبر رتبة، والبلد مليئة بالعزَّاب والأغراب الكافرين. أنت أدرى بالأحوال، وإلَّا لَما سجنوك! ألستَ تدافع عن الطبقات الشعبية؟ إنه من عِزِّ الطبقات الفقيرة!
نظر إلى الأحدب نظرةً عاجزة، مؤكدًا له أنه لا يقبل أن يحدُث للشاويش هذا … إنه يرفض أن تُضطرَّ أي امرأة — وليست زوجة الشاويش فقط — إلى بيع نفسها بسبب الحاجة، إنه يُمكن أن ينتحِر لو حدث ذلك بسببه.
ضحك الأحدب وصاح بصوت أعلى: لا تكن طيبًا إلى هذا الحدِّ يا (كويرك)، إن امرأته تزني الآن من أجل المزاج، فلا تهتمَّ هكذا. امسح دموعك، ليس هناك فرق كبير ما دُمتَ (ستطلع بالسجائر).
ازدادت نظرتُه عجزًا وانتابَه الخجل، وعصر الإحساس بالذنب قلبَه، وهو يؤكد للأحدب أنه جاء إليهم عاريًا لا يملك شيئًا، سوى تهمةٍ باطلة، فقَدَ كلَّ شيءٍ بسببها أمام الباب، حتى نظرة عطف والده. وقد رآه الجميع وهو يدخُل خاوي الوفاض، وكلهم فتَّشوه، حتى الحارس نفسه فتَّشه بدقةٍ بالغة أمام الجميع، فكيف سيقع الذنب عليه لو ادَّعت زوجة الحارس أنه السبب، حين تنوي أن تزني بسبب الحاجة، وليس بسبب المزاج … وأكثر من ذلك أنه لا يفهم كيف تُغير سجائره — إن وجدت — مجرى التاريخ، بينما هو ينتظر حُكم الإعدام!
ضحك الأحدب مرة أخرى دون أن يفهم شيئًا. وظل مادًّا يدَه متوقعًا أن يُلقي فيها (المعلوم) دون أن يُبدي أي إشارة إلى أنه سيُصدقه. وبعد فترة، أنزل ذراعَه يائسًا ونظر إليه نظرة تأنيب، ثم أومأ إليه أن يتبَعَه إلى ركنٍ بعيد آخر، وهناك بجوار الحائط الرطب، قرفَص وأخذ يعصر نفسه بشدة حتى برز شيء يُشبه الكيس الطويل من إسته، فمد يده بعد أن تأكد من خروج مُعظمه بإحناء رأسه جيدًا تحت نفسه وسحبه بحرصٍ وهو يبتسم، كان كيسًا حقيقيًّا من المطاط، منتفخًا ومشدودًا، يلفُّه خيط أسود قذر، نفضه الأعور في محاولة لتنظيفه ممَّا علق به من براز ودم، وأخذ يفك خيوطه. وبعد ذلك فرد محتوياته أمامه على الأرض، واختار شيئًا ملفوفًا مدَّ به يده إليه، فتراجع إلى الخلف مُشمئزًّا وقد هاجمته رغبة عنيفة في التقيؤ.
وأغضبَ ردُّ فِعله — هذا — الأعور غضبًا شديدًا، فصرخ مثل كلبٍ حاصره المُصلون في (زاوية)، وتأوَّه متألمًا يستنجد برفاقه وبالحارس، الذي أسرع يسدُّ الركن بجسده الضخم محاصرًا (إياه) في الزاوية، وقد اشتدَّ انفعاله، واشتعل حماسه الشبقي، وبرقت عيناه وسال اللعاب من طرف فمه المكشر، مثل كلبٍ مسعور، وانهال عليه حتى كوَّمه أسفل الجدار.
ثم جذبه بعُنفٍ إلى وسط الحلبة، فانطلقت الجوقة تدور حوله في خطواتٍ منتظمة بطيئة، وهم يُردِّدون أناشيد وثنية غامضة، جعلت العجائز عند طرف المدرجات البعيدة يمسحنَ دموعهنَّ تأثرًا، ويرسمنَ علامة الصليب، بينما علت هتافات المزدحِمين في الجانب الآخر المقابل للمقصورة الإمبراطورية، يُطالبون بالقضاء على الضحية على الفور، إرضاءً للآلهة المُتعطشة للهدوء النفسي، ولمَّا سكنت حركته تمامًا أشار الإمبراطور راضيًا.
أمر الحارس الأعور والأحدب أن يُفتشاه جيدًا، بحثًا عن (المنشورات) التي لا بد أن يكون قد أخفاها في مكانٍ ما، مثلما نجح في إخفاء كل أثر للسجائر، ولمَّا فشلوا في العثور على شيءٍ استداروا، وخرج الحارس غاضبًا حانقًا، فتبعه الجميع مطأطئي الرءوس خجلًا من الفشل.
وعاد الصمت أكثر كثافةً حين انصفق الباب … وبسبب آلامه الحارقة وعجزه، انتابه شعور حاد بالوحدة والمرارة وفقدان النصير، ووجد الراحة في البكاء بحُرقة، وفي التفكير في زوجة الحارس؛ تلك التي سوف تُصبح مومسًا بسبب سجائره!
ومر الوقت بطيئًا ثقيل الخُطى، لكنه استطاع أن يلعَق دموعه وجراحه، محاولًا التعوُّد على آلامِها، وهو يجرُّ هيكله إلى أسفل النافذة، ساعتها، اكتشف أن وجه نجمته يطلُّ عليه لأول مرةٍ من بين القضبان، فابتسم في وهن، ولكن الفرح غسل قلبه لمَّا تبيَّن أن نظرتها الرقيقة الحانية، لا تحمل أي معنًى من معاني الاحتقار!