اليوم الذي عاد فيه سرًّا إلى القرية
حتى في تلك المدن المجهولة، تُشرق كل صباح شمس، وتغرِّد أحيانًا عصفورة، فالإنسان في رحلة بحث الجوعى عن لقمة، زرع الأشجار بجوار الأفران وبؤَر التأديب، وبينما الأمهات يُغنِّين للأطفال الجوعى المُنتفخي البطون، على أبواب القبر، يظل الفقراء المَوتى، يحلمون طوال العمر بالجنة؛ وحتى المَقضي عليه بالإعدام، ينتظر حتى اللحظة الأخيرة، مَوعدًا مجهولًا، ينفجِر فيه العالَم فجأة، أو ترفض فيه الأشجار أن تتحوَّل إلى مشانق!
وحين استيقظ، كان العالَم يومها ما زال نظيفًا مغسولًا، وكانت الأشجار حليقة، وآثار المطر والصمت تؤكِّد له أن الجميع نيام، والشر الكامن لم يستيقظ بعد!
صعد الحائط، وتكوَّر في رحِم النافذة الحجرية، واحتضن بعُمق عيونه الولهانة، حقول البرسيم الطرية العارية، التي كانت تمتدُّ حتى الأفق، خضراء تستحِمُّ بالندى، كامرأةٍ عاقر، دافئة النهدَين، تتصاعَد من جسدها أبخرة الرغبة، تدعوه ليذوب في دفء الطين البكر، برودة كفَّيه المُتشنِّجتَين على صدأ القضبان، وخلال الدخان المائي المتصاعد من الأرض، كانت أكواخ الطين المتلاصقة، المذعورة كصبايا حاصرهنَّ عسكر جند السلطان، تستيقظ هي الأخرى في هدوء مُشبَع بالتوجُّس والريبة والخوف من المجهول.
•••
حين عبر حواريها الضيقة المُلتوية، شاهد مَولد نهارٍ آخر، يأتي إلى الدنيا على غير رغبة مؤكدة، وشاهد ملامح شمسٍ أخرى، تُشرق خجلانة وجِلة، ورأى رجالًا معروقي الأكف، مَمْصوصي الوجنات، يعرفهم فردًا فردًا، يُغادرون بيوتهم، مُتعبين رغم النوم الطويل، يُلقون على النهار نظراتٍ غير مُرحبة، وغير مُبالية — منذ مليون من السنين وهو يُشاهدهم يستيقظون، ويخرجون في كلِّ صباحٍ من نفس الأبواب الخشبية المُنخفضة، إلى حيث تُذيب نفس الشمس عروقَهم المُجدبة ذاتها، في رحم الأرض — فتنبت نفس الأعناب الذهبية ونفس الحشائش.
كان يُحبهم دائمًا من كل قلبه وكانوا يُحبونه، وطوال عمره، كان يعشق بكل كيانه، الاندماج معهم والاقتراب منهم والتفاني في مُجاملتهم. لم يكن ينفر من رائحة عرقهم، على العكس، كان يجد نفسه حين يستنشِق عطر اللبن المُتخثر والمشِّ القديم، عالقًا بملابسهم، حين يُجالسهم في زوايا الزرائب الدافئة، المُظلمة إلَّا من ذبالة صغيرة، تقاوم ريح الشتاء البارد، عندما كانوا يجلسون والقلق يملأ قلوبهم، في انتظار العجول الوليدة، أو عندما يُرهق نفسه في تعليم صغارهم الحروف الجديدة، أو يحل معهم مسائل الحساب المُعقدة، أو عندما يمسح في حنانٍ صادق، أنوف أطفالهم، أو يذوب في كفوف عجائزهم أيام صِباه، في محاولةٍ أسطورية للحاق بخيول خيالهم الجامِحة، أو وهو يستمتع حتى أعمق الأعماق باللهو البريء مع شبابهم، في دكاكين القصب الشتوية، وأمام مداخل البيوت.
أمام نفس الأبواب التي يعرفها جيدًا، توقف يبحث عن شيءٍ مألوف وغامض، وبدا مُضيَّعًا لا ملامح له ولا هدف؛ فبالرغم من أنه أبدًا في مشورة الأشرار لم يسلك، وفي طريق الخُطاة لم يمضِ، ولم يتآمَر … وفي طريق الخونة لم يفكر. وأضنى جسده الفراق الطويل، واحتمل، وكان حصاد رحلته الأولى قبضَ الريح، وبضع حكايات، ودراهم قليلة، وأغنيات فقيرة لا تلفِتُ انتباه أحد، لأنه لم تعُد للكتب أو للقصائد أية قيمة، وأقفرت ساحات الشعر القديمة، وعجز الراوي العجوز عن إكمال ملاحِمه، بعد أن تساقطت أسنانه بفعل الرطوبة وسوء التغذية. لقد رست سفينتُه على شاطئ مقفر، ومدينة سكرى بنشوة الاستعباد.
•••
حاول أن يجمع معارفه القدامى، كما كان يفعل في الماضي، كي يقرأ لهم حكايات السلَف والسير القديمة، ولكنهم تفرَّجوا على حركاته وألاعِيبه لحظتَين، ثم مضى كلٌّ منهم إلى شواغله وهمومه، وحينما هزَّ (كلب السباعي) الأسود ذيلَه، وتمسَّح به مُتعرِّفًا على رائحة عرقه، (سفَخَتْه) زوجة (السباعي) البيضاء حجرًا، فانطلق يعوي ناحية الحقل مُحتميًا بالظلام، فاستدار هو يائسًا، ومضى إلى الساحة القمرية، فلم يتعرَّف عليه أحد من الأطفال؛ فقد كانت سنوات غَيبته كافية لكي تنتفخ الأرحام مرةً بعد مرة، وتُفرخ أجيالًا لا تذكُره. عند بيت (عيوشة) لم يسمع غناء، ولم يُشاهد لعبًا، ولكن ينبوع الشعر تفجَّر في قلبِه لحظة شاهد — عند أول الطريق الصاعد إلى البحر القديم — صديقَه، غارقًا حتى الصدْر في طين (المعجنة)، فاقترب فارِدًا ذراعَيه في لهفة، محاولًا تذكيره بنفسِه، ولكن صديقَه كان منشغلًا في عراك مع زوجته الهزيلة العجفاء، التي كانت تُرضع طفلًا (نزازًا) من ثديِها المُترهِّل، المتدلِّي كورقة الصبار، وفوق رأسها لمبة غاز عارية تُقاتل الريح، وترسُم على الأرض والحوائط ظلالًا مُرعبة مهولة! ولمَّا لم يُبدِ صديقه اهتمامًا، استدار ويمَّم شطر البيوت، وقد تدلَّت ذراعاه مشلولتَين إلى جانبيه.
ماتت أخت السلطان الراحل حزنًا وكمدًا، وكانت طاهرة الذيل، ما زالت عذراء. يوم ذُبِح أخوها شقَّت صدرها وكشفت رأسها، وجرت في الشوارع، وهي تدعو الله الجبار: هو ذا يمخض بالإثم يحمل تعبًا، ويلد كذبًا، في الهوة التي صنعها يسقط، وعلى رأسه يهبط ظلمه. ويكون الطوفان!
•••
اضطرب الناس وذُهلوا من هول الهول، كانوا يعتقدون أن لها عشيقًا جنيًّا من أهل سقَر، وأنها تعرف أسرار السِّحر، ولكنهم خافوا أن تغدُر بمن يُواسيها، فتركوها لتموت حزينة. وأمر السلطان فحفروا أرض خلوتِها، فعثر الجُند على ثلاثمائة صندوق من ذهبٍ خالص، وأوانٍ فخارية مُتخمة بزيوت عطرية سحرية، تهبُ الأجساد البشرية ريًّا أبديًّا. وعثروا على دهونٍ للشهوة تذهب عقل الحكماء، فاعتقل العسكر أهل البيت. ولم يعرِف أحد أين مضَوا بالفتيات البِكر أو الأولاد.
وجدوا طنَّ دنانير فضية عند الماشطة، وجوالَين من الذهب الإبريز عند الداية والبلَّانة. عصروا البواب فاعترف، ودلَّ على مكانٍ في خمَّارة، فيه ألف ألف صندوق من عملات رومية.
هذا غير ما وجدوه من قماش، وفرُش، وخيول، وحمير، وجوارٍ، وعبيد، وطواشية، وشوَن مليئة بالغِلال، وأقبية زيت تفوق الحصر.
•••
حملوا أحقاق الدهن، وأكياس الذهب، إلى السلطان، وأُغلقت الأبواب ومُنع السير، وكمن العسكر والبصاصون في المكامِن الخفية، يترصَّدون ضِعاف الخلق، كنمورٍ شرسة تخطف وتنهب وتجري لتُثير الرُّعب، فينسحِق المسكين ويتوارى القوِي.
•••
وانتظر الناس الخير، ولكن شيئًا لم يتغيَّر … السلطان احتفظ بكلِّ الميراث لنفسه، وأمر الجند بغزو الأسواق، وأطلَقَ أيديهم في أمرِ عوامِّ الناس، فأعملوا فيهم السيف والقطع، وانتشرت الخوازيق فيما بين الرميلة وبين القصرَين، واختفى القلب الرحيم، ووقف بعيدًا، مِثلما يفعل عادة في أيام الضيق والكرب، الكافر منذ الأزل.
•••
لم يبقَ أمل في أن يتعرف أحد منهم على صوته، أو أن يتذكر أحد سحنته المتورِّمة من أثر أعقاب السجائر واللكمات!
•••
في حذَر الثعلب المُطارد، تقدَّم وألصق وجهه بالباب الخشبي القديم في أول الحارة، واستنشق حتى النخاع رائحة الحنوط والتوابل القديمة … وخطا أول خطوةٍ في الدهليز الرطب الهادئ؛ الذي كان يصخب يومًا بضحكات بنات وأولاد وماعز وكلاب صغيرة. فوق الجدار كان ثمة صور ونقوش يعرفها، تُحيط بموضع المصباح المطفأ الذي ما زال الزيت ينزف منه.
عند الباب الأول جلست المرأة الهائلة ذات الفخذين؛ التي تفوح منها رائحة الروث الدافئ والقشدة.
عند الباب الثاني، التفت إليها مذعورًا وهو يسمع في الظلام نداءات مُختلطة، وأصوات عذاب، حاول أن يتبين مصدرها فلم يتمكن.
على أكوام البرسيم الأخضر المفروشة في الركن البعيد، استلقى وأمسك بضرع البقرة المُنتفخ. ارتعش الضرع في كفَّيه وتوتَّر، ثم انساب منه اللبن الدافئ يروي عطش الشفتَين الجائعتَين. اقتربت منه المرأة ذات الفخذَين الهائلَين عارية وقالت في حدة: يكفي هذا اليوم، ثُم أردفت في دلال: لا تفضحني، لو استيقظ زوجي لن يرحمَني، يقدر أن يُرسل بنا إلى العرقانة أو إلى جُب القلعة. اذهب، ماذا سيُلِمُّ بي لو أخبره أحد الأطفال، الأعوَر يُلاحِقني والأعرج يَكرَهُني، يكفي هذا … أنت لم تفقس بعدُ مِن البيضة وتُطالِبُني بحقوق رجل!
•••
يعرف أنها تكذب. تفضحها نظرة عيونها التي تلاحِقه، ما زالت تشتهي أن يُعاود الشرب … لكن خيط اللبن انقطع فجأة.
وحين تركته ومضت تجرُّ حمول اللحم الشهية خلفها، لتغيب في ظلام الأزمنة السحيقة تحت السُّلَّم الحجري … أحس بخوف قاتل يعصر قلبه، فخار كالعجل الرضيع، وانطلق يبحث عنها ليُسكت صراخ مَعِدته التي لم تشبع بعد!
حين وصل إلى السفح، كانت القمة غائمة وسط سحابات رمادية، وبدا مُضحكًا وهو يطلب النجدة صارخًا، مثل فأرٍ غارق في النهر ذات يوم مطير. واخترق أذنَيه صياح أطفال داهمَه فجأة من الشاطئين، وحاصرَه التهليل والضحك، واعتصر ذاكرته عندما بدأ يلاحظهم، كلهم حولَه يرقصون ساخِرين، لم يكن واثقًا كل الثقة، وتمنَّى أن يخيب ظنُّه مرة وإلى الأبد، لكنه شاهد الأسنان التي سوَّدها الدخان، وتبيَّن انطفاء العيون التي تنزف في ضوء الشمس، وكلها تُشير نحوَه في مرح ونشوة، كانوا أمامه مباشرة، وخُيل إليه أن بعضهم يتوعده، فأحسَّ وخز صدأ الحديد، وشعر بخدَرٍ شديد في أطرافه بسبب جلسته المُتعبة، ولسعته برودة القضبان حين لمسَها خدُّه الأيمن للحظة، فتأكَّد أنهم قد لحقوا به، وقبل أن يُفكر في طريقةٍ للنجاة، كانت الأيدي القوية قد نزلت كالصواعق فوق رقبتِه من خلف، وانتزعته قسرًا من بطن النافذة المضيئة، وألقت به فوق الأرض الصلدة، فأعشت العتمة المُفاجئة عينَيه، ولم يعُد يتبيَّن أو يحسُّ شيئًا؛ أي شيء.